إلى الأمام يا روميل

ظلَّت وقائع ٤ فبراير غائبة، أو مخفية، حتى عام ١٩٤٥م، عندما رُفعَت الرقابة على الصحف بانتهاء الحرب العالمية الثانية، وكتب إحسان عبد القدوس مقالًا بعنوان «هذا الرجل يجب أن يذهب» — يعني اللورد كيلرن — وفتح ذلك المقال الباب على مصراعيه؛ لتقتحم الحياة السياسية المصرية أقسى حملة ضد مصطفى النحاس حول ظروف حادثة ٤ فبراير.

•••

البداية تعود إلى نوفمبر ١٩٤٠م.

ففي ذلك الشهر استقالت وزارة حسن صبري، وخلفتها في الحكم وزارة حسين سري، واستندت وزارة سري في حكمها إلى تأييدٍ حزبَي الأغلبية آنذاك — الأحرار الدستوريين والسعديين — بعد انتخابات ١٩٣٨م التي جرت بوسائل مشكوك فيها، وأسفرت عن فوز الحزبَين بالأغلبية البرلمانية.

ونتيجة لهزيمة قوات الإنجليز في الصحراء الغربية، تكاثر جنودها في قلب العاصمة، يغطُّون انكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا في مكان.١
وكانت محطة القاهرة قد امتلأت بالجنود الإنجليز الهابطين من القطارات، والصاعدين إليها، وأثر الهزيمة بادٍ على وجوههم.٢
وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء حسين سري حذَّر الشيخ المراغي، من عدم تدخل الأزهر في الشئون السياسية، وهدَّد باتخاذ إجراءات بوليسية، فإن المظاهرات تكررت، وظلَّت الهتافات المعادية واللافتات التي تندد بالاستعمار البريطاني تجوب أنحاء القاهرة،٣ وهتف المتظاهرون: إلى الأمام يا روميل … فاروق فوق رأسك يا جورج،٤ وألقى البوليس القبض على ابن السلماوي لأنه قاد — في قريته بالصعيد — مظاهرة هتفت بمثل ما هتف به أهل العاصمة: إلى الأمام يا روميل!٥
اضطر حسين سري إلى الاستقالة في ٢ فبراير ١٩٤٢م، وعدَّد أسباب استقالته بأنها: اختلافه مع الحزبَين الممثلين في الوزارة، قطع العلاقات مع حكومة فيشي الفرنسية التي كانت تتعامل مع الألمان، خروج المظاهرات التي تنادي بتقدم روميل، عدم استطاعة حسين سري حماية وزير خارجيته صليب سامي.٦
ولعل أصدق وصف للمجتمع المصري — في تلك الفترة — ما ذكره سعيد عبده من أنه كان حائرًا «حيرة النعجة التي لا تجد فارقًا كبيرًا بين أن يأكل بقاياها الأسد البريطاني، الجاثم على صدرها منذ ١٨٨٢م، أو يأكل هذه البقايا الفهد الألماني القادم من فيافي الصحراء، ووراء الابتسامة التي تنجلي عنها أنيابه البارزة، أحلام إمبراطورية هتلر التي ستحكم العالم ألف عام!»٧

ويقول اللورد كيلرن إنه بعد أن أصر حسين سري على تقديم استقالته، سأله اللورد عن الأسماء التي يرشحها لرئاسة الوزارة من بعده، فاقترح سري ثلاثة أسماء هي: بهي الدين بركات … هيكل … أحمد ماهر.

يضيف كيلرن: «وضحكت بمجرد سماع هذه الأسماء الثلاثة، وقلت لرئيس الوزراء إنني لا أعتقد أنه يعني ما يقول فعلًا؛ لأن بركات باشا لا يصلح، وأحمد ماهر لا تتيح له صحته أن يتحمَّل أعباء هذا المنصب، أما هيكل فهو غير موجود سياسيًّا. وسألته مرة أخرى، وأجاب سري باشا بدون أي تردد: اطلب من الوفد أن يتولى الحكم، وقلت إن هذا رأي عظيم، وإن هذا هو نفس الرأي الذي وصلت إليه قبل أن أقابله، وإنه ما دام اقترح ذلك، فإنني واثق أن هذا أفضل شيء الآن.»٨
الفنان (الدكتور خالد) يعرض لتلك المظاهرات التي خرجت، قوامها الطلاب الأزهريون، وما اختلط بهم من أفراد الشعب بأن الصيحة «إلى الأمام يا روميل»، كانت «صيحة مجنونة لم يسبقها تفكير أو تدبير.»٩ وكان الإنجليز يسمعون المصريين يهتفون: تقدَّم يا روميل، فيزداد غيظهم وسعارهم.١٠
أما الجماهير، فقد وجدت في هذه الصيحة التعبير الحقيقي عما يعتمل في نفسها من عوامل السخط والرغبة في الثورة والتمرد، والقول بأن زعماء المظاهرة أدركوا ما في هذا الهتاف من انحراف — والتعبير للفنان — فاستبدلوه بهتاف آخر جديد: أين الخبز؟ أين الخبز؟١١ ذلك القول يجد نفيًا له، في ارتفاع تكاليف المعيشة — منذ أواخر ١٩٤١م — بصورة مجنونة، لعدة عوامل، في مقدمتها: نقص المواد الأولية، الضرورية، مثل المنسوجات والزيت والسكر والكيروسين، كما عزت الأقوات، وشحت تمامًا. اختفى الخبز فاستعاض عنه الموسرون بالمكرونة والبطاطس وغيرها، أما الفقراء، فقد هجموا على المخابز، وتخطفوا الخبز من حامليه في الشوارع، واقترن ذلك بالأزمة السياسية، حين أعلن مجلس الوزراء قطع العلاقات مع حكومة فيشي الفرنسية، الموالية للمحور، مما أثار غضب القصر، ودفع صليب سامي وزير الخارجية لتقديم استقالته.

ثم خرجت المظاهرات الصاخبة تهتف بسقوط بريطانيا، وتنادي: إلى الأمام يا روميل!

وبالطبع، فقد طالب الإنجليز رئيس الوزراء حسين سري بإيقاف تلك المظاهرات؛ ولأن الزمام كان قد أفلت من يده، فقد اضطر إلى تقديم استقالته في ٢ فبراير ١٩٤٢م، وأرجعها إلى احتياجه للراحة.

•••

بصرف النظر عن خطورة الهتاف: أين الخبز؟ والذى كان تعبيرًا حقيقيًّا عن الوضع الاقتصادي المؤلم الذي تعانيه البلاد حينذاك، فإن ما يهمنا في هذا الوصف هو ما ذهب إليه الفنان من شجب الاتهام للحركات السياسية — المؤيدة والمعارضة على السواء — بأن إحداها دبَّرت لهذا الهتاف، وخططت له، أو أنه كان من وحي الإنجليز أنفسهم؛ ليجدوا المبرر لإسقاط الحكومة، وإحلال حكومة أخرى برئاسة مصطفى النحاس بدلًا منها.١٢

والملاحَظ أن الاتهامات نفسها واجهت المتهمين أنفسهم بعد تسعة أعوام في حريق القاهرة، ولا يزال الغموض يحيط بكلتا الحادثتَين: المظاهرات، الحريق، وهوية المدبِّر والفاعل الحقيقي، فثمة الإنجليز والسراي والحكومة القائمة والأحزاب المعارضة.

الرافعي يؤكد أن المظاهرات «لم يُعرَف على وجه التحقيق مصدرها»،١٣ لكن حسين سري قال في اجتماع لمجلس الوزراء إنها مُدبَّرة «اشترك في تدبيرها علي ماهر والشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر وكامل البنداري، وتحت يدي تقارير تثبت أن اجتماعات كثيرة تُعقَد في عوامة الشيخ المراغي، وأن الأوامر بقيام هذه المظاهرات قد صدرت من هذه العوامة، وأنا قادر على قمع هذه المظاهرات، فهل توافقون على إصدار الأوامر إلى البوليس بقمع هذه المظاهرات.»
وحين لاحظ حسين سري تردد الوزراء في الموافقة، أدرك أن المؤامرة تسير وفقًا للخطة الموضوعة، فقال لوزرائه: إذا كان الأمر كذلك فأنا مستقيل.١٤
وقد اتهم مصطفى الشوربجي، عضو مجلس الشيوخ، الوفدَ بتدبير المظاهرات، أو أنه حرض عليها: «المعروف أن رجال الأحزاب هم الذين يقيمون المظاهرات، وأول من يستطيع إقامة المظاهرات وترتيبها وتجهيزها، هو الوفد بلجانه ورجاله وتشكيلاته، إن الوفد هو الذي ينظم هذه المظاهرات ويستخدمها.»١٥
وثمة رأي يؤكد أن تلك المظاهرات التي خرجت تدعو روميل إلى التقدم داخل مصر، إنما هي من تدبير الإنجليز لتبرير تدخُّل محتمل،١٦ وهو ما أكده أنور السادات، ذلك لأن البلاد «كانت واقعة تحت حكم عرفي، والذين يقودون مظاهرات كهذه — إن كانوا من الوطنيين حقًّا – لا بد أن يقدِّروا خطورة تظاهرهم ودعائهم لروميل في بلادٍ يحتلها جيش الإنجليز، مع ذلك فقد سارت المظاهرات بليلٍ، ولم تعرف أشخاص قادتها، ولا قبض رجال البوليس عليهم، ولا تحرش بهم جيش الإنجليز المقيم في العاصمة.»١٧

وفي محاكمة حسين توفيق، سأل الدفاع مصطفى النحاس عن المظاهرات، ومن يظن أنه صاحب مصلحة في تدبيرها، هل هم الإنجليز أو وزارة سري باشا أو المعارضون؟

فأجاب النحاس، أنه يستبعد من هؤلاء المعارضين لوزارة سري باشا، ولعل الإنجليز دبَّروها ليبرروا تدخُّلهم.١٨
ويرى عبد العظيم رمضان أن «الإنجليز كانوا يعلمون أن القصر وجماعة علي ماهر باشا بالذات، هم الذين كانوا وراء هذه المظاهرات.»١٩
كان الهدف من تلك المظاهرات — كما يقول الكاتب — إزاحة حسين سري من الحكم، وإيجاد ضغط شعبي مصطنَع يهيئ لفاروق الفرصة لإسناد الحكم إلى علي ماهر، عند سنوح الفرصة المناسبة.٢٠
أما اللورد كيلرن فقد أكد أن مظاهرات طلبة الأزهر، التي قامت أول فبراير، كانت بتحريضٍ مباشر من الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، والذي كان يتلقَّى التوجيهات بدوره من السراي.٢١

الإنذار

من المهم القول — ابتداء — إن التوقعات أجمعت على أن الإنجليز — في مواجهة هزائمهم أيام المحور — يعتزمون فرض الحماية على مصر، مثلما فعلوا في الحرب العالمية الأولى، وإنهم ربما خلعوا فاروق عن عرشه، مثلما فعلوا مع عباس حلمي الثاني في الحرب العالمية الأولى. لقد تصاعد دخان الوثائق المحترقة من دار المندوب السامي البريطاني، واتجهت أسراب سياراتهم المحمَّلة بالأمتعة والجنود إلى الجنوب، نحو السودان، ونزعت المصابيح الكهربائية من جميع درجات القطارات، لأن الحرب كانت في ذروتها.٢٢
أما العوامل التي أدت إلى تفجُّر الموقف مساء ٤ فبراير ١٩٤٢م، فهي أن السلطات البريطانية أرادت تأليف وزارة قومية، تعتمد على تأييد الأغلبية العظمى للرأي العام المصري، حتى تأمن ضربات الخلف في مواجهة الوضع المتدهور في جبهة الصحراء الغربية. وكما يقول التابعي، فإن حادثة ٤ فبراير كانت تحقيقًا، أو تنفيذًا، لفكرة أو مشورة، تقدَّم بها اللورد كيلرن في يونيو ١٩٤٠م، بأن تتولى الحكم وزارة يؤيدها الوفد.٢٣ وحين عرض «القرار» على القصر، فإن فاروق فضَّل أن تكون الوزارة ائتلافية، وألَّا ينفرد الوفد بالحكم، حتى يسهل على القصر إقالته إذا اقتربت قوات المحور من القاهرة، وكانت الفكرة نفسها تراود الأحزاب الأخرى، بينما أصرَّ الوفد — ترتيبًا على تجارب سابقة — أن تكون الوزارة مقصورة على أعضائه، وشكَّل عدم اطمئنان السلطات البريطانية لنيَّات الملك عنصرًا مساعدًا في تحريك الأحداث، بحيث بلغت ذروتها في مساء ذلك اليوم من فبراير ١٩٤٢م.

