المجتمع المصري في أعوام الحرب

كيف كانت أيامنا في بداية الحرب العالمية الأخيرة؟

السؤال لأنور عبد الملك، ويجيب بأن بلاد مصر المحروسة تحت الاحتلال العسكري المكثف، وقد تحولت إلى القاعدة الاستراتيجية للسيطرة على الشرق الأوسط بإمرة رئيس وزراء إنجلترا تشرشل، حشدت قوات هائلة بلغت نحو ٥٦٠ ألف رجل، منهم عدد كبير من ألوية الدبابات والمدفعية الثقيلة، وعشرات من أسراب قاذفات القنابل والمقاتلات، وكذا الأسطول البحري المسيطر على البحر الأبيض (المتوسط) بدءًا من الإسكندرية. القاهرة تحولت إلى قلعة: ثكنات قصر النيل — حيث الآن جامعة الدول العربية وفندق هيلتون — حتى كوبري بولاق، كانت طابية للسيطرة على وسط المدينة، وبها فرقتان بكامل العدة والعتاد. القلعة تحت سيطرة قوة ضاربة أخرى، وكذا ثكنات باب الحديد، دعنا من قاعدة قناة السويس البالغة الأهمية، انهالت أسراب قاذفات القنابل الألمانية الخفيفة «شتوكا» على مطارات القاهرة، وخاصة مطار ألماظة قرب مصر الجديدة، ليلة بعد ليلة، تعبد الطريق لتقدم جيش أفريقيا الألماني بقيادة روميل؛ الظلام الدامس يسيطر على العاصمة.١

•••

يلخص الفنان صورة الحرب بالمصابيح الضريرة، وصفارات الإنذار، والذعر الذي يدفع الناس إلى المخابئ، ورائحة الخمر، وأغنيات السكارى، وضحكات الفتيات اللائي أحببن الظلام، وضللن الطريق.٢ أصبح الظلام — في سني الحرب — سِمة للحياة المصرية منذ الغروب، ظلام لا تخففه إلا الأضواء الضئيلة التي تتسرب من أبواب المحال العامة والبيوت،٣ «فالنور يخرج إلى الشارع متخفيًا في حذر، تذوده ألوان زرقاء قاتمة طُلي بها زجاج النوافذ.»٤ ولجأت إلى القاهرة أعداد كبيرة من الملوك والرؤساء والساسة الذين سقطت دولهم تحت أقدام القوات الألمانية.
وفي ١٩٤٣م ظهر الجنود الأمريكان في شوارع المدن المصرية، ولكي يجتذبوا مشاعر البسطاء من المواطنين، فقد وزعوا عليهم اللبان الأمريكي الشهير، ومرايا صغيرة ذات إطارات من البلاستيك.٥
لم يكن قذف الأهداف بواسطة الطائرات، أو التصدي — في المقابل — لغارات الطيران، قد أفاد من ثورة الإلكترونات التي شهدها العالم منذ مطالع الخمسينيات، وكان ضوء الكشافات يجوب صفحة السماء الزرقاء، بين فرقعات المدافع الآك الآك الرفيعة الثابتة، التي تنفجر وتنبسط ورود شظاياها القرمزية والخضراء كالألعاب النارية،٦ إنها «طائرات هتلر تحوم، وتنثر الموت، وكشافات الإنجليز تمسح السماء بحثًا عنها.»٧
وتعدَّدت غارات الطائرات الألمانية والإيطالية على الإسكندرية، هدمت البياصة واللبان والقباري، فاضطر معظم السكان إلى الهجرة،٨ وضربت طائرات الألمان وغواصاتهم منطقة البحر في الإسكندرية بعنف،٩ وأصبحت صفارات الإنذار من الأصوات المألوفة،١٠ بل إنه — منذ أعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء — أصبح الإنذار بغارة، عادة ليلية.١١
مع ذلك، فإن الفنان يُرجِع إلى شخصية الدكتور خالد وجهوده في برلين وروما السبب في عدول دولتي المحور عن قصف مدن مصر بالقنابل مثل غيرها من البلاد،١٢ وطاف رجال الدفاع المدني بالبيوت، ووزعوا على السكان الأقنعة الواقعية من الغازات السامة،١٣ واجتزأت الحكومة بإضاءة مئذنة جامع الحسين — ليلة رؤية هلال رمضان — عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ.١٤ وكان شعراوي الفحام (المرايا) واحدًا من ضحايا الحرب، كان جالسًا على كرسي هزاز أمام حجرته فوق السطح، في غيبوبة من السكر، عندما صرعته شظية استقرت في رأسه، من غارة إيطالية على القاهرة في ١٩٤١م.١٥
أعلنت الحكومة البريطانية أنها قبلت — مع الشكر — تبرع الحكومة المصرية العاجل بثلاثة ملايين جنيه من نفقات الحرب، وتعهدها بتقديم نصف مليون آخر في ميزانية السنة المالية القائمة لهذا الهدف.١٦ واتخذت الدولة سلسلة من الإجراءات، منها: وضع المطارات والمحطات والقناطر والكباري، تحت حراسة دقيقة مستمرة، وإصدار القوانين التي تعاقب على التجسس والعبث بالمال العام، وإنشاء معسكرات الاعتقال، ومنع تصدير رءوس الأموال المصرية والأجنبية، وتسفير أعداد كبيرة من الإيطاليين، من بينهم فيروتشي كبير مهندسي القصور الملكية.١٧

