خان الخليلي

لعل «خان الخليلي» هي أول رواية مصرية تعرض لمشكلة الأخ الأكبر في الأسرة المصرية (راجع فصل: الرجل في الأسرة، مصر في قصص كُتابها المعاصرين، ج١، ولعله تجدر الإشارة إلى أن الفنان كان قد اختار للرواية اسم «الحب والموت»، ثم انتصر المكان). إنه يضحي بإتمام تعليمه، ويظل طيلة حياته راسفًا في قيود الوظيفة الحكومية، بل ويضحي بحبه أيضًا — كما فعل أحمد عاكف — من أجل شقيقه الأصغر، لكن تلك المشكلة بدت في مرتبة ثانوية أمام مشكلة أخرى، ذات تأثير أعم وأخطر، وهي طغيان الأزمة الاقتصادية على الأسر المتوسطة أيام الحرب العالمية الثانية.

اللافت أن نتائج الحرب هي الصدى الواضح في «خان الخليلي» وغيرها من أعمال نجيب محفوظ، التي تبدأ بهذه الرواية وتنتهي ﺑ «الثلاثية»، «القاهرة الجديدة» و«بداية ونهاية». و«الثلاثية»، تجري أحداثها في زمن كان الاستعمار يجثم على البلاد، ويفرض عليها حالة حرب شبه دائمة، و«زقاق المدق» تعكس النتائج المباشرة للحرب العالمية الثانية وهي تمضي إلى نهايتها.

وإذا كانت «زقاق المدق» تأثرًا مباشرًا بأحداث الحرب العالمية الثانية، فلعل هذا التأثر يقل إلى حد التلاشي في مواضع كثيرة من رواية نجيب محفوظ «خان الخليلي».

المساحة الزمانية للرواية تبدأ بعد قيام الحرب (تبدأ في سبتمبر ١٩٤١م، وتنتهي في أواخر أغسطس ١٩٤٢م). وكانت الغارات سببًا في فرار أسرة أحمد أفندي عاكف من السكاكيني إلى الحسين.١ كان ذلك رأي غالبية شخصيات «خان الخليلي»، بدءًا بالوالد عاكف أفندي، حتى رواد مخبأ الحسين، ثمة غارات وقيود إضاءة وارتفاع أسعار، وبعض الملامح التي تشي بالحرب، مثل الفرار إلى المخابئ وقت الغارات الجوية، وأحاديث رفاق المقهى تعليقًا على تطورات الأحداث.٢

مع ذلك، فإن تأثيرات الحرب تظل غائبة عن المجرى الرئيس لأحداث الرواية. إن الأخ الأكبر الذي يتنازل عن حبه — باختياره — إلى الأخ الأصغر — لا ينتظر الحرب حتى يبذل تضحيته، بينما بقية الشخصيات — مثل المعلم نونو والأستاذ أحمد راشد … إلخ — قد يعمقون من صورة الرواية، وإن كان تأثرهم بالحرب لا يعدو تعليقات سريعة — أو مطولة — يتبادلونها في القهوة حول تطورات الأحداث.

أما «زقاق المدق»، فقد كان تأثير الحرب واضحًا على غالبية شخصياتها، ولامس هذا التأثير الزقاق جميعًا بصورة، أو أخرى.

•••

الأب أحيل إلى المعاش — وهو يشارف الأربعين — لإضاعته عهدة مصلحية بإهماله، وتطاوله على المحققين الإداريين، فأُجبر أحمد عاكف على قطع حياته الدراسية، والالتحاق بوظيفة صغيرة لينفق على أسرته، ويربي أخويه الصغيرين اللذين مات أحدهما، وصار الثاني موظفًا ببنك مصر.٣

أحمد عاكف في انصرافه إلى تأليف كتابه الأدبي الوهمي، يذكِّرنا بالأستاذ أحمد خيري في مسرحية عادل كامل «ويك عنتر»، ذلك الذي كان يقضي يومه في قراءات وهمية لتأليف كتاب عن «الأصول القديمة للموسيقى الشرقية الحديثة».

