الخيانة تجهض الثورة
لا يعني هذه الدراسة أن تقف عند تفصيلات المعارك الحربية، بقدر ما تنشد البحث عن
الملامح الإيجابية لتلك الفترة، منذ التفَّت كلُّ القلوب حول عرابي، تؤيده وتناصره، حتى
أودت الخيانة بالثورة إلى مصيرها المؤلم، وقد تبدَّت في المعارك التي استمرت ثلاثة أشهر
— بدأت بضرب الإسكندرية، وانتهت باستعراض الخديو لقوات الاحتلال، بعد دخولها القاهرة
—
تبدَّت الطبيعة المقاتلة المصرية في تصعيد درامي، وقفنا عند بعض ملامحه في الفقرات
السابقة، ويبقى أن نشير إلى صورة المعارك ذاتها: كيف واجه المصريون قوات
الاحتلال؟
يصف أحمد رفعت الجو العام بعد ضرب الإسكندرية، والتهيؤ لقتال الإنجليز: «لم يعُد
هناك
في مصر مَن يختلف حول الأمر، انتهى تمامًا كلُّ جدل أو حوار، ولم تشهد مصر قطُّ مثل الإجماع
والحماس الذي كانت عليه البلاد، وأصبح عرابي — أمام الجميع بلا استثناء — هو حامي حمى
البلاد ورجلها وخادمها الوحيد الأمين، الزعيم لخمسة ملايين مصري، هم كل سكانها، يصدون
بقيادته غزو جيش أجنبي يعتدي على وطنهم.»
١ ويروي النديم في مذكراته أنه بعد أن اطمأن إلى قرارات الجمعية الوطنية، خرج
يجوب البلاد، ويستنهض الهِمم لقتال الإنجليز المحتلين، ويذكي نار الحماس في قلوب الشعب،
ليدافع — كما قال — عن كرامته وشرفه وعرضه ودينه. ومن خُطَبه في الجماهير المصرية: «يا
بني مصر، هذه أيام النِّزال، هذه أيام النضال. هذه أيام الذود عن الحياض، هذه أيام الذب
عن الأعراض، هذه أيام يمتطي فيها بنو مصر صهوات الحماسة وغوارب الشجاعة ومتون الإقدام
لمحاربة عدو مصر، بل عدو العرب، لا بل عدو الإسلام، الدولة الإنجليزية، خذلها الله، وردَّ
كيدها في نحرها.»
٢ ومن خُطب النديم: «يا أهل مصر، إنما آجال الناس محدودة، فإذا جاء أجلهم لا
يستأخرون ساعة، ولا يستقدمون، فاخرجوا لحرب عدوكم، ولا تخشوا الموت، فلكل أجل كتاب.»
٣ ومن خُطَبه: «يا أهل مصر، ليس من قعد عن نصر الله كمن جاهد في سبيل الله، لا
يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر، والمجاهدون في سبيل الله أولئك هم
الفائزون، يبشِّرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها
أبدًا، والله عنده أجر عظيم.»
٤ وقد شملت الحماسة كلَّ الطوائف والطبقات، بدءًا من أفراد الأسرة المالكة، حتى
الأطفال الذين خرجوا يرددون الأناشيد الوطنية، ويهتفون بسقوط الخديو. وتكوَّن جيش من
المتطوعين قوامه مائة ألف مقاتل، وانهالت التبرعات المادية والعينية من كل أرجاء
البلاد، وأقيمت الصلوات في المساجد والكنائس.
٥ وذهب وفد من العلماء إلى درويش باشا، وقدموا له طلبًا برفض الإنذار
البريطاني، وما يتصل — تحديدًا — بإبعاد عرابي. وخاطب درويش باشا العلماء بقسوة، وصرفهم
من مجلسه، وإن أعطى الحُلة العثمانية لشيخ الأزهر، ولبعض العلماء، وعرف طلبة الأزهر بما
حدث لأساتذتهم، فعقدوا العديد من الاجتماعات، وتوضَّح للجميع — ولدرويش باشا نفسه — أن
الوفد التركي في مأزق. وفي يوم السبت العاشر من يونيو، أرسل درويش في طلب عرابي
والبارودي، وكان قد أوضح قبل ذلك أنه لا يرغب في لقائهما.
٦ ويقول النديم في مذكراته: «تركنا الأهل والعيال، ولزمنا ساحة القتال، لا
يمنعنا من النِّزال والجلاد، فساد بعض أعيان البلاد.»
٧ وفي رواية رضوى عاشور «سراج»: «سرى الخبر في المحطة أن المراكب الإنجليزية
تقصف الطوابي، ثم تتابع القصف من جهة البحر عاليًا ومتصلًا، فبدأ الناس يهرولون إلى
بيوتهم وهم يسبُّون الإنجليز، ويدعون لعرابي أن يكسر شوكتهم، ويهزمهم شر هزيمة.»
٨ وكتبت «التايمز» اللندنية: «لم يحارب الجنود والضباط وحدهم، وإنما اندفعت
كل جموع الشعب إلى الطوابي، تشارك في المعارك. كانت النساء يحملن الذخيرة وهن يزغردن،
والرجال والأطفال يردِّدون الأغنيات والأناشيد الوطنية والهتافات، ويتولَّون كل ما يُطلَب
إليهم، والوعاظ وعلماء الدين ينتشرون في المواقع، يشدُّون أزر الجنود والضباط؛ كانت حربًا
وطنية شاملة.» وفي «قلعة الأبطال» تطالعنا هذه الصورة: «… واستمرت القذائف تتوهج وتزأر،
فبدا البحر كقطعة من النار، وطفق المصريون يغدون ويروحون في الطوابي والقلاع، ينقلون
الذخائر إلى المدافع تحت وهج الشمس المحرقة، التي كانت تلفح الوجوه، وتفصَّد العرق
غزيرًا من الأجسام، وخف بعض الأهالي إلى الجنود يعاونونهم، وهرعت بعض النسوة يضمدن جراح
المدافعين البواسل، وصاح صائح: دافعوا عن شرفكم … دافعوا عن أعراضكم … فأحس حامد ثورة
عاتية تنفجر في أغواره، وتدفَّقت دماؤه حارَّة في عروقه، فقد احتلَّت رأسه صورة سعدية
وهي
تهيب به أن يدافع عنها، وأن يحميها من هؤلاء الأوغاد الذين جاءوا يقاتلون الآمنين،
ليجللوهم بالذل والعار. وجعل حامد يحمل القنابل إلى المدافع، وقد امتلأ حماسة، وقد ذهل
عن كل شيء حوله، فما عاد يلتفت إلى أحجار الحصن التي كانت تنقض فوقهم، وتثخنهم بالجراح،
وطارت قطعة من الحجارة، وأصابت ذراع يوسف، فندَّت منه صرخة، فالتفت حامد إليه، فلما رآه
يئنُّ ويتوجع، نسي كل ما كان بينهما، وهرع إليه يخلع عنه قميصه، ويضمد له جرحه، ويقول
له:
لا بأس عليك، تشجع. فكتم يوسف آلامه، وابتسم له ابتسامة اغتصبها اغتصابًا، ثم نهض يحمل
القذائف إلى المدفع بذراعه السليمة، وجلجل صوتٌ في الحصن: هذا يوم له ما بعده. ذودوا
عن
نسائكم. فجعل الرجال يذرعون الطوابي والقلاع كالشياطين، ولكن قذائف الأسطول كانت تدك
الحصون دكًّا، وخفتت أصوات قذائف المعاقل المصرية، وارتفع الأنين، فقد خلصت الجراح إلى
الأبطال المدافعين، وراحت دماؤهم الزكية تروي أرض الحصون.»
