ظلال الحرب في زقاق المدق

لعلَّه من الصعب أن نجد في رواية «زقاق المدق» تصويرًا متكاملًا لانعكاس أحداث الحرب العالمية الثانية على المجتمع المصري، الأقرب إلى الدقة أن «زقاق المدق» تصويرٌ جيدٌ لتأثيرات الحرب العالمية الثانية على قطاع كبير من المجتمع المصري، برغم ما يبدو من عزلة الزقاق وأهله عما يدور خارج الحدود.١
يصفه الفنان بأنه «منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة، له باب على الصنادقية، ثم يصعد صعودًا في غير انتظام، يحف بجانبٍ منه دكان وقهوة وفرن، ويحف بالجانب الآخر دكان ووكالة، ثم ينتهي سريعًا ببيتَين متلاصقَين يتكوَّن كلاهما من طوابق ثلاثة.»٢
حاول الزقاق — والكلام ليحيى حقي عن القاهرة بعامة — أن يدافع عن نفسه بالانطواء على الذات، يعقد على نواتها الصلبة — كنواة من الدوم النابت في أرضها — ما تبقى من أصول حبالها المتينة السليمة، تاركة الأطراف المتهرئة تتقاذفها الرياح، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.٣

السِّمة الواضحة في البيئات السردية لنجيب محفوظ، أنها تكاد تكون معزولة، أو بلا تأثيرٍ حقيقي في التكوين النفسي للشخصية. ثمة نفيسة (بداية ونهاية) التي ساعد على تنازلها عن شرفها ميل طبيعي للسقوط، ورغم تحريض عم ترك وزوجته لابنتهما إحسان (القاهرة الجديدة) فقد ظلَّت الفتاة حريصة على التماسك، لولا الظروف الضاغطة، من خارج بيئة الأسرة. أما حميدة فلم يكن لظروفها الأسرية تأثير مؤكد في الطريق التي اندفعت إليها في جسارة غريبة، بينما كان للزقاق — بخصوصية حياته، وملامحه، وتأثُّره بالمجتمع الخارجي — تأثيره في تصرفات الفتاة بما يصعب إغفاله.

كان الزقاق يعيش في شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على الرغم من ذلك يضج بحياته الخاصة، حياة تتصل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة.٤ كان متصلًا — بالفعل — بتطورات الأحداث من حوله، وتأثر ناسه — بصورة مباشرة — بكل ما أحدثته الحرب من تغييرات في ملامح الخريطة السياسية والاجتماعية المصرية. نتذكر قول لوسيان جولدمان «إن الرواية قصة بحث عن قِيَم أصيلة، بطريقة متفسخة، وفي مجتمع متفسخ.» ثمة أهوال الظلام والغارات التي يمكن القول بأنه قد تساوى تأثيرها على أبناء الزقاق جميعًا، وإن فسَّرها أحد رواد قهوة المعلم كرشة بأنها «من شر أنفسنا.»٥
أما تأثيرات الحرب على المستوى الفردي، فنحن نجد بعض الملامح والتفصيلات التي قد لا تبدو ذات دلالة، أو لافتة للنظر، لكنها — في الحقيقة — ألوان اللوحة وظلالها، فقد استطاع صبي القهوة — على سبيل المثال — أن يذهب إلى السينما، بينما تخلى شاعر الربابة عن مركزه الممتاز، بعد شراء المعلم كرشة — صاحب القهوة — راديو يسلي به الزبائن، وكان الراديو هو أولى وسائل اتصال الزقاق بالعالم الخارجي، ونجح السيد سليم علوان في مضاعفة ثروته بصفقاتٍ في السوق السوداء، وأفاد حسين كرشة — لفترة — من الحياة الجديدة التي أتاحها العمل في معسكرات الإنجليز، كما ودَّع عباس الحلو صالون الحلاقة، وذهب إلى الإسماعيلية، نشدانًا للثراء، حتى تقبَل حميدة الزواج منه، لكن فرج إبراهيم القواد الذي يمثِّل بعض ما أفرزته الحرب، يكون أسبق منه إليها، فيغويها، ويضمُّها إلى طوابير المرفِّهات في ليل جنود الحلفاء، ثم كان مقتل عباس الحلو في النهاية — ومن قبله تبدُّد أحلام حسين كرشة في التخلي عن واقعه الاجتماعي — رمزًا لما تلاقيه البرجوازية الصغرى، عندما تقفز — في ظروف غير طبيعية — وراء تطلعاتها في طفرة واحدة غير محسوبة، وأذكر قول الفنان: «نحن كنا نعيش على هامش الحرب، ولذلك فإن هذه الحرب أثَّرت فينا بشكلٍ سلبي.»٦

•••

أما السيد سليم علوان — الذي ينتسب، بدرجة ما، إلى البرجوازية الكبرى — فهو بذلك يُعَد الثري الوحيد في الزقاق، وإن لم يكن في الأصل من أبنائه؛ أمضى معظم عمره في الزقاق، وإن لم يعتبر نفسه من أهله، ولا عمل لأحدٍ من أهله حسابًا.٧ فقد تأثَّر نشاطه بصورة ملحوظة، نتيجة لظروف الحرب؛ انقطاع الوارد من الهند، قلل — إلى حد — من نشاط الوكالة، مع ذلك، فإنه حافظ على سمعته ومركزه، إضافة إلى أنه وجد في ظروف الحرب ما يضاعف من نشاطه وأرباحه. كما أغرته تلك الظروف بالاتجار بمواد، لم تكن ضمن نشاطه قبلًا، مثل الشاي، فغامر في السوق السوداء، وحقق أرباحًا هائلة. وكما يقول الفنان، فقد أدركت تجارة سليم علوان هذه الحرب «فأثقلت موازينها حتى أتخمها الثراء.»٨ وكانت الوكالة — إلى ما بعد انتهاء الحرب — هي الإطار الاقتصادي للنشاط التجاري في القاهرة.
وكان أهم ما يتخوَّف منه السيد سليم علوان أمواله المكدسة التي لم يكن يدري متى يُتاح له استغلالها، خاصة بعد أن راجت الشائعات باحتمال هبوط قيمتها النقدية عقب الحرب.٩

أما رغبة سليم علوان في الزواج من حميدة، فقد كانت تعبيرًا عن شهوة، وليست صادرة عن نية حقيقية في الزواج ثانية، فهو لم يفكر — بالتأكيد — في حميدة عندما تصبح ضرة لزوجته السيدة عفت، وامرأة أب لمحمد سليم القاضي، وعارف سليم المحامي، وحسان سليم الطبيب!

•••

يبدو السيد رضوان الحسيني أقرب إلى البرجوازية الكبرى من حيث ملكيته للأراضي الزراعية والعقارات، لكنه — في الحقيقة — لم يكن يملك إلا البيت الأيمن من زقاق المدق، وبضعة أفدنة في المرج، فضلًا عن أنه لم يكن ممن يحرصون على الكسب، بل إنه تنازل عن الزيادة التي قررها الأمر العسكري الخاص بالسكن فيما يتعلق بالطابق الأول من بيته، رحمة بساكنيه الطيبين — عم كامل وعباس الحلو — وكان يحرص ألا يفوته يوم من حياته دون صنع جميل، فبدا — لأبناء الزقاق أنفسهم — كأنه من الموسرين المثقلين بالمال والمتاع.

•••

أما المعلم كرشة صاحب قهوة زقاق المدق، وعم كامل بائع البسبوسة، وعباس الحلو الحلاق، وحسين كرشة العامل في معسكرات الإنجليز — ولعلهم يمثِّلون البرجوازية الصغرى — فقد تأثرت حياة كلٍّ منهم — بصورة وبأخرى — بتطورات الأحداث منذ بداية الحرب.

إن طرد شاعر الربابة من قهوة المعلم كرشة، بعد أن ظلَّت القهوة تسمعه كل مساء، عشرين عامًا أو أكثر من حياتها، واستبدال الراديو به، حدثٌ لا يخلو من دلالة … فالمعلم كرشة يصيح: عرفنا القصص جميعًا وحفظناها، ولا حاجة بنا إلى سردها من جديد … والناس في أيامنا هذه لا يريدون الشاعر، وطالما طالبوني بالراديو، وها هو ذا الراديو يركب، فدعنا ورزقك على الله!١٠

ويقول الشاعر: رويدك يا معلم كرشة، إن للهلالي جدة لا تزول، ولا يُغني عنها الراديو أبدًا.

– هذا قولك … ولكنه قول لا يقرُّه الزبائن، فلا تخرب بيتي … لقد تغيَّر كل شيء!

– ألم تستمع الأجيال بلا ملل إلى هذه القصص من عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟

– قلت: لقد تغيَّر كل شيء!١١ (يروي تادرس عن منشد الربابة الذي أصابه العمى، حتى لا يرى الراديو — عمرو العادلي، إغواء يوسف، ميريت، ٢٠١٠م، ٧٨).
وكان المعلم كرشة من الشواذ جنسيًّا. بعد عودة ابنه حسين، «انتبهت عيناه النائمتان إلى شقيق الزوجة، تفحصه بعناية، وتولَّاه اهتمام مفاجئ أنساه قلقه وموجدته واستياءه، كان الشاب يافعًا، وسيم الطلعة، خفيف الظل، فراح يحاوره، ويرنو إليه بطرفٍ يقظ، وطابت نفسه وصفت، وسرت في أعماقه هزة سرور وحماس، فتفتح قلبه للأسرة الجديدة، ورحب بها مرة أخرى، ولكن بشعور جديد.»١٢

ولعل الشذوذ الجنسي في شخصية المعلم كرشة يعبِّر — كما في أعمال بلزاك، التي ينعكس تأثيرها على العديد من أعمال محفوظ — عن الانقلاب في الطبقة الاجتماعية.

•••

أما حسين كرشة، فقد غادر الزقاق سعيًا وراء طموحه، وليس — كما يقول الأب جاك جومييه — لضيقه بما يدور حول والده وسمعته المريبة.١٣ لم يكن يعنيه الإثم في ذاته، ولكن كان يغيظه ما يثيره حولهم من فضيحة وجرسة،١٤ بل إنه حين تناهى إليه خبر أبيه، هز منكبيه استهانة، وقال دون مبالاة: إنه رجل، والرجل لا يعيبه شيء.
ثم سخط مع الساخطين، ونقم على والده لما وجد أسرته مضغة الأفواه، ونادرة المتندرين.١٥
كان أشد رفضًا لكل ما في الزقاق، ولكل مَن فيه أيضًا، حتى أبوه كان يرفضه، وسافر إلى معسكرات الإنجليز بعد أن قطع كل صلة بينه وبين الزقاق، واعتز بصداقته للإنجليز، بل وكان يفخر بما قاله الأونباشي — يومًا — من أنه لا يفترق عن الإنجليز، إلا في اللون.١٦
ويقول حسين كرشة مؤكدًا: «ليست هذه الحرب بنقمة، كما يقول الجهلاء، ولكنها نعمة النعم، لقد بعثها ربنا لينشلنا من وهدة الشقاء والعوز، على الرحب والسعة ألف غارة وغارة، ما دامت تقذفنا بالذهب … إلخ.»١٧

ولم يقف طموح حسين كرشة عند حد هجرة الزقاق، والالتحاق بمعسكرات الإنجليز، بل تجاوز ذلك إلى الابتعاد عن الزقاق نهائيًّا.

قال لأمه يومًا: أصغي إليَّ، لقد عزمت عزمًا لا رجعة فيه، فهذه الحياة لا تُطاق، ولا داعي مطلقًا لتحمُّلها قسرًا.١٨
ثم أجمل الحياة التي يريد أن يخلفها وراءه بأنها «بيت قذر، زقاق نتن، أناس بهائم.»١٩

وحين عايره أبوه بموقفه قائلًا: تريد حياة أخرى تناسب المقام! لأن كلبًا مثلك نشأ محرومًا جائعًا، يُجَن إذا امتلأ جيبه، وأنت الآن صاحب قرش إنجليزي، فمن الطبيعي أن نرتاد حياة أخرى، تليق بمقامك العالي يا ابن قنصل الإوز!