وعلى الرغم من أن أحمد عاكف قد ضحى — باقتناع — بمستقبله حين انقطع عن مواصلة التعليم، ليستكمل رشدي — الشقيق الأصغر — تعليمه الجامعي، ثم ضحى بعواطفه حين ترك فتاة قلبه نوال وشقيقه ينسجان قصة حب على أنقاض حبه الكهل، بل لقد التمس العذر لأخيه في العلاقة المفاجئة التي اكتشف أنه أقامها مع حبيبته هو: نوال «إنه بريء من دمه، ولعل أنه رآها فراقته، فغازلها كعادته، فاستمالها، فهوته، بنظرة وإشارة، نسيته — وهل خطره أكبر من ذلك؟ — نسيت الكهل الأصلع الفاني، فلا يلومن إلا نفسه.»٤
أقول: على الرغم من تضحية أحمد عاكف التي ارتكزت إلى اقتناع حقيقي بدوره حيال أسرته، وحيال شقيقه بالذات، فإنه لم يمنع نفسه من السؤال: «لماذا يحُول رشدي دائمًا بينه وبين سعادته، وما أحب إنسانًا مثله، فهو الذي أجبره قبل عشرين عامًا على التضحية بمستقبله ليقف حياته على تربيته، وها هو الآن يجني ثمرة سعادته ويدوس أمله المنشود بقدم غليظة.»٥ وكان أحمد عاكف يتأسف — أحيانًا — على قدوم أخيه من أسيوط، فلو لم يغادرها لكان هو في عداد الخاطبين.٦
أحمد عاكف هو عبد الرحمن أفندي (حياة للغير)، ذلك الموظف المنسي الذي اضطر للعمل ليعول أسرته، وحين فكر في خطبة ابنة الجيران — فتاة في السادسة عشرة — اكتشف أن الفتاة على علاقة عاطفية بأخيه الأصغر الدكتور أنور، ويتنحى عبد الرحمن لشقيقه الأصغر، ويكتم هواه في نفسه.٧
ولعلنا نجد امتدادًا للحكاية نفسها في تضحية حسين كامل علي (بداية ونهاية) بحبه لبهية إلى شقيقه حسنين، بعد أن فاجأه بطلب خطبتها، وفي تنازل أحمد عبد الجواد (قصر الشوق) عن حبه لزنوبة، بعد أن عرف باعتزام ياسين الزواج منها، ورشدي عاكف الذي يخطب محبوبة شقيقه الأكبر لنفسه، هو — في المقابل — حسنين كامل علي الذي يخطب بهية لنفسه، فيضطر شقيقه حسين لأن يكتم حبه لها في قلبه، وهو أيضًا ياسين الذي يتزوج مريم بنت الجيران التي أحبها أخوه فهمي، وحال بينه وبين التقدم لخطبتها إرادة والده الطاغية، وهو — ياسين — الذي يضطر الأب لإنهاء علاقته بزنوبة، بعد أن أقدَم الشاب على الزواج منها، ونتذكر قول كرستيدل النجار العجوز في قصة تشيخوف «في المنحدر»: «إن الذي يكدح ويتعذب، إنما هو الأكبر سنًّا.»٨ نوال — كما يصفها الفنان نفسه: «فتاة بسيطة تافهة، لا تعقيد فيها ولا امتياز، من النوع الذي يقال فيه «كبرت وعايزة العريس»، منها في مصر ملايين وملايين، نظرت لأحمد راشد، وتحوَّلت لأحمد عاكف، ثم آثرت رشدي لا لشيء إلا لأنها عاوزة عريس، والأصدق أن تقولوا إنها تحب الرجل كجنسٍ لا كفرد.»٩
وإذا كان الفنان يؤكد أن «القلب الوحيد الذي أحب في «خان الخليلي» هو قلب أحمد عاكف.»١٠ فلعل أحمد عاكف كان سيصبح قوة مدمرة لو أنه امتلك جسارة محجوب عبد الدايم، سخطه على واقعه المؤلم، الذي وأد فيه بيده كل تطلعاته وأمانيه، تحوَّل شيئًا فشيئًا إلى ما يشبه الحقد على كل إنسان، وكل شيء، حتى إنه يكتب مؤلفاته المرتقبة، فما الداعي لمثل هذا الجهد «هل يستأهل هذا الشعب التأليف بمعناه الحق؟ هل يمكن أن يهضمه؟ ألا إنهم رعاع يقرءون رعاعًا.»١١
وقد أقلع أحمد عاكف عن فكرة الاختراع؛ لأن البلد — في تقديره — خالٍ من المصانع والمعامل، وهي ميادين التجارب، ومهبط الوحي والإبداع.١٢ وكان رأيه أن المرء إذا أراد التفوق في المجتمع المصري، فعليه بالقحة والكذب والرياء «ولا تنسَ نصيبك من الغباء والجهل.»١٣ بل إن أحمد عاكف — رغم طيبته — لم يخلُ من أفكار شريرة، فهو قد تمنى — ذات يوم — غارة جنونية تقذف القاهرة بالحمم، فتدك مبانيها وتهلك بنيها، فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيَّان لا غير، هو ومحبوبته، لشعوره الطاغي بالاضطهاد والقهر والعذاب،١٤ وهو ما يذكِّرنا — مع اختلاف واضح — بوقفة محجوب عبد الدايم (القاهرة الجديدة) الرافضة، الساخطة، المتمردة، متهددًا القاهرة بأن يقذف فوقها حجارة الجبل، ليدمرها.

