علاقات شاذة
كان أول ما لاحظته فايزة (الطريق المسدود) في زميلتها حسنية، أنها تعوَّدت أن تقبِّل
جميع زميلاتها في
خروجها ودخولها، ثم حاولت اجتذابها بأقوال وتصرفات، كأن تطري جمالها، أو تمد يدها لتلمس
صدرها «شوفوا زي
حبة الرمان»،
١ وتحرص أن تجلسها إلى جوارها، وتضغط بشفتيها قليلًا وهي تقبِّل وجنتيها، ثم سعت لأن تنتقل
إلى
غرفتها «ثم مدَّت يدها إلى فتحة قميص النوم الذي ترتديه فايزة، وقالت وقد عادت الحشرجة
الغريبة إلى صوتها،
وهي تحاول أن تضغط بأصابعها على الصدر العزيز الغالي: القميص ده حلو قوي يا فايزة … جايباه
منين؟
– والله ما أنا عارفة … نينة اشترتهولي وبعتته من مصر.
– أنتِ باين كابس عليكِ النوم، إيه رأيك ما تيجي ننام مع بعض علشان نكمل حديثنا …
إلخ.»
٢
وذات يوم، أشار رفعت (الحصاد) إلى ممثلة ذائعة الصيت، وسأل بثينة: هل رأيت الخدوش
التي في وجهها؟
– نعم، لمحتها.
– هل عرفتِ سببها؟
– لا … قل.
– نشبت بينها وبين المطربة الكبيرة مشاجرة، استُعملت فيها الأظافر وخمش الوجوه وتقطيع
الشعور.
– وما سبب هذه المشاجرة؟
– تنافسهما على فتاة من الجامعة!
٣
وروى رفعت لبثينة قصة السيدة الثرية التي هجرت زوجها، وطلبت منه أن يطلقها، لتعيش
مع الست «إنها
تفضِّلها على زوجها، وهي معها الآن تسعد بشهر العسل.»
٤
•••
كان البك (بيت الكرم) يستضيف في بيته شابًّا، يصفه الفنان بأنه «في مقتبل العمر،
جميل الصورة، أهيف
القد، إذا مشى تثنى كما يتثنى الغصن، وقد لعب به النسيم، وكان البك يميل لمحادثته على
انفراد لعذوبة
ألفاظه، ورقة حديثه، فكان لا يصبر على فراقه دقيقة واحدة، ولهذا أسكنه البك في غرفة من
السلاملك، حتى
إذا احتاج لرؤيته لا يلبث أن يراه.»
٥
وكان خدم عبد الرحيم باشا عيسى (السكرية) بارعي القسمات، ممشوقي القوام، موردي الخدود،
بما يشي
بنوعية الرجال الذين يفضِّل أن يعملوا عنده!
٦ حتى البواب وسائق السيارة، يبدو أنه لم يخترهما إلا لعلة،
٧ ويقول حلمي عزت (السكرية) عن عبد الرحيم باشا: «… دعاني، وسألني بخفته — على فكرة هو
خفيف
جدًّا — مَن المليح الذي كان يحدِّثك؟ فأجبته إنه زميل في الحقوق، وصديق قديم، واسمه
كذا … إلخ، فسألني
باهتمام: ومتى تقدِّمه إليَّ؟ فسألته بدوري متجاهلًا غرضه: ولمه يا باشا؟ فانفجر قائلًا
كالغاضب — هكذا
تبلغ به خفة الروح أحيانًا — لأعطيه درسًا في الديانة يا ابن الكلب، فضحكت بدوري حتى
كتم فمي
بيده.»
٨
ويتساءل رضوان: سمعت عنه — الباشا — كثيرًا، أو كما يقال.
يقول حلمي عيسى: وأكثر!
– لكنه عجوز.
يقول حلمي عزت: هذا في المرتبة الأخيرة من الأهمية، إنه رجل كبير المقام، ظريف، ذو
نفوذ، ولعل شيخوخته أجل
فائدة من الشباب.
٩
ثم التقى رضوان بالباشا للمرة الأولى، ولاحظ أن حلمي عزت مد يده، فتناولها الباشا
واستبقاها في
يده، ثم مد بوزه وانتظر، فعرض له حلمي خده، فقبَّله، ثم نظر الباشا ناحية رضوان قائلًا:
لا تؤاخذني يا
بني، فهذه هي طريقة السلام عندي!
١٠
وكان رضوان وحلمي عزت قد ألِفا العناق — في بداية كل لقاء — ثم تبادل قبلة.
١١
أما واعظ جامع الحسين (قصر الشوق) فقد كان — كما تحدَّث عنه، مرة، أحد رواد قهوة
أحمد عبده — «يؤمن
بشيئين: بالله في السماء، وبالغلمان في الأرض، إنه من طراز حساس، ترف عينه وهو في الحسين
إذا تأوَّه غلام
في القلعة.»