٩ و«دُمِّرت المواقع، وتهدمت الطوابي، ورفعت الأعلام البيضاء.»
١٠
وفي الحقيقة، أن هذه الصورة لا تخضع لمقتضيات الفن الروائي، بقدر ما تنبض بالواقع
التاريخي الذي سُوِّدت به مئات الصفحات، بعد أفول شمس الثورة، فقد كتب الإمام في مذكرات
منفاه: «كان الرجال والنساء تحت مطر الكلل ونيران المدافع ينقلون الذخائر ويقدمونها إلى
بعض بقايا الطوبجية الذين كانوا يضربونها وهم يغنون.» ويقول محمود فهمي باشا: «رأيت في
ذلك الوقت بعيني، ما حصل من غيرة الأهالي بجهة رأس التين وأم كبيبة وطوابي باب العرب،
وهمتهم في مساعدة عساكر الطوبجية من جلبهم المهمات والذخائر وخراطيش البارود والمقذوفات.
هم ونساؤهم وبناتهم وأولادهم والبعض من الأهالي صار يعمر المدافع ويضربها على الأسطول.»
وفي قصة «العاطفة» تأكيد على التدمير الذي أحدثته مدافع الإنجليز في حصن قايتباي: «فجعلت
من خرابٍ يبابًا.»
١١ يقول عبد الله النديم: «وتركنا الأهل والعيال، ولزمنا ساحة القتال، لا
يمنعنا من النِّزال والجلاد، فساد بعض أعيان البلاد.»
١٢ ويصف النديم إحدى المعارك بين القوات المصرية وقوات الاحتلال، صورة فنية
تضاف إلى إرهاصات القصة المصرية. «فما أتمَّت المدافع قولها، حتى ملأت رجالنا حماسة
وعزمًا، وأرسلت الرصاص الحار على الأمة الباردة، وجاوبتها مشاة العدو ببنادقها، وتصورت
ساحة القتال بشكلٍ مربع. وكنت كلما مررت على أورطة أحمِّسها وأشجِّعها، لا أسمع منها
إلا
صوت بنادقها، ولا أرى إلا سرعة حركتها، وكلما وصلت مدفعًا أرى أيدي رجاله كآلة ماكينة
بخارية لا حدَّ لسرعتها، وكلما تحوَّل العدو لنقطة، تحوَّلت عليه الرجال والمدافع. ومع
أنه
كان في متاريس حصينة، فإن المدافع والقنابل أخرجته منها رغبة في الفرار، فقطعت عليه
المدافع خطَّ الوصول إلى المعسكر، وحالت البنادق بينه وبين المتاريس، فلم يجد بدًّا من
الثبات فثبت، ولكن بقدر ما عدِم نصف رجاله، ووقف انتظارًا للمنون، ثم دخل الليل وقد غضبت
عساكرنا، كأنهم العمد ثباتًا، والغزلان حركة، وأعجب لوقوف الإنجليز موقف الحيرة والتنقل
أمام هؤلاء الأسود.» وربما غلبت المسحة الفكاهية — رغم فداحة المأساة — على قلم النديم،
فهو يكتب: «وما زال الضرب يعلو، والنار تشتعل، حتى حان وقت الغروب، وآن إفطار الصائم،
فخُيِّل لعساكرنا أن رءوس الإنجليز في برانيطها طعامٌ يوضَع في الأطباق لتفطر عليه بنادق
الصائمين ومدافعهم، ثم هلَّلوا وكبَّروا، وقد قام بريق المدافع والبنادق مقامَ الشمس.»
١٣ وعلى الرغم من الفرق الكمي والكيفي بين قوات المصريين وقوات الاحتلال، فإن
الجنرال ولسلي — بعد دخول قواته العاصمة — أثنى على رجال الطوابي المصرية، وقال إنها
تكاد تضارع الطوبجية الأوروبية.
١٤ وكتب سيمور — عقب انتهاء المعارك — إلى قيادة البحرية الإنجليزية: «إن
المصريين قد حاربوا بشجاعة وعنادٍ وهم يردُّون على جحيم النيران من مدافعنا الثقيلة،
حتى
بدوا كما لو كانوا قد هلكوا جميعًا، وعند الساعة الخامسة والنصف من بعد ظهر اليوم، كان
أكثر من ألفَي مصري قتلى، والقلاع حطامًا.»
١٥ ويضيف النديم أنه «ما من جندي في العالم كان يستطيع أن يقف بثباتٍ في مركزه،
رابط الجأش أمام نار محتدمة، كما وقف المصريون أمام نيران ٢٨ سفينة حربية عشر ساعات.»
ويؤكد النديم أن الطوابي قاومت من الشروق إلى الغروب «حتى تهدَّم معظمها، ولم يكن فيها
هبوب، وفي الصباح رُفعَت فيها الراية البيضاء، إشارة لانقطاع الهيجاء، وذلك بأمر الخديو
ودرويش، بغير بحثٍ وتفتيش، وقد عمَّها الفرح، وطار بها المرح، بانتصار عدو البلاد على
الأهل والأولاد.»
١٦
•••
لعله ينبغي القول إن المستوى التعليمي لجنود الجيش المصري كان مرتفعًا للغاية.
١٧ وإذا كانت قد لحقت بالجيش المصري هزيمة عسكرية مؤكَّدة، فإن القوة الرئيسة
للجيش ظلَّت موجودة. ثمة حامية كبيرة كانت ترابط في العباسية والقلعة وفوق جبل المقطم،
وقوة كفر الدوار التي صمدت لهجمات الإنجليز في الميدان الغربي، كانت لا تزال متماسكة.
أما حامية دمياط فقد استطاعت — بقيادة عبد العال حلمي — أن تحتفظ بصلابتها واستعدادها
للقتال، ولم تلقِ السلاح إلى ٢١ سبتمبر.