يقول حسين ضجِرًا: كل ما في الأمر أني أريد حياة غير هذه الحياة، إن كثيرين من زملائي يقطنون في بيوت فيها الكهرباء.٢٠
ويضيف: أريد أن أحيا حياة جديدة، هذا كل ما هنالك، وسأتزوج من بنت ناس.٢١
ورغم محاولات المعلم لإثناء حسين عن قراره، فإن الابن كان قد اتخذ قراره، وغادر الزقاق بالفعل، وبصق عليه: «غر، انجحر، لعنة الله عليك، وعلى أهلك!»٢٢
وتوهَّم حسين كرشة — بتأثير الترف النسبي الذي عاشه في ظل العمل مع القوات البريطانية — أن الحرب لن تنتهي، واستأجر شقة نظيفة بالوايلية، فيها الكهرباء والماء «وكان عندي خادم صغيرة تقول لي بكل احترام: يا سيدي … وكنت أرتاد السينما والفرقة القومية، ربحت كثيرًا، وضيعت كثيرًا، وهذه هي الحياة، إن أعمارنا ذاهبة فلماذا تبقى النقود؟»٢٣ وكان يقول للحلو مؤكدًا: «لا تغرنك هزيمة الطليان، فأولئك لا حساب لهم في الحرب، ولسوف يحارب هتلر عشرين عامًا.»٢٤
لكن الاستغناء المفاجئ عن حسين كرشة، مع الآلاف من الأيدي العاملة في معسكرات القناة، بدَّد أحلامه الطبقية تمامًا، وأعاده إلى موقعه القديم في الزقاق: «ليس لديَّ الآن إلا قليل من الجنيهات، غير حُلي زوجي.»٢٥

وقد احتضن زقاق المدق حسين كرشة، على الرغم من الكراهية التي كان الشاب يعلنها للزقاق.

•••

أما بقية أبناء الزقاق، فلعلهم أقرب إلى الطبقة الأدنى، مثل زيطة والدكتور بوشي وحسنية الفرانة وجعدة وحميدة وأمها والشيخ درويش.

كان أبناء الزقاق يلقِّبون بوشي بالدكتور، لكنه — في الحقيقة — كان تمورجيًّا لطبيب أسنان في الجمالية، ثم استقل بعيادته المتنقلة، وإن ارتدى الجلباب والطاقية والقبقاب، ولقب دكتور خلعه عليه مرضاه من أبناء الزقاق والأحياء القريبة.٢٦ واشتهر بوشي بوصفاته المفيدة، وإن عرف عنه ميله إلى الخلع غالبًا كأحسن علاج، بقرشٍ للفقراء، وقرشين لميسوري الحال نسبيًّا. أما تركيب الأطقم، فإنه كان لا يعدو في الطقم العادي بضعة قروش، وفي الطقم الذهبي بضعة جنيهات، ولم تكن ضآلة المبالغ مما يستلفت انتباه أهل الزقاق، حتى ألقى البوليس القبض على زيطة وبوشي وهما يسرقان طقمًا ذهبيًّا من المقابر؛ ليبيعه الدكتور بوشي من بعد إلى مرضاه.٢٧
ولعل الدكتور بوشي يجد امتدادًا مسيحيًّا له، في لصوص المدافن المسيحية، فهم يكسرون أقفال التوابيت، ويسرقون أسنان الموتى الذهبية، وما قد يكون مصاحبًا لجثث الموتى.٢٨
أما زيطة، فهو يذكِّرنا بشخصية «المأجور المتشرد» في الأدب الصيني، الذي يفرض رعايته على المتسولين، لقاء إتاوة يومية من حصيلة عملهم، ويحقق بذلك ثروة طائلة. نشأ زيطة عن والدين شحاذين، كانا يكتريان طفلًا تحمله أمه في أثناء تجوالهما، فلما رُزقا بزيطة أغناهما عن أطفال الناس،٢٩ ثم عاش زيطة بقية حياته مع الشحاذين، بحيث يصعب نسبته — اجتماعيًّا — إلى الطبقات المعدمة.
مع ذلك، فإن زيطة كان ملكًا على مملكة رعاياها من الشحاذين. كانت المهنة التي يتكسَّب منها هي صنع العاهات لمن يريدون احتراف الشحاذة، فيحوِّل المبصر إلى أعمى، والسليم إلى مقعد، أو مبتور الذراع، أو أحدب. وكانت المهنة — في الحقيقة — فنًّا خالصًا، حتى إنه كان يرفض أن يجري عمليات من أي نوع على بعض زبائنه، وينصحهم باللجوء إلى حيل أخرى غير العاهات، لاجتذاب النقود، فثمة عملاق قوي يرى من الأوفق أن يعلمه فن العته، ويحفِّظه بعضًا من مدائح الرسول، وثمة «وقور» يحتار إزاءه، كيف يصنع في جسده العملاق عاهة، ويقول له بهدوء: «ليست العاهة بمطلبك، بل أنت في حاجة إلى مزيدٍ من التحسين والتجميل، اغسل جلبابك جيدًا، واحصل بأية طريقة على طربوش نصف عمر، وامش بقامتك المعتدلة هذه في خشوعٍ وأدب، واقترب في إشفاق من رواد المقاهي، ثم قِف في حياء، ومد يدك في تألُّم دون أن تنبس بكلمة، وتكلم بعينيك، ألا تعرف لغة الأعين؟ ستحدق فيك العيون بدهشة، سيقولون عزيز قوم ذل، ويقولون محال أن يكون هذا من أولئك الشحاذين المحترفين، أفهمت الآن ما أريد؟ ستربح بوقارك أضعاف ما يربحه الآخرون بعاهاتهم.»٣٠
وكان زيطة يثق بموهبته وقدراته، حتى إنه يقول في زهوٍ: «إن عملي ليعجز أعظم أطباء البلد لو حاولوه، ألا تعلم أن إحداث عاهة كاذبة أشق من إحداث عاهة حقيقية ألف مرة؟ إن عاهة حقيقية لا تستقضيني أكثر من أن أبصق على وجهك!»٣١
ويقول لحسنية الفرَّانة: «ألا ترَين أن الشحاذ بغير العاهة لا يساوي مليمًا، حتى إذا ما صنعتها له ساوى ثقله ذهبًا؟!»٣٢
لذلك، فقد اعتبر الفنان زيطة مقابلًا لانتشار صناعة التجميل إبان الحرب الثانية، تصنع السمنة للنحاف، والنحافة للسمان، وتزيل الشعر وحب الشباب، وتبرز الأرداف، وتكور الأثداء، بالإضافة إلى انتشار عمليات جراحية تسوي الأذن المنكمشة، وتصغِّر المفرطحة، وتعدل الأنف، وترقق الشفتين الغليظتين، وتعيد الصبا إلى شمطاوات الطبقة الراقية.٣٣

ولم يكن عمل زيطة يخلو من لذة، مبعثها — ربما — النشأة القاسية التي امتدت دون أن يطرأ عليها تغيُّر ما؛ فالوالدان شحاذان، والنشأة قاسية، والتكسُّب يأتي من صنع العاهات للمتسولين، مقابل عمولات تتراوح بين المليم والمليمَين.

كان يكره كل الناس من حوله، حتى الذين ربما لم تقُم بينه وبينهم علاقة، وربما قطع وقت فراغه الطويل في تخيُّل ألوان التعذيب التي يتمنَّاها للناس، كل الناس: جعدة الفرَّان والمعلم كرشة وسليم علوان ورضوان الحسيني، يتخيلهم موتى، مبقوري البطون، مبتوري الأطراف، فاقدي الأعين والأنوف والآذان.٣٤

كان يحب الشحاذين، مع ذلك فلم يحاول أن يداري بريق اللذة في عينيه، وهو ينصت إلى صرخات الألم من أفواههم، بتأثير عملياته الجراحية القاسية!

تقول له حسنية ساخرة: «إنك طين على طين، وقذارة على قذارة، ولذلك لا عمل لك إلا تشويه البشر، كأنك تنبعث إلى ذلك برغبة شيطانية في النزول بالبشر إلى مستواك القذر.»٣٥
لذلك — ربما — اعتبر يحيى حقي زيطة رمزًا للتشوُّه العام في الحياة المصرية أعوام الحرب العالمية الثانية، ورمزًا للانحلال الذي كان سائدًا. كانت صنعة زيطة هي إحداث تشويه في أجساد الفقراء الضائعين المسحوقين من أبناء الشعب، انسدَّت في وجوههم سُبُل العيش، فلم يجدوا مخرجًا لهم إلا بالشحاذة، وتكفف الناس، كسر ذراع، تقطيع يد، فقء عين، كلما غلا التشويه غلا أجره.٣٦ وكان زيطة يتقاضى مقابلًا يوميًّا من شحاذيه، يطوف عليهم ليلًا في الأماكن التي حددوها لأنفسهم، يستفسر عن أحوالهم، ومدى نجاحه في صنع العاهة، ويحصل على المقابل اليومي.٣٧

•••

نحن نجد لعالم زيطة امتدادًا في «أرض النفاق»، ثمة أماكن مظلمة، رطبة، يرتادها الشحاذون لإعداد أنفسهم قبل البدء في جولاتهم اليومية، أو الجلوس بجوار أضرحة الأولياء، حتى الأدعية يُجرى تحفيظها للشحاذ قبل أن يغادر المكان.

لم يكن اختيار كل شحاذ لموقعه عفوًا ولا مصادفة، إنما هو وليد اتفاق بين شحاذي المنطقة ومن يشرفون على حياتهم، مثل زيطة، ولعله من هنا كانت النظرات المتسائلة التي واجهها أبو المعاطي (إحسان لله) ذلك الشاب الريفي الذي جاء إلى القاهرة — للمرة الأولى — ليوكل محاميًا في شئون أرض والده، عندما اتخذ قرارًا — لم يعلنه لنفسه — بأن يحترف الشحاذة، فقد اكتشف أبو المعاطي أن المبلغ الذي حصل عليه من التسول في يوم واحد، يعدل كسب أيام في الريف، معانيًا ضروب المشقة، وربما أصابه التوفيق، لأنه كان جالسًا بجوار ضريح السيدة زينب، وكان متسولو زيطة يفترشون الأرصفة المحيطة بالحسين، ومن ثَم فقد أصبح أحد خدام المقام، والدعوة من خدام المقام — كما تقول السيدة ذات الابنة المريضة — ليس بينها وبين السماء حجاب.٣٨
اتخذ أبو المعاطي قراره، واختار جوار الضريح الزينبي، مجلسًا مختارًا، ثم تحوَّلت النظرات المتسائلة إلى همزات وغمزات «فأغضى، ولم يبد لهم أنه فطن لشيء.»٣٩ وشاهد أبو المعاطي — عند حلول الظلام — سائلًا من رفقائه يحيط اللفائف التي شدَّ بها يده إلى عنقه، وينزع الضمادات التي وضعها على عينيه، ثم مضى مستقيم الخطوات، ملتمع العينين — لعله أحد تلامذة زيطة! — وما لبث أبو المعاطي — صبيحة اليوم التالي — أن شد هو الآخر يسراه بلفائف إلى عنقه، وتوكأ على عصًا غليظة، وجلس إلى مكانه المختار، وكان ذلك بمثابة تفجير لبرميل بارود الغضب من حوله، فقد علت همهمات الشحاذين وغمزاتهم، ثم أقبل ناحيته «شيخ منتفخ الجثة، مترهل الأكتاف، ذو لحية شمطاء، يضع على رأسه عمامة خضراء، ويرتدي جبة تكاثرت فيها الرقاع مختلفة الألوان، وتتدلى على صدره سبحة طويلة ذات حبات غلاظ، وجعل الشيخ يتهادى نحو أبي المعاطي، فكلما دنا منه لمعت على وجهه سيماء الدهشة والحنق، وما إن حاذاه حتى أخذ يصوب فيه النظر ويصعده، واشتدت همهمة الرفاق، وتقاربوا نحو القادم الشيخ، يحيونه تحية احترام وتلطف، [زيطة آخر؟!] وتدور معركة حامية بين الشيخ وأبو المعاطي، يتحقق فيها النصر للشاب الصغير الذي ما يلبث أن يمد سطوته، حتى يخضع له كل رفاقه المتسولين، ويصبح زعيمًا للمنطقة جميعًا.»٤٠
لكن زيطة — فيما علمنا — وقع في قبضة البوليس بتهمة سرقة أطقم أسنان الموتى من أفواههم!٤١
وقد يذكِّرنا الشيخ أبو الروس (نهاية الشيخ مصطفى) ﺑ «زيطة» في عمله مع النسوة اللائي يتخذن أرصفة الجوامع مسكنًا، ومرتزقًا، فهو يضربهن ويسلبهن ما جمعنه من التسول،٤٢ كما مارس إبراهيم العقب مهنة تشابه — إلى حدٍّ ما — مهنة زيطة … فالأول يشرف على جامعي أعقاب السجاير، بينما يشرف الثاني على المتسولين الذين يصنع لهم عاهاتهم، الأول زعيم لمَّامي السبارس، والثاني زعيم المتسولين.
كان إبراهيم العقب (نابغة الميضة) امتدادًا لحياة زيطة، بعد أن أُلقي القبض عليه، ودخل السجن. بدأ العقب حياته جامعًا لأعقاب السجاير، ثم بسط سيطرته على جامعي الأعقاب، يتولى تشغيلهم لقاء أجر معلوم، ثم أصبح من أثرياء حارة «الميضة» قبل أن ينتقل إلى «الناصرية» ليعمل تاجرًا للزبالة في معسكرات الإنجليز، وليحاول الظهور — بأمواله — في المجتمع، ويصبح — بالتبرعات — وجيهًا، ويدخل الانتخابات، فيصبح نائبًا بلا مبادئ، ولا مواهب، ولا كفاءة، ولا عبقرية، ولا علم، لا شيء أبدًا سوى النقود. أُجبِر زيطة على الرضوخ للواقع، بينما أدرك العقب لعبة الصعود في مجتمع يدين بالطبقية، فسار في الشوط إلى النهاية.٤٣
وعلى الرغم من سجن الدكتور بوشي وآخرين مارسوا المهنة نفسها (زقاق المدق) فإن عباس أقدم على سرقة أكفان الموتى، لم يشغله الخطر، ولا العفوية التي كانت تتهدده،٤٤ بل إنه إذا كان الدكتور بوشي وزيطة قد سُجِنا بتهمة سرقة أكفان الموتى وأطقم أسنانهم، فإن تجارة أخرى — أشد قسوة — راجت في الأعوام التالية، وإن لم يتعرض أصحابها للسجن، وهي بيع أجساد الموتى إلى طلبة كليات الطب ليقوموا بتشريحها.