١٢
وقد بدأ بياظة — أحد أفراد تخت الأسطى نعيمة حياته صبيًّا عند صانع أحذية، وكان أسمر
البشرة،
رقيقًا، دقيق التقاطيع، له صوت خفيض فيه حياء، ثم ما لبث أن غيَّر اسمه — فجأة — إلى
بياظة، وخلع — بلا
تمهيد — ثوب العمل، وارتدى — بدلًا منه — ثوبًا حريريًّا لا يصل إلى الركبتين، وغطى وجهه
بالمساحيق،
وأصبح جنسًا ثالثًا، هو رجل بالاسم والصفة، لكنه امرأة بالشكل، وبالثياب، وبحركاته الأنثوية
المثيرة التي
كفلت له حق العمل مع فِرق العوالم في العشرينيات من القرن العشرين. وثمة حامد النجدي
(السكرية) الذي
انتهى به الأمر إلى الطواف ليلًا بالمراحيض العمومية.
١٣ وقد تحوَّل مليم (مليم الأكبر) إلى زوج لكل أفراد جماعة القلعة، ينظر أحدهم إليه بإعجاب،
ويقول: «إن مليم أصبح زوجنا جميعًا!»
١٤
وشاهد محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) — ذات يوم، في حفل خيري — شابًّا جميلًا
كالفتيات، فسأل
أحمد بدير: لله ما أجمله! ألا تعرفه؟
قال أحمد بدير: أحمد مدحت، أشهر من نار على علم، يدعونه — بحق — كوكب الشرق.
– موظف؟!
– ببنك مصر، متخرج في الحقوق منذ عام، مرتب ثلاثون جنيهًا.
– ثلاثون جنيهًا؟ ومن كان شفيعه؟
– هو شفيع نفسه يا أحمق!
١٥
وكانت الموهبة الجسدية هي سبيل شرارة النحال — عامل التليفونات — (المرايا) للترقي
في السلك
الوظيفي حتى يصل إلى درجة وكيل وزارة، لكنه — في الحقيقة — لم يكتف بموهبته وحدها، فقد
واصل التعلُّم حتى
حصل على الكفاءة، فالبكالوريا، فليسانس الحقوق، وهو لم يقنع بالعلاقة الخاصة بينه وبين
رئيسه أيًّا يكن،
فقد حاول أن يحتاط للمستقبل بمصادقة زعامات الأحزاب المختلفة، وحتى عندما واجهته أزمات،
نجح في اجتيازها
بحذقٍ بالغ، ثم استطاع أن يجعل للسراي وحدها ولاءه الحقيقي، حتى لا يفكر حزب في التنكيل
به.
وعمومًا، فقد استطاع أن يستغل كل مواهبه في الحفاظ على توازنه، وسط لعبة الحياة السياسية،
حتى وصل
إلى مرفأ الشيخوخة في سلام.
١٦
وفي «نفوس مضطربة»، يطالعنا ذلك الكهل الذي جاوز الخمسين، لكنه لا يزال يتسكع في
«الصاغة»، وفي يديه
أساور من ذهب، وفي أذنيه أقراط من ذهب، ويمضغ اللبان، ويقلد النساء، ويتقصع، ويتخنث،
ويرتدي ثوبًا من
الحرير الخفيف يكشف عن قميص حريري آخر للنوم.
١٧ وكان ذلك الكهل تأكيدًا على رفض المجتمع المصري للشذوذ — انطلاقًا من موقف أخلاقي بحت
— فقد
أدى شذوذه إلى رفض إحدى الأسر تزويج ابنتها إلى ابن شقيقته، برغم أصله الطيب، وأخلاقه
الحسنة، جلب له
خاله العار!
•••
نحن لا نجد شخصية سوية تمامًا، متكاملة تمامًا، في أعمال نجيب محفوظ، اللهم إلا شخصية
الحاج رضوان
الحسيني الضبابية في «زقاق المدق»، حتى إمام المسجد (قصر الشوق) لم يخرج عن إطار تلك
الشخصيات المتنافرة.
لكن غلبة الشر على الخير، والنقص على الكمال، بصورة حاسمة، يثير السؤال: ولماذا لا
يتغلب الخير
على الشر، والكمال على النقص — أحيانًا — بصورة حاسمة؟
لعل المعلم كرشة (زقاق المدق) هو أشد الشخصيات الروائية تعبيرًا عن الشذوذ، فنحن
لا نعلم قليلًا
ولا كثيرًا عن إمام الحسين، ونفتقد البواعث التي أدت إلى «حالة» عبد الرحيم باشا عيسى،
أما المعلم كرشة
فقد كان الشذوذ مبدأه ومنتهاه، عاش عمره في أحضانه، حتى تصور أنه الحياة الطبيعية،
١٨ ولم يكن يجد فيه ما يعيب، أغضبته نصيحة السيد رضوان الحسيني بأن يختار حياة ثانية، وواجه
—
بالعنف — كل محاولات زوجه لإثنائه عن شهواته غير الطبيعية، وكان يدعو «المختار» إلى مقهاه
دون أن يجد في
ذلك حرجًا، بل إنه كان يروي مغامراته لخاصته في غير خجل، فضلًا عن أنه لم يكن يشعر بالندم،
ولا كان
ينتظر التوبة. وكانت موافقته على عودة ابنه حسين إلى بيته، مبعثها — في الدرجة الأولى
— وسامة شقيق
الزوجة، وتصوَّر الرجل أنه — بموافقته — سيجني أيامًا طيبة، قادمة!
