أحزان مدينة

لعل القيمة لرواية «أحزان مدينة»١ أنها تعرض لنا إرهاصة المجتمع الجديد، في حياة الإنسان المصري، فالإسماعيلية هي الأرضية التي تجري عليها أحداث الرواية.

الرواية تبدأ والشارع الذي يقطنه الراوي، لا يعدو شريطًا عريضًا من الرمال الصفراء، يلتئم في جانب منه مع الصحراء، ويمتد في الجانب الآخر بعيدًا وسط المدن، وكانت شوارع الحي كلها غير مرصوفة، وكانت المدينة نفسها محصورة — في البداية — بين خُطى السكة الحديد وترعة الإسماعيلية في مستطيل ضيق: الحي العربي في الغرب، والحي الإفرنجي في الشرق، وبطبيعة الحال، فقد كان شرق المدينة يمتاز بالموقع الأفضل.

لهذا، فقد تحددت أمنيات سكان الحي العربي بأنه «عندما تكتمل مباني هذا الحي، ويُرصَف، وتُزرع متنزهاته، فسيتساوى مع الحي الإفرنجي، إن لم يتفوق عليه.»٢

ولأن المدينة حديثة نسبيًّا، فقد كان أهلها — في الأصل — خليطًا من أبناء المدن الأخرى. وكعادة المصريين ذاب الجميع، سكان الشارع الذي يقطنه الراوي في الأقل، في بوتقة الجيرة، كأنهم أفراد أسرة واحدة، وأصبح الرجال بالنسبة للأطفال أعمامًا، والنساء خالات، والأبناء — بالطبع — أبناء عمومة وخُئولة. وحين انهار بيت العم أمين، ومات رضيعه تحت الأنقاض، دس رجال الشارع كلٌّ يده في جيبه بمبلغ من المال، إسهامًا في إعادة بناء البيت.

ثم بدأ رصف الشوارع في الحي العربي، وتباينت تعليقات سكان الحي، فالأطفال يخشون السيارات التي لن تتوقف عن المرور في الشارع إذا ما رُصِف، مما سيؤدي إلى حرمانهم من متعة اللعب بحرية، وقالت إحدى الأمهات: ليتهم يعجلون، حتى يركب أبوك دراجته، ويريح نفسه من جرِّها.

وتم رصف الشارع فعلًا، ليبدل كثيرًا من مظاهر الحياة فيه، كسب الأطفال ملعبًا للكرة، وأصبح الرجال يركبون دراجاتهم من أمام البيوت بدلًا من جرِّها حتى السكة الحديد، وظهرت دراجات غريبة، وتزايد عدد الباعة الجائلين، ورفع العم أمين إيجار الشقة الخالية خمسين قرشًا، وظهرت السيارات وعربات الحنطور في الشارع، حتى سيارات الإنجليز أصبحت تمر في الشارع، والأطفال يرددون من بعيد: يا عزيز يا عزيز … داهية تاخد الإنجليز.٣

لكن الرجال في الشارع لم يكونوا يعنون بالسياسة، فأمور الحكم لا تهم سوى الحاكم، والوزارات تذهب، والله باقٍ، وكل شيء بأمره، ولقمة العيش وحدها هي التي تحتاج إلى جهد الرجال، أما النساء فقد بلغن مرحلة الملل من الأحاديث المعادة، والقصص المتكررة، والذكريات المتشابهة.

ثم احتفى الجميع بقدوم ساكنين جديدين: عروس وعروسة، فرض حديث العروسين نفسه على رجال الشارع ونسائه وأطفاله، الكل يريد أن يعرف، والكل يبدي الرأي، ويكشف السر ويعلق، وتساءلوا: ما الذي يفرضه علينا الواجب تجاه العروسين؟

كانا أول عروسين يستقبلهما الشارع، وليس لهما أقارب في المدينة، وانتهى الرأي إلى ضرورة استضافة والد العروس، كخطوة لإذابة العروسين في الكيان الواحد القائم فعلًا، وذهبت النسوة لزيارة العروس، تحمل كل واحدة زجاجتين من الشربات الأحمر.