وكان المعلم سماعين أبو دومة (قصة حب) أحد هؤلاء الذين يتاجرون في جثث الموتى: وبياخدوا العضم ده يعملوا به إيه يابو دومة؟

– أنا عارف يا خويا … بيدرسوا عليه … بيركبوه، ويعملوه بني آدم تاني، حد عارف.

– إلا أنا سمعت يابو دومة أنهم بياخدو العضم ده يسحروا بيه … ويعملوا بيه عمولات، وإنهم لا هم دكاترة ولا حاجة.

– يمكن … مش بعيدة … أنا مرة جاني واحد، وقال أنا عايز عضمة صباع رجل يمين بتاع واحد كان أعور شمال!٤٥

•••

أما الأستاذ درويش، فلم يكن — في نظر أبناء الزقاق — مجنونًا، وإن أصيب بلوثة عقلية؛ ثمة اعتقاد يؤمن به أبناء المدق، وبالأحرى غالبية المصريين، أن الجنون بدرجة غير خطيرة، صفة قدسية، لأن العقل يتخلص من التفكير في الأمور الدنيوية، وينصرف إلى عبادة الله، يُسمَّى المرء «بتاع ربنا».

بدأ الشيخ درويش حياته العملية مدرسًا للغة الإنجليزية في إحدى مدارس الأوقاف، ولما ضُمَّت مدارس الأوقاف إلى وزارة المعارف، سُويَت حالته مثل زملائه من غير ذوي المؤهلات العليا، فأصبح كاتبًا بالأوقاف، ونزل من الدرجة السادسة إلى الثامنة، وعُدِّل مرتبه على هذا الأساس، وأمضه الحزن لحد الجنون، وثار لنفسه، وبذل المساعي، وقدَّم العرائض والشكاوى والالتماسات، واستشفع بالرؤساء دون طائل، حتى انعكس الرفض على حياته النفسية.

وذات يوم، طلب مقابلة وكيل الوزارة، ودخل غرفة الوكيل قائلًا في ثقة ويقين: يا سعادة الوكيل … لقد اختار الله رجله!

وأضاف قائلًا: أنا رسول الله إليكَ بكادرٍ جديد!٤٦
وكان ذلك انتهاء حياة، وبداية حياة، وربما يمكن القول أيضًا إنه كان بداية الانفصال عن طبقة اجتماعية، والنزول إلى طبقة أدنى، أو إلى الطبقة الأدنى — بتعبيرٍ أدق — ذلك لأن درويش أفندي أصبح الشيخ درويش، ولم يَعُد من مظهره القديم سوى النظارة الذهبية. أما ثيابه، فقد أصبحت جلبابًا متسخًا وقبقابًا، ولم يعُد له من عمل سوى الجلوس طيلة يومه في قهوة المعلم كرشة، والتعليق على ما يدور حوله بالعربية حينًا، وبالإنجليزية حينًا، وبعباراتٍ تفيض بالوجد الصوفي، وحب ست الستات، السيدة زينب، أصبح درويش أفندي مجذوبًا، وشحاذًا، وقال عنه أبناء الزقاق إنه ولي من أولياء الله الصالحين، يأتيه الوحي باللغتين العربية والإنجليزية.٤٧
والواقع أني لم أجد ملامح متقاربة في شخصيتَي الشيخ درويش وأحمد عاكف (خان الخليلي)، وهو ما ذهبت إليه سهير القلماوي،٤٨ اللهم إلا أن المشكلة التي عاناها أحمد عاكف، هي بقاؤه لمدة عشرين عامًا في الدرجة الثامنة، وهي مشكلة ألقت بظلِّها على عشرات الألوف من صغار الموظفين إلى حد الظاهرة، بما سُمِّي بالموظفين المنسيين.

•••

ظل عباس الحلو صبيًّا لحلاق عشرة أعوام، ثم فتح دكانه الصغير خمسة أعوام، ظن خلالها أنه قد نال أرفع ما يطمح إليه، حتى بدأت تحرك الهامد فيه أحاديث حسين كرشة، تنعى عليه كسله، وخموله، وافتقاره إلى الطموح: «يا لك من رجل خامل من دم الحياة، عيناك نائمتان، دكانك نائمة، حياتك نوم وخمول، أعياني إيقاظك يا ميت، أتحسب أن هذه الحياة خليقة بتحقيق آمالك؟ هيهات، ولن ترزقك — مهما سعيت — بأكثر من لقمتك٤٩ … طالما أخبرتك … طالما نصحتك … اخلع رداء هذه الحياة القذرة الخطيرة، أغلق هذا الدكان، اهجر هذا الزقاق، أرح عينيك من رؤية جثة عم كامل، وعليكَ بالجيش الإنجليزي، الجيش الإنجليزي كنزٌ لا يفنى، هو كنز الحسن البصري … إلخ.»٥٠

قابل الحلو تلك الكلمات بالكثير من التفكير، وقابلها بالكثير من الرفض أيضًا، كان قنوعًا، عزوفًا عن الحركة، هيابًا لكل جديد، مبغضًا للأسفار، ولو تُرِك وشأنه ما اختار عن الزقاق بديلًا، ثم فرض عليه حبُّه لحميدة أن يعيد التفكير في كلمات حسين كرشة، وفي حياته، وأن يبيع دكانه، ويسعى إلى «الأورنس».

يقول لحميدة: أنتِ السبب يا حميدة، أنتِ، أنتِ السبب، أنا والله أحب زقاقنا، وأحمد الله على ما يرزقني به من كفاف، وما أحب أن أنأى عن الحسين الذي أقوم وأقعد باسمه، ولكني وا أسفاه لا أستطيع أن أهيِّئ لكِ الحياة التي ترضينها، فلم أجد عن السفر مذهبًا، وربنا يأخذ بيدي ويجمعنا على أي حال.٥١

والمؤكد أن عباس الحلو لم يكن أصلح الناس لحميدة، فقد كان وديعًا، دمث الأخلاق، طيب القلب، ميالًا بطبعه إلى المهادنة والمصالحة والتسامح، وكان يحافظ على صلاته وصومه، ولا يعرف من وسائل اللهو إلا ارتياد القهوة لتدخين الجوزة ولعب الكومي.

كانت حميدة تمثِّل النقيض لذلك كله.

يقول لها الحلو: لعلك لا تدرين ما فعله حبُّك بي، إنه يبعث فيَّ روحًا جديدة لا عهد لي بها، إنه يخلقني خلقًا جديدًا، ويدفعني لاقتحام الدنيا غير هياب، أما علمت هذا؟ لقد استيقظت من سباتي، وغدًا ترَينني شخصًا جديدًا.٥٢
لم تكن هجرة عباس الحلو من الزقاق مما يدور له ببالٍ؛ إنه واحد من ملايين المصريين الذين يعزفون عن المغامرة، ويهابون الجديد، ويبغضون الأسفار،٥٣ يؤمنون — حتى وإن لم يعرفوا المثل — أن البطيخة ما تكبرش إلا في لبشتها، وعندما فتح دكانه الصغير، فقد كان ذلك أرفع ما يطمح إليه،٥٤ فلم يكن الانتقال من الزقاق مما يدور له ببالٍ، إنما دفعه إلى ذلك نصائح حسين كرشة من ناحية، وطموح حميدة المتعاظم من ناحية ثانية.
حتى بعد أن سافر الحلو إلى التل الكبير، وذاق طعم النقود، فإنه ظل على حبِّه للزقاق «زقاقنا لطيف، وما طمعت يومًا في أكثر من حياة طيبة فيه.»٥٥
مع ذلك، فإن عباس الحلو واجه — للحظات — الموقف نفسه الذي واجهه محجوب عبد الدايم من قبل، طالب محجوب القناطر الخيرية أن تعدل بين أبنائها، وهو ما عابه عباس الحلو كذلك على الزقاق: «ألم يعِش في هذا الزقاق حوالي ربع قرن من الزمان؟ فماذا أفاده؟ إنه زقاق لا يعدل بين أهله، ولا يجزيهم على قدر حبهم له.»٥٦
سافر الحلو إلى التل الكبير، سعيًا وراء العمل باليومية، خمسة وعشرين قرشًا في اليوم، يوفر مبلغًا من يوميته، حتى إذا عاد إلى الزقاق — عقب الحرب — فتح صالونًا جديدًا في السكة الجديدة، أو شارع الأزهر، ويبدأ وحميدة حياتهما المشتركة الجديدة.٥٧
لكن الحلو عاد إلى الزقاق ليصدمه فرار حميدة، وليقتله جنود الإنجليز، بعد أن رأى حميدة (تيتي) تجالسهم داخل حانة، تبادل الجنود الإنجليز الشاب المسكين بضرباتهم، انقضوا عليه باللكمات والركلات والزجاجات، حتى أسلم أنفاسه، وكان حسين كرشة خارج الحانة يرى صاحبه تتقاذفه الأيدي والأرجل، وهو كالكُرة، لا يملك للقضاء دفعًا، وكلما تلقَّى ضربةً هتف صارخًا: «يا حسين … يا حسين!» فلا يدري كيف ينقذ صديقه، ظل مغلوبًا على أمره، يكتفي بالفرجة مثله مثل المارة الذين تجمَّعوا عند مدخل الحانة، متطلعين للمعركة بأعين فزعة وأيدٍ مغلولة، ومثل هؤلاء مثل ملايين المصريين الذين كانوا يتطلعون كذلك إلى ممارسات الإنجليز بأعين فزعة وأيد مغلولة.٥٨
يقول الفنان على لسان محقق، تطوَّع من تلقاء نفسه للكشف عن ملابسات مصرع عباس الحلو: «لقد قرر المحقق الذي صرَّح بدفن جثة عباس الحلو، أنه مات نتيجة اللكمات والركلات والزجاجات التي تطايرت عليه من الجنود الإنجليز بحانة النصر، ولم يكن في مقدور المحقق أن يوجه التهمة إلى أحد، أولًا لكثرة الذين اشتركوا في ضرب عباس الحلو، وازدحام الحانة بهم ساعة وقوع الحادث، وثانيًا لأنه ما كان لأحدٍ أن ينال من جنود الحليفة وهم في نشوة انتصارهم بهذه الحرب العالمية الثانية، وربما لو أتيحت للمحقق الفرصة كما تتاح له في القضايا الأخرى، لما استطاع أن يتعرَّف على متهم بالذات، وهكذا ضاع الفتى هدرًا كما صرح بذلك صديقه حسين كرشة ابن المعلم كرشة صاحب المقهى الرائع على رأس زقاق المدق.»٥٩
مصرع الحلو إذن — على حد تعبير الفنان — «جريمة اقترفها عصر.»٦٠

•••

أفاد الفنان من المعلومة التاريخية التي تؤكد استغناء الجيش البريطاني عن عشرة آلاف عامل، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية،٦١ كانت ظروف الحرب وراء اشتغال الحلو، وعشرات الآلاف من العاملين في معسكرات الجيش البريطاني، ومعسكرات الحلفاء عمومًا، تحققت لهم فيها موائد مادية ضخمة، جاوزت لدى البعض ما كانوا يتقاضونه من مرتبات في عمليات التهريب والسرقة.
واستطاع الحلو أن يضع القرش فوق القرش، ليبني المستقبل الذي كان يحلم به لمحبوبته، بعكس حسين كرشة الذي لم تكن تعنيه إلا اللحظة، وكانت لحظة هناء ممتدة، رفَّه عن نفسه بحماسٍ فائرٍ لا يعرف الحدود، فتمتع بالثياب الجديدة، وغشي المطاعم، وأكثر من أكل اللحوم التي هي في حسبانه طعام المحظوظين، وارتاد السينمات والملاهي، وعاقر الخمر، ورافق النساء، وربما أخذته نوبة كرم، فدعا رفاقه إلى سطح البيت، حيث يقدم لهم الطعام والنبيذ والحشيش.٦٢

كان المفروض — بعد انتهاء الحرب — أن يفتح عباس الحلو صالونًا جديدًا، كبيرًا، في السكة الجديدة، أو شارع الأزهر، ينفق على إعداده من أمواله المدَّخرة.