١٨ بالإضافة إلى ذلك، فقد طُرحَت فكرة الاستعانة بوحدات الجيش المصري التي كانت
تحارب قوات المهدي في السودان، بحيث تتوحد المقاومة المصرية السودانية، بانسحاب الجيش
إلى الصعيد، ثم إلى السودان، وثمة المساندة الشعبية الغلَّابة المتمثِّلة في المعونات
المادية والعينية، بما يكفل استمرار المقاومة. بل إن الحرب التي بدأت بنحو عشرة آلاف
مقاتل مصري، ما لبثت — خلال فترة قصيرة نسبيًّا — أن احتوت مائة ألف مقاتل، وكتب السِّير
دونالد ماكنزي — عقب زيارته للإسكندرية في ١٨٨٣م — «بينما كانت الإسكندرية واحدة من أكثف
المدن سكانًا، ومن أكثر مدن الشرق انتعاشًا ورخاءً، حيث الميناء الفاخر، والبيوت
المتينة البناء، والشوارع الممتازة التبليط، فإن أجمل مكان في المدينة الآن هو مجرد
أكوام من الحطام لا شكل لها، ولن تستعيد المدينة رخاءها في الأغلب.»
١٩ وتقول جهاد (تمساح البحيرة): «لو كانت الأمطار الغزيرة سقطت أيام عرابي،
لانتصر في ثورته.»
٢٠
والحق إني أتحفظ على تقدير لويس عوض لبواعث فشل الثورة العرابية، وإن كنت أوافقه على
أنه في مقدمة دروس فشل العرابيين: «أن الاعتماد على الأرستقراطية لتحقيق الديمقراطية
وهم.»
لقد شوَّهت الخيانة كلَّ الصور النضالية، وقوَّضتها من الأساس، وكما يقول الراوي،
فقد «كان
للجاسوسية والرشوة أثرهما الفعَّال في النفوس الضعيفة.»
٢١ يقول مدحت (وكالة الليمون): «الخيانة هي السبب في فشل ثورة عرابي.»
٢٢ ويقول عمار: ماذا نستطيع أن نفعل؟ حاربنا كما ينبغي أن نحارب، دافعنا عن
شرفنا، لم يهزمنا الجنود، ولكن هزمتنا الخيانات … خيانات البدو وخيانات الخديو
والباشوات … هل كنت تتصور أن موسيقى الخديو تصدح بأنغام الظفر، لما بلغ الخديو استيلاء
الإنكليز على التل الكبير؟ ويقول أحمد رفعت: «… وكان لا بد أن ينتصر عرابي لولا أن
خانه الخديو، وخدعه السلطان.»
٢٣ لقد أبدى أحد ضباط الخديو خشيته من أن يحيق الدمار بالإسكندرية، فقال توفيق
ببساطة: «فلتحرق المدينة جميعها، ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب. كل ذلك يقع
على رأس عرابي، وعلى رءوس الفلاحين، وسيذوق الأوروبيون عاقبة هروبهم مثل الأرانب.»
٢٤ وبينما كان عرابي يعد للدفاع عن كفر الدوار، أرسل له الخديو توفيق برقية
يطلب منه فيها التسليم للإنجليز: «اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع الإنجليزية على
طوابي الإسكندرية وتخريبها، إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية
بالطوابي وتركيب المدافع، التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفاؤها وإنكارها،
والآن وقد حصلت المكالمة مع الأميرال، فأفاد أنه ليس للدولة الإنجليزية مع الحكومة
الخديوية أدنى خصومة ولا عداوة، وإن ما حصل إنما هو في مقابلة ما كان من التهديد
والتحقير للدونمة، وإنه إذا كان بيد الحكومة الخديوية جيش منظم وممتثل ومؤتمن، فهو
مستعد لتسليم مدينة الإسكندرية إليها، ولذلك إذا حضرت عساكر شاهانية، فالحكومة
الإنجليزية تحترمهم، وتسلِّم إليهم المدينة … فلذلك يلزم أن تصرفوا النظر عن جميع
العساكر، وعن كافة التجهيزات الحربية التي تجرونها بوصول أمرنا هذا.»
٢٥ وتوالت بلاغات توفيق التي تحذِّر المصريين من مشايعة عرابي، وترميه بالعصيان
والتمرد، وتهدد كلَّ من يشايعه بالعقاب الشديد، وكان عبد الجواد بك (النفس الحائرة)
واحدًا من الذين نالهم عقاب الإنجليز، بوشاية ادَّعت أنه كان مواليًا للثورة العرابية.
٢٦ هذه العبارات نفسها تقريبًا، يكتبها الإمام في مذكرات منفاه: «إن الشعب
المصري في جملته، قد قام بكل ما يجب عليه من الحقوق المالية والوطنية، فقد بذل كلَّ ما
استطاع من المال والرجال في سبيل الدفاع عن بلاده، وإنما خانه بعض كبار رجاله كسلطان
باشا وبعض الضباط وهمج البدو، لا رجال الحكومة والقصر من الأعاجم الأصل وحدهم.» «ظهر
المنافق والخوان، وقالوا: لا يسعنا إلا الاستئمان، فاستأمنت البلاد بمشورة الخائنين،
واستسلمت بسعي المارقين.»
٢٧ ويروي النديم في مذكراته أن أحمد عبد الغفار عمدة تلا، اتفق مع السيد الفقي
عمدة كمشيش وعبد الرحمن حسن على أن يُظهِروا مع علي يوسف (خنفس) الإخفاق، ويخلوا الجناح
الشمالي ليمرَّ العدو بجيشه خلف المقاتلين المصريين. وسار عرب الهنادي في الأمام يكشفون
الاستحكامات لقوات الإنجليز، يتبعهم سلطان باشا بمن معه من العساكر المصرية، يتقدَّمهم
عبد الرازق نظمي وبعض ذوات المعية، «وخلف هؤلاء الخونة ذوات المصريين أعداء الديانة،
ليؤكدوا للإنكليز أنهم داخلون بلا قتالٍ بناء على أكيد الاتفاق مع الرجال، وخلف هذه
الحملة المصرية العساكر الإنكليزية.»
٢٨ وكان يوسف باشا منصور سالم (الأفيال) واحدًا من عملاء الخديو، الذين جاهروا
بالعداء للثورة حتى اندحارها، ونال مكافأة على مواقفه، أرضًا في البحيرة، وأمرًا
بتعيينه حاكمًا لرشيد.
٢٩ وكان سعود الطحاوي (تلك الأيام) هو الشيخ العربي الوحيد الذي خان عرابي عن
تدبيرٍ ومقدرة، وكان الخديو يموِّله، دفع له خمسة آلاف كرون نمساوي لتجسُّسه في معسكر
عرابي.
