مصر … والحرب
في ٣٠ ديسمبر ١٩٣٧م، أقال القصر الملكي حكومة النحاس في خِطابٍ يتضمن عبارات قاسية،
وحلَّت — بدلًا
منها — حكومة برئاسة خصم النحاس منذ أواخر العشرينيات، هو محمد محمود رئيس حزب الأحرار
الدستوريين.
وحين سأل الدفاع مصطفى النحاس في قضية مقتل أمين عثمان: هل تذكر رفعتك سبب إقالتك
من الحكم سنة
١٩٣٧م، طلب النحاس تذكيره بسبب الإقالة، فقال المحامي علي أيوب إنها كانت بسبب الاعتداء
على الحريات،
ونزاهة الحكم، والقمصان الزرق، فاعترض النحاس على السؤال.
١
وأُجريَت الانتخابات في عهد وزارة محمد محمود، أوائل عام ١٩٣٨م، وأسفر التزوير الذي
شهدته عن فوز
الأحرار الدستوريين والحزب السعدي، بينما سقطت رموز وفدية مهمة، في مقدمتها مصطفى النحاس
ومكرم
عبيد.
«قال كمال: أُعلنَت في الراديو النتائج الأخيرة للمعركة الانتخابية، ويا لها من نتائج
مضحكة.
تساءل والده: ما مجموع الناجحين من الوفديين؟
قال كمال: ثلاثة عشر على ما أذكر.
وقال إبراهيم شوكت: كان الوفديون يظنون أن عهد الانتخابات المزورة قد انتهى، ولكن
شهاب الدين أظرط
من أخيه.
فقال أحمد شوكت في امتعاض: الظاهر أن الاستثناء هو القاعدة في مصر.
قال إبراهيم: حتى النحاس ومكرم قد سقطا في الانتخابات، أليس هذا هزلًا؟
وهنا قال إبراهيم شوكت في شيء من الحدة: لكن لا ينكر أحد أنهما أساءا الأدب حيال الملك،
إن للملوك
مقامهم، وليس على ذلك النحو تساس الأمور.
فقال أحمد: إن بلادنا في حاجة إلى جرعات قوية من قلة الأدب حيال الملوك، حتى تفيق
من إغمائها
الطويل.
فقال كمال: ولكن الكلاب يعيدونها إلى الحكم المطلَق، تحت ستار برلمان مزيف، وفي نهاية
التجربة سنجد
فاروق في قوة فؤاد واستبداده، أو أشد، كل هذا يُرتكَب بأيدي بعض أبناء الوطن.»
٢
وفي ١٤ أغسطس ١٩٣٩م نشرت الصحف نبأ استقالة محمد محمود باشا لأسباب صحية، وكما يقول
يونان لبيب
رزق، فلم تكن تلك الأسباب مخت٠َقة، لأن الرجل أمضى معظم فترة ما بعد الاستقالة طريح فراش
المرض، حتى تُوفي
في أول فبراير ١٩٤١م.
•••
لم تكن الحرب تعدو — في الكتابات التاريخية بعامة — ضائقة مالية، وأزمات نفسية، وتلويحًا
بدمار، وإن
استحال التلويح بالدمار حقيقة أنه لم يكن يتعدى القتال في الصحراء الغربية، أو الغارات
البحرية على
أطراف الشواطئ المصرية.
كان المجتمع المصري — كما تشير تلك الكتابات — يحس بالحرب ولا يراها، ينعم بشعورٍ
نسبي من
الاستقرار والأمان، لكنه شعور تشوبه مخاوف الخطر القائم، وملل الانتظار، بدأت الصحف تكتب
عن الفاشية
والنازية والشيوعية، وتعدَّدت الأسئلة عن الفروق بينها،
٣ وناصر توفيق الحكيم دول الحلفاء ضد المحور الذي لم تؤمن دوله يومًا — على حد تعبيره
— بفكرٍ
ولا حرية ولا حضارة، وتساءلت خديجة (السكرية): «… وما هذه الأشياء التي لم نعرفها من
قبل؟ صفارات
إنذار … مدافع مضادة … كشافات … مصائب تشيِّب الإنسان قبل الأوان.»
٤
عندما أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا في ٣ سبتمبر ١٩٣٩م، كانت القوات البريطانية
لا تزال تعسكر
في المواقع نفسها التي كانت فيها قبل توقيع معاهدة ١٩٣٦م، لم يكن الإنجليز يعسكرون في
مدن
القناة،
٥ وفور الإعلان، وُضعَت بنود معاهدة ١٩٣٦م موضع التطبيق، وزحفت القوات البريطانية من القناة
إلى
القاهرة والإسكندرية وغيرها من الأراضي المصرية، وتعرضت مصر — بالتالي — لآثار الحرب
التي لم يكن لها
فيها — على حد تعبير الشيخ المراغي — ناقة ولا جمل.
استعادت ذاكرة ضباط الجيش المصري أعوام الحرب العالمية الأولى، حيث سيق الآلاف من
المصريين — آباء
هؤلاء الضباط — سخرة إلى ميادين القتال لحفر الخنادق والموت في أحشائها.
٦ توضَّح للشعب المصري أن معاهدة ١٩٣٦م أفادت إنجلترا تمامًا، في حين أن مصر لم تفد منها
بشيء،
فقد استخدمت القوات البريطانية أراضي مصر ومرافقها، وزاد النفوذ البريطاني السياسي والعسكري،
وقطعت
الحكومة المصرية العلاقات مع ألمانيا، وصادرت الممتلكات الألمانية، واعتقلت الرعايا الألمان
في مصر، كما
أعلنت حالة الطوارئ، وفرضت الرقابة على الأنباء والبرقيات، ووضعت المواني المصرية تحت
تصرف القوات
البريطانية، واكتفت الحكومة المصرية بتلك الإجراءات، فلم تعلن الحرب ضد الألمان، وهو
ما أدخلها في
مناقشات مع سلطات الاحتلال حول نصوص معاهدة ١٩٣٦م.
٧
وعلى الرغم من أن معاهدة ١٩٣٦م قد نصَّت على ألا يتجاوز جيش الاحتلال عشرة آلاف،
فإنه قد أشرف على
المليون طيلة سني الحرب.
٨ قدِمت القطارات من السويس، تحمل الجنود الأفارقة والأستراليين والهنود، وتنطلق بهم إلى
الصحراء،
٩ وقذف الجنود من نوافذ القطارات إلى فقراء المصريين بعلب السجاير والبسكويت المغلَّف
والشوكولاتة وعلب البولوبيف الأسترالي والنيوزيلندي والجبن الشيدر،
١٠ وامتلأت «المينا الشرقية» بالإسكندرية بالسفن الحربية،
١١ وأُعلنَت الأحكام العرفية، وخضع الأجانب أصحاب الامتيازات لاختصاص المحاكم العسكرية
المصرية،
للمرة الأولى في تاريخ مصر.