أما حسين كرشة، فقد استغنى عنه «الأورنس» فجأة، ولم يكن له — في الأصل — مهنة يتكسب منها، كان يعمل في قهوة أبيه، ثم هجرها إلى دكان عجلاتي، فلما اندلعت الحرب، التحق بخدمة القوات البريطانية، وارتفعت يوميته إلى ثلاثين قرشًا في عمله الجديد، لقاء ثلاثة قروش في عمله السابق، وأحدث الاستغناء المفاجئ عن حسين كرشة انقلابًا مماثلًا في حياته، فلم يجد ما يدفعه أجرة لسكنه، بعد أن تزوج، واضطر إلى التنازل عن كبريائه، واصطحاب زوجه وشقيقها إلى بيت أبيه.

•••

على الرغم من أن فتيات إحسان عبد القدوس ينتمين إلى الطبقة الوسطى، إلا أن العنصر الاقتصادي لا يشكِّل عاملًا حاسمًا في سقوطهن، بعكس حميدة في «زقاق المدق» التي سارت في طريق الغواية، مدفوعة بحبٍّ للمال لا يُقاوَم، ونفيسة (بداية ونهاية) التي كان طلب ظل الرجل — وكان في حالتها ظلًّا اقتصاديًّا في الدرجة الأولى — هو الذي قادها إلى طريق الغواية.

كان الجنس في حياة فتيات محفوظ أمام ضغوط اقتصادية ملحة، أما فتيات إحسان، فقد كان الجنس مخرجًا من أزمة البحث عن الذات، أو تأكيد الحرية، أو الفهم الخاطئ للحرية. يقول نجيب محفوظ: «الواقع أن كثيرًا جدًّا من المنحرفات في رواياتي، يرجع انحرافهن إلى أسباب اجتماعية، المتهم وراءهن ليس سلوكهن، بقدر ما هو المجتمع الذي يعشن فيه، إن الغالبية العظمى منهن يرتكبن الإثم بسبب الفقر، بسبب المجتمع.»٦٣
كانت حميدة ضائعة في الأصل، فلا أب ولا أم، وإنما امرأة تناديها «يا أمي»، لكن حياتها في الزقاق كانت هي باعث أزمتها الوحيدة، فهي تصفه بأنه زقاق العدم، ولا تجد فيه أحدًا يستحق الاعتبار، وحين يقول لها عباس الحلو: «سنكون أسعد زوجين في الزقاق»، تتساءل في ازدراء: «زقاق المدق؟!»٦٤ وتقول للحلو: «هذا الزقاق لا يحوي إلا موتًا، وما دمت فيه فلن تحتاج يومًا للدفن، عليك رحمة الله.»٦٥ وتردد في نفسها: «آه يا خسارتك يا حميدة، لماذا توجدين في هذا الزقاق؟ ولماذا كانت أمك هذه المرأة التي لا تميِّز بين التبر والتراب.»
ولعلِّي أختلف مع الفنان في تحليله لشخصية حميدة بأنها كانت بطبعها قوية، لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة من حياتها.٦٦
كان التحدي هو الشعور الذي يحكم تصرفاتها، بتأثير اليتم المبكر الذي جعلها ابنة لغير أمها، والظروف القاسية التي كانت تعاني إسارها، وأحلام القوة والمال التي كانت تغمض لها العين بلا ملل، مبعث التحدي الذي كانت حميدة تواجه به الناس والحياة من حولها، أنها لم تكن ابنة لمن تناديها «ابنتي». كانت الأم الحقيقية شريكة ﻟ «أمها» في الاتجار بالمفتقة والمغات، وماتت بين يديها تاركة طفلتها في سن الرضاع، فتبنَّتها أم حميدة، وعهدت بها إلى زوج المعلم كرشة، فأرضعتها مع ابنها حسين، لتصبح أخته في الرضاعة، وكانت حميدة تعلم تلك الحقيقة، وتعلم أن أهل الزقاق يعلمون، ودفعها ذلك إلى مواجهة كل شيء بروحٍ جسور متحدية، حتى عاطفة الأمومة خنقتها في نفسها، ولم تجد في اتهام نسوة الزقاق لها بالقسوة والشذوذ ما يضايقها، أو يخنقها.٦٧
أما نظرتها إلى الرجال من أبناء الزقاق — نظرة من ثقب إن جاز التعبير — فقد تحددت بأنه «ليس فيهم أحد يستحق الاعتبار.» كان حسين كرشة — وحده — يمثِّل الحد الأدنى لطموحها، لكنه — للأسف — كان «أخوها» في الرضاعة، أو أنهم جعلوه أخاها في الرضاعة. أما سليم علوان، فلم تكن تجد في نظراته التي يتابعها بها من مجلسه في باب الوكالة ما يدل على رغبة في الزواج، حتى طلب الرجل يدها، فنسيت حتى خطبتها لعباس الحلو، وتغاضت عن فارق السن الهائل بينها وبين سليم علوان، فلم يكن يعنيها إلا المال، المال أولًا، والمال أخيرًا، المال الذي يأتي بالثياب، وبكل ما تشتهيه الأنفس.٦٨

وضعت أمام عينيها قصة فتاة من الصنادقية، استطاعت أن تجاوز ظروفها المادية والاجتماعية عندما تزوجت مقاولًا ثريًّا، فانتقل بها من حال إلى حال، وتمنَّت أن تتكرر هذه القصة في حياتها، ثم كان مرض سليم علوان، الخطير، المفاجئ، ضربة مذهلة أفقدتها توازنها، وهيَّأتها لاستقبال الوافد الجديد على الزقاق، وعلى حياتها: القواد فرج.

أما عباس الحلو، فقد أحسَّت إزاءه — أحيانًا — بما يشبه الإشفاق، لكنها لم تجد نحوه حبًّا على الإطلاق، حتى قبولها لقبلاته لم يكن وراءها إلا صفقة الزواج المتواضعة، المرتقبة. وبصرف النظر عن كل شيء، فإن الحلو لم يكن الرجل الذي تريده، ولم تكن تدري كيف يكون رجلها على وجه التحقيق؛ فهو لم يدخل قلبها على أية حال،٦٩ وكانت أعلم الناس بالفارق الكبير بين عباس الحلو، وما يميل إليه من دماثة وحبٍّ للاستقرار، وبين نزعاتها المجنونة للقوة والسيطرة والتملك.

لذلك، لم تطرح حميدة الاختيار — لحظة — بين خطبتها لعباس الحلو، وطلب سليم علوان يدها.

لم يكن الحلو يمثِّل في حياتها إلا قبول الضرورة، أو الخوف من البوار، أما سليم علوان، والقواد فرج إبراهيم من بعدُ، فقد كانا يمثِّلان لها الحياة البهيجة التي ظلَّت تحلم بها دومًا، دون أن تجد الفرصة لتحقيقها. بعثَ ظهور فرج في نفسها «ثورة عارمة جارفة، استثارت كوامن غرائزها جميعًا، أغضبها زهوه، وأحنقها تحديه، وأغرتها وجاهته، وأيقظتها فحولته وجماله، جذبتها نحوه قوة خفية من غرائزها المطمورة، ووجدت فيه ما لم يجتمع لسواه ممن عرفت من الرجال: القوة والمال والعراك.»٧٠ ولم يعُد للحلو مكان في نفسها «امَّحى أثره، وتبدَّد رجع صداه، وليس الحلو في الواقع إلا هذا الزواج التعس، وما يعقبه من حبل وولادة، وإرضاع على الأرصفة وذباب، إلى آخر هذه الصورة البشعة الممقوتة.»٧١
حددت حميدة هدفها من البداية، واختارت مصيرها، وكانت النفس المتحدية هي الباعث وراء رفضها محاولات فرج في البداية؛ لم يكن يستفزها غضب للخُلق أو الحياء، فهذه جميعها اعتبارات لم تألف الغضب لها، أو الغيرة عليها، لكنه غضب لكبريائها، وشعورها الطاغي بقوتها، ورغبتها الجنونية في الملاحاة والعراك.٧٢ بل إنها — في بعض اللحظات — كانت لا تدري أيُّهما أشد استحواذًا على مشاعرها: الرجل الذي حرك أعماقها، أم المغامرة ذاتها؟ أذكِّرك بوصف فرج إبراهيم لها: «… فهي موهوبة بالفطرة، هي عاهرة بالسليقة، وسوف تكون درَّة نادرة المثال.»٧٣ فلما أدرك فرج طبيعتها، وتخلى عن ابتسامته الواثقة الوقحة، هجرت الزقاق — باختيارها — وذهبت إليه، وعاشت حياة الرذيلة التي تمثَّلت لها — فيها — كل أحلام الطموح المادي «طالما اختفت في هذا البيت، وهذا الزقاق، وهيهات أن يعوقها عائق بعد اليوم عن الانطلاق إلى النور والجاه والسلطان.»٧٤
وقد تكرر مشهد صعود حميدة وفرج إلى التاكسي، في الفتاة المصرية الفقيرة التي كلَّمها شاب يرتدي الجلباب، وعلى رأسه طاقية، ثم دفع بها داخل سيارة تاكسي مع ثلاثة من الجنود الإنجليز.٧٥
ويحدِّثنا الراوي (ولد للسعادة) عن امرأة اسمها حميدة، من الصنادقية، كانت ضحية للقوادين الذين يبيعون النساء المصريات لجنود الاحتلال، تزوجت — عرفيًّا — من ضابط سيلاني يعمل في قوات الحلفاء.٧٦

•••

احترفت نفيسة (بداية ونهاية) الخطيئة، مدفوعة بحاجتها إلى المال، وبإحساسها بالدمامة، بينما لم تمارس عزيزة (الحرام ليوسف إدريس) إلا في لحظة غادرة يائسة، دفعت حياتها مقابلًا لها، تذكِّرنا بشهرت (قاع المدينة ليوسف إدريس) التي قاومت رغبات الأستاذ عبد الله طويلًا، ثم احتضنها العوز، واحترفت — فيما بعد — حياة الخطيئة.

كان ذلك هو مبعث «الخطيئة» في حياة الفتيات الثلاث، أما حميدة، فقد كانت الخطيئة هي طريقها إلى حياة الهناء، كانت تتمنَّاها مدفوعة بجملة أشياء، في مقدمتها روح التحدي الذي يسيطر عليها منذ الصبا، والشعور بالقوة بين أهل الزقاق، واعتبار المال — المفتاح السحري للدنيا، وسبيل تحقيق القوة والسيطرة والحياة الناعمة٧٧ — هدفًا يهون لتحقيقه كل شيء.
والواقع أنها كانت على حظ من «الثراء» إذا قيست بنفيسة وإحسان شحاتة — على سبيل المثال — لكنها كانت من الفقر في غاية، بالقياس إلى تطلعاتها؛ لذلك كان فرج بالنسبة لها جواز سفر، قضت عمرها في لهفة لتحصل عليه، فتنتقل إلى عالم آخر ينبض بالبذخ والرفاهية والثراء، وكما يقول علماء الاجتماع، فإن «معيار كيس النقود هو فارق في الكم البحت، يمكن بواسطته المقابلة بين فردين ينتميان إلى طبقة واحدة.»٧٨
وهنا يكمن الفارق بين فرج وحميدة، فهما ينتميان إلى طبقة واحدة، وإن عني بأن يُظهِر تفوقه عليها بإظهار كيس نقوده «لا هذا الحي حيك، ولا هؤلاء الناس أهلك، أنت شيء آخر، إنك ها هنا غريبة.»٧٩
كانت موافقة حميدة على عرض سليم علوان بالزواج منها، بمثابة فترة انتقال بين قراءتها للفاتحة مع عباس الحلو، واستجابتها إلى إغراءات فرج إبراهيم، سقط سليم علوان مريضًا، وتبدَّد كل ما كان قد داعب خيال حميدة من أحلام جميلة وأمنيات، مثلما كان قد تبدد بخطبتها لسليم علوان كل ما كانت قد وعدت به عباس الحلو، وتهيَّأت — دون أن تدري — للحياة الجديدة، التي اجتذبها إليها — فيما بعد — القواد فرج إبراهيم.٨٠ قالت لنفسها، تبرر اندفاعها نحو المصير المؤلم: «لا أب لي ولا أم، وليس لي في الدنيا سواه.»٨١
وبقدر ما كان انتقال إحسان شحاتة من عالمها القديم إلى عالم جديد، مأساة، حاولت الكثير حتى لا تشارك في صنعها، فإن انتقال حميدة إلى ذلك العالم الجديد، كان حدثًا ترغبه بجماع مشاعرها. غادر الحلو زقاق المدق بأمل العودة إليه ثريًّا، أما حميدة، فقد غادرت الزقاق، وفي نيَّتها عدم العودة، تصورته مقبرة لجمالها وطموحها، لم تكن قد ركبت في حياتها إلا العربة الكارو، فرنَّت كلمة «تاكسي» — عندما قالها فرج — رنينًا عجيبًا.٨٢ «ولاحت لها الدنيا الجديدة — خلال زجاج النافذة — باهرة ضاحكة، وانتقلت حركة الناس إلى جسمها وروحها، فانبعثت في نفسها نشوة مطربة، وتهيَّأ لها أنها تطير طيرانًا، وتحلق في سماء الدنيا.»٨٣ ولما رأت زجاجات الروائح العطرية، على التواليت، في بيت فرج إبراهيم، فقد كان ذلك للمرة الأولى في حياتها.٨٤
وكان احتقار إحسان شحاتة لمحجوب عبد الدايم، مقابلًا لحب حميدة لفرج إبراهيم، وكلا الرجلين قواد، لكن الظروف القاسية وضعت محجوب في الموضع القاسي، بينما كانت القوادة هي مهنة فرج إبراهيم التي أخلص لها، وبعكس مزاج حميدة الحيواني، كان قلب إحسان متشوقًا إلى حنان ومودة، لا تجدهما فيما تتيح لها حياتها من لذة وترف.٨٥