وقد شهد الزقاق معركة حامية، أو علقة حامية نالها الشاب الوسيم من أم حسين، حين لاحظت
تردده
الدائم على قهوة زوجها، وحدَّثها قلبها بأنه نزوة المعلم كرشة الجديدة، وقال الشاب في
خوف: من أنتِ يا ستي؟ ماذا فعلت حتى …
– من أنا؟ ألم تعرفني؟ أنا ضرتك.
وانهالت عليه ضربًا حتى أدمته تمامًا، ثم قبضت على ربطة عنقه، وجذبتها بعنف حتى اختنق
صوته،
وتمازجت مشاعر الجلوس بين الدهشة والانبساط، لكن المعلم كرشة أهاجه رؤية فتاه يتضور متلويًا،
فانقض
يحاول أن يخلص عنق الفتى من قبضة المرأة: «اتركيه يا امرأة، وكفى فضيحة.»
١٩
كان انغماس المعلم كرشة في الفساد إلى أذنيه، نتيجة مباشرة للفساد الذي لحق بالحياة
السياسية،
والتي شارك فيها — لفترة طويلة — بدورٍ بارز «لم يتبقَّ في روحه من الثورة القديمة إلا
ذكرى غامضة، ربما كر
إليها الخيال، فأشاد بها متباهيًا في بعض ساعات الصفاء حول المجمرة، ولكنه نبذ في قلبه
جميع قِيَم الحياة
الشريفة، ولم يعُد يعبأ بشيء بعد ذلك إلا الكيف والهوى، وما عدا ذلك اردِم على حد قوله.»
٢٠
وكان في مقدمة العوامل التي دفعت بالسخط إلى نفس حسين كرشة ضد زقاق المدق، لمزات
أهل الزقاق
وغمزاتهم لأفعال أبيه «يقولون هربت أخته مع واحد، وسيهرب أبوه مع واحد آخر.»
٢١
وحين يواجه السيد رضوان الحسيني المعلم كرشة بمأساة شذوذه، وينصحه بالإقلاع عما هو
فيه: إني أدعوك
لما فيه صلاحك وصلاح بيتك، ولست يائسًا من جذبك للخير، أهجر هذا الشاب، إنه رجس من عمل
الشيطان.
يقول المعلم في لهجة معتذرة: هذا أمر الله.
– بل أمر الشيطان! حرام عليك يا شيخ!
– لما يأمر الله بالهدى!
– لا تُطِع الشيطان يهدك الله لما فيه صلاحك، اهجر هذا الشاب، أو دعني أصرفه بسلام.
– كلا يا سي السيد، لا تفعل.
– أرأيت كيف تؤثر الغواية على الهداية؟
– ربنا الهادي.
ويسأله السيد رضوان الحسيني: ألا يخجلك هذا الحرص على هذا الفعل الشائن؟
يقول المعلم في ضيق: إن الإنسان ليقارف أفعالًا كثيرة شائنة، وهذا واحد منها، فادع
لي بالهداية،
ولا تغضب عليَّ، وتقبَّل عذري وأسفي، ماذا يملك الإنسان من أمر نفسه؟
٢٢
والحق أن الشذوذ الجنسي لم يكن هدفًا في ذاته؛ يقول الفنان: «كنت أستغل الشذوذ الجنسي
في ذلك
الحين كعلامة من علامات الفساد السياسي في العهد البائد، في السياسة — مثلًا — كانت بعض
مواد النجاح، أو
أهمها، للشباب الناشئ، هي القرابة، الانتهازية، الرشوة، ثم انتهازية الجمال، سواء كان
في الذكر أو
الأنثى؛ لهذا كان الشذوذ يصاحب الانحلال خطوة خطوة، وكانت مهمتي هي الإحاطة الشاملة بهذا
الانحلال
وتسجيله.»
٢٣
ويقدم لنا الفنان في قصة «حامد وحسين» نموذجًا مقابلًا للمتاجرة بالجسد في أعوام
الحرب، إنه حسين
الذي «اقتناه» ضابط إنجليزي في بيته، لا يعمل شيئًا، يأكل كثيرًا، وينام كثيرًا، ويغدق
عليه الضابط
كثيرًا كلما أدى مهمته في الليل على خير وجه، وكان حسين فخورًا بمسلكه، فالعلاقة لا تشينه
— حسب رأيه —
بحال، وإن كانت تشين الضابط الإنجليزي. ثم لقي حسين مصير الغانيات، ترك البيت إلى الشارع،
بعد أن حل
الضعف الشديد بكيانه، وأنشب السل أظافره فيه.
٢٤
هوامش