١٢ وأصبحت القاهرة مركزًا للجاسوسية الدولية؛ وفد إليها، وأقام فيها، جواسيس من جنسيات
مختلفة،
توزعوا في الأماكن المهمة كالسراي والسفارات والقيادة العامة البريطانية وغيرها، كما
أصبحت مصر — في
الوقت نفسه — مركزًا دوليًّا مهمًّا، وكان بها حوالي عشرة أو خمسة عشر حكومة في المنفى.
١٣
وبعد ٤٨ ساعة من دخول إيطاليا الحرب، أعلن علي ماهر — في جلسة سرية للبرلمان — قطع
العلاقات
السياسية مع إيطاليا، واعتقال رعاياها، عدا رجال القصر الملكي من الإيطاليين، لكنه —
في الوقت نفسه —
أكد على سياسة الحكومة المصرية، وهي تجنيب مصر ويلات الحرب، مع الوفاء بالتعهدات، وتقديم
أكبر معونة
ممكنة للحليفة.
١٤
كان لإعلان إيطاليا الحرب معناه عند أبناء الإسكندرية، فإيطاليا على مدى حجر من المدينة،
وارتفاع
أصوات صفارات الإنذار سيتلوه بالضرورة غارات حقيقية، وليست مجرد غارات تجريبية كما كان
الحال في السابق،
وصدرت الأوامر بضرورة طلاء مصابيح السيارات ونوافذ البيوت، باللون الأزرق القاتم، ولصق
قطع شاش طولية
وعرضية على الزجاج من الداخل، فلا يتطاير إذا تهشَّم، وتحويل الطوابق الأولى من البيوت
إلى ملاجئ
… إلخ.
١٥ «النور يخرج إلى الشارع متخفيًا في حذر، تذوده ألوان زرقاء قاتمة طُلي بها زجاج النوافذ،
والسيارات تمضي واهنة، تتحسَّس طريقها بالعلم لا بالرؤية، فمصابيحها هي أيضًا زرقاء داكنة
تكاد لا تفيد
شيئًا، إلا أن تنبِّه المارة أنها تمر.»
١٦ وأقيم العديد من الغارات التجريبية، ونُصبت الشِّباك المعدنية خارج ميناء الإسكندرية
لصد هجوم
السفن، وانتشرت وحدات الإضاءة الكاشفة، تحسبًا للغارات الليلية،
١٧ وتحوَّلت بعض عربات السكك الحديدية إلى مستشفى ميدان.
١٨
يقول الراوي (نفوس مضطربة) «إن الحرب كانت بعيدة عن ديارنا، وكنا لا نشعر بها إلا
تصورًا عندما
نسمع عن معارك طاحنة في بلاد قصية، تستبسل فيها شعوب صغيرة، وتنهار فيها — في أسابيع
قليلة — دول كبيرة،
بيننا وبينها آلاف الأميال، وفجأة ينقض ذئب جائع على حدودنا اليسرى الصحراوية، يهددنا
نحن الشعب الأعزل
الأمين. جاءت الحرب على أبوابنا، وبدت المغيرات (الطائرات) تتسلَّل في الظلام في سماواتنا،
تلقي علينا
الدمار والنار.»
١٩
ظلَّت الحرب أكثر من خمسة شهور، لا تعرف من ويلات الحرب إلا تجارب، من حين لآخر،
على إطفاء
الأنوار عقب سماع صفارات الإنذار. وكان رأي السواد الأعظم من الشعب (الدكتور خالد) أن
مصر محروسة
بأولياء الله الصالحين، وأنها لا يمكن أن تضار بسوء من هذه الحرب، وظلَّت الأحداث حتى
ذلك الوقت تؤيد صحة
الفكرة «فقد ابتعدت أحداث الحرب عن مصر، كما لو كانت تجري في المريخ.»
٢٠ وأعلن الفنان (الدكتور خالد) تخوُّفه من الاحتمالات الوشيكة بالقول «إن الشعب المصري
يكره
الحرب بطبيعته، وكان يزيد في كراهيته لها أن إعلانها يعني مد يد العون للإنجليز على أعدائهم.»
٢١
ثم بدأت الغارات الألمانية على مصر، وأمست مصابيح الشوارع زرقاء، والطرقات شبه مظلمة،
وصفارات
الإنذار من الأصوات المألوفة للآذان،
٢٢ ويقول الراوي في قصة «غلبني النوم» لمحمد عبد الحليم عبد الله «وكان ليل القاهرة مفزعًا
قلقًا كئيبًا، توقظنا فيه صفارات الإنذار مرتين أو ثلاثًا كل ليلة.» وعندما بدأت إحدى
الغارات، كان
مبروك بعيدًا عن دكانه، وعاد بعد انتهاء الغارة، ففوجئ بتحوُّل البيت كله إلى كومة من
الحجارة والأخشاب،
أصابته قذيفة من طائرة ألمانية.
٢٣
وفي الفترة من ٥ إلى ٨ يونيو ١٩٤١م كانت الطائرات الألمانية قد شنَّت غارات عنيفة
على
الإسكندرية، أسفرت عن مقتل أكثر من ٦٥ مواطنًا، مما أدى إلى هجرة أعداد كبيرة من أبناء
المدينة (حوالي
٤٠٪) إلى المدن الريفية في مديرية البحيرة وغيرها.
٢٤ ويقول الراوي (الدكتور خالد): «لقد خلت مدينة الإسكندرية، وأصبحت قاعًا صفصفًا، وهجرها
سكانها في فزع.»
٢٥ كما أغارت الطائرات الإيطالية على القاهرة في العام نفسه، في النصف الثاني من الليل،
وبدا
كأن أبناء القاهرة قد استعدوا للهجرة.
٢٦
•••
توالت غارات الألمان على الإسكندرية، وسقطت عشرات البيوت في باب سدرة والعطارين وكرموز،
وقُتِل وجُرح
الكثيرون، وتُليَت صلوات الغائب على المفقودين في الجوامع والكنائس، وتناثرت الحكايات
والشائعات: البيوت سقطت على أهلها في البياصة، الورديان استحالت ركامًا،
مينا البصل صارت كومًا من الحجارة، كوم الدكة تهدَّمت بيوته على ربوته وتهاوت.