ويعدِّد محسن محمد ثلاثة أسبابٍ يتصور أنها كانت وراء اختيار النحاس لرئاسة الوزارة التي تخلف وزارة حسين سري، أولها أنه يستطيع أن يقف في وجه القصر، وكان الإنجليز قد فكروا — أكثر من مرة — في عزل الملك، وبدا الوفد أملًا في إيقاف التيار الملكي، وما ينطوي عليه من عداء للإنجليز، كما أنه يستطيع أن يحكم مصر، ويضمن ولاء الجهاز الحكومي والسلطة التشريعية، وقد أثبتت مذكرات الخارجية البريطانية أن النحاس وحده هو الأقدر على فعل ذلك.

أما السبب الثاني فهو إرضاء الجماهير، فقد كان الوفد تعبيرًا مؤكدًا عن الشعب المصري، إلى جانب أنه هو الذي وقَّع معاهدة ١٩٣٦م، وأفلح في حشد الشعب لتأييدها، مع ما يحمله ذلك من إمكانية لإبعاد مشاعر المصريين عن الألمان.

وأما السبب الثالث فيتمثَّل في تغيير الإنجليز موقفهم من الاتحاد السوفييتي، وانحسرت موجات العداء ضده (صارحهم تشرشل بأنه سيتحالف مع الشيطان لإنقاذ البلاد!)٢٤
أما محمد أنيس فهو يرى أن «الإنجليز كانوا يدركون أن الارتباط بالوفد يعني الارتباط بالشعب المصري ككل، وكانوا على ثقة من أن وصول الوفد إلى الحكم — رغم كل شيء — سيقوي من قضية الحلفاء، وسيضرب كافة النشاطات المعادية لبريطانيا».٢٥

وأما محمد التابعي، فيرى أن الوضع السياسي والعسكري كان هو الدافع لأن يلح الإنجليز في ضرورة تشكيل وزارة وفدية إلى حد تقديم إنذار بذلك، والتهديد بإقالة الملك، فقد كان انقلاب رشيد علي الكيلاني في العراق مشجعًا لانقلابات أخرى في مصر، وفي غيرها من دول الشرق الأوسط.

ويروي عبد الرحمن عزام في مذكراته أن نجاح حركة الكيلاني، كان ممكنًا أن يغيِّر في نتائج الحرب العالمية الثانية كلها، من حيث تهديدها المباشر لخطوط مواصلات الإمبراطورية البريطانية مع الهند، وكانت التقارير تؤكد اتجاه عواطف الشعب المصري نحو ألمانيا والحاج محمد هتلر.

كان تولي النحاس رئاسة الوزارة هو الضمان الوحيد، بما له من شعبية كاسحة، لتحويل دفة الشعب من الاتجاه للمحور إلى الاتجاه للحلفاء.٢٦ وكان أحمد حسنين — في تقدير التابعي — يعرف منذ البداية عودة الوفد إلى الحكم، حتى إنه صارح هيكل — زعيم الأحرار الدستوريين — بموافقته عليها.٢٧ وكان رأي حسنين — كما يشير التابعي — أن نظام الحكم في مصر غير طبيعي، ومرفوض، ذلك لأن الحكم كان في يد أحزاب الأقلية، بينما تتولى الأغلبية مهمة المعارضة، وهذا وضع مقلوب، ومن هنا، بدأت أعمل لتصحيح الأوضاع، وإعادة الأمور إلى سيرها الطبيعي، أي أغلبية تحكم، وأقلية تعارض.٢٨ وروى التابعي أن أحمد حسنين صارح الملك بوجوب إعادة الوفد إلى الحكم بالشروط التي يضعها الوفد، وأن فاروق وافق على ذلك، وبشروط الوفد، التي تتلخص في تأليف وزارة وفدية خالصة، وبالتخلي عن فكرة تأليف وزارة قومية، لكن حسنين — والكلام للتابعي — فضَّل مواصلة مساعيه لحمل الوفد وأحزاب الأقلية على الاتفاق فيما بينها لتأليف وزارة قومية، فإذا نجحت مساعيه، تحققت رغبة الملك في عودة النحاس إلى الملك بشروط الملك، وإذا لم يوفق، فإنه لن يكون قد خسر شيئًا، فقد وافق الملك على عودة الوفد بلا شروط.٢٩
كان حسنين إذن يهدف إلى مفاجأة الإنجليز بتأليف الوزارة الوفدية التي طالما أوصوا بقيامها، لكن الإنجليز سبقوه.٣٠

يقول السفير البريطاني: «قررنا — وزير الدولة البريطاني وقائد القوات البريطانية وأنا — أن نتخذ ما يلي، ونعتبره أبسط الإجراءات:

  • (١)

    بحثنا الإجراءات العسكرية لمحاصرة القصر، ومقاومة الحرس الملكي، فيما إذا اضطررنا لاستخدام القوة.

  • (٢)

    سأبلغ جلالته أننا لا نعتبر سلوكه العام سلوك حلفاء، وسأطلب منه اعتزال العرش.

  • (٣)

    إذا وافق، فسأدعو الأمير محمد علي ولي العهد لتولي العرش.

  • (٤)

    إذا رفض فاروق التنازل عن العرش، فسأبلغه أنه خُلِع، وسأتصل بالأمير محمد علي.

  • (٥)
    إذا رفض الأمير محمد علي — وهو ما لا أتوقعه — فإننا سنحكم مصر حكمًا عسكريًّا بمقتضى الأحكام العرفية، حتى تستقر الأمور بقبول أحد الأمراء ولاية العرش، أو بإعداد نظام آخر إلى آخره.٣١

•••

كان الوفد أكثر الأحزاب المصرية، القائمة حينذاك، صلابة — نسبيًّا — في مواقفه، وإذا كان الاختيار قد تم على ضوء الموالاة لسلطات الاحتلال، فثمة أحزاب أخرى كان باستطاعة السلطات البريطانية أن تكلِّفها بتأليف الوزارة، لكنَّ الوضع في الجبهة العسكرية، وتأثيراته في داخل البلاد، كان باعثًا أساسيًّا — وربما كان باعثًا وحيدًا — في إسناد الوزارة إلى حزب الوفد الذي كان يتمتع بأغلبية شعبية كاسحة، ولم يكن الهدف تأليف وزارة قوية فحسب، وإنما كان الهدف الموازي لذلك أن تنال تلك الوزارة تأييد الرأي العام، أو غالبيته في الأقل، حتى يطمئن الإنجليز — على نحوٍ ما — إلى سلامة الجبهة الداخلية.

وكان الإنجليز يعانون تحرُّك بعض الجهات ضد تعاون حسين سري مع السفارة البريطانية، ومن تواصل دعاية المحور، ومن تحركات العناصر الموالية للمحور، ومن مظاهرات الطلبة التي كانت تدعو روميل إلى التقدم، فضلًا عن تدهور الوضع العسكري في الصحراء الغربية بصورة خطيرة، وكما يقول محمد أنيس، فقد كانت هذه هي المرة الوحيدة التي أُجبِرت فيها بريطانيا، تحت وطأة الحرب العالمية، إلى تلبية رغبة الجماهير المصرية.٣٢
يقول السير والتر إسكندر سمارت، السكرتير الشرقي بالسفارة البريطانية آنذاك: «لقد رفض الملك كل العروض، وكان هناك فراغ خطير؛ فالحكومة القائمة لا تملك سلطة حقيقية أو مسئولية، واستمر ذلك أربعة أيام: السبت والأحد — أول فبراير — والإثنين والثلاثاء، وكنا نعلم أن علي ماهر يقف وراء هذا المشهد، وأنه سيتولى الحكم، وكان لدى سفيرنا سلطة مطلَقة من لندن للتحرك.»٣٣
وفي صباح ٤ فبراير، سلَّم السفير البريطاني رئيس الديوان الملكي إنذارًا نصُّه: «إذا لم أعلم قبل السادسة مساء أن النحاس باشا قد دُعي لتأليف وزارة، فإن الملك فاروق يجب أن يتحمَّل تبعة ما يحدث.»٣٤ وفي اليوم نفسه، بعث اللورد كيلرن برقية إلى حكومته يقول فيها: «تم الاتفاق في مجلس الحرب على أنه إذا لم يصلني ردٌّ مُرضٍ في السادسة مساء، فسأطلب مقابلة الملك فاروق يصحبني الجنرال ستون قائد القوات البريطانية في مصر، وستتخذ الإجراءات الضرورية في الوقت نفسه، وعند الوصول إلى القصر سأطلب من الملك فاروق أن يعتزل العرش ما دام لم يبعث لي بالرد المُرضي، وسأقول للملك إنه يجب أن يوقِّع وثيقة بذلك في حضوري، ولن يكون طلبي على أساس رفضه تكليف النحاس بتشكيل الوزارة، بل سيكون الطلب — ابتداء — على أساس عدم مسئوليته، وأنه أثبت عدم صلاحيته للحكم وفشله في تنفيذ المادة الخامسة من المعاهدة، وإذا رفض فاروق الاستجابة، فسأبلغه أنه خُلِع، وفي الحالين، فإنه يجب أن يصحب الجنرال ستون ويصحبني خارج القصر، وقد اتخذت الإجراءات لنقله على سفينة بريطانية.»٣٥

•••

انصرف الملك، وظل الصمت سادرًا حوالي الدقيقة، والذهول يلفُّ الجميع، ثم قال أحمد ماهر: «الكلمة الآن لحضرة صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا.»

فقال النحاس: «إني فوجئت بالتبليغ البريطاني، ولكني أقرر أن الذي أوصلنا إلى هذه الحال هو نظام العهد الحاضر، وما جرُّه على البلاد من أضرار ومفاسد.»

وأضاف: «إنه نظام أشاع الفساد في البلاد وأجاع العباد، فإني أينما سرت وحللت، تقدَّم إليَّ الأهالي بالشكوى من الجوع والعري.»