•••

ولعل أشد الشخصيات الروائية تطابقًا مع شخصية حميدة، من حيث نزوعها إلى التخلص من الفقر، ونشدان الثراء، بصرف النظر عن الوسيلة، شخصية عطيات في رواية «الدكتور خالد» لأحمد حسين، فقد كانت أنوثتها العارمة الحبيسة توَّاقة إلى الانطلاق، ليس بهدف الارتواء الجنسي، ولكن تعبيرًا عن الرغبة في التحرر من الفقر، والتطلع إلى حياة العز والثياب الفاخرة والحُلي.

وإذا كانت حميدة قد نكثت بوعدها لعباس الحلو، واختارت حياة الرذيلة في رفقة فرج إبراهيم، فإن عطيات وجدت السبيل لتحقيق طموحها في إخفاء علاقتها بالضابط الكبير شاهين، والذي كان أداة تحقيق الحياة الهانئة، عن زوجها الموظف الصغير بيومي أفندي، فهي لم تفكر في التخلص من علاقتها الزوجية، حتى اكتشف الزوج المسكين طبيعة العلاقة، فقتل العشيق، وطلق الزوجة. كذلك فإن ثريا عيسى عبيد هي «حميدة» نجيب محفوظ، كانت ثريا تطمح إلى الزواج من شاب ثري، بدلًا من ذلك الشاب النجار وديع نعوم، الذي رفضته لفقره، رغم إحساسها بعمق حبه، أما وديع، فهو أقرب إلى عباس الحلو.

وكان ما فعلته حميدة عندما بدَّلت ثيابها، فخلعت الملاءة اللف والبرقع ذا القصبة الذهبية، هو ما فعلته أيضًا «فتاة الغورية»، وإن لم تسِر في الدرب نفسه الذي سارت فيه حميدة. قالت لصديقها الذي ألِف رؤيتها بالثوب الوطني: «أوه، إنك لم تعرفني، لقد أفلحت تمامًا في تغيير شكلي، فالشعر الأسود الفاحم صار كالذهب، والملاءة السوداء ذهبت إلى الجحيم، والبرقع تخلصت منه نهائيًّا، وأتيت إليكَ فتاة جديدة، فتاة عصرية، قد طرحت عنها ثيابها البلدية العتيقة، وأتتك في زينة فتيات العصر»، وكان رد فعل الصديق أنه أشاح عنها بوجهه، وسار في طريقه، وقد اغرورقت عيناه بالدموع.٨٦ وربما تذكِّرنا حميدة بمريم (بين القصرين) التي بدأت مُحبَّة لفهمي، ثم للجندي الإنجليزي جوني، كانت حميدة واحدة من آلاف الفتيات اللائي انزلقن «بإغراء النعمة والهيصة والانحلال إلى مهاوي الرذيلة.»٨٧

•••

اجتذبت الحرب طموح حميدة إلى العمل كغانية لجنود الحلفاء، واجتذبت طموح حسين كرشة إلى «الأورنس»، ولم تفقد حميدة ما تحزن من أجله؛ كانت تلك الحياة — رغم كل شيء — هي ما تطمح إليه بالفعل، وعلى حد تعبير الفنان، فقد كانت الأخلاق أهون شيء على نفسها المتمردة.٨٨

أما حسين كرشة، فقد تبدَّلت له الحياة بعد أن استغنت عنه القوات البريطانية فجأة، لاقتراب الحرب من نهايتها؛ واجه مصيرًا مؤلمًا، حاول مفاداته بالتنازل عن كبريائه، والإقامة — مع زوجه وشقيقها — في بيت أبيه، حتى يجد العمل الذي مهما بلغ أجره فيه، فلن يصل إلى ما كان يتقاضاه من «الأورنس»، زائد الهدايا والسرقات.

إن حميدة وحسين — وأُخوتهما في الرضاعة لا تخلو من دلالة — يوجهان إلى الزقاق كلمات تكاد تتطابق، فحميدة تغمغم قائلة: آه، يا خسارتك يا حميدة … لماذا تُوجَدين في هذا الزقاق؟٨٩ وحسين يتساءل: أهي حياة حقًّا؟ هذا الزقاق لا يحوي إلا موتًا!٩٠ المشهد نفسه تكرر في رواية محمود تيمور سلوى في مهب الريح.٩١
وحين همَّت حميدة بمغادرة الزقاق، فإنها وقفت حيال ذلك جامدة باردة، لا يندى صدرها بعطفٍ أو مودة، لا للزقاق ولا لأهله، وكانت أسباب الجوار والصداقة مقطوعة بينها وبين غالبية نسوة الحي كأم حسين — أمها بالرضاعة — والفرَّانة، حتى امرأة السيد رضوان الحسيني لم تَسلم من لسانها … «وعادت عيناها إلى دكان الحلاق، فذكرت عباس الحلو، وتساءلت: ترى ماذا يفعل إذا رجع يومًا من مهجره فلم يعثر لها على أثر؟ وذكرت وداعه الأخير على السلم بقلبٍ متحجرٍ، وعجبت كيف منحته شفتيه يقبِّلهما؟!»٩٢
والملاحَظ أن حميدة لم تكن مقتنعة أصلًا بخطبتها إلى الحلو، برغم موافقتها المبدئية، ذلك لأنها لم تكن تحبه، والأقرب أنها كانت تستثقل ظله، وتستهين بشخصيته، فضلًا عن أنه كان أقل من طموحها، وقد وافقت عليه لما قدَّمه من وعدٍ بنور الذهب اللامع، وبتلبية نزوعها الصارخ إلى القوة والمجد،٩٣ لذلك وافقت — بلا تردد — على خطبة سليم علوان،٩٤ مع ذلك، فإن حميدة التي قاربت العشرين، لم تكن قد ذاقت القُبلة من أي رجل، وحين استوهبها عباس الحلو قبلة، لم تقل لا، ولم تقل نعم، فقد أرادت أن تذوق القبلة التي سمعت عنها كثيرًا، وتغنت بها كثيرًا.٩٥
فقدت حميدة كل صلة لها بالزقاق، منذ هجرته إلى عالمها الجديد، فهي لم تعُد تضمر حتى الإشفاق الذي كان يخامرها حيال عباس الحلو، بل إن نفسها التي أفعمت شرًّا، ألجأتها — بداءة — إلى الكذب على الحلو لتبدو أمامه بريئة، فريسة للظروف القاسية،٩٦ ودفعتها — أخيرًا — إلى تدبير خطة للقضاء على فرج إبراهيم وعباس الحلو — ما ذنبه؟! — معًا، وكانت تطمح — إذا تم لها ذلك — أن تشد الرحال إلى الإسكندرية، التي حدَّثها عنها فرج إبراهيم كثيرًا، حيث تبدأ حياة جديدة، لا يحدُّها قيد، ولا يرقب خطواتها متطفل.٩٧
أوافق سهير القلماوي في أن «مأساة حميدة ليست في أنها سخطت على واقعها، وأرادت — في ثورة — أن تأخذ حقها من الحياة، بأن تغترف من الجديد، لكن مأساتها تقبع في أنها، في ثورتها، اقتلعت نفسها من جذورها.»٩٨ وبينما كانت أمها ترغب في أن تتردد ابنتها في قبول الزواج من السيد سليم علوان، حتى لا تسيئ إلى عباس الحلو، وإلى الفاتحة التي قرأتها الأم معه، فإن الفتاة رحبت بالقادم الجديد، وبدا أنها نسيت الحلو تمامًا، كأنه لم يكن في حياتها.٩٩

كان عباس الحلو أضعف من أن تضع عليه طموحها الهائل، وداعة شخصيته التي تقرب من السلبية، ورضاؤه بواقعه وواقع الزقاق … ذلك كله بدا مناقضًا لنزوعها الغريزي إلى القوة والجموح والسيطرة والعراك، فهي أقرب في أخلاقها إلى محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة)، وضعت الأخلاق في موضعها المناسب، الموضع الوحيد الذي يجدر بها، وتجدر به. وإذا كان محجوب قد وجد في المحيطين به — أبويه وزملائه — ما اضطره إلى مناقشة قضية الأخلاق، فإن حميدة لم تجد فيما حولها، ومَن حولها، ما يدفعها إلى طرح تلك القضية إطلاقًا، فلا أب، ولا أم حقيقية، ولا وازع من أي نوع، فضلًا عن شخصيتها المتمردة، الرافضة، المتطلعة إلى الثراء والسطوة، والعراك أيضًا!

•••

تكررت قصة حميدة وعباس الحلو — بدءًا بالطموح، وانتهاء بالمأساة — مع اختلاف في التفاصيل — في الفترة نفسها، ولكن في إحدى القرى، عندما رفضت بهية (إصرار) خطبة محمود، لأنه لن يضمن — بيوميَّته المتواضعة — ما تأمله من مستقبل، وتدفعه إلى السفر للقناة، حيث الصعايدة هناك كثيرون يعملون مثله، ويأتون بالأموال والذهب، ويشد محمود رحاله إلى منطقة القناة، ويعمل في أحد معسكرات الإنجليز، ويدَّخر، لكنَّ صندوقًا ثقيلًا يسقط على قصبة ساقه، فيبترها الأطباء، ويُواجَه بالقول: إنه لم يعُد صالحًا للخدمة في معسكرات الإنجليز، ويعود محمود إلى قرية السنانية، وفي قلبه حنين إلى بهية، وإلى البيت الذي سيضمُّهما معًا، لكنَّ بهية كانت قد تزوجت آخر، فيضيع محمود في المدينة الكبيرة، فرارًا من قسوة الصدمة.١٠٠

وكما أشرنا، فإن حميدة تذكِّرنا بمريم (بين القصرين)، التي بدأت مُحبَّة لفهمي، ثم للجندي الإنجليزي جوني، ومن بعده زوجة لزئر النساء ياسين، ثم أصبحت — أعوام الحرب العالمية الثانية — مديرة لأحد البارات.

كانت نهاية «طموحهما» واحدة إذن، وهي الترفيه عن جنود قوات الاحتلال، وإن اختلفت الروايات إلى حدٍّ كبيرٍ، فقد كانت مريم مدفوعة بروح المغامرة فحسب، بينما كان شعور التحدي والتمسك بأسباب القوة، هو الدافع وراء كل ما أقدمت عليه حميدة. وقد تحدد ذلك كله من خلال المال، الذي كان — في رأي حميدة — تجسيدًا للسيادة والقوة، لأنه — في الحقيقة — كان مطلبًا عسير المنال. أعلنت مريم استجابتها، منذ وقفت خلف الكوة في بيت أبيها، ترد على إشارات الجندي الإنجليزي جوليون، وعلى حد تعبير ياسين، «فإن مغازلة إنجليزي ليست بالمسألة الهيِّنة على فتاة، هذه درجة من الفساد لا يمكن أن تظهر طفرة.»١٠١

وإذا كانت حميدة قد خانت عهدها لعباس الحلو، نتيجة لإغواءات فرج الملحة، فضلًا عن تقبُّل نفسي لا يُنكَر، فإن مريم كانت قد بدأت السير في طريق الغواية — لم تدفعها إليها ضرورة مادية! — منذ ذلك اليوم الذي ابتسمت فيه لمحاولات الجندي البريطاني، ثم جمعت الحرب العالمية الثانية الاثنتين في ظروف واحدة، رغم تبايُن أعوام البداية لكل منهما، وكانت الظروف مهيَّأة تمامًا أمام مريم، لتحيا الظروف نفسها التي تحياها ملايين الفتيات من الأسر المتوسطة، لكنها فضَّلت دربًا مغايرًا.