وبعد غارة عنيفة على «البياصة»، وسقوط طوربيد في كوم بكير، سافر عدد كبير من أبناء
الإسكندرية إلى
المدن والقرى القريبة، وهاجر الكثيرون — النساء بخاصة — إلى المدن القريبة مثل كفر الدوار
ودمنهور ورشيد ودسوق
وغيرها، كما ألجأت الغارات الألمانية والإيطالية على الإسكندرية عائلات وأسرًا للسفر
إلى
الصعيد، وظل غالبية الرجال في المدينة، يمارسون أعمالهم، حتى إذا جاء الليل، مضوا إلى
البيوت يلوذون
بها، وتركت هجرة الناس من الإسكندرية الكثير من الشقق والغرف الخالية، اختبأت — كما يقول
الفنان — (الشارع الخالي) في خيمة من الظلام، فهي «تلم أنوارها وأهلها،
وتحبس صوتها، نتيجة للحرب التي فُرضَت عليها غصبًا.»
صارت المدينة واسعة جدًّا بهجرة أهلها، وقديمة جدًّا بدمار مبانيها، و«خاوية خالية
هجرها أبناؤها» و«مثل مدينة الأموات»، إلى جانب أن الإسكندرية لم تعد مصيفًا، جعلتها
الشائعات خرابًا، وهجرها غالبية
سكانها.
٢٧
•••
وبعد أن ازدادت الغارات الجوية عنفًا على القاهرة والإسكندرية ومحافظات القناة، قدمت
الحكومة
المصرية احتجاجات شديدة بلغت ذروتها في الغارة الكبرى على القاهرة، وردَّت كلٌّ من ألمانيا
وإيطاليا أن
طائراتهما لم تقصد الأهداف المدنية في العاصمة، لكنها كانت تستهدف المناطق العسكرية الإنجليزية
بالقرب
من مصر الجديدة.
٢٨ وكانت الزقازيق من بين البلاد التي لاذ بها سكان منطقة القناة، فرارًا من ويلات
الحرب،
٢٩ وعاد إلى النوبة الآلاف من المقيمين في المدن الكبرى من أبنائها،
٣٠ أما المدن الإقليمية — مثل طنطا — فلم تكد تعرف شيئًا عن أهوال هذه الحرب.
٣١
وتبدَّت في تطورات الحرب خاصية إنسانية، وإن تُعَد متضخمة — بصورة نسبية — في ذات
الإنسان المصري، وهي
الرغبة في ترديد الشائعات، وتضخيم الأحداث، بحيث تكاد تنفصل تمامًا عن حقيقتها، فأرقام
ضحايا الغارات
تبلغ رقمًا هائلًا، والبيوت تتساقط كالذباب، «وألفين من إسكندرية راحوا في غارة إمبارح
بس.»
٣٢ وكانت الشائعات تنتشر — عقب كل غارة: العباسية خراب … أما مصر الجديدة، فقل عليها السلام
…
وقصر النيل أمست أثرًا بعد عين … ومخازن الترام دُمِّرت، وجثث العمال أكوام.
٣٣
ويقول كمال خليل لأحمد عاكف (خان الخليلي): علمنا أن حضرتك آتٍ من السكاكيني؟
قال أحمد عاكف: أجل يا أستاذ.
– أحقًّا لم ينج من بيوت الحي إلا عدد قليل؟
– الحقيقة أنه لم يُهدَم سوى بيت واحد.
– يا للناس من الإشاعات! فماذا فعلت تلك الفرقعة الهائلة التي خلناها في بيوتنا؟
– كانت فرقعة في الهواء!
٣٤
والواقع أن القاهرة — قبل تلك الغارة التي هجرت فيها أسرة عاكف السكاكيني — لم تكن
تعرف إلا
الغارات الاستكشافية، ولم تسمع سوى طلقات المدافع المضادة للطائرات،
٣٥ حتى ألعاب الأطفال، تسللت إليها ألعاب الحرب والضرب.
٣٦
•••
كانت الوزارة التي تتولى الحكم لحظة قيام الحرب العالمية الثانية برئاسة محمد محمود،
وعضوية وزراء
من السعديين وبعض المستقلين. أما البرلمان فقد كانت أغلبية مجلس النواب موالية للحكومة
القائمة برئاسة
بهي الدين بركات، بينما كانت أغلبية مجلس الشيوخ موالية للوفد برئاسة يوسف الجندي، وكان
الملك فاروق قد
مضى على توليه العرش ثلاث سنوات (أصبح في التاسعة عشرة!) ويرأس ديوانه علي ماهر، وكان
علي ماهر — في
فترة توليه رئاسة الديوان الملكي — هو الرأس المخطط لكل السياسات، والمدبِّر لكل المناورات
والمؤامرات،
وصانع كل القرارات، وكان يسعى لأن يدير باسمه شئون الملك والمملكة،
٣٧ أشبه بما فعله الوزراء منذ برجوان وزير الحاكم بأمر الله، وربما قبل ذلك بعقود
طويلة.
وفي الوقت الذي تكدس فيه مخزون شركة المحلة حتى تعرضت الشركة للإفلاس، عقدت حكومة
محمد محمود
اتفاقًا مع مصانع لانكشاير لزيادة حصة مصر من واردات النسيج الإنجليزية، ووافق مجلس النواب
المؤلَّف من
الدستوريين والسعديين على هذا الاتفاق في ١٣ مارس ١٩٣٩م.
٣٨
ولعدة أسباب، في مقدمتها انعدام الانسجام بين أعضاء الوزارة، وخطورة الوضع الدولي،
بالإضافة إلى
المرض الذي كان قد أثَّر على صلاحية رئيس الوزراء للقيام بمجهودٍ فعال، قدَّم محمد محمود
استقالته، وتولى
علي ماهر رئاسة الوزارة بدلًا منه في ١٣ أغسطس ١٩٣٩م.
كان رأي بريطانيا — منذ إعلان الحرب — أن المعاهدة صريحة، وواضحة، تحتِّم على مصر
إعلان الحرب
بمجرد إعلان إنجلترا لها، باعتبار مصر حليفتها،
٣٩ وكتبت «المقطم» (هل تذكرها؟) إن من مصلحة مصر إعلان الحرب على ألمانيا، «لأن ذلك يخول
لنا
حق الاشتراك في مفاوضات الصلح لو أن النصر كُتِب للحلفاء، ولن يفيدنا مجرد قطع العلاقات
السياسية
شيئًا.»
٤٠ ودعا السفير البريطاني مايلز لامبسون رئيس الوزراء علي ماهر لاتخاذ الخطوات اللازمة
لتنفيذ
البند الثامن من المعاهدة، التي تقضي بمساعدة مصر لبريطانيا في زمن الحرب.
تحددت مطالب الإنجليز في أمرين: أولهما أن تعلن مصر أنها في حالة حرب مع ألمانيا،
والثاني: أن
تعتقل السلطات المصرية رعايا الألمان باعتبارهم أسرى حرب.