وقاطعه حسين سري رئيس الوزراء الذي لم تكن استقالته قد قُبِلت بعد: يا باشا إني أسلم لك بأن النظام الحاضر سيئ، وأن أسوأ عهوده العهد الذي قمتُ فيه أنا بالحكم، فأرجو ترك الكلام في ذلك، وإفادتنا عن رأيك في الموقف السياسي بعد التبليغ البريطاني.

قال النحاس: إنكم أنتم الذين وصلتم بنا إلى هذه الحال، ولستُ مسئولًا عنها، وإني أقرر أنه إذا عُرضَت عليَّ الوزارة فإني لا أقبل لتشكيلها غير وزارة وفدية.

وطلب بعض الحضور تشكيل وزارة قومية، لكنَّ النحاس رفض، وطلب آخرون أن تكون الوزارة قومية، بحيث تكون للنحاس الحرية في اختيار من يشاء من رجال الأحزاب الأخرى بغير تدخُّل من رؤساء الأحزاب، فرفض أيضًا. وعرض البعض أن يقبل تشكيل وزارة قومية لإجراء الانتخابات، ثم تشكيل وزارة وفدية بعد الانتخابات، فأصر على الرفض، كما رفض اقتراحًا بتشكيل وزارة محايدة لإجراء الانتخابات، تُشكَّل بعدها وزارة وفدية، وأصر على أن تكون وزارة وفدية لحمًا ودمًا.٣٦
وهنا قال أحد الحاضرين: «إني أظن أن حضرات الأعضاء أرادوا بهذه الاقتراحات المختلفة اجتناب التبليغ البريطاني كما هو، ولكني أعتقد أن في تكليف النحاس باشا بتأليف الوزارة، وقبوله لها مهما كان لونها، يُعَد قبولًا للتبليغ البريطاني، وإنني أرى أن وطنية النحاس باشا تقتضي منه أن يتقدم هو إلى جلالة الملك، ويطلب إليه ألَّا يُكلَّف بتشكيل الوزارة؛ لأن في تكليفه بذلك بعد التبليغ البريطاني هدمًا لاستقلال البلاد، وعدوانًا على معاهدة الشرف والاستقلال؛ لأني أظن أن الإنجليز يريدون فرض الوزارة على النحاس باشا فرضًا، إلا إذا كانوا على علم مقدمًا بأن رفعته سيقبل بتشكيل الوزارة مع هذا التبليغ.»٣٧
وكان رأي حافظ رمضان، الذي أعلنه في المجلس «إننا لم نأتِ لتشكيل حكومة، وإنما أتينا ليؤخذ رأينا فيما يجب أن نقرره إزاء هذا الإنذار، وعلى ذلك لا أعرض حلًّا من تلك الحلول، ولا أقبل أي حل؛ لأن هذا يُعَد خضوعًا للتبليغ البريطاني، وإن كان هذا الخضوع تناول درجات مختلفة، ولكنه خضوع على أي حال، وعلى العكس، أعتقد أنه يجب علينا ألا نشكِّل حكومة، وأن نُضرِب عن تشكيل كل حكومة إلى أن يُسحَب هذا التبليغ، وهذا ما حدث في سنة ١٩١٩م.»٣٨

وطال الجدل، حتى اقتربت الساعة من السادسة، فعرض إسماعيل صدقي اقتراحه: «إن في قبول التبليغ البريطاني اعتداء على استقلال البلاد، ومساسًا بمعاهدة الصداقة، ولا يسع جلالة الملك أن يقبل ما يمس استقلال البلاد، ويخل بأحكام المعاهدة.»

ووافق الحاضرون على الاقتراح، بعد أن عُدِّلت بدايته بالآتي: «إن في توجيه التبليغ البريطاني … إلخ.»

ووافق النحاس — بعد تردد — على الاقتراح، وذهب أحمد حسنين إلى الملك ليبلغه بما انتهى إليه المجتمعون، فعاد الملك إلى الاجتماع ثانية، حيث عرض حسين سري عليه ما دار في المناقشة، ولخص له أقوال النحاس.

فقال النحاس: إن هؤلاء الناس — يقصد الإنجليز — محرجون، وأخشى إذا رفضت قبول الوزارة، أن يلجئُوا إلى تصرفات خطيرة قد يكون فيها ضررٌ كبير.

فأجابه الملك: نحن شخصيًّا مستعدون لاحتمال المسئولية.

«فخفقت لهذا النطق السامي قلوب الحاضرين، وبدا على وجوههم علامات الإكبار والإعظام لجلالته، لكن النحاس — رغمًا مما تضمنه هذا التصريح الكريم من مغزى لا يخفى — أصر على موقفه، عندئذٍ وافق جلالته على اقتراح الهيئة، وأمر بأن يبلَّغ للسفير البريطاني ردًّا على هذا التبليغ.»٣٩
وقد أكد الزعماء أن الملك قال في اجتماعه بهم، عقب التهديد البريطاني: «لا تنظروا إلى هذا التهديد من حيث شخصي، بل انظروا إليه من جهة مصلحة البلد.»٤٠

•••

دفع الإنجليز بدباباتهم إلى ساحة عابدين، لخلع الملك فاروق، وليس لفرض النحاس، ذلك لأنهم كانوا يثقون في تعاطف الملك مع الألمان. وكما يقول سليم باشا: «أتعرف أن الإنجليز كانوا يريدون خلع الملك يوم ٤ فبراير، وأن رفعة الباشا أنقذ عرشه لمَّا قبل تشكيل الوزارة؟»

كان السير مايلز لمبسون يُرسِل للملك خرائط تجاه خطط الحلفاء العسكرية وهي مختومة، وكان الملك — بعد أن يطَّلع عليها — يعيدها إلى المندوب السامي بعد أن يطويها ويختمها، وقد ضبط الإنجليز جاسوسًا تونسيًّا وهو في طريقه إلى قوات المحور، ولما فُتِّش وُجدَت معه آخر صور الخرائط التي أُرسلَت للملك، وتيقن الإنجليز أن الملك على صلة بأعدائهم، فحاصروا قصر عابدين بالدبابات.

لم تكن هذه الحركة مجرد مظاهرة لإرغام الملك على قبول تكليف رفعة الباشا بتأليف الوزارة كما قيل، بل كانت حركة جادة، غايتها خلع الملك الذي كان في قصره جهازان للإرسال على صلة بقوات المحور.٤١
وإذا كان الحادث قد انتهى إلى تأليف وزارة وفدية برئاسة النحاس، فإن الأمر احتاج من كيلرن لأن يقدِّم مبرراته إلى الحكومة،٤٢ وقد بدأ الملك اليوم بقوله للزعماء السياسيين، الذين دعاهم للاجتماع في قصره لدراسة الإنذار البريطاني: «إنني مستعد فيما يتعلق بشخصي أن أضحي بكل شيء، فلا شيء يعنيني غير مصلحة مصر وكرامتها واستقلالها.»

لكن الصورة المتشددة وجدت نقيضها في مساء اليوم نفسه، حين تيقن فاروق أن الإنذار لم يكن مناورة، وأن التهديد بتعيين الأمير محمد علي ملكًا على البلاد بدلًا منه، حقيقة قريبة، ووافق على الإنذار دون مناقشة، بل وشكر اللورد كيلرن على حسن تعاونه، كما يقول الأخير في مذكراته.

ويبدو أن الكلمات التي قالها أحمد حسنين للملك بالعربية، حتى يقبل الإنذار هي — كما يقول الصحفي الإنجليزي جورج بلانكين — يحسن بك أن تقبل، فقال الملك: لقد قبلت.٤٣

وحين انتهى الملك من تأليف النحاس بتأليف الوزارة، أكد على ضرورة أن يمر النحاس بالسفارة، ويبلغ السفير أنه — أي الملك — عهد إليه بتأليف الوزارة. إن القصر هو الحليف الطبيعي للاستعمار والقوى الإقطاعية والرأسمالية في المجتمع المصري، ذلك ما أعدَّ له فاروق منذ سافر إلى لندن لتلقي تعليمه بإشراف علي ماهر وأحمد حسنين.

لذلك، فإن تفكير الحكومة البريطانية في عزل فاروق، وإحلال الأمير محمد علي بدلًا منه، لم يكن لاتجاه فاروق إلى الحركة الوطنية، بقدر ما كان محمد علي صريح العمالة للإنجليز، ويسعى — دومًا — إلى تنفيذ مطلبهم. وربما يتمثَّل الباعث في استبدال محمد علي بفاروق إدراك، اللعبة الخطرة التي بدأ يمارسها فاروق، وهي الإيحاء للألمان بأنه ليس عدوًّا لهم، بعد أن تأكدت انتصاراتهم في كل الجبهات، وأصبح دخولهم إلى مصر مسألة وقت، كان الخوف من خيانة العميل، وأن يصبح عميلًا مزدوجًا، هو العامل الحاسم — في تقديري — وراء تحركات السلطات البريطانية إزاء السراي، تلك التحركات التي بلغت ذروتها مساء ٤ فبراير ١٩٤٢م.

كان فاروق وراء إقناع حسين سري بتعديل قرار الحكومة المصرية بقطع العلاقات بين حكومة فيشي — ذلك القسم من فرنسا الذي كان يخضع للسيطرة الألمانية — على الرغم من أن ذلك القرار كان بطلبٍ من الحكومة البريطانية. ولم يكتفِ الملك بإجراء التعديل، لكنه أصر على أن يعتكف وزير الخارجية صليب سامي في بيته؛ لأنه «كان يجب أن يعترض على اقتراح رئيس الوزراء.»٤٤ وحين أصر حسين سري على ضرورة أن يمارس الوزير عمله، نشبت أزمة بين الوزارة والقصر، انتهت بتقديم حسين سري الاستقالة في ٢ فبراير.

بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت مظاهرات الطلبة التي خرجت في أول فبراير تنادي: إلى الأمام يا روميل … كانت تلك المظاهرات في تخمين السلطات البريطانية، وربما في تحرياتها، بتحريض من رجال القصر.

كان فاروق يحرص على أن يظل الوضع الداخلي في حالة تجمُّد، حتى تتضح معالم الوضع العسكري في الصحراء الغربية، الذي كانت كفة الألمان فيه ترجح بشدة. وكانت الخطة التي وضعها فاروق — في تقديرات الإنجليز — أنه في حالة استيلاء قوات روميل على مصر، يُعيَّن علي ماهر المعروف بانجذابه إلى الألمان، رئيسًا للوزارة.