وبدرجة ما، فإن قوانين الأحوال الشخصية التي جرَّدت المرأة من أي سلاح تواجه به تصرفات الرجل — مهما كانت خاطئة — كانت وراء تردي مريم محمد رضوان (قصر الشوق) إلى المصير المؤلم.

لقد أنهى ياسين مشكلة قدومه إلى بيت الزوجية — ليلًا — بأن ألقى في وجه المرأة، التي حاولت أن تدافع عن بيتها، بكلمة الطلاق، ولم يكن أمامها إلا أن تجمع ثيابها، وتغادر البيت، لتبدأ خطواتها، بلا نصير من أب ولا أم في درب الخطيئة، رحلت «إلى جهة مجهولة» — على حد تعبير أحمد عبد الجواد، وكانت قد باعت نصيبها في بيت أمها إلى بيومي الشربتلي، ثم اختفت أنباؤها تمامًا، لتظهر فجأة، واحدة من مئات الغواني اللائي أفرزتهن الحرب العالمية الثانية.

وفي المقابل من شخصية حميدة، كانت زنوبة (قصر الشوق) تحاول أن تجاوز الواقع الذي نُشِّئت فيه،١٠٢ وتسعى — بذكاء ودأب — لصورة بيت صغير تمارس فيه أمومتها؛ أعلنت — منذ البداية — أنها تريد «حياة مطمئنة في ظل الحلال.»١٠٣

وحين رفضت إصرار أحمد عبد الجواد أن ينالها، قال لها هازئًا: لعلَّك تخافين على بكارتك!

فقالت بحنقٍ وتشف: أنا لا أرضى إلا بمن أحبه.١٠٤

كانت الظروف هي التي قادت زنوبة العوادة إلى ظروفها القاسية، حتى من قبل أن يعرض عليها أحمد عبد الجواد صداقته.

تقول له: ليس لي أصدقاء، لا قدماء ولا حديثون.

وتسأله: إنك صديق قديم لهذا البيت، فهل راق لك يومًا أن تهبني قسطًا من صداقتك؟١٠٥

وتضيف قائلة: هل يرضيه — أحمد عبد الجواد — أن أبقى كالتابعة في هذا البيت؟

– بل سيجعلك سيدة قد الدنيا.

– أين يا ترى سأقيم في كنفه؟

– شقة جميلة.

– شقة؟

– ألا يعجبك هذا؟

– ألا ترى ماء يجري؟ انظر جيدًا.

– ماء يجري! أتودين السكنى في حمام؟!

– ألا ترى النيل … عوامة أو ذهبية؟

– لماذا تختارين مكانًا بعيدًا عن العمران؟

– لستَ دون محمد عفت جاهًا، ولستُ دون السلطانة حظًّا، ما دمت تحبني كما تقول، وفي وسعك أن تسهر فيها أنت وأصحابك، إنها حلمي، فحققه لي.١٠٦
كانت تقف على أرضية المهانة، دون أن يكون لها في ذلك حيلة، وكانت تترصد الفرص لتغادر أسوار واقعها، حتى لمحت عيني أحمد عبد الجواد تتفحصانها، وقررت ألا تفلت الفرصة. وكانت زنوبة تحب ياسين — أكبر أبناء أحمد عبد الجواد — دون أن يدري الرجل، أو تدري هي أنه ابنه — ثم تحدد ياسين في إطار الزوج المرتقب، لما ضبطتهما مريم — زوجته — وواجه ياسين زوجته — مدفوعًا بتأثير المفاجأة — بالحقيقة التي كانت تغيب عنها: «أنت عاهرة، أنا أعلم ذلك عن يقين، ألا تذكرين الجنود الإنجليز؟!»١٠٧
حال المرأتين إذن لا يختلف، فلماذا لا يتزوج ياسين زنوبة؟ «لقد ضقت ذرعًا بحياة الحرام، ليس وراءها إلا البوار، إن مثلي إذا تزوجت قدَّرت الحياة الزوجية خير قدرها»١٠٨ ذلك لأنها — كما قالت لأحمد عبد الجواد في مناسبة تالية — لا تريد أن تكون بردعة لكل راكب، وأنها ليست كخالتها، فلها قلب مؤمن، يخاف الله، وقد صدق عزمها على هجر الحرام.١٠٩
ونجحت زنوبة بالفعل في استمالة ياسين، ثم في دفعه إلى الزواج منها، برغم المعارضة الشديدة من والده (هل يتزوج ابنه مَن كانت عشيقته يومًا؟!) لكنها — بعد الزواج — بدت أحرص على الحياة الزوجية من سابقتَيها، وقالت لزوجها يومًا: أنت لم تتزوج قَطُّ! كنتَ تعتبر الزواج نوعًا من العشق، وقد آن لك أن تنظر إليه بعين الجد،١١٠ بل لقد اعترف ياسين أنها أفضل عنده من زينب «لأنها أعمق عاطفة، وأشد إخلاصًا وحرصًا على الحياة الزوجية.»١١١

وشيئًا فشيئًا، استطاعت زنوبة أن تكتسب قلوب أفراد الأسرة الرافضة، بل جاء يوم زارت فيه أحمد عبد الجواد باعتباره حماها.

•••

حاولت تهاني (ستة أشهر) أن تهجر حياة الرذيلة تمامًا، وتقترن برجل، أي رجل، يهبها الإحساس بآدميتها «يعني هو الواحدة منا عايزة إيه م الراجل غير الستر؟»١١٢ واستطاعت تهاني فعلًا أن تقنع رجلًا بالزواج منها «ستة أشهر عشتهم معاه واخدني على كفوف الراحة.»١١٣ لكنها ما تلبث أن تهجره بإرادتها، لما بدأ شقيقه يراودها عن نفسها.

وحين يواجهها السؤال: إنما غريبة قوي … سبتيه كدة؟

تجيب: آه، سبته كده … أمال أغشه؟ يعني كنت عايزني …

وتضيف: لا يا صاحبي … ماكنتش اتجوزته … أمال اتجوزته ليه؟ حتى لو ماكنتش حبيت، يعني كنت أخونه؟١١٤

وتقول تهاني تقول في استسلام وبساطة: يعني هي الواحدة منا عايزة إيه من الراجل غير الستر؟!

وأفلحت تهاني في أن تختلس من الزمن ستة أشهر شريفة، قضتها زوجة لأحد العمال، وكانت تطمح لأن تواصل حياتها الجديدة كزوجة، لولا سبب ربما يُعَد غريبًا بالقياس إلى حالتها، وإلى ماضيها، فقد بدأ شقيق الزوج يطاردها، فلما أخفقت في صدِّه، فضَّلت أن تعود إلى سيرتها الأولى، بدلًا من أن تخون ذلك الذي ائتمنها على شرفه وعرضها.

•••

يسأل بطل قصة «في ظلال الخطيئة» لعاشور عليش فتاته: اسمك إيه؟

– مافيش لازمة … حاتنساه بعد شوية.

– أمال أناديك بإيه؟

– بأي اسم!١١٥
ويقول صالح (بعد الغروب): «خير ما يفعل المرء في حياته — يا أخي — أن يمد يده لينقذ نفسًا تردَّت في مستنقع الخطيئة على الرغم منها … أحببتها، وأحبَّتني، ولن أزال في أثرها عالقًا بخطاها، حتى أعود بها سالكين في طريق النور.»١١٦
وقد احترفت أزهار البغاء، ثم دفعها حبها للكونستابل فؤاد أن تهجر الدعارة، وتمنع جسدها إلا عنه، مع أنه لم يكن يعِدها بزواج.١١٧ ويقول الدكتور خالد: إن إخلاص أزهار لفؤاد شيء أسطوري، ولو لم نشهد الحقيقة بأنفسنا، لما تصور الإنسان أن باستطاعة امرأة أن تفي هذا الوفاء.١١٨ أما بطل قصة أكبادنا فيقول لفتاة الليل التي صحبها إلى بيته، عندما لمح الدموع تنحدر على وجنتيها: «ماذا؟ دموع … ثم القصة المعتادة … الذئب والعذراء … ثم بنت الهوى التي تبيع نفسها لتعيش … كلا يا صغيرتي … إنني أعرف هذه القصة تمامًا، فقد سمعتها من قبل كثيرًا.»١١٩

ولا شك أن قصة بنت الهوى التي تبيع نفسها لتعيش، كانت سبيل بعض العاهرات لكسب عطف الزبائن ونقودهن، لكن القصة — في أحوال كثيرة — لم تكن تخلو من الصدق.

•••

وإذا كان جنود الاحتلال قد «اختطفوا» حميدة من الزقاق بالغواية وبريق المال، فإنهم «اختطفوا» ثريا دون أن يكون للمال أو للغواية نصيب في ذلك.١٢٠ اختفت حميدة من حياة الزقاق، كما اختفت ثريا من حياة أهلها، وكان اختفاء ثريا، ومزاولة حميدة لتجارة الجنس، تعبيرًا عن حقيقة واحدة، وإن فضَّل الفنان الاختطاف للتعبير عن فكرته، بينما أصبحت حميدة مومسًا باختيارها، لأن ذلك كان السبيل الوحيد لتحقيق طموحاتها.
وقد أدرك فرج إبراهيم أن الملاءة عند حميدة صارت مما تخجل منه نفسها، من هنا كان قوله لها: كيف تسيرين بملاءتك بين هؤلاء الفتيات — صديقاتها — أين هن منك؟! أميرة في ملاءة، ورعية ترفل في الثياب الجديدة!١٢١ وقال لها فرج: «لا هذا الحي حيك، ولا هؤلاء الناس أهلك، أنت شيء آخر، إنك ها هنا غريبة.»١٢٢

حميدة لم تمارس البغاء لحاجة مادية، وإنما لإشباع طموحات، منها التطلع المؤكد للثراء، أما نفيسة (بداية ونهاية) فقد أسلمت نفسها إلى عناق ابن البقال، بتأثير كلماته المعسولة بنية الزواج، بالإضافة إلى إحساسها الطاغي بالدمامة، الذي يناقض رغبتها الجسدية.

ثمة رأي بأن حميدة هي رمز لمصر كلها، تعبير عن المأساة المصرية، فقد سقطت حميدة لضعفها المادي القاسي، وسقطت مصر أيضًا للسبب نفسه، حتى إن أحد زعماء العالم يصف مصر في ذلك الوقت — الحرب العالمية الثانية — بقوله: «إن مصر مستعدة أن تبيع وتبيع وتبيع، إنها تبيع أي شيء، وكل شيء، إنها منهارة، ولا قيمة لشيء فيها.» وكانت هذه هي حميدة.

والحق أنه من الصعب أن يكون الرمز هو زاوية الرؤية لتطلع حميدة إلى الخروج من حياة الزقاق بأية وسيلة، وبأي ثمن، واستجابتها لأول إشارة مادية يلوح بها فرج إبراهيم — ولا أدري أين يضعه النقاد في الرمز؟ — ثم خروجها من الزقاق إلى حياة أخرى، ترفِّه فيها عن قوات الاحتلال، ولتصبح الراقصة تيتي!

وبديهي — ما دمنا أخضعنا حميدة للرمز — أن يمتد ذلك الرمز، فيجسِّد عباس الحلو الشعب المصري الذي لم تقدر فتاته — بتأثير الضغوط الاقتصادية العنيفة — على انتظار عودته، ليقيلها من عثرتها، فأسلمت نفسها لمن يملك تحقيق الأمل. تقول لعباس الحلو: «هذه حياتي، هذه حياتي، هذه النهاية التي لا مهرب منها، نحن الآن غريبان، وكلانا ينكر صاحبه، لم يَعُد بوسعي الرجوع، ولن تستطيع — مهما قلت — أن تغير من الواقع شيئًا.»١٢٣

أما فرج إبراهيم، فإنه — في بعض الاجتهادات — تلك الأحزاب التي راحت تتاجر في قضية البلاد، حتى تضمن الوصول إلى كرسي الحكم، وربما لهذا المغزى — جعل الفنان «فرج داعية انتخابات!» حتى طوابير الشحاذين الذين كانوا يستسلمون ليدَي زيطة، وهي تصنع بأجسادهم العاهات، هم — بدرجة ما — تعبير عن المواطنين الذين أسلمهم اليأس إلى الرضا بكل شيء، إلى حد تعذيب أجسادهم وتشويهها.