٤١
ويسأله السفير البريطاني: أين قرار إعلان الحرب؟
يجيب علي ماهر: هذا هو وجه الخلاف: إن المعاهدة لا تحتوي أي كلمة أو إشارة تلزم مصر
بإعلان الحرب
آليًّا بمجرد إعلان إنجلترا لها، ولكن المعاهدة تفرض على مصر التزامات محددة بمجرد دخول
إنجلترا في
الحرب، وهذا ما سوف ننفذه بدقة.
٤٢
ويقول لامبسون (كيلرن): «كنت أرى أن مصر يجب أن تعلن حالة الحرب إذا حدث ودخلت بريطانيا
الحرب مع
هتلر، ولكن علي ماهر ظل يراوغ ويحاور ويناور، وخرجت من المقابلة آسفًا حزينًا بعد أن
فهمت منه أن مصر
غير مستعدة لإعلان الحرب، ولكنهم مستعدون لأن يفعلوا كل ما نريده بدون إعلان حرب، وحاول
علي ماهر إقناعي
أنه ليس من الضروري أن تعلن مصر الحرب على ألمانيا.»
٤٣
أيَّد صالح حرب — وزير الحربية في وزارة علي ماهر — اشتراك مصر في الحرب إلى جانب
الإنجليز، بدعوى
أن مصر لم تشترك في أية حروب منذ سنوات طويلة، وأن اشتراكها في الحرب يتيح لها إنشاء
جيش قوي.
أما عبد الرحمن عزام، فقد عارض إعلان الحرب لأن بريطانيا «تريد أن تقاتل بآخر جندي
مصري حتى يتم
لها الاستعداد للحرب التي أخذتها على غرة.» وأما علي ماهر، فقد ظل صامتًا دون أن يشاركهما
بوجهة نظر ما،
وإن كان رأيه — الذي لم يعلنه — رفض إعلان الحرب ضد الألمان، ثم أخذ صالح حرب ومصطفى
الشوربجي — فيما
بعد — موقف عبد الرحمن عزام برفض إعلان الحرب.
٤٤
ووجد علي ماهر في رفض اشتراك حكومة مصر — التي كان يترأسها — في الحرب الباعث الوحيد
لإخراجه من
الحكم،
٤٥ وفي أقوال علي ماهر أمام المحكمة في قضية مقتل السياسي أمين عثمان، أكد أن الخلاف بين
حكومته والحكومة البريطانية، بدأ بمجرد إعلان الحرب: «كانوا يتوقعون أن تعلن مصر الحرب
على ألمانيا، ثم
حصل أن رأينا لمصلحة مصر، ونحن مصريون، ألا تدخل مصر الحرب، واكتفينا بقطع العلاقات السياسية،
وتفاصيل
ذلك لا محل لها، والمسألة مسألة ظروف، وكان تقدير ذلك متعلقًا بما يقضي به الصالح، ولأن
الدخول وعدم
الدخول يتعلق بالاستعداد، وكنت أقول إن شعبًا له حضارتان لا يمكن أن نسوقه إلى الموت
في غير مصلحة بلده،
خصوصًا وأن السفير سُئِل: ما هو موقف مصر في نهاية الحرب؟ وهل تستكمل كل استقلالها؟ فأجاب
بأنهم لا
يمكنهم أن يعدوا بشيء، وكفاهم وعد بلفور في أثناء الحرب الأولى في قضية فلسطين … وفي
بداية العمل اتجهنا
لتنفيذ المعاهدة، لأن واجبنا الأول أن نعمل لمصر بصفتنا مصريين، وبعد ذلك نعمل لحليفة
مصر بما تُوجِبه
المعاهدة، وقد عملنا ما توجبه المعاهدة للحليفة وما يزيد عليه، ما دام لا يتعارض مع مصالح
مصر. وبعد
إعلان الأحكام العرفية قالوا إن لهم اتفاقًا سابقًا، وهو أن الحكام العسكريين يكونون
من الإنجليز، فرفضت.»
٤٦
عبد العظيم رمضان يحدد بواعث أخرى للخلاف بين علي ماهر والسلطات البريطانية:
في ١٠ يونيو ١٩٤٠م أعلنت إيطاليا الحرب، وواجهت حكومة علي ماهر اتهامًا بأنها تميل
إلى إيطاليا
والمحور، وأبلغ السفير البريطاني الملك باستحالة التعاون مع علي ماهر، وعُقد اجتماع في
قصر عابدين لدراسة
الموقف، ورفض النحاس فكرة تأليف وزارة قومية.
٤٩
وفي ١٣ يونيو ١٩٤١م أعلن علي ماهر أن موقف الحكومة من دخول إيطاليا الحرب يتلخص في:
ثم أُرغِم علي ماهر على الاستقالة في ٢٢ يونيو ١٩٤٠م، ونجح الرجل في ارتداء ثوب البطولة
— لبضعة
أسابيع — بدعوى أنه كان يسعى منذ البداية لتجنيب البلاد ويلات الحرب، ثم سقط الثوب حين
تكشَّفت الحقائق،
وأن علي ماهر حاول — غداة قيام الحرب — أن تعلن مصر مناصرتها لبريطانيا وفرنسا، ووقوفها
ضد ألمانيا،
وأنه قد تسلَّم — خلال سنوات حكمه — ثلاثة وثلاثين خِطابًا من الجنرال ويلسون، يشكره
فيها على ولائه، وصادق
تعاونه مع السلطات البريطانية.
٥١
ترأس حسن صبري الوزارة، شكَّلها من الليبراليين والسعديين وحزب الملك. وعلى الرغم
من أن اللورد
كيلرن وصف حسن صبري بأنه «من أشد المخلصين لنا، وكان دائمًا يلتقي معنا في منتصف الطريق،
بل إنه اشترط
لتولي رئاسة الوزارة أن نعيِّن ثقتنا التامة فيه، وقد تدخَّل عدة مرات لحل الأزمات بيننا
وبين فاروق، وكنت
أحترمه لأمانته وصراحته معنا.»
٥٢
على الرغم من ذلك، فإن حسن صبري كان من رأيه ألا تعلن مصر الحرب، حتى لو بلغ الإيطاليون
القاهرة،
«فموقفنا في هذه الحرب موقف معاونة لحليفتنا إنجلترا في حدود المعاهدة المعقودة بين البلدين،
وإيطاليا
تحارب إنجلترا ولم تعلن الحرب على مصر، وقد تحدثت إلى السياسيين، وإلى العسكريين البريطانيين،
واتفقنا —
رأيًا — على أن بقاء مصر دولة غير محاربة، أجدى على إنجلترا من إعلانها الحرب على إيطاليا
أو المحور.