وطبيعي أن القصر كان يتوقع ردود فعلٍ إنجليزية من تحركاته المعلَنة والمستترة. ويروي هيكل في مذكراته أن حسين سري كان يخشى من إقدام الإنجليز على نفي فاروق، وإحلال ولي العهد بدلًا منه، مثلما حدث من قبل لشاه إيران رضا بهلوي، حين نحَّاه الحلفاء، ونفُوه إلى جزيرة سيشل، ووضعوا ابنه الشاب محمد رضا بهلوي على العرش مكانه.٤٥ ويقول هيكل عن موقف أحمد حسنين في تلك الأيام الحبلى بالتوقعات المثيرة، إنه كان «غير مطمئن من ناحية الإنجليز وموقفهم، إلى حد جعله عميق التفكير، بادي التوجس.»٤٦
وبالنسبة لأحزاب الأقلية، فاللافت أن زعماءها وافقوا على قبول الإنذار، وتنفيذه، بشرط الإبقاء على العهد، والاشتراك في الحكم، فرفض النحاس ذلك، وكرر ما سبق أن قاله، وهو أن السبيل المؤيد لإنقاذ البلاد هو إزالة العهد القائم،٤٧ قبلوا جميعًا تأليف وزارة قومية يكون رئيسها النحاس، وهذا الأمر — في ذاته — تنفيذ للإنذار البريطاني، بمعنى أنه لم يكن ثمة ما يمنعهم من أن يكونوا وزراء، ولو برئاسة النحاس، فلما رفض النحاس، اتهموه بأنه وافق على قبول الإنذار البريطاني!٤٨

إن أحزاب الأقلية، التي عابت على الوفد أنه جاء إلى الحكم على الحراب الإنجليزية، لم تأتِ إلى الحكم — مرة واحدة — إلا على تلك الحراب وحدها!

•••

لما علم فوزي السيد (الدكتور خالد) أن النحاس عرض عليه أن يشكِّل وزارة قومية من جميع الأحزاب برئاسته، لكنه رفض، وقال: يا له من أحمق … أفي مثل هذه الظروف؟٤٩

فلماذا رفض النحاس قبول تأليف وزارة قومية؟

يعدِّد عبد العظيم رمضان ثلاثة أسباب، هي:

  • إن الوفد سحب يده التي كان قد مدَّها إلى الأحزاب في مايو ١٩٤١م.

  • تردي الحالة الاقتصادية بصورة مخيفة.

  • رغبة النحاس في تأمين ظهر حكومته ضد أي نشاط موالٍ للمحور من جانب القصر.٥٠

وثمة رواية أن الملك قال للنحاس في لقائه معه: «إن الموقف خطير بدرجة مروعة، لا من الناحية السياسية فحسب، بل من كل ناحية، إن الشعب يتضور جوعًا، إن الشعب يعاني العري، إن الشعب يشعر بأنه لا تحكمه حكومة رشيدة، وهو يلقي اللوم على العهد، ويجب ألا أربط نفسي بأي من هؤلاء الرجال في أية وزارة، لسببين:

  • (١)

    إن الناس يُلقون مسئولية الموقف الراهن على نظام الحكم، وكل شكواهم ترجع إلى هذا النظام، وإذا قبلتُ الارتباط بهؤلاء الرجال فإني سأفقد ثقة الجمهور، ولن أستطيع الحكم بطريقة مفيدة.

  • (٢)

    من المؤكد أنه ستحدث دسائس داخل مجلس الوزراء الذي يُشكَّل على أساس هذه الخيوط.

لهذين السببين، فإنه لا يمكن الدفاع عن موقفي الذي سيكون — أيضًا — غير مثمرٍ.»٥١
ويقول اللورد كيلرن في مذكراته: «قال لي أمين عثمان باشا إن النحاس لا يريد أن يظهر كمن يجري وراء الانتقام من الملك، ولكنه يريد أن يوضح لي أن أية حكومة ائتلافية، أو محايدة، لا أمل أمامها، والدليل ما جرى لحكومته السابقة التي حطَّمها ثلاثة وزراء بسبب مشروع كهربة خزان أسوان، واتفقت في النهاية مع أمين عثمان باشا على النقاط التالية: إن الموقف بلغ من السوء درجة لا يمكن أن تنجح معه أية حكومة ائتلافية، وإن النحاس باشا يجب أن يبلغ الملك فاروق إنه لا يثق في تعاون الأحزاب الأخرى معه بإخلاص، وإنه ما زال يخشى المؤامرات والدسائس التي قد تحاك له في حكومة ائتلافية، ولهذا فإن النحاس باشا يرى أن الحل الوحيد أن تكون هناك حكومة وفدية خالصة، وإنه مستعد لأن يبحث بعد ذلك نقطتين هما: تخصيص دوائر معينة للأحزاب الأخرى في الانتخابات … تكوين مجلس استشاري من زعماء الأحزاب الأخرى كنوعٍ من الرمز للائتلاف.»٥٢
أما بواعث قبول النحاس للإنذار البريطاني، فإن الكاتب يحددها في كلماتٍ تغلب عليها الحماسة، لكنها تفتقد الموضوعية «إن الحقيقة التاريخية فيما يختص بالإنذار البريطاني الذي دعَّمته القوة العسكرية، أنه كان عدوانًا من مغتصب على مغتصب، وصراعًا بين استعمار أجنبي واستعمار محلي.»٥٣

وطبيعي أن كل ذلك لم يكن يخطر للنحاس ببالٍ، حين وافق على الإنذار البريطاني.

•••

يعرض عبد المغني سعيد ردود الأفعال الجماهيرية لأحداث الرابع من فبراير بأن الناس وقفوا أول الأمر حيارى يرقبون الأحداث المذهلة وهم لا يدرون ماذا يفعلون، «وطفق البعض بعد الاستفاقة من الصدمة المذهلة يتساءلون: ألم يكن بين ضباط وجنود الحرس الملكي رجل شجاع يطلق رصاصة واحدة، ولو في الهواء، كرمزٍ للاحتجاج والمقاومة؟ وكيف يقبل الجيش والملك — قائده الأعلى — مثل هذه الإهانة لشخصه؟ كيف يهدم الوفد تراث نضاله في يوم وليلة، ويقبل الحكم في مثل هذه الظروف، وبناء على طلب الإنجليز؟ ولماذا لم يقبل الوفد فكرة تأليف وزارة ائتلافية برئاسة زعيمه مصطفى النحاس، كما اقترحت الأحزاب الأخرى يومئذٍ؟»٥٤ وقد ترك حمدي (نحن لا نزرع الشوك) — نتيجة للحادث — جريدة الوفد، وأنشأ مجلة هو وصاحباه رءوف وصلاح.
والطريف أن بعض الآراء وجدت في أحداث ٤ فبراير اعتداء بريطانيا على استقلال مصر،٥٥ فهل كانت مصر حينذاك مستقلة بالفعل؟ وهل غابت عنها الاعتداءات البريطانية قبل ذلك؟

•••

لا شك أن تصوير اللورد كيلرن للموقف بعد حادثة ٤ فبراير يدل على أن الملك كان هو المستهدَف، يقول: إن الموقف هكذا الآن: لقد وصل حزب الوفد إلى الحكم، وأول ما سيفعله هو البحث في الامتيازات التي يخوِّلها الدستور للملك، وبمعنًى آخر، فإن أول شيء سوف تفعله حكومة الوفد هو قص أجنحة القصر، ووقْف هذا التدخل المستمر من جانب القصر في كل صغيرة وكبيرة. وهناك عنصر آخر مهم في الصورة، لقد ظل الموقف السياسي في مصر أشبه بمقعدٍ ذي ثلاث أرجل، فثمة القصر، ثم السفارة، ثم حزب الوفد، وما دامت الأرجل الثلاث موجودة وتعمل، فليس هناك خطر من حدوث أي انهيار، أما إذا غابت إحدى سيقان المقعد، فإنه سوف يهتز ويسقط فعلًا.٥٦

كان الملك فاروق يمثِّل عنصرًا وطنيًّا مهمًّا حتى ٤ فبراير ١٩٤٢م، وكما يقول أنور السادات، فإن إنجلترا كانت ترى أن هناك تقاربًا بين الملك وبين الشعب من ناحية، وبين الملك وبين الجيش من ناحية ثانية.

كان الملك في نظر الشعب، وفي نظر الجيش، شابًّا وطنيًّا، وكان محبوبًا، ورأت إنجلترا أن هذا التقارب سيُوجِد جبهة متحدة من الجيش والشعب، فأرادت أن تحطم هذه الجبهة، وأن تعزل الجيش عن الشعب، وكان يوم ٤ فبراير هو الوسيلة لذلك، فقد صمَّمت إنجلترا فيه على تكليف النحاس — زعيم الشعب — بتشكيل الوزارة، فأصبح الشعب بذلك في ناحية، والملك والجيش في الناحية الأخرى.

بدأت إنجلترا — بعد ذلك — تقيم سياستها على أساس عزل الجيش عزلًا كاملًا عن الشعب بتبغيضه إليه، وإشعار الشعب بأن جيشه هو السوط الذي سيلهب ظهره باسم الملك، وكان يوم ٤ فبراير، الذي تحدثت مصر عنه عشرة أعوام كاملة، ولا تزال تتحدث.٥٧
لذلك اعتبرت العناصر الوطنية الشابة الملك فاروق رمزًا لمصر، واعتبرت الاعتداء على قصره اعتداء على مصر،٥٨ حتى لقد بعث أحد الضباط المصريين إلى الملك يقول: «بما أني لم أُعطَ الفرصة للدفاع عن جلالتكم، فأرجو أن تأذنوا لي بالاستقالة؛ لأني أخجل من ارتداء البذلة العسكرية.»٥٩
وبالطبع، فقد كان تأثير أحداث ذلك اليوم العصيب على الملك قاسيًا للغاية، صار يشعر بالقلق والرعب عند ورود اسم كيلرن، حتى إنه ما كاد يشرب نخب نبأ نقل كيلرن من مصر، ثم اتضح عدم صحة الخبر، لجأ — في رواية لكريم ثابت — إلى إحدى الأميرات كي تحاول إصلاح علاقته بالسفير البريطاني، كما أصبح فاروق يخاف على حياته، ويخاف ضياع العرش، وصار يتتبع أنباء التحركات الداخلية للجنود الإنجليز، فلا يكاد يسمع عن أي تحرك لهم، حتى يؤوِّله بأنهم يقصدونه، وأنهم يعتزمون إزاحته عن العرش مثلما أزاحوا بعض أسلافه قبلًا.٦٠

وقد ظلت قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى، وفي الجيش المصري، على إيمانها بزعامة القصر للحركة الوطنية، حتى طرحت قضية التحرر الوطني بصورة فعالة في ١٩٤٦م، ليتوضح من خلال ذلك موقف القصر، ولتبرز صورته الحقيقية كحليفٍ للاتجاهات المعادية للحركة الوطنية.

ثم كانت مأساة الحرب الفلسطينية، وما تبدَّى فيها من عوامل الإهمال والقصور عاملًا حاسمًا في نوعية الأرض التي يقف عليها القصر.

لهذا السبب — ربما — يعتبر الدكتور محمد أنيس، في كتابه عن حادثة ٤ فبراير، الفترة التي بدأت بحادثة ٤ فبراير ١٩٤٢م، وانتهت بعام ١٩٤٦م نتوءًا شاذًّا في طبيعة، ومنطق، الحركة الثورية المصرية.٦١

من المسئول؟

حرصت كل الصحف على تجنُّب الإشارة إلى أحداث الرابع من فبراير، حتى بعد إقالة وزارة النحاس في عام ١٩٤٤م، ثم فتح النحاس بنفسه باب المناقشة في تلك الأحداث، لمَّا أشار إليها في ١٣ نوفمبر ١٩٤٥م، وتلقفت القفاز صحف «الدستور» السعدية و«السياسة» السعدية و«الكتلة» المعبِّرة عن حزب الكتلة الوفدية، ودارت مساجلات قلمية حادة وعنيفة بينها وبين صحيفتَي «الوفد» و«البلاغ» الوفديتَين.