٣٠ ويقول المؤرخ بيوفيس: «ولا تحسبوا أن انتصار القوات الإنجليزية كان بسبب
كفاءة قوادها ومهارتهم، ولكن سببه الخيانة وحدها؛ إن الذي هزم عرابي ليس الجنرال ولسلي،
ولكن الذي هزمه هو سلطان باشا، وزملاء سلطان باشا من الخونة.» ويقول حسان (القضبان) في
حزن: «أبويا خان بلده، خان مصر، باع عرابي للإنجليز، وخد تمن الخيانة الأرض ديه اللي
أنا ورثتها.» ويضيف مؤكدًا: «الإنجليز ما كانوش يقدروا يدخلوا مصر من غير الخيانة.»
٣١ وفي مذكراته يقول أحمد شفيق باشا: «كنا ننتقد الأميرال سيمور في أحاديثنا
الخاصة، لعدم مبادرته لاحتلالها — الإسكندرية — بعد تخريب طوابيها واستحكاماتها، فقد
كان وسعه، لو أنه عجَّل باحتلال المدينة، أن يحُول بقواته دون أعمال الحرق والنهب.»
٣٢
-
لقد كان تصميم عرابي «إننا نقابل القوة بمثلها، ولا نسلِّم البلاد لأحدٍ وفيها روح يتنفَّس.»
٣٣ وبصرف النظر عن صحة الاتهام الذي واجهه عرابي في عدم ردم القناة، حتى
استطاعت السفن البريطانية أن تسيطر على مدخل القناة، وتحتل مدينة السويس، فذلك يأتي في
مرتبة تالية من باعث الهزيمة الحقيقي: الخيانة، وقد كان في الإمكان أن يطرأ على تطورات
المعارك تغيُّر حقيقي — حتى بعد أن اقتحمت القوات البريطانية قناة السويس — لولا
الخيانة. كانت الخيانة هي السهم الذي أفلح الاستعمار في طعن الثورة به: سلطان باشا
وطبقة الأعيان وبعض المتمصرين من كبار الضباط، حوَّلوا ولاءهم إلى الخديو، وإلى قوات
الاحتلال، وقد عاب بعض المؤرخين على عرابي أنه «لم يقُم بحركة تطهير شاملة في صفوف الجيش
بعد أن أصبحت خيانة بعض الضباط واضحة، واتصالاتهم بالإنجليز لا تقبل الشك، مما جعل خطط
الجيش ونقط ضعفه تنقل للإنجليز أولًا بأول قبيل معركة التل الكبير.»
٣٤
وبعد أن قُضي على الثورة، استقبل عرابي في سجنه السير شارلز ويلسون، الذي عرض عليه خطة
المعركة، وسأله عما إذا كانت من رسم يده، فأجاب عرابي: نعم. فأخبره أن علي يوسف سلَّم
الخطة إلى الجنرال ولسلي، ثم قال: إنها خطة جيدة، وربما كنتم تنتصرون بها علينا.
٣٥ ويقول نينيه عن علي يوسف — خنفس — زعم البعض أنه من صميم المصريين، والحق
أنه من حثالة الأتراك.
٣٦ وقد دفع عبد الجواد بك ثمن تعاطفه مع الثورة، لما وشى به مصطفى باشا
الأزميرلي إلى سلطات الاحتلال، ولأن الأمر بعد فشل الثورة كان فوضى، فقد اختبأ عبد
الجواد بك في مكان أمين، وأمر أهله أن يشيعوا أنه غادر مصر، وغنم الأزميرلي الفرصة،
فاستولى على أرض له بالشرقية، وحصلت عائلة عمدة القرية القريبة من أسوان على أملاكها،
هدية من الإنجليز — مع عائلات أخرى كثيرة مشابهة في البلاد — مكافأة لها على توقيعها
على
البيان الذي وصف عرابي بالمروق والعصيان، فضلًا عن تبليغها عن العائلات التي ناصرته
وأمدَّته بالمتطوعين والمساعدات.
٣٧ ويترك لنا التاريخ أسماء هؤلاء الذين قصموا الثورة بخياناتهم: علي يوسف
خنفس، سعود الطحاوي، عبد الرحمن حسن، راغب ناشد، عثمان رفعت، القائمقام يوسف ضيا،
اليوزباشي توفيق أفندي، الأميرالاي زهراب بك، عمر لطفي، فريد باشا، عثمان بك رأفت، محمد
سلطان، السيد الفقي، أحمد عبد الغفار … إلخ.
٣٨
-
وإذا كانت الخيانة هي باعث الهزيمة الأساسي، فقد كانت هناك — بالطبع — أسباب أخرى،
أفضت إلى ذلك اليوم الحزين من سبتمبر ١٨٨٢م، حين استقبلت القاهرة — برغمها — قوات
الاحتلال البريطاني. ثمة المنشور الذي أصدره السلطان في السادس من سبتمبر ١٨٨٢م بعصيان
عرابي، وتسلَّل به بعض الجواسيس والبدو إلى معسكرات الجيش المصري، وقاموا بتوزيع آلاف
النسخ منه على الضباط والجنود «فلما اطلعوا عليه كانت صدمة عنيفة أضعفت عزائمهم، ووهنت
بها ثورتهم» قالوا — والرواية لعرابي في مذكراته — «إننا إذن عصاة على السلطان،
مخالفون لكتاب الله وسنة رسوله، كما فعل محمد علي باشا رأس العائلة الخديوية وابنه
إبراهيم باشا، ومن مات منَّا، مات عاصيًا لا أجر له، مثل الذين ماتوا من المصريين في
قتال
الدولة العلية.»
٣٩ وقد حاول عرابي نصحهم بأنهم إنما يقاتلون أعداء الدين «إلا أن تلك النصائح
لم تؤثر في الذين يجهلون أحكام الدين، ولكنهم أظهروا قبول ما أوضحناه لهم، وأسرُّوا
الغدر والخيانة، والحساب على الله.»
٤٠ بل إن الأفغاني والإمام يؤكدان أنه «لولا فرمان الدولة العثمانية بعصيان
عرابي، لما سهل للإنجليز أن يدخلوا أرض مصر.»
٤١ وكما يقول عرابي، فقد «سارع بعض الغفل من أمراء الجيش إلى إجابة عدو وطنه
سلطان باشا داعي الخديو، فكانت هزيمة التل الكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.»