وما دام الأمر كذلك، فيجب أن تكون سياستنا تجنيب مصر ويلات الحرب ما استطعنا، وكل اعتبار
لا يمكن أن ينهض
إلى جانب هذا الاعتبار.»
٥٣
وكان السعديون يضغطون من أجل دخول الحرب، على الرغم من معارضة الرأي العام المصري
المعلَنة لذلك
الاتجاه.
ولم يكن الوفد يرفض دخول الحرب، لكنه كان يقيِّد ذلك بشروط، في مقدمتها استجابة إنجلترا
للطلبات
التي قدَّمها في مذكرته الشهيرة في أول أبريل ١٩٤٠م بالحصول على وعدٍ بالجلاء بعد الحرب،
والاعتراف بحق مصر
في السودان، وأن يتم التدخل في الوقت المناسب، ولصالح الشعب المصري، فضلًا عن عدم إعلان
الحرب
رسميًّا.
٥٤
أما الحزب الوطني، فقد رفض — صراحة — أي تدخل مصري في الحرب.
٥٥
لكن كلمة الأحزاب — مع اختلاف سياساتها وأيديولوجياتها — اتفقت على دخول الحرب، في
حالة تعرُّض
البلاد للغزو.
وفي ١٤ نوفمبر ١٩٤٠م — أي بعد أربعة أشهر من تشكيل الوزارة الجديدة — تُوفي حسن صبري
فجأة، وهو يلقي
خِطاب العرش أمام البرلمان، وفي اليوم التالي تألَّفت وزارة من الدستوريين والمستقلين
برئاسة حسين سري،
وانضم إليها السعديون في أواخر ١٩٤١م، ثم قامت المظاهرات التي حرَّكها السخط الشعبي ضد
الإنجليز والغلاء
وأزمات التموين، وهي تهتف: إلى الأمام يا روميل!
٥٦
سقطت وزارة حسين سري في فبراير ١٩٤٢م، وحلَّت بدلًا منها وزارة وفدية برئاسة مصطفى
النحاس، وهو ما
سنعرض له في فصلٍ مستقل.
أما لماذا أخفقت إنجلترا في أن تدفع المصريين إلى خوض غمار الحرب بالقوة، مثلما فعلت
مع الآلاف من
العمال والفلاحين حين دفعتهم — بالقسر — إلى جبهات القتال، سنوات الحرب العالمية الأولى،
داخل وخارج
الأراضي المصرية؛ فلأن الرأي العام المصري قد أصبح حقيقة يصعب إنكارها، متمثلًا في التنظيمات
السرية
والعلنية التي جعلت استقلال البلاد هدفها الأول،
٥٧ وفي شباب الجيش المصري الذي لم يكن يُخفي سخطه وشوقه لتحرير بلاده، وفي القواعد الحزبية
التي
كانت صمام أمان نسبي ضد انحراف قياداتها، ورددت الشائعات أن الصيف القادم سيشهد اندحار
الإنجليز، وأن
المصريين يستعدون للقضاء على جيوشهم في مصر بحركة وطنية يقودها الشباب.
٥٨
كان الجيش المصري — عند نشوب الحرب في ٣ سبتمبر ١٩٣٩م — يتكوَّن من حوالي ٢٥ ألف
جندي وصف ضابط، وألف
ضابط نصفهم — تقريبًا — من الملازمين الشبان الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، أو الفقيرة،
والذين أتيح
لهم الالتحاق بالكلية الحربية عقب إعلان معاهدة ١٩٣٦م.
٥٩
ويشير اللورد كيلرن إلى أن الحكومة الإنجليزية هي التي قررت عدم اشتراك مصر في الحرب
رسميًّا. ناقش
الأمر مع حسين سري رئيس الوزراء المصري آنذاك، ثم رأى كيلرن — لا حسين سري! — أن الاشتراك
الرسمي لمصر،
سيؤدي إلى تعرُّض القاهرة لقنابل الطائرات الألمانية «وهو شيء يضر أكثر مما ينفعنا الآن.»
٦٠
•••
في ٣ أبريل ١٩٤١م أصدر وكيل وزارة الخارجية الألمانية إلى كل من رشيد عالي الكيلاني
والحاج أمين
الحسيني مفتي فلسطين رسالة جاء فيها: «إن ألمانيا التي لم تحتل قَطُّ أرضًا عربية، لا
تستهدف أن تستولي على
أي جزء من البلاد العربية، وهي ترى أن الشعب العربي، وهو شعب ذو ثقافة قديمة، وقد برهن
على لياقته
الإدارية وفضائله العسكرية، لجدير أن يحكم بلاده بنفسه، ولهذا فإن ألمانيا تعترف باستقلال
البلاد
العربية استقلالًا تامًّا، وبحق البلاد العربية التي لم تستقل حتى الآن بأن تنال استقلالها
التام.»
٦١
وفي الثالث من مايو ١٩٤١م أُعلنَت الثورة العراقية،
٦٢ وتوالت الأحداث، حيث عزل الوصي على العرش — في مايو ١٩٤١م — رشيد عالي الكيلاني، ثم
قامت
قوات من الجيش العراقي بخلع الوزارة، وأعادت الكيلاني إلى الحكم، وفرَّ الوصي على عرش
العراق من
بغداد.
٦٣
كانت بغداد — آنذاك — قلعة القومية العربية.
٦٤ ويقول أنور السادات: «كانت هذه الثورة هي المتنفس الحقيقي الوحيد لنا، هنا في مصر، وكنا
نتابع أنباء هذه الثورة في حماسة بالغة، ونعلق عليها آمالًا واسعة.»
٦٥ لكن تباطؤ هتلر في إمداد الثورة بالسلاح شكَّل عاملًا مباشرًا في تعثُّر الثورة وترنُّحها،
وأفلتت — كما يقول فوزي السيد (الدكتور خالد) — الفرصة الذهبية التي فتحت الشرق الأوسط
كله على مصارعه
ليلتهب بالثورة ضد الإنجليز، ويجليهم عن كل شبرٍ فيه.
٦٦ لكن فوزي السيد نفسه يورد سببًا آخر لإفشال الثورة: «فشلت الثورة العراقية لاختلاف زعمائها،
إنها مصيبة الشعوب العربية ولعنتها منذ القدم، هذه الخلافات التي تودي بها نحو العدم
كلما حاولت أن ترفع
رأسها.
٦٧
وفي تقدير أحمد حسين أن ثورة رشيد عالي الكيلاني، كانت فرصة ذهبية للألمان كي يثبِّتوا
أقدامهم في
الشرق الأوسط، لكنهم تباطئوا في التدخل، حتى أفلتت الفرصة من أيديهم.