ويرى عبد الخالق (الحصاد) أن السبب الحقيقي لحادثة ٤ فبراير هو استفحال أزمة الخبز، بحيث اختفى من الأسواق تمامًا، وأصبح الموقف ينذر بتمرد الجماهير الساخطة، مما قد يؤثر على العمليات العسكرية، ومن ثَم حاول الإنجليز إحداث أزمة داخلية ليشغلوا الشعب بها عنهم، وقد نجحت محاولتهم.٦٢
وذهبت بعض الاجتهادات إلى إدانة البوليس السياسي الذي أجاد تحريك الخيوط المتباينة، تنتهي أطرافها بقوى عميلة للإنجليز وألمانيا وإيطاليا واليابان،٦٣ كما ذهب اليسار المصري إلى أن «العملية التي قام بها جيش الاحتلال لإحباط مؤامرة السراي الهادفة إلى تسليم مصر للجيش النازي، كانت عملية مفيدة لحركة البشرية بأسرها؛ إذ كانت تساند الحرب الديمقراطية التي شنَّها الحلفاء ضد المحور، وفي هذه اللحظة بالذات، فإن قبول النحاس للوزارة كان خطوة وطنية أيضًا، وذات نتيجة إيجابية للتقدم العام في مصر والعالم أيضًا.»٦٤
أما محمد عودة فقد كان رأيه أن الملك هو المسئول عن حادثة ٤ فبراير، مسئوليته تبدأ منذ توليه العرش، ورفضه أن يضع يده في يد حزب الأغلبية، وأن يبدأ صفحة جديدة من تاريخ البلاد.٦٥
من ناحيته، فقد حاول الملك أن يرتدي ثوب المخلص الذي حال الإنجليز بينه وبين أداء دوره التاريخي، وفرضوا عليه — وعلى الشعب — حكومة الوفد. ويقول الرافعي «إن المسئول الأول عن حادثة ٤ فبراير هو العدوان البريطاني، لأن هذا العدوان هو أساس الإنذار.»٦٦
وأشار محمد حسين هيكل إلى أن أحمد حسنين كان يعلم بكل ما يحدث، ولما سألته المحكمة عما إذا حسنين لديه علم مسبق بمسألة الدبابات، أجاب: نعم، وهو — أمين عثمان — قال إن السفير سيحضر الساعة التاسعة مساء، ومش جاي يستأذن، بل جاي يبلغ خبر.»٦٧
وثمة من حاول أن يجد للسيدة زينب الوكيل — حرم مصطفى النحاس — دورًا في نسج المؤامرة، فقد كانت خلال تلك الفترة التي أُقصي فيها الوفد عن الحكم تحاول أن تغير من تاريخ النحاس واتجاهاته، في حين أن النحاس كان يرى تقدُّم السن به دون أن يتولى رئاسة الوزارة مرة ثانية، ومن هنا كان سعيه لتولي الحكم، ثم موافقته على توليه ولو في ظل الحراب البريطانية!٦٨

وحاولت الأحزاب المعادية للوفد — بنشاطٍ ظاهري وخفي مكثَّف — أن تنال من شعبية الوفد الكاسحة، وأن تكسب — بذلك — أنصارًا من المتعاطفين مع القصر، والرافضين لقبول النحاس تولي رئاسة الوزارة بفرض من سلطات الاحتلال، حتى تثب إلى مقاعد الحكم في صورة دستورية كانت تفتقدها حكومة الأقلية منذ ١٩٢٥م.

وثمة روايات أن البطل الحقيقي، أو البطل الخفي، الذي أشارت إليه أصابع الاتهام، ومنها مذكرات اللورد كيلرن، هو أمين عثمان باشا الذي ثبت أنه ظل فترة طويلة يعدُّ نفسه للقيام بهذا الدور.

وفي شهادته أمام المحكمة في قضية مقتل أمين عثمان، قال علي ماهر: «إن هذه العملية مدبَّرة كلها داخل القطر المصري، يعني أن السفير (اللورد كيلرن) لم يأتِ بها وحده، بل لا بد أن اشترك في تدبيرها بعض المصريين، وطبعًا النحاس باشا لا يمكن أن يشترك في هذه المسألة بأكملها وجزئياتها، وإنما الذي دبَّر ذلك من الجانب المصري هو المرحوم أمين عثمان باشا … أمين عثمان كان يريد أن يكون وزيرًا، ولذلك اشتغل بكل مواهبه وقوته ووسائله لبلوغ هذه الغاية.»٦٩ ويضيف فكري مكرم عبيد أن أمين عثمان كان مثلًا أعلى للسمسار السياسي الذي كان يزعم للمصريين أنه محل ثقة الإنجليز، وأنهم لا يتصرفون في شيء خاص بمصر، إلا بعد الرجوع إليه، ويدَّعي الإنجليز أن الوفد تحت أمره، وأنه محل ثقة رؤسائه، وأنه راسم سياسة.٧٠ ويرى فكري مكرم عبيد إن أمين عثمان كان على علمٍ مسبقٍ بمظاهرة اللورد كيلرن العسكرية، وقد اصطحب معه الجنرال ستون رئيس البعثة العسكرية الأمريكية، إلى أسوان، لمقابلة النحاس الذي كان يقضي إجازة هناك، لكن النحاس رفض مقابلته.٧١

ولكن: هل كان أمين عثمان يلعب دوره لحساب جهة معينة، أو حزب معين، أو رئيس معين؟

لعلنا نجد إجابة في قول التابعي إنه هو المصري الوحيد الذي كان على علمٍ سابقٍ بما ينوي الإنجليز عمله.٧٢

أما جموع الشباب التي كانت تتوزَّعها الاتجاهات السياسية المتطرفة، فقد غيَّبتها أسوار السجون والمعتقلات ومستشفيات الأمراض العقلية، ولم يعُد في الساحة سوى جماعة الإخوان المسلمين، وبعض الجماعات الساخطة من الشباب، والتي لم تكن قد شرعت بعد في تكوين تنظيماتها، وإن جمع بينها السخط المتزايد، وكانت أغلب الأفكار تتجه إلى التصفية الدموية ضد قوات الاحتلال، وأعوانها من المصريين، وكان من بين أهدافها أمين عثمان، حين أعد لقتله جماعة من الشباب صغيري السن، ونفَّذوا العملية بالفعل.

وهو ما سنتناوله في فصل قادم.

•••

ماذا عن الوفد؟

يرى الرافعي أن عدم قبول النحاس لفكرة الائتلاف، حمَّله مسئولية كبرى، بل وأصبح هو المسئول الثاني — بعد كيلرن — عن الحادث،٧٣ وكان رأي الكثيرين (الطريق الآخر) أن الحزب «الذي كانت تعلِّق عليه الجماهير أملها، امتطى صهوة الحكم ودبابات الانجليز تحيط به.»٧٤ وكان مرسي (قلوب خالية) أحد هؤلاء الذين جاهروا برفضهم للوفد، بعد أن وثب إلى الحكم — في رأيهم — على أسنة الرماح الإنجليزية.٧٥

ويسأل سليم باشا شلبي (الحصاد) ابنه الأكبر عبد الهادي: «ماذا كنت تريد من رفعة الباشا — النحاس — أن يفعل؟

– أن يرفض تكليف الإنجليز له بتأليف الوزارة.

– ويسمح بخلع الملك؟

– لو وقف الزعماء كلهم إلى جانبه لما استطاعوا أن يخلعوه.

قال حلمي: لو وقف الشعب والزعماء معه لخلعوه، إنهم مسلحون، في حرب، ونحن عزل من السلاح، ما كانوا يترددون في ضربنا، وإعادة فرض الحماية علينا لو أحسوا بوادر الثورة.»٧٦
أما عامر وجدي الصحفي الوفدي (ميرامار) فقد كان واحدًا من آلاف الوفديين الذين استقالوا من الوفد، احتجاجًا على قبول النحاس تأليف الوزارة «خرجت من الوفد، بل من الأحزاب جميعًا منذ حادث ٤ فبراير.»٧٧ وترك الصحفي الشاب حمدي (نحن لا نزرع الشوك) جريدة الوفد التي كان يعمل بها، احتجاجًا على قبول مصطفى النحاس تأليف الوزارة بطلبٍ من الإنجليز، وأنشأ مجلة مستقلة.٧٨ وأسقط طنطاوي إسماعيل (المرايا) وفديته، وقال: ما رأيك — الراوي —؟ ها هو زعيمك يرجع إلى الوزارة فوق الدبابات البريطانية، وأضاف متسائلًا: أسمعتم عن زعامة من هذا النوع من قبل؟ ثم اجتاحته موجة من الغضب، فجعل يصيح كالممسوس: الطوفان … الطوفان … الطوفان.٧٩

وفي المقابل من تلك الآراء، كان الراوي في «المرايا» واحدًا من الذين هزَّتهم حادثة ٤ فبراير من الأعماق، ووضعت وفديته في أزمة خانقة، ولمَّا صارح صديقه رضا حمادة بذلك قال: إني أعتقد أن مصطفى النحاس قد أنقذ الوطن والعرش.

قال بأسًى: تصور أن الدبابات البريطانية تجيء بزعيم البلاد رئيسًا للوزارة.

– لقد كان الإنجليز أعداءنا، ولكنهم اليوم يقاتلون في الجانب الذي نرغب في أن ينتصر.

وسأل: أتود للفاشية أن تنتصر كما يود الملتفُّون حول الملك؟

– كلا طبعًا!