٤٢ والواقع أن ذلك المنشور كان محاولة لتأكيد سيطرة الخلافة العثمانية، بعد أن
تبدَّت هزيمة العرابيين — في تقدير السلطان — واضحة، ومؤكدة. فقد بعث السلطان — من قبل
—
رسالة سرية إلى عرابي، حين توضح له اشتداد ساعده، عرابي وسيطرته على مقاليد الأمور، قال
له فيها إنه لا يهمه — أي السلطان — شخص الخديو، وإنما على حاكم مصر أن تكون أفكاره
ونيَّاته وسلوكه موجهة نحو المحافظة على مستقبل مصر وسيادة الخليفة، وأكد السلطان في
رسالته «أن جلالته يضع ثقته في شخصك.» وثمة أسباب أخرى، من بينها انضمام الخديو —
علانية — إلى جانب الإنجليز، وأسر محمود فهمي، وإصابة راشد حسني وعلي فهمي، في ذروة
احتدام المعارك — وكان الثلاثة من أفضل قادة الجيش المصري — وعدم رأب الصدع الذي أحدثه
عزل العناصر غير المصرية من الشركس.
وامتدَّت الخيانة فشملت بعض المثقفين؛ باع سليم نقاش نفسه للخديو والإنجليز، ولجأ أديب
إسحاق إلى بيت الشواربي طيلة أيام الثورة، وأذاع أحمد فارس الشدياق منشور الباب العالي
ضد عرابي ورفاقه، وظهرت «الأهرام» في ٢٩ سبتمبر ١٨٨٢م حاملة على «العاصي عرابي ورفاقه
البغاة»، ونشرت في صفحتها الأولى صورة للجنرال ولسلي قائد الحملة الإنجليزية. حتى علي
مبارك — وهو مصري فلاح! — وقف بعد ضرب الإسكندرية في الجمعية
العامة التي حضرها رؤساء الطوائف الدينية ووكلاء الوزارات والعلماء والنواب والأعيان
والتجار، يطالب بأن تبعث الجمعية بوفدٍ إلى الخديو في الإسكندرية لاستجلاء الحقيقة.
وتساءل: من أين لنا — ونحن في القاهرة — أن نعرف حقيقة ما حدث في الإسكندرية؟ أليس من
الضروري أن نحكِّم عقولنا؟ أليس من الجائز أن يكون ما بلغنا زورًا وبهتانًا؟ فردَّ عليه
عبد الله النديم: إذا كانت لا تكفيك شهادة ثلاثمائة ألفٍ من الرجال والنساء والصبيان
خرجوا من ذلك الثغر مهاجرين لا يملكون إلا أنفسهم، هائمين على وجوههم في البلدان
والقرى، لا يلوي الوالد منهم على ولده، ولا الأخ على أخيه … فما الذي يكفيك؟!
-
وعلى الرغم من الجهد المضني شبه الفردي الذي كان يبذله عبد الله النديم، فإن الثورة
كانت تعاني افتقارها لوسائل الإعلام التي توضح للعالم وجهة النظر المصرية، لم تكن في
حوزتها الوسائل التي تردُّ بها على مطاعن غريبة وقاسية، مثل تصوير عرابي بأنه زعيم عصابة
من المتمردين الخارجين على القانون، أو أنه مجرد عميلٍ للخديو السابق، اشتراه كي يعمل
على عودته إلى مصر، أو أنه — وتعجب! — إسباني أو فرنسي يرتدي زيًّا مصريًّا.
٤٣
-
ولعلَّه يمكن إضافة انضمام الخديو — علانية — إلى جانب الإنجليز، لقائمة «الأسباب
الأخرى». لقد أعطى الخديو موافقته على قرار الدفاع عن البلاد ضد اعتداءات الأسطول
الإنجليزي. والقول بأنه كان شبه أسيرٍ في قبضة العرابيين، مما دفعه إلى الموافقة مضطرًّا،
يلغيه أنه سافر إلى الإسكندرية — باختياره — ولجأ إلى حماية قوات الاحتلال. وبتعبيرٍ
آخر: أصبح أسيرًا لديها، ولم تعُد للقرارات التي اتخذها في قيد الأسر قيمة.
٤٤ وقد اتخذ المجلس العالي، الذي ضمَّ إلى عضويته عددًا كبيرًا من الساسة والعلماء
ورجال الإدارة، قرارًا — بالإجماع — أن الخديو لم يعُد في مركز يسمح له بقيادة الأمة،
وأن
أوامره — ما دام في أيدي الإنجليز — لا قيمة شرعية لها.
٤٥ والحق أن تأليف هذا المجلس، وما نتج عنه من قرارات، يضفي الشرعية الكاملة
على كل الخطوات التي اتخذها عرابي، ويسلب الشرعية من القرارات التي اتخذها الخديو، بل
يسلب الخديو شرعية بقائه أصلًا. فقد تكوَّن المجلس من نخبة القيادات المصرية، من كل المهن
والطوائف، حتى لقد انضم إليه زعماء شركسيون، ولم يشارك عرابي في تأليف المجلس، ولم يحضر
جلساته لأنه كان غائبًا عن القاهرة طيلة فترة الحرب. وبالإضافة إلى قرار المجلس بأن
الخديو لم يعُد في مركزٍ يسمح له بقيادة الأمة، فإنه قد أصدر قرارًا مقابلًا يشجب فصل
الخديو لعرابي من وزارة الحربية، وإبقاء عرابي في وظيفته، ودعوته لأن يستمر في الدفاع
عن البلاد.
٤٦
-
وثمة أسْر محمود فهمي، وإصابة راشد حسني وعلي فهمي في ذروة احتدام المعارك، وكان
الثلاثة من أفضل قادة القوات المصرية … وعدم رأب الصدع الذي أحدثه عزل العناصر غير
المصرية من الشركس والأتراك والألبان والأرناءوط، وهي العناصر التي كانت تحتل معظم
المناصب القيادية في الجيش المصري. من هنا، أصبح أهم ما يمتلكه هذا الجيش هو الإصرار
على الصمود أمام الجهات المتعدِّدة من السراي والاستعمار والنفوذ التركي والشركسي …
والخلاف بين العسكريين وكبار الملاك الزراعيين، فقد كان العسكريون يهدفون إلى إجراء
تغييرات شاملة، في حين كان رأي الملاك الزراعيين أن يظل الخديو في السلطة، مع الحد —
بعض الشيء — من اختصاصاته، واكتفاء الثورة بالمساعدات العينية والمادية من المواطنين
بصورة عامة، دون أن يمتد ذلك إلى العون العسكري، بمعنى أن يحمل المواطنون السلاح دفاعًا
عن الثورة ضد الغزو الخارجي، ثم الخطأ في تقدير قوة بريطانيا العسكرية، وأن «الإنجليز
كالسمك إذا خرج من البحر مات.» بمعنى أن بريطانيا لا تبين عن قوتها إلا في البحر
وحده.