٦٨
في أعقاب ذلك، حدث قتالٌ في سوريا بين الفرنسيين من أتباع فيشي والمناوئين لها، وأذاع
ديجول بيانًا
من القاهرة على القوات الفرنسية في المستعمرات، طالبهم فيه بالتعاون مع الحلفاء لإحراز
الاستقلال، ووعد
روسيا واليابان بضمان استقلالهما.
٦٩
•••
وفي ٢٩ مايو ١٩٤٣م اعترفت حكومة الوفد بالحكومة السوفييتية، وقررت تبادل التمثيل الدبلوماسي
معه،
وكانت مصر هي الدولة العربية الأولى التي اتخذت ذلك القرار، وكان الباعث وراء هذه الخطوة
هدفين: أولهما
سياسي، ويتصل بنقل قضية استقلال مصر من دائرة المباحثات الثنائية إلى الدائرة الدولية،
والثاني اقتصادي،
ويتصل بتصدير كميات كبيرة من القطن المصري للاتحاد السوفييتي، وفي ٦ يوليو ١٩٤٣م أعلن
عن إنشاء العلاقات
المصرية السوفييتية.
وفي أكتوبر ١٩٤٤م أقيلت حكومة الوفد — بأسلوبٍ مهين كالعادة — وتشكَّلت حكومة جديدة
برئاسة أحمد ماهر
رئيس الحزب السعدي، ففي الخامسة من مساء ٨ أكتوبر ١٩٤٤م قطعت الإذاعة المصرية إرسالها،
وأعلنت أمرًا
بإقالة الملك فاروق لوزارة النحاس.
٧٠
– لماذا سمح الإنجليز بإقالة رفعة الباشا؟
– لأن أحمد ماهر الذي ينادي دائمًا بزجِّ البلاد في أتون الحرب سيعلن الحرب على المحور،
سيشترك في
قتال جثة هامدة.
فقال حلمي في بساطة: لأن الإنجليز هم الإنجليز، مصلحتهم فوق كل اعتبار، أخذوا من
رفعة الباشا كل
ما يمكن أن يأخذوه، فتركوه للملك يفعل به ما يشاء، حتى يتخلصوا مما وعدوه به، وحتى يأخذوا
من القادم
الجديد مغانم جديدة، إنهم يبنون سياستهم على أن يأخذوا دون أن يعطوا.
٧١
ويرى وسيم خالد أن الحرب تحوَّلت في صالح الإنجليز، ولم يعودوا بحاجة إلى محالفة
الوفد، فسلَّموه إلى
السراي لتفعل به ما تشاء، وجاءت السراي بأحد زعماء الأقلية أحمد ماهر الذي قرر دخول الحرب
إلى جانب
الإنجليز، كأنه يريد أن يثبت أنه أكثر ولاء من النحاس. وكان أعوانه يردِّدون في المجالس
إن الرجل سيفيد
من الفرصة ليضحك على ذقون الإنجليز، وينشئ جيشًا مصريًّا، تبريرًا لوضع الجيش المصري
تحت قيادة
الإنجليز،
٧٢ وفي الوقت نفسه — تقريبًا — الذي أقال فيه فاروق حكومة الوفد، سقطت وزارات أخرى أشد
انحيازًا إلى الليبرالية والديمقراطية، لتحل محلها حكومات ذات ميول احتكارية صريحة، ومصالح
رأسمالية
وإقطاعية.
•••
قال الراوي، تعليقًا على إعلان أحمد ماهر الحرب على دولتَي المحور: لا أحد ينكر على
أحمد ماهر
وطنيَّته ونزاهته، التي يعترف بها حتى خصومه السياسيون.
قال الشيخ بديع: أعرف، لكنه أخطأ تمامًا بقراره، ما شأننا نحن بتلك الحرب؟ هل فرض
علينا أن نعادي
من يعاديه الذين يحتلون بلادنا؟!»
٧٣
قرر أحمد ماهر عرض مشروعه بإعلان مصر الحرب على دول المحور يوم السبت ٢٤ فبراير،
ومع أن إبراهيم
عبد الهادي وجَّه الاتهام إلى حسين سري بأنه كان عميلًا للإنجليز،
٧٤ واستشهد في ذلك بمذكرات اللورد كيلرن الذي وصف حسين سري بأنه «معروف بميوله
البريطانية.»
٧٥
مع ذلك، فإن مؤرخي أحمد ماهر يدافعون عنه بأنه لم يكن مواليًا للإنجليز لمجرد أنه
كان صاحب فكرة
دخول مصر الحرب، لكنه كان ينادي بهذه الفكرة حتى لا تضيع على مصر صفة العضوية في الأمم
المتحدة، كما
ضاعت عليها من قبل عضوية عصبة الأمم.
٧٦
يتحدث حلمي سلام عن أحمد ماهر بأنه ألقى بنفسه في قلب نضال الشعب، ودنا عنقه يومًا
من حبل
المشنقة، وراح يأخذ من الجماهير ويعطيها، ويثق بها وتثق به، حتى غدا واحدًا من أبرز زعمائها،
٧٧ ويصف جلال الدين الحمامصي أحمد ماهر بأنه «أشجع سياسي عرفته مصر في تاريخها
الحديث.»
٧٨ وأن بعض الناس ظنوا أنه يقود بلاده إلى الهلاك بإعلان الحرب، في حين أنه كان يقودها
إلى
مكانها اللائق بها في المعترك الدولي، مكانها الذي تحرص عليه اليوم، ونعتبر ارتفاع صوتنا
فيه في مجلس
الأمن والأمم المتحدة السبيل لمهاجمة الاحتلال والاستعمار،
٧٩ ويقول إبراهيم عبد الهادي في مذكراته إن «المحور كان قد توغل في الأراضي المصرية، فطالبنا
بالدخول في الحرب تنفيذًا لمعاهدة ٣٦ من جهة، ومن جهة أخرى — وهي الأهم — أنه ليس من
كرامة مصر أن يُعتدى
عليها، ويكون المدافع عنها دولة أجنبية، وتقف مصر متفرجة، فضلًا عن أن ذلك سيتيح لمصر
أن تطالب بحقها
بعد انتهاء الحرب، وأن يكون لها رأي في مؤتمر الصلح، هذا كان رأي أحمد ماهر والحزب السعدي
معه.»
٨٠
عقد أحمد ماهر مقارنة بين المصالح البريطانية والإيطالية في مصر، انتصر فيها للإنجليز.