حاول الرجال اجتذاب مشاعر الساكن الجديد، وصداقته، بدعواتٍ متكررة وملحة، لكن علاقة العروسين بسكان الشارع ظلت مقطوعة «أشبه بمندرة مغلقة في دوارنا الكبير.»٤

بدأت الهمسات تتردد في جدران البيوت: إن العريس ليس رجلًا! لكن العريس نجح أخيرًا في أن يحيا في الشارع دون أن يصبح جزءًا من أهله، وتقبَّل الباقون الحقيقة المؤلمة شيئًا فشيئًا، حتى قامت الحرب، وظهرت طائرات الألمان في سماء الإسماعيلية، وفرض حديث الحرب والسياسة نفسه على جلسات الرجال، والنسوة أيضًا، بل لقد تأثرت ألعاب الأطفال بأحداث الحرب وظروفها.

ظل أبناء الحي — لفترة طويلة — «يستمعون» إلى أصوات الغارات الجوية، ويشاهدون طائرات الألمان وهي تقذف قنابلها على معسكرات الإنجليز البعيدة عن المدينة، والممتدة على طول القناة، ثم اختلطت الأرض على الألمان، فتساوت في عيون طياريهم معسكرات الإنجليز وبيوت أبناء الإسماعيلية، وذاب منطق أن الألمان خير من الإنجليز؛ فالحرب حرب، وهي — عند احتدامها — لا تفرق بين العسكري والمدني، المسئول وغير المسئول، المسلح والأعزل، وألقت طائرات الألمان — حيث يختبئ الأهالي — الفوانيس المضيئة، ثم بدأت في حصد الناس بالرشاشات، وتساءلت إحدى الأمهات: هل يختلف يوم القيامة في شيء عن هذه الليلة؟!٥
ثم وقع انفجار قريب، تعالت على أثره صرخة نسائية من بيت العم أمين، وتذكَّر الجميع العروس: هل هي وحدها؟ هل كنتِ وحدك يا حبيبتي؟ ألم يكن رجلكِ معك؟ كيف ترككِ وحدك؟ وهل طاوعه قلبه؟ لماذا لم تخرجي منذ بدأت الغارة؟ رجالنا أيضًا تركونا … نحن جميعًا بلا رجال.٦

واتفقت النسوة — دون أن يناقشن، ودون إعلان، بل ودون الرجوع إلى الرجال — على الهجرة، وتساءلت الابنة: أو لن ننتظر أبي؟

قالت الأم: لن ننتظر أحدًا … فليلحق بنا إن شاء.٧

وسافرت كل أسرة إلى أقرباء لها في إحدى قرى الصعيد أو الدلتا، وتقضت أيام وأشهر، وتناسى الجميع — بتأثير الحنين إلى الموطن — أهوال الغارات الألمانية، ولمَّت امرأة حاجياتها، وعادت من قرية أهلها إلى الإسماعيلية، وتبعتها من قرية أخرى امرأة ثانية.

ثم استردَّت المدينة أهلها تمامًا، فتدفَّقت الحياة من جديد «وعاد الناس إلى المدينة وهم أشد إصرارًا على البقاء، وتحديًا للخطر، زال الخطر تمامًا، اتسعت الابتسامات على الشفاه، ما عادت قوة في الأرض بقادرة على أن تنتزعهم من ديارهم، مهما بلغت من الشر، [ذلك ما همس به أحمد عاكف لنفسه — بالضرورة — وهو يستعد للعودة إلى السكاكيني] عادت بهم التجربة إلى ذروة حكمتهم: الرب واحد، والعمر واحد، الأعمار بيد الله، لسنا أفضل ممن ماتوا؛ لأن أموت اليوم ببيتي خير من أن أموت بعد سنين، تحت جميزة، في بلد غريب.»٨

•••

ولا شك أن الحرب قد غيَّرت من طبيعة الحياة في مجتمع المدينة التي عانت الغارات الجوية والتدمير والخوف والهجرة، استقبل أبناء الشارع نبأ اعتزام ألمانيا الحرب، بأملٍ أن «يكون في تطاحنهم هذا ما يعود علينا بالخير.»٩ وحين قامت الحرب بالفعل، كان إحساس الملايين من البسطاء أن الحرب، رغم ما يصل من أنباء بشاعتها، ستظل بعيدة عن بلادنا، ذلك لأن «ألمانيا بعيدة، بعيدة، بينها وبيننا جيوش وبلاد وبحار.»١٠

ثم جاوزت المشاركة في الحرب الدخول في مناقشاتٍ لا تنتهي حول تطورات الحرب، وانتصار الألمان في بعض المعارك، وصمود الحلفاء في معارك أخرى، وتقدير استفادة — أو تضرر — من دخول الألمان، ومدى الحكمة في انضمام مصر إلى الحلفاء، أو الابتعاد عن الحرب، وتأكيد — ونفي — إسلام هتلر … جاوزت المشاركة ذلك كله، إلى مشاركة مادية، تمثَّلت في الارتفاع المستمر للأسعار، وفي ازدياد جنود الحلفاء حتى فاقوا في أعدادهم سكان المدينة، وفي هدير الطائرات الذي لم يكن ينقطع ليلًا أو نهارًا.