ورغم ذلك، فلو أننا وضعنا كلمة «مصر» بدلًا من «الزقاق» في هذه العبارة: «إنه زقاق لا يعدل بين أهله، ولا يجزيهم على قدر حبهم له، وربما ابتسم لمن يتجهم له، وتجهم لمن يبتسم له.» لو أننا فعلنا ذلك، لكان المعنى أقرب إلى الدقة، وأعمق بالدلالة، ويبقى أن النظر إلى شخصيات روائية من زاوية الرمز، يظل — في كل الأحوال — اجتهادًا يخضع للصواب والخطأ.

•••

يقول حسين كرشة: «نحن تعساء، بلد تعس، وأناس تعساء، أليس من المحزن ألا نذوق شيئًا من السعادة إلا إذا تطاحن العالم كله في حرب دامية، فلا يرحمنا في هذه الدنيا إلا الشيطان.»١٢٤

وفي قصة «مصرع عباس الحلو» يحمِّل الفنان العالم كله مسئولية مصرع عباس الحلو، هذا المواطن المصري الذي كان يقيم في أحد أزقة القاهرة المعزية، وكان — مثل الملايين من البسطاء في كل أرجاء العالم — يحلم، ويحب، ويغامر أحيانًا، إن المأساة التي كان عباس الحلو بطلها وشهيدها، ليست إلا جزءًا من مأساة حضارية، مارة بمأساة اجتماعية.

وإذا كان التسول بعض الظواهر السلبية في المجتمع المصري، فإن الخاصية المصرية الأقوى، المقابلة لها، تتمثَّل في تلك الملايين من أبناء الشعب المصري الذين ربما فقدوا كل شيء، عدا الإحساس بالشرف، وأنهم قد يلجئُون إلى كل شيء إلا التسول، أو التصرف بأسلوبٍ ينتقص من إحساسهم بكرامتهم.

ذلك ما يشير إليه الراوي في «أرض النفاق»،١٢٥ وذلك أيضًا نبض تصرفات العديد من الشخصيات الروائية؛ إن زيطة هو الإفراز الطبيعي لمجتمعٍ طبقي، ينعم فيه القلة بكل شيء، وتعاني الكثرة انعدام كل شيء، كانت نفسه تنبض بحقدٍ جنوني غريب على كل البشر، وربما قطع وقت فراغه الطويل في تخيُّل صنوف التعذيب التي يتمناها للناس، واجدًا في ذلك لذة لا تعادلها لذة، وكان إذا باشر عمله، وأخذ في صنع العاهة لطالبها، اشتد عليه في قسوة مقصودة، مستخفيًا وراء سر المهنة، حتى إذا ندَّت التأوهات عن فريسته، لمعت عيناه المخيفتان بنورٍ ضوئي.١٢٦

•••

إن العالم الخارجي هو الذي اقتحم حياة الزقاق، وليس العكس، حدث ذلك الصدام ثلاث مرات، غيَّرت في حياة بعض أبنائه، الأولى عندما أغرت حياة الأورنس حسين كرشة، ومن بعده عباس الحلو، للسفر إلى القناة، والثانية عندما أتت مواكب الانتخابات لتشتري الذمم والضمائر، والثالثة عندما قدِم فرج إبراهيم القواد — بمفرده — ليحرِّض حميدة على بيع جسدها في المدينة الصاخبة.

ثم يفتح الحدث الأهم — الحرب العالمية الثانية — فاه، ليبتلع عباس الحلو بعد أن صرعه جنود قوات الاحتلال، وهو يدافع — كما توهم — عن حميدة!

واللافت أن أبناء الزقاق لم يمارسوا «العيب» في أية صورة، إلا عندما اقتحم العالم الخارجي حياتهم ممثلًا في فرج إبراهيم القواد الذي زيَّن الدعارة لحميدة، وحسين كرشة الذي انفصل عن الزقاق، ثم دفع عباس الحلو لمغادرة الزقاق، بحثًا عن المال في معسكرات الإنجليز.

وعلى الرغم من غلبة الحياة الخاصة على أهل الزقاق، بحيث يسهل حالًا التعرف إلى «الوافد» مثلما استطاعت زوج المعلم كرشة أن تتعرف إلى الصديق الجديد للمعلم، فإن فرج استطاع أن يتردد على الزقاق مرات متوالية، ويجلس في قهوة المعلم كرشة، فلا يثير انتباه أحد، اللهم إلا حميدة التي ما لبثت أن صحبته إلى العالم الخارجي.

دخل فرج إبراهيم الزقاق — للمرة الأولى — مع الجولة الانتخابية، بكل ما كانت تعنيه الانتخابات من فساد سياسي، فهو إذن تعبير عن تلازم الفساد الاجتماعي والفساد السياسي في الحياة المصرية، فضلًا عن أن الفنان جعل الأحداث والشخصيات في الزقاق — بدون إفصاح منه — والتعبير ليحيى حقي — تجسيدًا لما لحق مصر من فساد، وما أصاب وجه القاهرة من تشويه أثناء الحرب العالمية الثانية «حين ساقت إنجلترا إلينا قطعانًا من اللحم البشري، اقتطعته بسكين جزار من جميع ممتلكاتها ومستعمراتها، لتلقم به مدافع هتلر، فداء للفرق القليلة، المؤلَّفة من أبناء شعبها الممتاز الغالي عليها.»١٢٧

مع ذلك، فإن بطل «زقاق المدق» هو الزقاق نفسه، هذا المجتمع الذي يبدو منفصلًا عن المجتمع المصري، أو على هامش الحياة فيه، لكنه جزء من هذا المجتمع، يعاني قضاياه ومشكلاته وتطلعاته وطموحه ومآسيه، وهو ما يتبدَّى من خلال القادمين إلى الزقاق مثل فرج إبراهيم، أو المغادرين له نشدانًا لتحقيق طموحاتهم، مثل حسين كرشة وعباس الحلو، وحميدة نفسها.

وقد لخص السيد رضوان الحسيني ما حدث — في بواعث سفره لأداء فريضة الحج — في قوله: «ثم كان من أمر زقاقنا ما تعلمون، فشدَّ الشيطان على أعين رجلين وفتاة من جيراننا، أما الرجلان فقادهما إلى قبرٍ ينبشانه، وغادرهما في السجن، وأما الفتاة فاستدرجها إلى هاوية الشهوات، وغاص بها في حمأة الرذيلة.»

أضاف: «هناك زلزل قلبي زلزالًا شديدًا تصدَّعت له أضلعي، ولا أكتمكم يا سادة أن شعورًا بالذنب داخلني؛ لأن أحد الرجلين كان يقتات على الفتات، وقد نبش القبر لعلَّه يجد بين عظامه النخرة لقمة يستسيغها، كالكلب الضال يلتقط رزقه من أكوام الزبالة، فلشد ما ذكَّرني جوعه بجسمي المكتنز، ووجهي المتورد، حتى استحوذ عليَّ الخجل، وغلبني استعبار، وقلت لنفسي معنِّفًا متقززًا: ماذا فعلت — وقد أتاني الله خيرًا كثيرًا لدفع البلاء، أو التخفيف من وقعه؟ ألم أترك الشيطان يعبث بأهل جيرتي، وأنا ذاهل عنه بسروري وطمأنينتي؟ ألا يكون الإنسان الطيب — بتقاعده — عونًا للشيطان من حيث لا يدري؟ واستصرخني الضمير المعذب أن ألبي النداء القديم، وأشد الرحال إلى أرض التوبة مستغفرًا، حتى إذا شاء الله لي أن أعود، عدت بقلبٍ طاهر، وجعلت من قلبي ولساني ويدي أعوانًا للخير في مملكة الله الواسعة.»١٢٨
كان الزقاق بيئة ثابتة، حتى قدِمت الحرب بملابساتها وتأثيراتها ونتائجها، فتزاوجت البيئة الثابتة والبيئة الطارئة، وأدى ذلك التزاوج إلى حدوث انقلاب في حياة أهل الزقاق، بلغ ذروته في هروب حميدة، واحترافها الدعارة؛ فسقوط حميدة مردُّه تطلعاتها المادية، وسفر عباس الحلو إلى القناة مبعثه البحث عن الثراء لتوفير الحياة الكريمة لنفسه، ولمن يحب. الأمر نفسه — تقريبًا — بالنسبة لحسين كرشة، وكانت تهمة زيطة والدكتور بوشي أنهما يبيعان أطقم أسنان الموتى، واشترت سنية عفيفي — بنقودها المدَّخرة — زوجًا شابًّا يروي ظمأها الجنسي، وتناست أم حميدة حادثة فرار ابنتها، واتصلت بها، بأمل جني بعض الثمار، ولم يكن عم كامل كاذبًا حين شكا إلى عباس الحلو أنهم لن يجدوا بعد وفاته ما يدفنونه به. أما فرج إبراهيم فقد اقتحم الزقاق، واختطف حميدة — درَّته الغالية! — ببريق المال وحده، وثمة شاعر الربابة الذي أُبعِد عن قهوة المعلم كرشة، وحلَّ الراديو بدلًا منه،١٢٩ واستطاع صبي القهوة أن يشاهد السينما، وجاء مصرع الحلو — في النهاية — تعبيرًا عن النهاية التي تتهدد الطبقة الوسطى الصغيرة، حين تسعى إلى تحقيق طموحاتها بضربة واحدة.
لكننا نلحظ أن أبناء الزقاق لم يتعرضوا لتأثيرات الحرب بدرجة متساوية، بل إن بعضهم لم تتغير حياته — أو هكذا يبدو — بعد الحرب عما كانت عليه قبلها، مثل عم كامل، والست سنية عفيفي، وحسنية الفرَّانة، وزوجها جعدة الذي كان الضرب من غذائه اليومي، يتلقَّاه أحيانًا في تصبُّر وتجلُّد، ويتلقَّاه أحيانًا أخرى في بكاء وصراخ.١٣٠ كانت تحرص على ضربه بالشبشب دائمًا، وكان صراخه يعلو دون أن يملك لها دفعًا، ثم ما تلبث أن تحتويهما الأمسيات الدافئة، ولم يكن يملأ عينها رجل غيره، حتى زيطة الذي كان يتابع العلاقة الغريبة، ناله منها أذى كبير، حين تصور — لحظة — أن ضربها لجعدة يعني القبول بخيانته (أتصور حسنية وجعدة — بلا سبب! — النقيض المقابل لأمينة وأحمد عبد الجواد). لكن وسيلة رد الجميل من الست سنية عفيفي لأم حميدة، لقاء تزويجها من شاب صغير السن نسبيًّا، هي إعفاؤها من دفع إيجار الشقة، وتنازلت لها عن عددٍ من كوبونات الكيروسين، ونصيبها من الأقمشة الشعبية، غير صينية بسبوسة كلفت عم كامل بصنعها لها.١٣١

ألا نشم في ذلك رائحة الحرب؟!

«زقاق المدق» هي العمل الوحيد — بين أعمال نجيب محفوظ — الذي لا يلقي المثقفون ظلَّهم عليه، فغالبية أبطال الزقاق — كما أشرنا — هم من أبناء الطبقتين الوسطى الصغرى، والأدنى، اللهم إلا الحاج رضوان الحسيني، وسليم علوان، وإن كانا يمتَّان بأكثر من صلة إلى ذلك المجتمع الذي يحيا على هامش المجتمع المصري الأوسع.

ألم يسعَ سليم علوان للزواج من حميدة؟ وألم يدرك رضوان الحسيني مسئوليته في أنه ترك حميدة تفسد، وزيطة وبوشي يذهبان إلى السجن؟!