•••

كان الضياع هو الأرضية التي وقف عليها أبناء «خان الخليلي»، وهو يأخذ أشكالًا متباينة بين الجنس والمخدرات واللامبالاة «ملعون أبو الدنيا.»

يذكِّرنا هذا القول للمعلم نونو بقول محجوب عبد الدايم «طظ»، وإن دفع اليأس محجوب عبد الدايم إلى السير في درب الوصولية دون تدبر للمحرمات الدينية والاجتماعية، بينما دفع اليأس المعلم نونو إلى محاولة تجاهل الواقع بالانغماس فيه. والمعلم نونو — تحديدًا — هو التعبير عن الضياع الذي استسلمت إليه الطبقات الدنيا من المجتمع المصري، فقد كتب على لافتة حياته ذلك الشعار اللامبالي، وتزوج أربعًا، وأنجب أحد عشر، وترك الغد لما يأتي به الغد، وأصر أن يحيا حياته بالطول والعرض، شخصية تبدو — للوهلة الأولى — لا مبالية تمامًا، لكنها — بإعادة النظر — تعبِّر عن اليأس المطلق الذي تسلمه إليه ضغوط قاهرة، مثل المريض الذي يقبل على الحياة لاستحالة شفائه.

أما أحمد راشد، فهو التعبير عن الطبقة الجديدة من المثقفين التي تؤمن بالاشتراكية العلمية، إنه امتداد لشخصية علي طه التي تجد صورتها المؤكدة في أحمد شوكت، وإرهاصاتها في كمال عبد الجواد، منذ بدأ يقرأ الفلسفة، ويناقش نظرية داروين. يقول: «نحن شعب من الشحاذين، وحفنة من أصحاب الملايين، فليس يتاح للشعب غير العمل الوضيع، أو امتهان الشحاذة، والعمل الوضيع لا يغني عن الشحاذة.»١٥
وكان أحمد راشد من المتعاطفين مع الطبقة العاملة، يؤمن برأي كارل ماركس أن العمال سيظفرون بالنصر النهائي، «فيصير العالم طبقة واحدة مستمتعة بالضرورات الحيوية والكمالات الإنسانية، وهذه هي الاشتراكية.»١٦ تحدث مكرم عبيد وزير مالية الوفد في الأربعينيات، عن «الاشتراكية البغيضة»، وأنها يجب ألا تمر بخاطره (المكرميات، ٥)، لكن أحمد راشد لم يسهم في تصعيد الأحداث، بل ولم يكن له في ذلك أي دور، اللهم إلا آراؤه «الخطيرة» التي اكتفى بترديدها وهو جالس في أحد أركان القهوة، كقوله إنه يعتبر فرويد وكارل ماركس من رسل العصر الحاضر.١٧