واتضح للجميع — ذات ليلة — أن ألمانيا ليست بعيدة بالصورة التي كانوا يتوهمونها، فقد ظهرت طائرات الألمان في سماء الإسماعيلية، وانداح الخوف لمَّا شُوهدت الطائرات تقذف قنابلها على معسكرات الإنجليز، ثم تختفي في السماء.

تعوَّد الناس ليل الظلام الكثيف، والغارات العنيفة، والمخابئ، والدمار، والوحشة، وغلاء الأسعار الذي يرتفع خطُّه البياني دومًا إلى أعلى، واختفاء الأغذية من الأسواق، وعدم كفاية كميات الخبز المقررة بالبطاقات، وسكن في الشارع تاجر وطباخ ومقاول وتاجر مخدرات وبغي «اختلط الحابل بالنابل، ولم يعُد في الدنيا أمان.»١١

وكان الثراء الفاحش الذي بدا عليه بعض الوافدين الجدد من المتعاملين مع معسكرات الإنجليز … كان ذلك الثراء وراء الكلمات التي ابتدر بها الراوي صديقه:

«لقد غيَّرتنا الحرب يا رأفت … جعلتنا فقراء.

– ومتى كنا أغنياء؟

– لم يكن ينقصنا شيء.

– وما الذي ينقصك الآن … سيارة؟

فنظرت إليه في دهشة: أردت أن أقول: ألا تعرف … أنت ما ينقصنا.»١٢

•••

غيَّرت الحرب — بالتدريج — من عادات الناس، وأضافت إلى عاداتهم جديدًا، فالأمهات يفرشن الحصر أمام البيوت، تحت الجدران، حيث يقل احتمال الخطر، فيجتمع فوقها أهل الشارع. وأفلحت تلك الاجتماعات الاضطرارية في أن تحيل ساعات الغارات أوقات «سمر حلوة، يشترك فيها الكبار والصغار، وتعلو فيها الضحكات. لم يكن أحد من الكبار ليتشدد في منع البنات عن اللعب مع الأولاد، فقد كان لعبنا يجري تحت أعينهم، فضلًا عن أن مثل هذا المنع كان — بلا شك — يفقد معناه أمام فكرة الموت الجماعي الخاطف، التي فرضت ظلها على النفوس.»١٣
وبعد أن كانت حكايات الجن والشياطين تفرض نفسها على أحاديث الصغار، تحوَّلت تلك الأحاديث — شيئًا فشيئًا — إلى «حلقات سياسية» … والتعبير للفنان.١٤

– من هو أضخم رجل في شارعنا؟

– عمي شاهين.

– إن هتلر أضخم منه ثلاث مرات.

– ولكني أرى صورته في الجرنال.

– ليس كل ما في الجرنال صحيحًا.

– إن شارب هتلر يشبه شارب العريس.

– سينتصر الألمان على الإنجليز.

– بالتأكيد.

– الجن يعاونون الألمان.

– إن الله يعاونهم … أتعرفون لماذا؟

– لماذا؟

– لأن هتلر يحب مصر.١٥
ثم تركت الهجرة الجماعية لمدن وقرى مختلفة — فرارًا من كثافة الغارات الألمانية — بصمات واضحة على طبيعة الحياة في الإسماعيلية. يقول الراوي عن أحد الأطفال الذين عادوا مع أسرهم من المهاجر: «كان من الواضح أنه لم يضيع شهور الهجرة في شوارع زفتى عبثًا، قلت محدثًا نفسي: لقد عدنا لنتكلم، ولكن ذا نوع جديد من الكلام، إن الأولاد في قرية أبي لا يخوضون في مثل هذه الأمور، لم أحك له شيئًا عن صداقتي ببسيمة، سأسيء إلى بسيمة لو حكيت له، وأنا لا أحب أن أسيء إليها.»١٦
ثم نشأت مع عودة الحياة إلى المدينة ظاهرة جديدة، وهي كثرة من يسألون عن شقة، أو غرفة، أو حتى عشة فراخ خالية «طوفان من البشر، هبط على المدينة، سعيًا وراء العمل في معسكرات الإنجليز.»١٧

وطبيعي أنه كان من بين ذلك الطوفان حسين كرشة، ثم من بعده عباس الحلو، وغيرهما من أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة الذين قادتهم إلى معسكرات القناة أحلام الثراء السريع. وبدأت المدينة تنمو بصورة ملحوظة، وبدأ أهلها الحقيقيون — وسط خضم بشري هائل — كالغرباء، وأصبح للمداخن — حي البغاء — وظيفته المؤكدة في الترفيه عن جنود الحلفاء.