٨١
كانت وجهة نظر أحمد ماهر — من قبل أن يتوقف الزحف الألماني — أن قوات المحور الزاحفة
على مصر عبر
الصحراء الغربية قد اخترقت الأراضي المصرية؛ فلا مندوحة إذن من دخولنا الحرب ضد المحور
دفاعًا عن
أراضيها، ذلك أكرم لمصر من رد العدوان عن أراضيها، بدلًا من ترك الأمر لإنجلترا. وقال
أحمد ماهر إن
الذي سيصمد طويلًا في هذه الحرب هم الحلفاء، موارد الحلفاء في زيادة، بينما موارد المحور
في نقصان،
والحرب الخاطفة التي أرادها هتلر باءت بالفشل، رغم الانتصارات الضخمة التي حققتها في
البداية هناك روسيا
باتساعها الضخم، ومقاومتها العتيدة، وأمريكا بمواردها الضخمة، وذكر أحمد ماهر في المشروع
الذي قدَّمه إلى
البرلمان، بإعلان مصر الحرب على دول المحور، وحدَّد لعرضه على مجلس النواب ٢٤ فبراير،
إننا سنكسب من ورائه
تدريب ضباطنا وجنودنا على الفنون الحربية من جهة، وتقديم الأسلحة إلينا عن طريق الإعارة
والتأجير من جهة
أخرى. وركز أحمد ماهر على الإنشاء المتوقع للمنظمة الدولية الجديدة، وأن أمريكا وإنجلترا
وروسيا والصين
ستعقد مؤتمرًا في سان فرانسيسكو لإنشاء هذه المنظمة الدولية التي سيكون في مقدمة أهدافها
منع الحروب في
المستقبل، وكان شرط الاشتراك في المنظمة المرتقبة، هو إعلان الحرب على المحور، قبل أول
مارس ١٩٤٥م.
استعان أحمد ماهر بعددٍ كبيرٍ من أساتذة القانون والسياسة لتأييد وجهة نظره، فأيَّدوه،
وكان من هؤلاء
محمد خطاب، الذي أعلن أن الحرب في أوروبا قد انتهت، ولم تبقَ غير الحرب في الشرق الأقصى،
ومن ثَم فلا خوف
على مصر من هذا الإعلان، وإذا كانت الحكومة المصرية قد تأخرت في إعلان الحرب، فإنها قد
اشتركت فيها
بالفعل، وبذلت تضحيات كبيرة. أما إعلان الحرب فهو سيعطي لمصر الحق في أن تكون عضوًا بالأمم
المتحدة، ومن
ثَم تتاح لها الفرصة في طلب الاستقلال من على منابر الهيئة الدولية، وأما عدم إعلان الحرب
— شكليًّا — فقد
يضيِّع كل التضحيات التي بذلها المصريون، وربما أخَّرهم هذا الموقف السلبي تمامًا.
٨٢
وأعلنت مصر الحرب على اليابان، في ظل كل التبريرات التي قدمها، لكنه دفع حياته ثمنًا
لتوجُّهه،
عندما قتله الشاب محمود العيسوي في البهو الفرعوني بمبنى البرلمان، تقدم إلى أحمد ماهر
يصافحه، وقبل أن
يمد أحمد ماهر يده كان قد أطلق رصاصاته عليه فأرداه قتيلًا.
وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُقتَل فيها رئيس إحدى الوزارات داخل البرلمان «باسم
الوطنية،
والرغبة في إنقاذ الوطن من المهالك التي يوشك أحمد ماهر أن يعرِّضه لها، بإعلان الحرب
على دول
المحور.»
٨٣
دفع أحمد ماهر حياته ثمنًا لمناداته بدخول مصر الحرب إلى جانب الإنجليز والحلفاء،
رغم أنه كان —
إبان اشتداد الحركة الوطنية — من ألد أعدائهم، وقد حكم القضاء ببراءته من حوادث لقتل
رعايا الإنجليز،
لكن السلطات البريطانية لم تعترف بهذه البراءة، وأكدت أنه تجوز محاكمته إذا وطئت قدمه
أرضًا
بريطانية!
٨٤
ويروي الفنان أن البعض من المشتغلين بالحياة السياسية أصيب بالفزع، وقال عبد الخالق:
«لو أنه قد
تريَّث قبل أن يصدر حكمه الجائر لما سفك دمًا بريئًا.»
٨٥
وبدا عبد الوهاب إسماعيل كأنما أصيب بنفس الرصاصة التي أودت بحياة أحمد ماهر، وقال
بحزنٍ بالغ: ضاع
أعظم رجل في الوطن.
٨٦
وقال محمد ناجي لشهدي باشا: إيه رأيك يا باشا؟
وكان يتصور أن الباشا قد تخلَّص من خصم يطارده، ويعطل مناقصاته، لكن الرجل صاح في
انفعال: رأيي إيه وبتاع إيه، البلد بقت فوضى، ده جنون … لعب عيال.
– موش ده المهم … نكتب الخبر إزاي؟ أنت عمرك ما حبيت أحمد ماهر.
– ما فيش يا محمد حب ولا كره دلوقت، إحنا كلنا في خطر.
٨٧
ويؤكد إبراهيم عبد الهادي في مذكراته أن أحمد ماهر لم يقرر وحده إعلان الحرب على
اليابان، بل
شاركه الرأي عبد الحميد بدوي ومحمد حسين هيكل. ويقول هيكل: «إذا كنا قد خالفنا وجهة نظرك
في الماضي،
وجنَّبنا مصر خطر الحرب، فإنه لا ضرر اليوم من إعلان الحرب، بل إن فيها مصلحة مؤكدة لمصر.»
٨٨
والحق أن إقدام الشاب المصري محمود العيسوي على قتل أحمد ماهر، لم يكن تعبيرًا عن
تصاعد التعاطف
مع النازية،
٨٩ السبب — في تقديري — أن العيسوي — مثل الكثير من المثقفين المصريين — كان يرفض الانتماء
إلى
أيٍّ من المعسكرَين المتحاربَين، بما قد يعرض مصر لخطر الدمار، دون أن تظفر من نتائج
الحرب بإيجابية ما.
وجد العيسوي في قرار إعلان الحرب على دول المحور، خيانة صريحة من أحمد ماهر ضد وطنه،
وكان رأيه
أنه يجب على فاقد الحرية ألا يناصر سالِب حريته، أو يقف إلى جانبه. وقرر — مدفوعًا بحماسته
الوطنية — أن
يغتال أحمد ماهر، وكان رأي العيسوي — كما أثبتته التحقيقات — أن مصر ستُصاب بأضرارٍ هي
في غنًى عنها، لو
أنها أعلنت الحرب على دول المحور، وأكد أن من يقدِم على هذا الإعلان يصبح خائنًا لوطنه،
وتساءل العيسوي:
كيف يُطلَب ممن لا حرية له أن يناصر سالب حريته، يؤيده ويقف إلى جانبه؟!
٩٠
وقد وصف وسيم خالد شخصية العيسوي بأنه «قمة الطبقة المثقفة المصرية»، وأنه «كان يمثِّل
رأس الحربة
لهذا الجيل في صراعه المميت مع جيل ١٩١٩م.»