-
وضع قادة الثورة خطة للدفاع عن القاهرة، تقوم على إغراق مديريتَي القليوبية
والشرقية، وفك أجزاء من خطوط السكك الحديدية بالقرب من بلبيس والزقازيق لتعطيل تحرك
الإنجليز، وإرغامهم على اتخاذ طريق الخانكة، والدخول معهم في معركة أخرى عند ضواحي القاهرة،
٤٧ وقد نفى عرابي — في مذكراته — فكرة إغراق مديريتَي القليوبية والشرقية بدعوى أنه
سيلحق بالمديريتَين — من جراء ذلك — دمار شامل، لكنَّ وثائق الثورة — والخطوات التي تمَّت
بالفعل — تثبِت عكس ذلك. ويبدو أن عرابي هاله — وهو يكتب مذكراته في المنفى — ما كان
يمكن أن يحدث من دمارٍ لو أن الخطة نُفِّذت.
٤٨ أيًّا يكن الأمر، فقد كان الإهمال الجسيم في الجانب الشرقي عاملًا مهمًّا في
حسم المعركة لصالح قوات الإنجليز.
-
كان تأخر عرابي في إعطاء أوامره بردم القناة غلطته الكبرى — على حد تعبير ريمون
فلاور — فلو أنه ردم القناة في الوقت المناسب لظلَّت بريطانيا تحاصر مصر من أعلى البحار
—
والتقدير لووسلي.
٤٩ وحين سُئل محمود باشا فهمي في التحقيقات: «ما الذي تقرر في ذلك التقرير بشأن
القنال، وما جرى بينك وبين ديلسبس؟ أجاب: لم يتقرر في التقرير شيء عن القتال، وبعد
ذلك توجَّهت للتل الكبير، المركز العمومي. وبتوجهي ركبت إلى نفيشة، فوجدت العالم متهيجة،
فسألت عن السبب، قيل لي إن الإسماعيلية فيها إعلانات أن الذين مع الجناب الخديوي يبقون
في الإسماعيلية، والذين مع عرابي يتوجهون منها، وبعدها تقابلت مع مسيو ديلسبس، وسألته
عن القنال، فأفاد أن القنال لا يمكن حصول شيء فيه قطُّ، ما دامت العساكر المصرية لا تتعدى
نقطها.» وأجاب محمود فهمي باشا في موضع آخر: «العرابي كان مطمئنًا على كون القنال في
الحياد، ولم يأمر بسدِّه إلا في اليوم الذي أوضحت عنه لمَّا علم بحضور عساكر إنجليز لبورسعيد.»
٥٠
-
ثم قضت الخيانة على ما تبقَّى من تماسك الجيش — وقد أصبحت غالبيته من الفلاحين الذين
يلتفُّون حول عرابي، ويتحرَّقون شوقًا لخوض المعارك، دون أن يُسمَح لهم الوقت بالتدرُّب
على
حمل السلاح — بعد تخلُّصه من القيادات الأجنبية، والمتمصرة. لكن الخيانة كانت باعث
الهزيمة الوحيد — في تقدير السحار — ربما استطرادًا في تعاطفه مع الثورة، ووضعها
وقادتها في إطارٍ متكاملٍ من البطولة الخالصة، والخارقة أيضًا. كل الأسباب كانت غائبة
عن
قادة الثورة، وجاوزت إرادتهم، بل وتحدَّتها، ومن ثَم، فلم يكن ثمة ما يدعو الفنان لإغفال
الإحاطة ببواعث الهزيمة في أبعادها الشمولية. ويقول الفنان: «يقينًا، لم يحس الخديو،
ولا عرابي نفسه، فظاعة الرحلة الشاقة عبر مئات السنين التي قطعتها هذه الكلمة لتصل إلي
في هذا الموعد لتخرج من فم هذا الفلاح، ولتدخل أذن هذا الخديو، مئات السنين من القهر
والظلم، ومئاتها من الصبر والألم، مئات السنين تعهدت هذه الكلمة، أرضعتها، جمعت حروفها
المتناثرة، ألفت معانيها من آلاف الصرخات، ومن حبات العرق، ومن شهقات الموتى، من ظلام
الليالي السوداء، ومن كئوس الخمر، ومن أضواء المخادع الشاحبة، ومن صرخات المتعة، ولن
يزعم عرابي وحده، أو الخديو وحده أنهما مسئولان عن مولد تلك الكلمة الغريبة، وكأنهما
فوجئا معًا بها»
٥١ وثمة رواية (في الظلام) أن الخلافات اشتدت بين رفاق الثورة الواحدة، حتى إن
قوات الإنجليز لجأت إلى الفصل بينهم في عرض البحر، حيث الجزائر النائية المتناثرة.
٥٢
لم يكن عرابي — في تقدير العقاد — خائنًا، ولا متواطئًا مع الإنجليز، لكنه كان رجلًا
مخلصًا، خانته الحوادث، وانقلبت عليه المآرب السياسية والدسائس الأجنبية، ففشل في حركته
فشلًا لا حيلة له فيه.
٥٣
أما عصام الدين حفني ناصف، فقد أرجع — في رواية مخطوطة له — فشل الثورة إلى عامل
أساس، هو التعليم الديني الذي تلقَّاه أحمد عرابي، وهو رأي يتَّسق مع نظرة عصام الدين
ناصف الكلية إلى الأديان بعامة. إنها تشكِّل عنصرًا سلبيًّا غاية في الخطورة، يقول الراوي
في رواية عصام ناصف: «وكان الأزهر — في ذلك الحين — يكاد يكون المعهد الوحيد للعلوم
والمعارف، ويمثِّل ما يمثِّله اليوم، مضافًا إليه — غير الجامعة — من المدارس العليا.
ولم
تكن رسالة علماء الأزهر تنتهي بانتهاء دروسهم في الأزهر، وإنما كانوا يستقبلون التلاميذ
ويوجِّهونهم،
٥٤ وكان من الطبيعي أن يتصدَّر بعض رجاله زعامة التيارات الفكرية البدائية التي
كانت في ذلك العصر. وقد ظاهر الأزهر تلك الفورة الشعبية، منذ بدأت بزعامة علي بك فهمي،
فلما عقد لواء زعامتها لأحمد عرابي وأيَّده، فإن عرابي كان يطلب العلم في الأزهر قبل
أن
ينسلك في الجيش. ولعل ذلك مصدر فشله، وعلة إخفاقه. وقد اندمجنا نحن الثلاثة في طليعة
الثوار، وآلينا على أنفسنا ألَّا نضنَّ على الوطن بنفوسنا، وأن نكرِّس جهودنا لإنهاض
البلاد بقيادة زعيمها، المعبِّر عن شعورها، المنادي بمطالبها. وكان عرابي نفسه ذا مقدرة
متوسطة في الخطابة، ولكن خطاباتنا نحن الملتهبة، وبيانات الثورة، كانت تمحق دعاوي
المثبِّطين، وتفعم قلوب الشعب تحمُّسًا للذود عن حقوقه. واعتقل عرابي وفهمي، فأطلقهما
ضباط الآلايين، وأرغم الخديو على عزل عثمان رفقي الشركسي الأصل من نظارة الحربية، فولَّى
البارودي باشا، ثم استبدل داود باشا ابن أخي الخديو. ودُبِّرت التدابير لاغتيال عرابي
باشا، ولكن الأقدار فضحت خبيئتها، فاتخذناها ثلاثتنا موضوعًا للخطابة، وانطلقنا نعلن
بين الجموع أن القصاص واقع واقع لا محالة، وأن المتآمرين على سلامة الشعب وحياة زعمائه
سيلقون الموت الذي استحقوه، وما أشد ما كانت دهشتنا، وأعظم خيبتنا، وأبلغ ألمنا، حين
علمنا أن أعداء الشعب قد تُرِكوا وشأنهم يسرحون ويمرحون. خلَّى عنهم الزعيم الذي وضع
الشعب
مصيره بين يديه، لقد تسلك هذا القائد مسلكًا لا يليق بالقادة، فلم يأخذ الأداء بالقسوة
والصرامة، بل نهج المنهج الساذج الذي يعزى — على سبيل المغالاة — إلى عمر بن الخطاب.