– فانظر إلى ٤ فبراير إذن على ذلك الضوء.٨٠
ويقول الراوي (المرايا): «غداة ٤ فبراير ١٩٤٢م ثار أذيال الأحزاب من الموظفين، فاتهموا الوفد بالخيانة، أما الوفديون، فقد فرحوا وطربوا.»٨١
وإذا كان يقين رضا حمادة (المرايا) أن مصطفى النحاس قد أنقذ الوطن والعرش،٨٢ فإن ذلك هو ما ذهب إليه أيضًا عباس فوزي (المرايا): «قولوا فيما حدث ليلة أمس ما شئتم، ولكن من الإنصاف أن نعترف لمصطفى النحاس بأنه أنقذ الوطن في هذه المرحلة الحرجة من حياة الوطن.»٨٣
وقال كمال عبد الجواد (السكرية): «أخطأ الآخرون، وتحمَّل الناس نتيجة الخطأ، لا شك أنه أنقذ الموقف، أنقذ العرش والبلاد، ثم إن العبرة بالخاتمة، فإذا ذكر له الإنجليز صنيعه بعد الحرب، فلن يذكر أحد ٤ فبراير.»٨٤ وأضاف الراوي (الباقي من الزمن ساعة) بُعدًا اجتماعيًّا عندما أكد أنه لولا علاوة الغلاء التي قررتها حكومة الوفد، لهلك الموظفون.٨٥
وفي تقدير محمد التابعي أن مصطفى النحاس ومكرم عبيد كانا بريئَين تمامًا من «جريمة» تدبير حادث ٤ فبراير، ويرى أن المصري الوحيد الذي كان على علمٍ سابقٍ بما ينوي الإنجليز عمله هو أمين عثمان.٨٦
وتاريخيًّا، فعلى الرغم من أن أحد ضباط مصلحة خفر السواحل — اسمه شبانة — ألقى بحذائه على النحاس، عند خروجه من جامع الرفاعي، فأخطأ النحاس، وإن أصاب عربة الوزير عبد الحميد عبد الحق،٨٧ وعلى الرغم من المظاهرات القليلة التي خرجت تهتف ضد الإنجليز، وضد حكومة النحاس، فإن تولي النحاس رئاسة الوزارة كان له تأثيره الطيب في نفوس الجماهير المصرية، واستقبلته بفرحة غامرة، وهو ما يفسِّره وسيم خالد بأن الشعب قد فهم الحادثة على وجهها الصحيح، وهي أن أي انفعال من أجل الملك الصبي الصغير لهو شيء طفولي بحت، وعدم نضج، وعدم وعي، وإن الشعب قد خرج لإذلال السراي رغم أنه جاء من جانب الإنجليز، وأنه لم يفهم من الأمر سوى أن حزب الأغلبية قد جاء إلى الحكم.٨٨
وإذا كان فوزي السيد (الدكتور خالد) قد اتهم مصطفى النحاس بأنه عاد في تلك الحادثة إلى لعبته القديمة، فلما طال شوقه إلى الحكم تظاهر بالتطرف، وتحدَّى الإنجليز ليحملهم على الضغط لإعادته، ولا يمكن أن يكون الإنجليز قد أقدموا على ما أقدموا عليه بغير اتفاقٍ سابقٍ معه،٨٩ فإن النحاس أكد — تاريخيًّا — أنه فوجئ بالإنذار، وبذكر اسمه باعتباره المرشَّح لرئاسة الوزارة، وأنه وافق على اقتراح الزعماء برفض الإنذار وتقديم احتجاج، وكان بالفعل أول الموقِّعين على الاحتجاج.
لكن كامل الشناوي أدان قبول النحاس تولي رئاسة الحكومة بالقول إنه «إذا صحَّت دعوى التفريط للإنجليز في حقوق البلاد — مشيرًا إلى اتهامات النحاس لحكومات الأقلية التي سبقته بذلك — فهل جاء الإنجليز برفعته لكيلا يفرط لهم في حقوقنا؟» ثم أكد أن تفاهمًا لا بد قد حدث «وأن اتصالًا جرى، بل إن مواثيق أُخذَت، وإن عهودًا بُذلَت، وإلا فمن الذي يصدق أن يأتي الإنجليز بزعيم مصر إلى حكم مصر، وهو يحرض المصريين على الثورة، ويدعوها إلى البحث عن حليف آخر، كيف يأتي ذلك إذا لم يكن هناك اتفاق؟»٩٠

وثمة رواية، أن النحاس زار السيدة صفية زغلول بعد الحادثة، في بيتها، وقبَّل يدها قائلًا: جئنا نتقبَّل من أم المصريين تهانينا.

فقالت أم المصريين: ليس خليفة سعد هو الذي يتولى الحكم على أسنة الرماح البريطانية.

قال النحاس: نحن أنقذنا العرش، وأنقذنا الاستقلال.

قالت: لن تثبت الأيام إلا أن خليفة سعد قد تولى الحكم على دبابات الإنجليز.

وذهبت صفية زغلول إلى أحمد حسنين، فاعتذرت له عن موقف النحاس، وقالت: إنني منذ ٤ فبراير لا أنام الليل، وأعجب كيف ينام الرجل؟! حقًّا كيف ينام الرجل؟!

وتضيف الرواية إن النحاس قد عاقب أم المصريين — لموقفها — بمنع نشر اسمها في الصحف، كما حظر ذكر اسمها أمامه بالثناء عليها، ومنع وزراءه من زيارتها، فلما ماتت لم يسِر في جنازتها.٩١
ولما سُئل حسين توفيق (قاتل أمين عثمان) عن سبب محاولته قتل مصطفى النحاس، عقب حادثة ٤ فبراير، أجاب بأن الحادثة هي التي دفعته إلى ذلك لأن الصحف كلها اتهمته بالخيانة العظمى، وتصريح ماهر باشا بأنه أتى على أسنة الرماح، واستعداده لمحاكمة النحاس باشا، وإثبات أنه ارتكب خيانة عظمى، ووزَّع منشورات بهذا المعنى، وثانيًا: المعروف أن النحاس باشا لا يستطيعون محاكمته هنا لتدخل الإنجليز، وأنه يعرف أشخاصًا مثل مصطفى النحاس باشا في بلاد أخرى … «كل شيء يسير بأمر الإنجليز، ولا نستطيع حتى محاكمة خائن اعتدى على الشعب، وعلى الملك.»٩٢

•••

لعل الشواهد — من توالي الأحداث — تؤكد أن النحاس لم يكن يعلم بالإنذار البريطاني، ولا بالتطورات التي مهدت له أو صاحبته، فحين ناشد أحمد ماهر النحاس — في اجتماعات الزعماء السياسيين — أن يرفض تأليف الوزارة، أكد النحاس ما قاله من قبل، من أنه لم يكن يعلم بكل ما حدث، وأنه لا يتلقَّى أمرًا بتأليف الوزارة إلا بأمر من الملك.

أما القول بأن النحاس كان يمكنه تجنُّب الأزمة إذا قبل تأليف وزارة ائتلافية، فمن المعروف أن الوفد كان له موقفه الواضح من الوزارات الائتلافية منذ ١٩٢٨م، وهو رفض المشاركة في تأليفها، وقد سبق للنحاس أن رفض الاشتراك في وزارة ائتلافية، بعد استقالة وزارة علي ماهر في ١٩٤٠م.

وعلى الرغم من تحسن العلاقة بين الوفد والسراي في وزارة الوفد الأخيرة،٩٣ فإن الوفد رفض إشراك الفريق محمد حيدر وزيرًا للحربية؛ لأنه ليس وفديًّا! ذلك برغم تأكيد النحاس على زعماء الأحزاب، وعلى الملك «أن البيان الذي أُلقي علينا من جلالة الملك يُفهَم منه أن هذه الحالة تنفيذية لا تهديدية كما حصل في حوادث أخرى»، وأن «هذا الاحتجاج كويس، ولكن يودي بالبلد والعرش، ويمكن أن يكون نكبة على العرش، وعلى شخص جلالتكم.»٩٤

لكن البعض يشير إلى استعداد النحاس في أبريل ١٩٤١م، لتأليف وزارة قومية، بشرط أن يحل مجلس النواب، وتُجرى انتخابات جديدة، أو الحكم بدون برلمان، إلى أن يحين الوقت المناسب لإجراء الانتخابات.

والغريب أن أحزاب الأقلية هي التي رفضت فكرة الوزارة القومية، حتى لا يحل مجلس النواب المؤلَّف من أنصارها.٩٥

طلب الملك من النحاس — بعد تكليفه له بتأليف الوزارة — أن يمرَّ على السفارة البريطانية لإبلاغ السفارة بذلك، لكنَّ النحاس اعترض قائلًا: إنني أتلقَّى الأوامر من جلالتكم بتأليف الوزارة، لا أرى ضرورة لإبلاغ السفير هذا الأمر.

فأعاد الملك طلبه: لكنني أرى ضرورة في أن تمرَّ بالسفارة، وتبلغ السفير ما طلبت إليك أن تبلغه إيَّاه.

والملاحَظ أن المعارك الصحفية التي دارت بعد انقضاء ثلاث سنوات على الأحداث، لم تسفر عن تقديم الأحزاب المناوئة للوفد دليلًا واحدًا يُدين الوفد أو زعيمه مصطفى النحاس، وكما يروي النحاس في محاكمة حسين توفيق، فإنه لم يذهب إلى السفير ليطمئنه، بل ليحتج: «فلما دخلت أراد أن يقابلني بالسلام، فقلت له: لا أسلم عليك، لأنك أسأت إليَّ في غيابي، وكان معه وزير الدولة.»٩٦ ويضيف النحاس، إنه احتجَّ على تدخُّل السفير بذلك الأسلوب، وأن السفير راح يسترضيه، ويسأله عن رغبته، فطلب منه سحب الإنذار البريطاني حتى يمكن له أن يقبل الوزارة.

ووافق السفير فعلًا على سحب الإنذار، قائلًا للنحاس إنه لم يختره بصفته الشخصية، ولكن بصفته زعيم الأغلبية، وإنه — أي السفير — حين يقول النحاس إنما يقصد الشعب؛ فالموقف الحربي خطير، وهم يخشون أن يُطعَنوا من الخلف.

وردَّ عليه النحاس باشا قائلًا: ماذا فعل الشعب حتى أوصلتموه إلى هذه الحالة؟ وماذا أقول له؟ هل أقول إن الإنجليز جابوني وأنتم جعانين؟ وكيف أستطيع أن أطعمهم؟ مع ذلك فلم يستطع رفعته أن يستقر على رأي بشأن قبوله الوزارة ما لم يفعل الإنجليز شيئًا نحو هذه الإهانة، بطريقة يراها مع زملائه.٩٧
ولعله مما يؤكد عدم معرفة النحاس بنيَّات السلطات البريطانية وتحركاتها، ما يرويه اللورد كيلرن في مذكراته: «كان يتعيَّن عليَّ أن أتأكد من المكان الذي سيتواجد فيه النحاس بعد ظهر ذلك اليوم، وكان من الصعب — عادة — العثور على النحاس، وكان من الضروري أن نعرف أين يكون طوال اليوم حتى يمكن الاتصال به، واستدعاؤه للقصر في أية لحظة.»٩٨
أما الوثائق البريطانية، فقد كانت «حاسمة في قولها إن مصطفى النحاس لم يكن يعلم بما تدبِّره إنجلترا ضد الملك صاحب التوجهات النازية.»٩٩

يبقى أنه إذا كان النحاس خائنًا بقبول الإنذار البريطاني، فكل القيادات الحزبية خائنة بالتالي، لأن المسألة لم تكن رفض الإنذار أو قبوله، لكنها مسألة تشكيل وزارة قومية، أرادوا تكوينها، والاشتراك فيها.

•••

ما مدى تعاون مصطفى النحاس مع السلطات البريطانية؟ وبتعبيرٍ آخر: هل دفع من وطنيَّته مقابلًا لتوليه الوزارة؟

يذكر وسيم خالد إن النحاس قد عاد إلى الوزارة متعاونًا مع الإنجليز، و«قدم لهم خطوط مواصلاتنا وموانئنا ومطاراتنا، ودماء أبنائنا وأقواتنا وأرزاقنا، وقام البنك الأهلي بطبع البنكنوت بالكميات التي يطلبونها: ٥٠٠ مليون جنيه أعطاها لهم دون مقابل سوى تعهدهم بالدفع، ولم يقِم حتى بمجرد تقويم هذا الدَّين بالذهب، وكانت النتيجة أن خسرنا ثلثه عندما خفض الإنجليز الجنيه الإسترليني، واشتروا هم بهذا البنكنوت خيراتنا، ودفعوا نفقات جنودهم، وأجور أعمالنا الذين يشتغلون لديهم.»١٠٠
ويذهب السادات إلى أن النحاس كان يتحدى الملك باسم الإنجليز، لا باسم الشعب، ولا باسم الدستور، والملك كان يحني رأسه لأنه كان يعلم أنه لا يستطيع شيئًا غير الانحناء حتى تحين الفرصة، ليبطش بهذه الحكومة التي جاءت — رغم أنفه — لتذل كبرياءه وتهدر كرامته، وقد حاول الملك تغيير النحاس، لكن الإنجليز رفضوا، وتعدَّدت الصدامات بين القصر والحكومة.١٠١
أما رياض قلدس (السكرية) فقد أظهر ثقته في أن النحاس ليس بالرجل الذي يتآمر مع الإنجليز في سبيل العودة إلى الحكم.١٠٢
وطبيعي أن حكومة الوفد وجهت عنايتها — في البداية — إلى أصل المشكلة التي كانت استقالة حسين سري نتيجة لها، وهي القمح، فقررت شراء القمح بسعر الأردب ٣٠٠ قرش، بزيادة قدرها مائة قرش على السعر السابق، وشراء الذرة بسعر ٢٠٠ قرش للأردب، بزيادة ٥٠ قرشًا، على أن تتحمَّل الحكومة فرق السعر دون المستهلك، دفعًا للمنتجين والتجار على إظهار ما يخزِّنونه من القمح، وتيسيرًا للمستهلكين، كما حصلت الحكومة على قرض من مئونة الجيش البريطاني لتصريف الأزمة بصورة عاجلة.١٠٣

ويقول سليم شلبي (الحصاد): لقد قضى رفعة الباشا على أزمة الخبز في يوم وليلة.