وفي ظل الظروف الاستثنائية، صودرت الحريات، وغابت الديمقراطية، واتسعت المعتقلات لتشمل كل العناصر الوطنية والتقدمية، اعتُقل الآلاف من كل التيارات السياسية، حتى إن عبد المنعم شوكت (السكرية) يعبِّر عن ضيقه بالسجن بالقول: أيُزج بي إلى هذا المكان لا لسببٍ إلا إنني أعبد الله؟

فيهمس أخوه أحمد شوكت في أذنه باسمًا: وما ذنبي أنا الذي لا أعبده؟١٨

وكان عبد المنعم أخًا مسلمًا، أما أحمد فقد كان شيوعيًّا!

ويلاحظ رفعت السعيد أن النتائج التي حققها احتضان الرأسمالية العالمية للنازية، لتضرب بها الاتحاد السوفييتي، أفرزت نتائج مشابهة لاحتضان الرجعية المصرية للفاشية الإيطالية لضرب الحركة اليسارية، فقد انقلب «البعبع» الذي صنعته الرجعية المصرية — على حد تعبير السعيد — ليرهب حركة اليسار، انقلب ليخيفها هي! وكان انشغال الحكومة بمحاربة الفاشية في الداخل — بعد أن صنعت لها قواعد وركائز — عاملًا حاسمًا في تمكين اليسار المصري من أن يعيد تنظيم قواعده، ويلم شتاته، ويبدأ بداية جديدة.

ولفترة طويلة، حكمت السراي وحلفاؤها من أحزاب الأقليات — الأحرار الدستوريون والسعديون والكتلة الوفدية والحزب الوطني — حكمًا مباشرًا، لذلك كانت الناس تحيا في خوفٍ من السلطة، وعندما دارت مناقشة في الأوتوبيس، علا صوت الأسطى محجوب (قلوب خالية): «صلوا على النبي … أحسن تروحوا في داهية … كلكم بإذن واحد أحد … دا في الحرب اللي فاتت كان الجواسيس بيخشُّوا تحت الكراسي.»١٩
ولا يخلو من دلالة أن البوليس السياسي أخذ تعهدًا كتابيًّا على الشيخ علي الغاياتي بألا يطبع ديوان «وطنيتي» طيلة سني الحرب، برغم أن قصائد الديوان تتناول السياسة المصرية في مطالع القرن،٢٠ وأصبحت الرقابة — كما يقول الفنان — (الدكتور خالد) ملكية أكثر من الملك، فلا تسمح بنشر ما يذيعه الإنجليز أنفسهم عن خسائرهم في البر والبحر والجو.
مع ذلك، فإن إبراهيم رزق (السكرية) يقول: «إن الوعي اليوم غيره بالأمس، كلما نظرت في الطريق، قرأت على الجدران عبارة «الخبز والحرية» … هذا شعار الشعب الجديد.»٢١ وتزايدت المظاهرات الطلابية القادمة من الجيزة، تعبر كوبري عباس إلى كوبري الملك الصالح، تمضي إلى مدرسة الطب في شارع قصر العيني.٢٢
عاود الإنجليز أملهم في البقاء على الأرض المصرية، لكن العمليات الفدائية بدَّدت ذلك الأمل، وصار الخروج من معظم البلاد المصرية هو المتاح الأرجح،٢٣ ويتحدث شكري (الدكتور خالد) عن المظاهر الجديدة التي تدل على أن المجتمع يختمر بعناصر من الحيوية والنشاط، مثل الجمعيات السرية التي بدأت تتألف من الشبان، لتغتال جنود الإنجليز، وعملاء الإنجليز، وتضع المتفجرات هنا وهناك، لكن فوزي السيد (الدكتور خالد) يستنكر «أمثال هذه الحركات، وليس هناك ما يسعدني عندما أستعرض تاريخ كفاحنا الماضي، أكثر من أن يدَنا (يقصد جماعة مصر الفتاة) لم تُلوَّث بدم، لقد أقنعتني هذه الحرب — نهائيًّا — أن العنف لا يمكن أن يحل قضية، وأن القوة السافرة لا يمكن إلا أن تُهزَم في خاتمة المطاف.»٢٤
وقبل عام ١٩٤١م لم يكن للمثقفين أية نقابة، اللهم إلا نقابة المحامين التي أُنشئت في ١٩١٢م، ارتكازًا إلى أن الثقافة القانونية كانت في الجيل الأول من القرن العشرين — كما يقول حافظ محمود — هي الطريق إلى الحكم، وبالتالي فلم تكن هناك أية عقبات أمام قيام نقابة المحامين.٢٥