فقد ذهب عرابي مع ٢٥٠٠ عسكري و١٨ مدفعًا إلى الخديو. فرفض هذا مناقشته اتباعًا لنصيحة
السير أوكلاند كلفن المراقب الإنجليزي. ثم قبل الخديو عزل النظار، مع إرجاء البتِّ في
أمر
المجلس النيابي، وزيادة عدد الجيش، فقبل عرابي ذلك، وانصرف الجيش داعيًا للخديو بطول
العمر. والتمس عرابي من الخديو أن يصفح عنه، فكان له ذلك، وسقطت وزارة شريف بعد مذكرة
غمبتا وغرنفل، وشكَّل النظارة البارودي وعرابي، وازداد نفوذ الحزب العسكري. ثم عُزل عرابي
وعلي فهمي من الجيش تلبية لمشيئة إنجلترا. وأخفقت الثورة لأن قائدها لم يولَد ثائرًا،
ولم يتلقَّ قطُّ تربية ثورية، أو ثقافة سياسية على الإطلاق، ولأن الثقافة الدينية التي
شبَّ
عليها، جعلته يتردد في اقتناص الفرص، ويتهاون عن التقدم إلى النجاح.»
٥٥ ويلخص الفنان شخصية عرابي، وموقفها من تطورات الأحداث منذ بدايتها، بأنه
«كان رجلًا طيبًا يؤمن بأن الاعتداء جريمة، وأن الشجاعة تغلب المدفع، فلما وقعت النكبة
فسَّرها بأنها من تصاريف القدر، وأحال عليه كلَّ الذنب، وبقي هو مستريحًا مطمئنًا، لا
ينضم
ضميره إلى خصومه في توجيه اللوم، ولم يتزلزل اعتقاده في أنه قام بواجبه في الدفاع عن
كرامة شعبه وحقوق بلاده. وإذا كانت حكمته موضع درسٍ فإن إخلاصه فوق الشبهات.»
٥٦ وثمة رواية متكررة في أكثر من مرجعٍ أن «عرابي» صحب جنوده — في أثناء الثورة
— إلى مقام الحسين، وطاف به حاملًا علم الجيش.
•••
يقول أحمد عرابي (أمام العرش) في محكمة الثورة: «بذلت أقصى ما لديَّ.
فيقول رمسيس الثاني: وكان يجب أن تقاتل حتى الموت بين جندك.
ويقول إبنوم: وكان يجب أن تقضي على جميع أعدائك لتقضى على الخيانة في مهدها.
فيقول إخناتون: إنك رجل طيب القلب، فجرت عليك النهاية المقدَّرة للقلوب الطيبة.
ويقول الحكيم بتاح حتب: هكذا ثرتَ من أجل حرية الشعب، فجررت عليه احتلالًا أجنبيًّا.
وتقول إيزيس: هذا ابن مترع القلب بالنوايا الطيبة، وهبَ شعبه ما يملك من حبٍّ غير
محدود
وقدرات محدودة، وقد تآمر الأعداء على تصفية ثورته، ولكنهم لم يستطيعوا استئصال البذرة
التي غرسها في الأرض الطيبة.
ويقول أوزوريس: إني أعتبرك نورًا تألق في الظلمات التي رانت على وطنك، وقد عوقبت
في
حياتك بما يُعتبَر تكفيرًا عن أخطائك، فعسى أن تحظى بالبركات في ساحة محكمتك، ولن نقصر
عن
التنويه بفضلك بما أنت أهله.»
٥٧
•••
أفلت شمس الثورة، وحُكِم على عرابي ورفاقه بالنفي المؤبد، وتجريدهم من جميع الرُّتب
والألقاب وعلامات الشرف التي حصلوا عليها خلال حياتهم العسكرية، ونُفِي محمد عبده، واختفى
النديم، وبلغ عدد القتلى والجرحى من المصريين نحو عشرة آلاف «وأكثرهم كانوا قتلى لأن
الإنجليز لم يستعملوا أقل هوادة.» أما المعتقلون، فقد بلغوا أكثر من ٢٩ ألف مواطن،
والمؤسف أن بعض الذين ندَّدوا — مع الحركة الوطنية — بطغيان الشراكسة، راحوا يدعون لإنجلترا،
٥٨ ووجد رياض باشا الفرصة لأن يعلن أن الطريقة الوحيدة لمنع تفشِّي الثعابين هو
سحقها بالأقدام «وسأسحق أنا المصريين.»
٥٩ وكتبت «الأهرام» في أغسطس ١٨٨٣م، تتوسَّم الخير «بعد التخلص من عقبات السنة
الماضية، التي كانت وشيكة النهاية، وراقت الأحوال، وأخذت التجارة تنمو، والعمارة تتمثَّل
في الربوع، وبدأت تتحقق الآمال، وتُمحى آثار الحزن التي رسمتها حوادث الثورة في صدور
ذوي
النفوس الطاهرة.»
٦٠ ورغم الشواهد التي تؤكد أن الثورة قد أُجهضَت في مدى قصير نسبيًّا، فإن
البرقيات والرسائل وغيرها من وثائق الثورة، تؤكد أن استمرار المقاومة كان واردًا، حتى
بعد هزيمة العرابيين، بل وحتى دخول عرابي — عقب الهزيمة — إلى القاهرة، أكد البارودي
في
المحاكمة أن المشاورات ظلت «جارية في إجراءات المدافعة، وكان عمل بلان — خطة — بمعرفة
أركان حرب بجميع النقط لغاية أسوان.»