أما القول بأن الفنان لم يقدِّم في الزقاق «شخصية واحدة من شخصيات الطبقة العاملة على كثرتها»،١٣٢ فلعل السؤال الذي يطرح نفسه: أين يضع الكاتب حسين كرشة، ثم من بعده عباس الحلو، وكانا — لفترة طويلة — عاملَين في معسكرات الإنجليز بالتل الكبير؟!
ثم اطردت الحياة في الزقاق على وتيرتها الواحدة: اختفاء فتاة من فتياته، أو ابتلاع السجن لرجل من رجاله، ثم تنداح هذه الفقاعات في بحيرته الساكنة، فلا يكاد يأتي المساء، حتى يجر النسيان ذيوله على ما جاء به الصباح،١٣٣ يبكي الزقاق صباحًا إذا عرض له البكاء، ويقهقه ضاحكًا عند المساء، وفيما بين هذا وذاك، تصِر الأبواب والنوافذ وهي تُفتح، ثم تصِر كَرة أخرى وهي تُغلَق.١٣٤

•••

ثمة مَن ينفي الواقعية عن «زقاق المدق»، لأن الفنان — في تقديره — يقدِّم نماذج بشرية فريدة، قد لا يسهل العثور عليها في الواقع، مما يجعلها أقرب إلى الرومانسية في تقديم هذه النماذج النمطية، والمذهب الذي يُخضِع له الفنان عمله، ربما يبتعد كثيرًا عما يعنيه هذا الكتاب،١٣٥ وإن كان من المهم — في تقديري — بالنسبة لتلك الملاحظة بالذات، أن نتعرَّف إلى رأي الفنان في قوله عن الرواية إنها قد كُتبَت «في فترة كان يغلب على حياتنا فيها الشقاء، وما يشبه اليأس، فاستدعى الصدق إخراج هذه الصورة، ولكن من ناحية أخرى أعتقد أن كل شخص في الزقاق كان يحاول تحسين حياته على قدر طاقته، في حدود ظروفه البالغة السوء، وتخفيف النظر بلون وردي كان يُعتبَر نوعًا من التخدير والخيانة، وتثبيط الهمم؛ لأن المقصود من الرواية هو تحريك الضمائر، وتغيير الواقع.»١٣٦
نجيب محفوظ لا يكتفي — كما يقول عباس خضر — بخلق الشخصيات الشاذة،١٣٧ إنه ينتقي من شخصيات الزقاق — ذلك القطاع المحدود من المجتمع المصري — بحيث يهب القارئ صورة متميزة للمجتمع المصري في بعض فترات تاريخه، بأكثر من أن يهبه صورة متميزة لشخصياتٍ شاذة، أو فريدة في نوعها، وكما يقول أدوين مور، فإن هدف رواية الشخصية ليس مجرد رسم الشخصيات، وإنما هو تقديمها في ذلك التنوع الذي يوحي بصورة المجتمع.

إن رواية «طريق السردين المعلب» لشتاينبك — مثلًا — تُعَد — بإجماع النقاد — صورة رائعة للحياة في ذلك القطاع من ولاية كاليفورنيا، رغم أنها تتناول حياة مجموعة من الأفاقين والمتعطلين والعاهرات، لكن نجيب محفوظ يجاوز صورة الحياة في الزقاق إلى تأثُّر شخصياته بالحياة من حوله، حتى تلك التي تبعد عن الواقع اليومي للزقاق، ثم تأثير شخصيات الزقاق في الواقع اليومي للحياة المصرية جميعًا.

هوامش

(١) تبدأ أحداث الرواية في ١٩٤٥م، أي بعد خمس سنوات من بدء نشوب الحرب العالمية الثانية، يشي بذلك قول واحد من أهل الزقاق: إذا كنا نذوق أهوال الظلام والغارات منذ سنوات خمس، فهذا من شر أنفسنا (الرواية، ٦).
(٢) نجيب محفوظ، زقاق المدق، مكتبة مصر، ٥.
(٣) يحيى حقي، مدرسة المسرح، ١١٤.
(٤) زقاق المدق، ٥.
(٥) المصدر السابق، ٦.
(٦) التضامن، ١٨/ ١/ ١٩٨٦م.
(٧) زقاق المدق، ٨٦.
(٨) المصدر السابق، ٨٠.
(٩) المصدر السابق، ١٦٦.
(١٠) المصدر السابق، ١١.
(١١) المصدر السابق، ١١.
(١٢) المصدر السابق، ٢٦٨.
(١٣) زقاق المدق.
(١٤) زقاق المدق، ٩٤.
(١٥) المصدر السابق، ٩٢.
(١٦) المصدر السابق، ٤٣.
(١٧) المصدر السابق، ٤٦.
(١٨) المصدر السابق، ١٣٧.
(١٩) المصدر السابق، ١٣٨-١٣٩.
(٢٠) المصدر السابق، ١١٤.
(٢١) المصدر السابق، ١٤٢.
(٢٢) المصدر السابق، ١٤٥.
(٢٣) المصدر السابق، ٣١٧.
(٢٤) المصدر السابق، ٤٣.
(٢٥) المصدر السابق، ٣١٧.
(٢٦) المصدر السابق، ٩.
(٢٧) المصدر السابق، ٢٨٨.
(٢٨) مجيد طوبيا، كل الرجال كل النساء، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٢٩) زقاق المدق، الرواية.
(٣٠) المصدر السابق، ١٥٦.
(٣١) المصدر السابق، ١٥٥.
(٣٢) المصدر السابق، ١٦٢.
(٣٣) يوسف الشاروني، زيطة صانع العاهات، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٣٤) زقاق المدق، ٧٢.
(٣٥) المصدر السابق، ١٦٢.
(٣٦) يحيى حقي، الإصبعان المبتوران، تراب الميري، هيئة الكتاب.
(٣٧) زقاق المدق، ٧٤.
(٣٨) محمود تيمور، إحسان لله، مكتبة الآداب، ١٩٥٩م.
(٣٩) المصدر السابق.
(٤٠) إحسان لله.
(٤١) ولعلنا نجد في رواية «الرصيف» لمحمد جلال، تأثرًا واضحًا بزيطة زقاق المدق، وهو تأثر مستمد من البيئة والتجربة، وإن كانت القيمة الفنية — والمضمونية أيضًا — ﻟ «الرصيف» تكاد تنأى بها عن أن تكون عملًا روائيًّا على الإطلاق، فثمة لغة سردية مباشرة، وديالوجات تعاني التسطيح، وأحداث تخلو من الإقناع المنطقي، فضلًا عن الإقناع الفني، إلى حد أن الفنان يعقد محاكمات للشحاذين الذين يتمردون على الأدوار. يقف الشحاذ مكبلًا بالأغلال في يديه وقدميه، أمام محكمة لها مستشارون، وتصدر أحكامها بالجلد، ويهتف المجتمعون: يحيا العدل!
(٤٢) يحيى حقي، نهاية الشيخ مصطفى، الفراش الشاغر، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٤٣) يوسف السباعي، نابغة الميضة، يا أمة ضحكت، الكتاب الذهبي.
(٤٤) محمود السعدني، الذئب، بنت مدارس، الكتاب الذهبي.
(٤٥) يوسف إدريس، قصة حب، جمهورية فرحات، الكتاب الذهبي.
(٤٦) زقاق المدق، ١٩–٢١.
(٤٧) المصدر السابق، ١٩–٢١.
(٤٨) سهير القلماوي، من زينب إلى زقاق المدق، الهلال، مارس ١٩٧٠م.
(٤٩) زقاق المدق، ٤٥.
(٥٠) المصدر السابق، ٤٦.
(٥١) المصدر السابق، ١٣٢.
(٥٢) المصدر السابق، ١٠٦.
(٥٣) المصدر السابق، ٤٦.
(٥٤) المصدر السابق، ٤٢.
(٥٥) المصدر السابق، ٣٢٠.
(٥٦) المصدر السابق، ٣٨.
(٥٧) المصدر السابق، ١٠٧.
(٥٨) المصدر السابق، ٣٦٠-٣٦١.
(٥٩) يوسف الشاروني، مصرع عباس الحلو، العشاق الخمسة، الكتاب الذهبي.
(٦٠) المصدر السابق.
(٦١) الحركة العمالية في مصر، ١٧١.
(٦٢) زقاق المدق، ٤٢.
(٦٣) الهلال، العدد التذكاري عن نجيب محفوظ.
(٦٤) زقاق المدق، ١٠٨.
(٦٥) المصدر السابق، ٤٥.
(٦٦) المصدر السابق، ٥٠.
(٦٧) المصدر السابق، ٢٥٠.
(٦٨) المصدر السابق، ٥١.
(٦٩) المصدر السابق، ١٧٩.
(٧٠) المصدر السابق، ٢٠٠.
(٧١) المصدر السابق، ٢٥٠.
(٧٢) المصدر السابق، ٢٣٨.
(٧٣) المصدر السابق، ٢٤٩.
(٧٤) المصدر السابق، ٢٥١.
(٧٥) محمود البدوي، امرأة في الجانب الآخر، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٧٦) محمد سالم، ولد للسعادة، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٧٧) زقاق المدق، ٥١.
(٧٨) دراسات في الطبقات الاجتماعية، ٣.
(٧٩) زقاق المدق، ٢٠٨.
(٨٠) المصدر السابق، ١٩٩.
(٨١) المصدر السابق، ٢٥٢.
(٨٢) المصدر السابق، ٢٣٥.
(٨٣) المصدر السابق، ٢٣٦.
(٨٤) المصدر السابق، ٢٧١.
(٨٥) القاهرة الجديدة، ١٦٢.
(٨٦) محمد طلبة رزق، فتاة الغورية، مجلة الكتاب، ديسمبر ١٩٦٤م.
(٨٧) مدرسة المسرح، ١١٣.
(٨٨) زقاق المدق، ١٠٤.
(٨٩) المصدر السابق، ٣٦.
(٩٠) المصدر السابق، ٤٥.
(٩١) نتذكر سلوى حين تطلعت إلى الحارة التي تسكن فيها: بيوت قديمة، ومتداعية، وسكون موحش جاثم فوق الصدور، حتى الباعة الجائلين يضنون بأصواتهم على تلك الحارة المقفرة (سلوى في مهب الريح، ١١٢).
(٩٢) زقاق المدق، ٢٥٥.
(٩٣) المصدر السابق، ١٠٨.
(٩٤) المصدر السابق، ١٧٨-١٧٩.
(٩٥) المصدر السابق، ١٢٩.
(٩٦) المصدر السابق، ٣٣٩.
(٩٧) المصدر السابق، ٣٤٢.
(٩٨) من زينب إلى زقاق المدق.
(٩٩) زقاق المدق، ١٧٧.
(١٠٠) كمال مرسي، قصة إصرار، موت الأراجوز، هيئة الكتاب، ١٩٧١م.
(١٠١) بين القصرين، ٥٠٧.
(١٠٢) بيت خالتها، الأسطى جليلة العالمة.
(١٠٣) قصر الشوق، ٣٢٤.
(١٠٤) المصدر السابق، ١٠.
(١٠٥) المصدر السابق، ١١٣.
(١٠٦) المصدر السابق، ١١٩.
(١٠٧) المصدر السابق، ٣١٠.
(١٠٨) المصدر السابق، ٣١٦.
(١٠٩) المصدر السابق، ٣٢٥.
(١١٠) المصدر السابق، ٤٠٣.
(١١١) المصدر السابق، ٤٠٣.
(١١٢) محمد صدقي، ستة أشهر شرف، شرخ في جدار الخوف، دار الكاتب العربي.
(١١٣) المصدر السابق.
(١١٤) المصدر السابق.
(١١٥) عاشور عليش، في ظلال الخطيئة، مجلة القصة، ١٠ مارس ١٩٥٠م.
(١١٦) محمد عبد الحليم عبد الله، بعد الغروب، مكتبة مصر، ٦٤.
(١١٧) أزهار، الرواية.
(١١٨) الدكتور خالد، ٩٥.
(١١٩) محمد يسري أحمد، أكبادنا، مجلة القصة، ٢/ ١٢/ ١٩٤٩م.
(١٢٠) محمد عبد الحليم عبد الله، الجنة العذراء، مكتبة مصر، الرواية.
(١٢١) زقاق المدق، ٢٠٩.
(١٢٢) المصدر السابق، ٢٠٨.
(١٢٣) المصدر السابق، ٣٣٧.
(١٢٤) المصدر السابق، ٣١٣.
(١٢٥) يوسف السباعي، أرض النفاق، مكتبة الخانجي.
(١٢٦) زقاق المدق، ٧٢-٧٣.
(١٢٧) الإصبعان المبتوران.
(١٢٨) زقاق المدق، ٣٤٨-٣٤٩.
(١٢٩) تعتبر سهير القلماوي انهزام الشاعر — في بداية الرواية — إيذانًا بانهزام حميدة وعباس الحلو وحسين كرشة، وكل من خرج من الزقاق، يريد أن ينعم بالجديد الذي يجتذبه إلى الخارج (من زينب إلى زقاق المدق، الهلال، مارس ١٩٧٠م).
(١٣٠) زقاق المدق، ١٥٨.
(١٣١) المصدر السابق، ١٤٦.
(١٣٢) محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، في الثقافة المصرية، ١٥٦.
(١٣٣) زقاق المدق، ٣٦٢.
(١٣٤) المصدر السابق، ٣٦٥.
(١٣٥) عباس خضر، قصص أعجبتني، ١٩.
(١٣٦) روز اليوسف، ١٤/ ١٠/ ١٩٥٧م.
(١٣٧) قصص أعجبتني، ١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