وعندما يسأله أحمد عاكف عن المخرج من الأزمة: وديننا؟

يرفع الشاب حاجبيه دهشة، ويتمتم: يا للسذاجة!١٨

لقد وجد أحمد راشد في أحمد عاكف مجالًا طيبًا لاستعراض ثقافته، فلم يكن عاكف على حظ حقيقي من الثقافة، إنما هي قراءات في الكتب الصفراء، ينقصها المنهج والوعي. ومع ذلك فإن أحمد راشد هو الفكر الجديد الذي هز الأفكار القديمة التي اعتنقها أحمد عاكف، وهو الذي بدَّل تلك الأفكار تمامًا. بدا الرجل — حتى لنفسه — جاهلًا، لا يعرف إلا القشور التي وهبتها له الكتب الصفراء «يا لها من آراء! فرويد وماركس، الذرات وملايين العوالم، الاشتراكية!»

واختلس منه نظرات ملتهبة بالحقد والكراهية والحنق، فما كان يظن قَطُّ أنه سيعثر في خان الخليلي على من يتحدى ثقافته، ويجبره على التسليم بأن فوق كل ذي علم عليمًا.١٩
والملاحَظ أن علاقة أحمد عاكف ظلت على توثقها بالمعلم نونو، بينما ظلت صداقته بأحمد راشد أشبه بالمعرفة العابرة، ذلك لأنه كان يحس بتفوقه الثقافي على المعلم نونو، فضلًا عن تفوقه الاجتماعي، أحمد عاكف يحدد انتماءه الطبقي عندما يسأله شقيقه رشدي عن جيران خان الخليلي، يقول ببساطة: «غالبيتهم من أهل البلد، ولكن كثيرين من سكان العمارات الجديدة من طبقتنا.»٢٠

وعلى الرغم من الشائعات بأن الغارات الألمانية استهدفت حي السكاكيني لأن به يهودًا كثيرين، فقد انتهت الحرب دون أن تُسقِط على الحي قنبلة واحدة!

هوامش

(١) لعله من المهم أن نشير إلى أن انتقال أسرة أحمد عاكف من السكاكيني إلى الحسين، هو تعبير عن انتقال حقيقي — مؤقت — لأسرة الفنان من العباسية إلى حي الأزهر، بعد غارة عنيفة على العباسية، باعتبار أن طائرات هتلر لن تقترب من الأزهر (الهلال، عدد نجيب محفوظ).
(٢) الهلال، العدد التذكاري عن نجيب محفوظ.
(٣) نجيب محفوظ، خان الخليل، مكتبة مصر، ١٥٤.
(٤) المصدر السابق، ١٥٤.
(٥) المصدر السابق، ١٥٥.
(٦) المصدر السابق، ١٦٤.
(٧) نجيب محفوظ، حياة للغير، همس الجنون، مكتبة مصر.
(٨) الأدب والحياة، ١٣٤.
(٩) أكتوبر، ١١/ ١٢/ ١٩٨٨م.
(١٠) المرجع السابق.
(١١) خان الخليلي، ١٢٧.
(١٢) المصدر السابق، ١٧.
(١٣) المصدر السابق، ١٩.
(١٤) المصدر السابق، ١٠٢.
(١٥) المصدر السابق، ٨٩.
(١٦) المصدر السابق، ٦٤.
(١٧) المصدر السابق، ٦١.
(١٨) المصدر السابق، ٦٢.
(١٩) المصدر السابق، ٦٢-٦٣.
(٢٠) المصدر السابق، ١٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