٦١ ويضيف عرابي إلى الرسالة التي يكتب فيها قرار التسليم قوله: «وعلى ذلك لا
يسمح له — العدو — بدخول العساكر بالمدينة — القاهرة — فإن صمَّم على الدخول بعساكره،
فيصير مدافعته بالسلاح، ويجري تفهيم الضباط والعساكر الموجودة بصدق العزيمة وكمال
الثبات، متوكلين على الله تعالى في دفعه وصدِّه، ويصير تفهيمهم أيضًا، أنهم إذا تأخروا
هُتِكت الأعراض، وحلَّ بهم غضب الله.»
٦٢ وزاد من فداحة المأساة، تفشي وباء الكوليرا، عقب هزيمة العرابيين بعامٍ
واحد، وظل الوباء يحصد الناس في مدن مصر عدة سنوات، حتى قدِم العالم الألماني روبرت كوخ
إلى مصر على رأس بعثة لدراسة الوباء، ونجح في اكتشاف جرثومة الكوليرا، ليكتشف — من بعد
— علاجًا لها.
•••
في كتابه عن مصطفى كامل، يذهب فتحي رضوان إلى أن الهزيمة العسكرية كانت بلاء مدمرًا،
لكن تلك الهزيمة تجاوزت الجانب العسكري إلى الجانب الروحي، فبعد مواقف زعامة الثورة
الرائعة من الإنجليز والخديو، وبعد إقامة الحكم النيابي الصحيح، وبعد تعبئة الشعب على
كل المستويات، فإنها اتخذت — بعد هزيمة التل الكبير — مسلكًا مناقضًا لما اتخذته من قبل.
٦٣
وتسأل المدرسة: ما عوامل فشل الثورة العرابية؟ وتتعدَّد أجوبة الطالبات، لكن الإجابة
الواضحة، الحاسمة، المحددة، تظل غائبة.
٦٤ فهل كان بوسع القوات المصرية — لولا كل تلك العوامل التي سبقت الإشارة
إليها — أن تنتصر على قوات الغزو؟
ذهب البعض إلى أن عرابي انهزم «أمام قوات بريطانية لا تُذكَر، وليس له عذر في هذه
الهزيمة، لو قاوم لانتصرنا على إنجلترا، ولكانت معركة التل الكبير مقابل معركة «بورث
آرثر» في تاريخ النهضة اليابانية. يومها، كان التاريخ سيسجل انتصار الأمة الشرقية
الثانية على دولة أوروبية كبرى، وكنا سنخرج من عنق الزجاجة.»
٦٥ وكتب مصطفى كامل: «إذا كانت الأمم تفتخر برجلٍ، وتعيَّر برجل، فلا عجب إذا
كان التاريخ يعيِّر الأمة المصرية بهذا القادم المشئوم الذي جرَّ على وطنه وبلاده المصائب
الجسام، وباع استقلالها بجهله وجبنه وغباوته، وقضى عليها أن تعيش ذليلة حقيرة، وأن تسير
إلى الوراء في وقتٍ تخطو فيه الأمم والدول خطوات التقدم والحياة إلى الأمام.» كما اتهم
أحمد حافظ عوض قائد العرابيين بأنه «أضاع هذه البلاد، وكان السبب في إلقائها تحت سيطرة
الاحتلال الإنجليزي.» لكن القضاء على العرابيين — لعوامل أشرنا إليها — كان حتميًّا،
حتى
لا تصبح الثورة — في حالة نجاحها، واستمرار ذلك النجاح — نموذجًا لثوراتٍ أخرى تنتظر
الفرصة.
انتكست الثورة، لكن مبادئها لم تنتكس، فقد ذكر الخديو عباس في مذكراته أن مبادئ
الثورة العرابية ظلَّت راسخة إلى وقت اعتلائه الحكم، وأن أقل حافزٍ كان يُنذِر باندلاعها
من
جديد. وحين أرادت فرقة مسرحية أن تقدِّم مسرحية عن الحركة العرابية، نالت فيها من شخصية
أحمد عرابي، فإن جمهور المسرح أجبر الفرقة على إسدال الستار: «أكثرَ بعض الحاضرين من
الصفير والصياح لضغائن بينهم وبين الممثلين، واضطرارهم إلى إبطال التمثيل، ثم أخذوا
يرمون بعضهم بالكراسي، فحضر رجال البوليس، وفرَّقوا المتجمهرين، وكتبوا المحضر اللازم
بذلك.»
٦٦ وكتب محرر مجلة «المطالب» يعترض على تقديم المسرحية «فهذا الرجل الذي عدنا
نطالب ببعض مطالبه — الحكم النيابي — هو الرجل الشهم الوطني الوحيد، وليس من الحق في
شيء أن ننسب إليه سوء حالتنا، أو عقبى مصيرنا.» وقد أنشئت المحكمة المخصوصة في عام
١٨٩٥م، لمحاكمة الوطنيين الذين يعتدون على ضباط وجنود جيش الاحتلال هو تأكيد للمقاومة
الضارية التي خاضها المصريون — منذ اللحظة الأولى — دفاعًا عن الاستقلال. وكانت أمنية
العظيم سيد درويش — التي لم تتحقق — أن يضع موسيقى أوبرا عالمية، تخلِّد نضال أحمد
عرابي، لكن الظروف السائدة في حياته القصيرة، كانت كفيلة بإجهاض التفكير في أية محاولة
من هذا النوع.
٦٧ ثم أصبحت الثورة العرابية — من بعد — نبضًا لبعض القصص الذي يعالج مشكلات
قائمة. يقول عيسى الدباغ (السمان والخريف) لأمه، غداة ثورة ٢٣ يوليو: الجيش يتحدى
الملك! وتتساءل الأم: كأيام عرابي باشا؟ يتمتم: نعم، كأيام عرابي.
٦٨ وظلَّت عقدة الأسرة المالكة هي الخوف من شبح عرابي، أن يظهر عرابي آخر من بين
صفوف الضباط، يعلن الثورة، ويلتفُّ حوله الضباط والجنود وأبناء الشعب.
٦٩ ويتحدث المدرس عن الثورة العرابية، كرد فعلٍ سلبي لحياة قاسية، طحنته في
رحاها طيلة خمس عشرة سنة، اشتغل فيها بالتدريس، لكنه لا يتحدث عن العهد الإسماعيلي على
الإطلاق، ويقول له ناظر المدرسة: ما هذا التركيز على الثورة العرابية بالذات؟
– لأنها ثورتنا كلنا.
– ارجع إلى عصر إسماعيل.
– لا أستطيع الرجوع إلى الفساد.
ويتخلى الرجل — بتأثير المبادئ العرابية — عن الاستكانة والبلادة والخمول «… قال
عرابي للخديو يا أولاد: لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا إرثًا ولا عقارًا … فوالله
الذي لا إله إلا هو، إننا سوف لا نُورَّث ولا نُستعبَد بعد اليوم.»
٧٠
هوامش