٩١ بل لقد ذهب وسيم خالد إلى أن قتل أحمد ماهر كان أمرًا محتمًا، سواء كان ذلك بيد العيسوي،
أم
بيد سواه من الشباب الوطني المتحمس، ووضع وسيم خالد احتمالًا بأن الشاب أراد أن يلفت
أنظار المجتمعين في
يالطا إلى مأساة الشعب المصري.
٩٢
ويلاحظ عبد العظيم رمضان أن دعوة أحمد ماهر لاشتراك مصر في الحرب، صدرت في وقتٍ كانت
نتيجة الحرب
تبدو محققة إلى جانب المحور، فقد صدرت بعد استسلام فرنسا، ودخول إيطاليا الحرب، وفي وقت
كانت إنجلترا
تمر فيه بفترة عصيبة، وكانت المصلحة الوطنية — في المقابل — تقتضي التريُّث قبل دخول
المعركة، والاقتصار
على تقديم المساعدات التي تنص عليها المعاهدة، دون جر مصر إلى عداء معلَن مع دولتَي المحور،
ساعد على ذلك
تكشُّف الوجه الاستعماري لبريطانيا، من خلال موقفها السابق من القطن، المحصول الرئيسي
للبلاد، ورفضها
إعطاء أي وعدٍ بإزالة قيود الاستقلال عقب الحرب.
٩٣
وقد ردَّ بعض المحللين على تذرُّع أحمد ماهر بأن الحرب هي الفرصة الوحيدة لتسليح
الجيش المصري بأحدث
الأسلحة، وتدريبه على القتال، بحيث يكون مستعدًّا بعد الحرب لخدمة القضايا الوطنية، بأن
الإنجليز لا بد
أنهم كانوا قد حسبوا الحساب نفسه الذي انتهى إليه أحمد ماهر، وهو أن تسليح الجيش المصري
قد يُستخدَم ضد
الوجود البريطاني في مصر.
٩٤
وفي تقدير الرافعي أن أحمد ماهر لم يرتكب إثمًا بإعلان مصر الحرب على ألمانيا، فقد
كان شرط أقطاب
الحلفاء لقبول أية دولة في مؤتمر القرم، تمهيدًا لقبولها عضوًا في هيئة الأمم المتحدة،
أن تعلن الحرب
على المحور قبل أول مارس ١٩٤٥م.
كان إعلان الحرب إجراء شكليًّا، وبادر العديد من الدول إلى اتخاذ ذلك القرار لكي
تدخل في عضوية
المنظمة الدولية الجديدة، لكن الوفديين — كما يقول الرافعي — استغلوا هذا الموقف، وأثاروا
النفوس على
أحمد ماهر، بدعوى أنه يحاول زج البلاد في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وكان من نتيجة
ذلك تأليب الشباب
ضد أحمد ماهر.
٩٥
وبصرف النظر عن الاشتراك الرسمي لمصر مع حليفتها من عدمه، فمن المؤكد أن الجيش المصري
قد اشترك
بالفعل في الدفاع عن المواني والأجواء والأراضي المصرية، حتى إن القيادة البريطانية أصدرت
أمرًا لجنودها
بأن يؤدوا التحية العسكرية للضباط المصريين، وأصدرت القيادة المصرية لجنودها أمرًا مماثلًا.
٩٦ ويقول رئيس البعثة العسكرية البريطانية لدى الجيش المصري: «على الرغم من أن مصر — بناء
على
نصيحة الحكومة البريطانية — لم تعلن الحرب على المحور إلا في عام ١٩٤٥م، فإن الجيش المصري
وسلاح الطيران
المصري، ساهما بإخلاصٍ مع القوات المتحالِفة خلال أيام الحرب الحرجة من عام ١٩٤٠م حتى
عام ١٩٤٣م، وقدَّما
للقوات الحليفة خدمات رئيسة.»
٩٧ أما الأدميرال كننجهام قائد الأسطول البريطاني في البحر المتوسط فقد أعلن أن التعاون
الذي
تلقَّته إنجلترا على يد مصر سهَّل كثيرًا عملية قوافلها في البحر المتوسط،
٩٨ وقامت القوات المصرية بحراسة قناة السويس، وتأمين حرية الملاحة فيها، ومطاردة طائرات
المحور
التي كانت تحاول تدمير القناة، أو إلقاء الألغام فيها لتدمير السفن، كما قامت بحراسة
المنشآت والمرافق
العامة والمواني، ووضعت خطوط مواصلاتها الداخلية والخارجية تحت تصرف قوات الحلفاء، وإيواء
الآلاف من
ضباطها وجنودها.
بالإضافة إلى ذلك، فقد موَّنت مصر جيوش الحلفاء بكل ما كانت تحتاجه من المواد الغذائية
والصناعية،
بل وأخضعت إنتاجها الزراعي والصناعي لمقتضيات هذا التموين، دون مقابل من نقدٍ أو سلع،
مما أنشأ مشكلة
الأرصدة الإسترلينية التي لم تجد سبيلًا إلى الحل إلا في أوائل الخمسينيات، وإن استطاعت
مصر — للمرة
الأولى — منذ عهد سعيد، أن تتحوَّل من دولة مدينة إلى دولة دائنة، رغم العجز في الميزان
التجاري المتولِّد
في أعوام الحرب، نتيجة لانخفاض صادرات الحرب، فقد عوَّض الإنفاق العسكري لقوات الحلفاء
في مصر هذا العجز،
وزاد عليه، وحوَّلت مصر في ١٩٤٣م ما بقي من ديونها الخارجية إلى دين محلي، الدائنون فيه
مصريون، أو أجانب
مقيمون بمصر.
٩٩
•••
كان المفروض أن يخلف أحمد ماهر في رئاسة الوزارة — بعد مصرعه — محمد حسين هيكل رئيس
الأحرار
الدستوريين، بناء على اتفاق غير مكتوب بين حزب الأحرار الدستوريين والحزب السعدي أن يتناوبا
رئاسة
الوزارة، لكن الملك فاروق عهد بتأليف الوزارة إلى محمود فهمي النقراشي رئيس السعديين.
ويروي السادات أن
النقراشي ذهب إلى السفارة البريطانية — عقب تأليف الوزارة — لمقابلة اللورد كيلرن، فقابله
اللورد على
سلم السفارة، ولم يكد النقراشي يشير إلى مطالب مصر، حتى ابتدره كيلرن قائلًا في سخرية:
دعك من هذا
الكلام، فإن حديث الجلاء والوحدة ليس إلا حديث خرافة!
١٠٠
وعند انتهاء الحرب، كانت الحكومة القائمة مؤلَّفة من الحزب السعدي والأحرار الدستوريين.
هوامش