فيسأله ابنه في استخفاف: هل أفهم من ذلك أن رفعة الباشا استورد القمح اللازم للبلاد؟!

يقول حلمي: فتح الإنجليز مخازنهم، وأخرجوا كل ما فيها من غلال.

يقول عبد الخالق: ولماذا لم يفعلوا ذلك مع حسين سري باشا؟

يقول الباشا: لأنهم لا يثقون فيه.

يقول عبد الخالق ساخرًا: الحمد لله الذي جعل رفعة الباشا موضع ثقة الإنجليز.١٠٤

وقد وضعت حكومة الوفد قانون نظام هيئات البوليس، وجعلت التعليم الابتدائي بالمجان (زاد عدد الطلبة في المدارس من ٩٤٢ ألفًا عام ١٩٣٣م، إلى مليون و٥٦٣ ألفًا عام ١٩٣٩-١٩٤٠م (الحركة الوطنية في مصر، ٦٠)) وأصدرت قانون استعمال اللغة العربية في مكاتبات الشركات ومحرراتها وسجلاتها ودفاترها، وقانون تحويل الدَّين العام، وقانون استقلال القضاء، وقانون تخفيض الضريبة على صغار الملاك الزراعيين، وقانون عقد العمل الفردي، وإقرار قانون نقابات العمال، ووضع قانون للبلديات، وقانون جديد للتعاون، واستكمال منشآت جامعة فاروق الأول، ومدرسة ثانوية بالخرطوم، ومشروع المجموعات الصحية.

ويقول رضوان أفندي المدرس الإلزامي (قلوب خالية): ما خلاص أنصفونا بقى! دا احنا فينا ناس وصلوا إلى الدرجة الخامسة والرابعة، زمان كان الواحد يطلع عالمعاش زي ما دخل في الدرجة الثامنة، باقول لك يا عم الشيخ متولي إن الحكومة دي ما فيش زيها.١٠٥
أيًّا يكن الأمر، فقد انطفأ الأمل في أن يقوم الوفد بجهدٍ وطني حقيقي بعد تلك الحادثة، وأصبح «من العته السياسي انتظار شيء من الوفد أو الدفاع عنه.»١٠٦

– أتظن أن أيام الوفد معدودة كما يشيع خصومه؟

– أيامه رهن بمشيئة الإنجليز، وعلى أي حال فلن تطول الحرب إلى الأبد، ثم يجيء وقت الحساب!١٠٧
بل إن الإدانة شملت الأحزاب جميعها، وأرجعت «تحوُّل» موقف الملك إلى السلبية التي واجهت بها الأحزاب أحداث ٤ فبراير، فقد «وضعت الحرب أوزارها في سنة ١٩٤٥م، وكان الإنجليز قد كسبوا الملك إلى صفِّهم نهائيًّا، بعد أن اقتحموا عليه قصر عابدين في ٤ فبراير، ولم يجد من الزعماء الذين تظاهروا أنهم معه، مَن يجعل من قضية ٤ فبراير قضية وطنية؛ لأنهم جميعًا كانوا يؤمنون بأن الإنجليز سادة، يجب أن يحرص العقلاء على مودتهم وصداقتهم.»١٠٨

بالإضافة إلى ذلك، فقد كان من البديهي أن تقوَى — في ظل اهتزاز صورة قيادات الوفد، والنحاس تحديدًا — أمام سلطات الاحتلال، وخضوعها لأوامرها، بل ومهادنتها، كما أفلح في تأكيد ذلك رجال السراي وأحزاب الأقلية؛ كان من البديهي أن تقوَى الجماعات السياسية الجديدة، مثل الإخوان المسلمين وجماعات اليسار والشيوعيين ومصر الفتاة، وغيرها.

•••

ولكن: ماذا كان موقف الجيش المصري من أحداث ذلك اليوم؟

يقول الماجور سانسوم، المسئول عن أمن القوات البريطانية في مصر، أعوام الحرب العالمية الثانية: «كانت الحكومة البريطانية قد أصدرت تعليماتها إلى سير مايلز لامبسون، سفيرنا في القاهرة، بأن يوجِّه إنذارًا إلى الملك، وكنت مرتبطًا بهذه العملية عن طريقَين، الأول كان استشاريًّا، فوفق معلوماتي عن الوضع داخل الجيش المصري: ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها ليقطع علي الجيش المصري التدخل المسلح في العملية المزمع القيام بها؟ فأنت ترى أننا ننوي الذهاب إلى القصر بالدبابات، فقلت على الفور: علينا إذن أن نوصد كل طريق، وكل شارع يقود إلى قلب القاهرة، إن الضباط الصغار لا يحبون الملك، لكنهم يكرهوننا أكثر، وسيكون رد الفعل عندهم عنيفًا لمثل هذه الإهانة.»١٠٩
كان الجيش المصري في «الصورة» إذن، على الرغم من ضعفه بالنسبة لقوات الاحتلال البريطاني، وقد أغلقت القوات البريطانية — بالفعل — الطرق الموصِّلة بين ألماظة والقاهرة، وألقت القبض — قبل ساعة الصفر مباشرة — على ضباط وجنود الحرس الملكي في ثكنات عابدين، واتسمت العملية كلها بالسرية، وبالسرعة الخاطفة، خوفًا من أن يكون لرد فعل الجيش المصري لمثل هذا المسلك «ضرره البالغ على جهدنا العسكري»، والتعبير للورد لامبسون أحد كبار القادة العسكريين الإنجليز آنذاك.١١٠
وكان الخوف من تحرك الجيش المصري — كرد فعل لأحداث ذلك اليوم — في إطار ثورة وطنية شعبية، بحيث تلجأ قوات الاحتلال إلى ضرب التحرك العسكري المصري، المتوقع، واعتبار مصر أرضًا محتلة، مما يقيِّد استراتيجية القوات البريطانية في المنطقة.١١١

وعلى الرغم من أن الإنذار البريطاني — كما أشرنا — تم في جو من السرعة والسرية، فإن ما حدث انتشر — بعد ساعات من وقوعه — في وحدات الجيش المصري، واعتبر الضباط الحادث «عدوانًا صارخًا على استقلال مصر، وعلى كرامة الجيش المصري». وأجريت اتصالات، أسفرت عن عقد مؤتمر كبير في نادي الضباط بالزمالك، حضره حوالي ٥٠٠ ضابط، تدارسوا — في جو من الحماسة المنفعلة — ما يجب اتخاذه من وسائل للرد على إهانة بريطانيا لمصر ولجيشها.

ورغم مناداة البعض بوجوب الاصطدام بقوات الاحتلال، فإن صوت الحكمة فرض نفسه، وتقرر أن يتوجه الضباط إلى قصر عابدين، ليعبِّروا عن ولائهم للملك، وتضامنهم معه، وهو ما حدث فعلًا.١١٢ وكتب جمال عبد الناصر — وكان ضابطًا صغيرًا — إلى أصدقائه في القوات المرابطة بالعلمين: «إنني أشعر بخزي وعار شديدَين؛ لأن جيشنا سكت على هذا الاعتداء وارتضاه، ولكني مسرور على كل حال، لأن ضباطنا كانوا يشغلون أوقات فراغهم بالحديث عن المتع والمسرَّات، ولكنهم الآن بدءوا يتحدثون عن الانتقام والثأر.» وكتب في رسالة ثانية: «لو كان الإنجليز أحسُّوا أن بعض المصريين ينوون التضحية، ويقابلون القوة بالقوة، لانسحبوا كأية امرأة من العاهرات، وطبعًا هذه حالهم، أو تلك عادتهم، أما نحن، أما الجيش، فقد كان لهذا الحادث تأثيرٌ جيدٌ على الروح والإحساس فيه، أصبحوا يتكلمون عن التضحية، والاستعداد لبذل النفوس في سبيل الكرامة، وأصبحت تراهم وكلهم ندم، لأنهم لم يتدخلوا — مع ضعفهم الظاهر — ليردوا للبلاد كرامتها، ويغسلوها بالدماء، ولكن غدًا لناظره قريب.»١١٣ ويرى كمال رفعت في مذكراته أن «مبعث ثورة الضباط لم يكن النظرة إلى الأمر على أنه خاص بالملك، وإنما كانت نظرتهم إليه قومية تمامًا.»١١٤
كانت الحادثة عمومًا «بمثابة المفجِّر لصحوة بعد سبات، دام ستين عامًا منذ معركة التل الكبير، ومنطلقًا على طريق عودة المؤسسة العسكرية لكي تلعب دورًا سياسيًّا في حياة مصر.»١١٥ ومن ثَم فقد طالبت صحيفة «صانداي ديسباتش البريطانية» — والتاريخ لا يخلو من دلالة، والقول لا يخلو من سخرية — بإقامة تمثال للورد كيلرن في ميدان عابدين؛ لأنه المهندس الحقيقي الذي صمَّم — رغم أنفه، ودون أن يدري — ثورة الجيش المصري عام ١٩٥٢م.١١٦
كانت مسئولية الجيش المصري — حسب الخطة البريطانية للدفاع عن البلاد — هي الدفاع المضاد للطائرات، وتأمين الملاحة في قناة السويس، وحراسة المنشآت والمرافق الحيوية، ومعاونة القوات البريطانية في الصحراء الغربية،١١٧ وأُنشِئ الجيش المرابط لحراسة المرافق العامة.
يقول الضابط الشاب (مذكرات منسية): «جرَّبت القيادة البريطانية الجندي المصري، وجربت الجندي البريطاني في إطلاق المدافع المضادة للطائرات، فكانت نتيجة التجربة أن الجندي البريطاني يصيب الهدف بنسبة عشرة في المائة، بينما الجندي المصري يصيب الهدف بنسبة تسعين في المائة، بل لقد كان هناك شيء أهم من هذه النسبة في نظر القيادة البريطانية، وهو أن المدافع المضادة للطائرات ذاتها كانت أهدافًا عسكرية للمغيرين، وقد تبيَّن لهذه القيادة أن عدم إصابة الجندي البريطاني يعني أنه هو نفسه يصبح هدفًا.»١١٨
أما لماذا طلب الإنجليز تسليم أسلحة الجيش، فيقول تقرير للبوليس السياسي إن الإنجليز كانوا يخشون من أن تنشب ثورة ضدهم وقت الحرب، ويشارك فيها الجيش المصري.١١٩ وكما يقول أحمد حمروش، فقد كان المحرك الرئيسي لاتجاهات الضباط هو الأمل في انتصار الألمان، وهزيمة البريطانيين.١٢٠

وكانت الصحراء الغربية — في ذلك الوقت — منفًى، ينُقل إليه الضباط الذين تظهر عليهم أي ميول سياسية.