«لقد تغيَّرت الدنيا، وارتبكت الموازين، وفقد كل شيء حلاوته، حتى الشمام، المر ملأ الأفواه، والخير قل، وعزَّت الضحكة الحلوة، ضحكة زمان، ضحكة قلوبنا المرتاحة، لقد ذهبتَ عنا، فذهب معك الخير كله، وصرنا في حال غير الحال.»١٨

•••

كان أحلك الأيام التي شهدها الشارع، حين هبطت من حنطور سيدة تدخن السجاير، جار جديد اشترت بيت العم مصطفى الأشقر الذي استقر في بورسعيد، وتحرك الجميع، حتى رشاد أفندي الزوج الوافد الذي كان حريصًا أن يحيا مع زوجه في عزلة، خرج عن عزلته وصمته، وراح يهتف في حماسة: «الباب يواجه الباب يا حضرات، النوافذ تواجه النوافذ، لا أقبل أن تسكن في مواجهة بيتي امرأة، امرأة فاجرة، اغفروا لي هذا التعبير، فهو أقل ما يقال، وهو لا شك تعبير مهذب، سيتحوَّل البيت إلى ماخور، ألم تفكروا في هذا؟!»١٩

وأخفقت محاولات الرجال في شراء البيت، بدلًا من الجارة الجديدة، وحاول الأطفال: قذفوا حنطور السيدة ونوافذ البيت بسيلٍ من قطع الحجارة، لكن السيدة تفتح باب البيت فجأة، وتندفع إلى قلب الشارع في قميص أسود شفاف، وتدور حول نفسها، وهي تصرخ في جنون: «اضربوني … ها أنا ذا أمامكم … فلتضربوني إن شئتم، اضربوني يا أولاد الناس المحترمين، لم لا تضربون؟ إذا كان هذا يسعد قلوب أمهاتكم، فلا تكفوا عن قذف الطوب، هيا اضربوا.

غير أن أيدي الأولاد شلت عن الحركة، فلم ينطلق حجر واحد نحوها، كان الأولاد يحملقون فيها مذهولين، بينما تابعت هي صراخها وهو تواجههم، بصدرها المكشوف، ثم انهارت فجأة، فأجهشت بالبكاء.»٢٠
ومضت الأيام، وتغيَّرت في الشارع أشياء كثيرة، وقالت بسيمة للراوي — يومًا: «إنني أحترم هذه السيدة، أتسمع؟ أحترمها لأنها سيدة قوية … تعرف كيف تنتصر … وقد أسعدني انتصارها على رجالكم جميعًا، لقد مزقت قلب زوجي، كنت أضحك في سري وأنا أراه يتلوَّى، وأحبها أيضًا، لأنها الإنسانة الوحيدة الصادقة في هذا الشارع.»٢١

هوامش

(١) محمود دياب، أحزان مدينة، هيئة الكتاب.
(٢) المصدر السابق، ١٢.
(٣) المصدر السابق، ٨٣.
(٤) المصدر السابق، ٩٣.
(٥) المصدر السابق، ١٣٧.
(٦) المصدر السابق، ١٣٦.
(٧) المصدر السابق، ١٤٢.
(٨) المصدر السابق، ١٩٥.
(٩) المصدر السابق، ١٠٦.
(١٠) المصدر السابق، ١١٣.
(١١) المصدر السابق، ٢٠٦.
(١٢) المصدر السابق، ٢٠٩.
(١٣) المصدر السابق، ١٢٦.
(١٤) المصدر السابق، ١٢٣.
(١٥) المصدر السابق، ١٢٤.
(١٦) المصدر السابق، ١٩١.
(١٧) المصدر السابق، ١٩٦.
(١٨) المصدر السابق، ٢١٤.
(١٩) المصدر السابق، ٢٢٢.
(٢٠) المصدر السابق، ٢٣٦.
(٢١) المصدر السابق، ٢٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