وعلى كثرة ما كُتِب ونُشِر عن حادثة ٤ فبراير ١٩٤٢م — والكلام لمحمد التابعي — فإنه لا تزال هناك تفاصيل وأسرار لم تُنشَر بعدُ. ثمة أسئلة لم تجد إجابات محددة: هل كان اعتداء الإنجليز على السياسة المصرية في الحادث، نتيجة قرار اتُّخذ فجأة، نتيجة انتصارات قوات روميل في الصحراء الغربية، وتكشُّف خطر غزو المحور؟ أو أن الحادث كان نتيجة سياسة أُعدَّت قبل ذلك بوقتٍ طويل؟ وما الأسباب التي حاولت السياسة البريطانية أن تبرر بها هذا الاعتداء على السياسة المصرية؟١٢١
لكن حادثة ٤ فبراير كانت هي المنطلق لعملٍ كبيرٍ بدأ صغار الضباط في التمهيد له، وكما يقول أنور السادات، فقد شعر العسكريون أنها ضربة عسكرية لا يردُّها سواهم، وقرَّر الضباط الأحرار — بعد أشهر قليلة من الحادثة — أن تستقل خطواتهم داخل الجيش عن كل مؤشر خارجي، وعن كل قيادة خارجية.١٢٢ وأفلحت تشكيلات الضباط الأحرار في أن تضاعف قوتها داخل الجيش أكثر من مائة ضعف، ووصلت الاستعدادات حدَّ تجهيز مائة ألف زجاجة مولوتوف، وإنشاء ورشة كاملة لصنع المسدسات، واستيراد كميات هائلة من البارود الذي يصنعه الفلاحون، وتحضيره بأسلوب علمي، وأخيرًا انتظار الوقت المناسب لبدء «العمل الكبير».١٢٣

هوامش

(١) محمود البدوي، الأصلع، صقر الليل، كتاب اليوم، العدد ٤٤.
(٢) محمود البدوي، البرج، السفينة الذهبية، هيئة الكتاب.
(٣) الدبابات حول القصر، ٦٩.
(٤) المحاكمة الكبرى، ٤٣.
(٥) شحاتة عزيز، كفر الهلالي، ٧٧.
(٦) لطفي عثمان، المحاكمة الكبرى في قضية الاغتيالات السياسية، دار النيل للطباعة، ١٩٤٨م، ١٧٥-١٧٦.
(٧) سعيد عبده، ماضٍ يتثاءب، آخر ساعة، ٢١/ ٣/ ١٩٧٦م.
(٨) الدبابات حول القصر، ٧٠. وعقب فوز الوفد في انتخابات ١٩٥٠م اقترح الديوان الملكي أن يعيَّن فؤاد سراج الدين رئيسًا للوزراء، بدلًا من النحاس، لكن حسين سري اشترط لقبول رئاسة الديوان الملكي أن يكون مصطفى النحاس هو رئيس الوزراء، فهو إذن أعاد الاقتراح نفسه الذي قدَّمه في فبراير ١٩٤٢م.
(٩) الدكتور خالد، ٣٥٥.
(١٠) الأصلع، صقر الليل.
(١١) الدكتور خالد، ٢٥٥.
(١٢) المصدر السابق، ٣٥٥.
(١٣) عبد الرحمن الرافعي، في أعقاب الثورة ٣: ١٠٠.
(١٤) معركة نزاهة الحكم، ١٠.
(١٥) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ١٧٤.
(١٦) معركة نزاهة الحكم، ٩.
(١٧) أسرار الثورة المصرية، ٦٢.
(١٨) المحاكمة الكبرى، ٥٥.
(١٩) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ١٧٥.
(٢٠) المرجع السابق، ١٨٨.
(٢١) الدبابات حول القصر، ٦٩.
(٢٢) ماضٍ يتثاءب.
(٢٣) محمد التابعي، مصر ما قبل الثورة، دار المعارف، ٢١٨.
(٢٤) التاريخ السري لمصر، ٢١٥ وما بعدها.
(٢٥) محمد أنيس، ٤ فبراير ١٩٤٢ في تاريخ مصر السياسي، ٨٨.
(٢٦) من أسرار الساسة والسياسة، ٢٢٣.
(٢٧) المرجع السابق، ١٩٢-١٩٣.
(٢٨) المرجع السابق، ١٩٦.
(٢٩) من أسرار الساسة والسياسة، ١٩٩.
(٣٠) المرجع السابق، ٢٠٠-٢٠١.
(٣١) التاريخ السري لمصر، ١٩٩.
(٣٢) ٤ فبراير ١٩٤٢ في تاريخ مصر السياسي، ١٢.
(٣٣) المرجع السابق، ٣١.
(٣٤) المرجع السابق، ١٣.
(٣٥) التاريخ السري لمصر، ٢٤٠.
(٣٦) علي الخشخاني، محكمة جنايات مصر، مذكرات حسين توفيق أحمد المتهم الأول في قضية الجناية رقم ١١٢٩ سنة ١٩٤٦م عابدين، دار النيل للطباعة، ١٩٤٦م، ٩٣.
(٣٧) محكمة جنايات مصر، ٩٣.
(٣٨) المحاكمة الكبرى، ١٤٨.
(٣٩) محكمة جنايات مصر، ٩٤.
(٤٠) المحاكمة الكبرى، ١٤٤.
(٤١) الحصاد، ٢٨٤.
(٤٢) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ٢١٣.
(٤٣) ٤ فبراير ١٩٤٢ في تاريخ مصر السياسي، ٣٨.
(٤٤) المرجع السابق، ٩.
(٤٥) محمد حسين هيكل، مذكرات في السياسة المصرية، ١٩٥١م، ٣: ٢٢١.
(٤٦) المصدر السابق، ٢٢٤.
(٤٧) المحاكمة الكبرى، ٢٣٧.
(٤٨) المرجع السابق، ٢٣٧.
(٤٩) الدكتور خالد، ١٩٢.
(٥٠) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ٢٠٠–٢٠٢.
(٥١) التاريخ السري لمصر، ٢٢٨-٢٢٩.
(٥٢) الدبابات حول القصر، ٧٧-٧٨.
(٥٣) المرجع السابق، ٢٠٢.
(٥٤) العمال، العدد ٢٢٨.
(٥٥) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ١٢٥.
(٥٦) الدبابات حول القصر، ٩٣-٩٤.
(٥٧) أسرار الثورة المصرية، ٦٥.
(٥٨) المرجع السابق، ١١١.
(٥٩) التاريخ السري لمصر، ٣٢٧.
(٦٠) أسرار الثورة المصرية، ١٢٠.
(٦١) ٤ فبراير ١٩٤٢ في تاريخ مصر السياسي.
(٦٢) الحصاد، ١١١.
(٦٣) جمال سليم، البوليس السياسي، ٧.
(٦٤) اليسار المصري، ٢٦٥.
(٦٥) كيف سقطت الملكية في مصر؟، ٨٥.
(٦٦) في أعقاب الثورة المصرية، ٣: ١٠٦.
(٦٧) المحاكمة الكبرى، ١٧٨.
(٦٨) معركة نزاهة الحكم، ٢٠.
(٦٩) المحاكمة الكبرى، ١٤٠.
(٧٠) الأهرام، ٤/ ٢/ ١٩٩٩م.
(٧١) المرجع السابق.
(٧٢) مصر ما قبل الثورة، ٢٠٧.
(٧٣) في أعقاب الثورة، ٢: ١٠٨.
(٧٤) عبد العال الحمامصي، الطريق الآخر، للكتاكيت أجنحة، هيئة الكتاب.
(٧٥) قلوب خالية، ٨٣.
(٧٦) الحصاد، ١١٣.
(٧٧) ميرامار، ٣٠.
(٧٨) نحن لا نزرع الشوك، ٧٧٨.
(٧٩) المرايا، ٢٢٨.
(٨٠) المصدر السابق، ١١٣-١١٤.
(٨١) المصدر السابق، ١١٤.
(٨٢) المصدر السابق، ٢٣٩.
(٨٣) المصدر السابق، ١١٣.
(٨٤) السكرية، ٢٣٩.
(٨٥) نجيب محفوظ، الباقي من الزمن ساعة، مكتبة مصر، ١٩٧٧م، ١٨.
(٨٦) مصر ما قبل الثورة، ٢٠٧.
(٨٧) الموقف العربي، العدد ٦٥.
(٨٨) الكفاح السري ضد الإنجليز، ٤٠.
(٨٩) المرجع السابق، ٣٧٤.
(٩٠) محكمة جنايات مصر، ١٠٨.
(٩١) الموقف العربي، العدد ٦٥.
(٩٢) المحاكمة الكبرى، ٢٢٠.
(٩٣) في الفترة من ١٩٥٠م إلى ١٩٥٢م، حتى حريق القاهرة.
(٩٤) ٤ فبراير ١٩٤٢ في تاريخ مصر السياسي، ٢٦.
(٩٥) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ١٥٦-١٥٧.
(٩٦) المحاكمة الكبرى، ٤٦.
(٩٧) المرجع السابق، ٤٧.
(٩٨) الدبابات حول القصر، ٨١.
(٩٩) الهلال، فبراير ١٩٨٦م.
(١٠٠) الكفاح السري ضد الإنجليز، ٤٤.
(١٠١) أسرار الثورة المصرية، ١١٦-١١٧.
(١٠٢) السكرية، ٢٨٤.
(١٠٣) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ٢٢٨-٢٢٩.
(١٠٤) الحصاد، ١١١-١١٢.
(١٠٥) قلوب خالية، ١٠٥.
(١٠٦) لويس عوض، العنقاء، ٢٤.
(١٠٧) السكرية، ٣٣٢.
(١٠٨) فتحي رضوان، دقات الأجراس، ٩.
(١٠٩) ٤ فبراير في تاريخ مصر السياسي، ٣٩.
(١١٠) المرجع السابق، ٤١.
(١١١) المرجع السابق، ٤١.
(١١٢) أكتوبر، العدد ٤٣٥.
(١١٣) الكاتب، نوفمبر ١٩٦٥م.
(١١٤) مذكرات كمال رفعت، ٣٥.
(١١٥) الأهرام، ١٠/ ١٠/ ١٩٨٧م.
(١١٦) التاريخ السري لمصر، ٣٤٦.
(١١٧) أكتوبر، العدد ٤٣٥.
(١١٨) حافظ محمود، مذكرات منسية، ١٨-١٩.
(١١٩) من العلمين إلى سجن الأجانب، ٤١.
(١٢٠) أحمد حمروش، مصر والعسكريون، ١٠٢.
(١٢١) محمد التابعي، نصر ما قبل الثورة، ٢١٥.
(١٢٢) أسرار الثورة المصرية، ١٧٠.
(١٢٣) المرجع السابق، ٦٥–٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