•••

الفنان (الجنة العذراء) يصف أحداث تلك الفترة، بأن المجتمع المصري شعر فيها — بكل طبقاته — كأن سورًا تاريخيًّا عتيقًا يحيط بالناس، بَنَته يدٌ عاتية أخذت تنقض بنفسها بناء هذا السور،٢٦ وتساءل الذين عانوا أحداث الحرب العالمية الأولى: هل ينهب الحلفاء قوتنا، ويسوقون أبناءنا للموت، كما فعلوا سنة ١٩١٤م؟٢٧
ويلخص الفنان (تلك الأيام) صورة الحياة المصرية أعوام الحرب العالمية الثانية بأن «كل شيء ينهار، وكل شيء يستيقظ، ناس يؤمنون، وناس يلحدون، وملك على عرش، ورعايا ملك يلعنون العرش، زعماء يرتفعون على مقاعد الحكم، ورصاص يخترق أجساد زعماء، فيسقط بهم، أخلاق ميتة، ضمائر ميتة، مصر جسد عجوز لا يصل الطعام إلى معظم أجزائه.»٢٨ إنها «أيام لا يُحتَرم فيها شيء»، و«كل شيء ممكن، كل شيء مباح.»٢٩ وبعد أن كان إبراهيم (نار ورماد) يتصور زعامات السياسة أنبياء ومتقين ونساكًا زاهدين، اكتشف أنهم ليسوا سوى مصارعين من أجل الحكم، ملاكمين في سبيل مقاعد البرلمان.٣٠
بدأت نقود الحرب تملأ بعض الأيدي، وكثرت الهجرة من الريف إلى المدينة، وتحدث الناس عن الأخطار والغنى المفاجئ في وقت واحد، وبدأ ميزان القِيَم والنقود يتخلخل،٣١ وكان الراوي (الشفق) واحدًا من الذين حققوا — في ظل الحرب — أرباحًا طائلة، نقل عمله من الريف إلى القاهرة، وأنشأ متجرًا ضخمًا للصوف، وشيَّد قصرًا، وتحققت له مكانة في دنيا الثراء والجاه، حتى انتُخِب رئيسًا للغرفة التجارية،٣٢ وصار حمزة تاجر الخزف والصيني من كبار الأثرياء، بعد أن حجب بضاعته عن السوق حتى تضاعف ثمنها ٣٠ ضعفًا.

وحين أنشئت وزارة التموين، استغنت المصلحة الحكومية التي كان يعمل فيها مرزوق أفندي كاتبًا عن خدماته، فتحوَّل إلى معاونة التجار الجشعين على اعتصار كل ما يملكه الشعب من نقود.

ويهبنا الفنان (أزهار الشوك) تأثيرات الحرب على القيم الأخلاقية في المجتمع المصري، يقول: «كأن الحرب قد أطلقت غرائز النفوس، فهيهات لها أن تعود إلى حدودها، كان كل من استطاع أن يغنم غنيمة سارع إليها، فالتاجر يبتز إذا تمكَّن من الابتزاز في ستر القانون، فإذا لم يقتنع بما يصيب من ربح، لم يخشَ أن يغامر في التماس الحيل، ليخلص إلى ربحه من وراء القانون، والموظف لا يكفيه مرتب الوظيفة ليخلص إلى ربحه من وراء القانون، والموظف لا يكفيه مرتب الوظيفة فيحتال على رزقه بالرشوة، أو الاختلاس، متسترًا بما يتهيأ له من مسارب مظلمة، وصاحب المهنة لا يرضى إلا أن يشارك في أسلاب المعركة الحامية، بعد أن يرقد ضميره في فراشه لينام عنه. ونشأت طبقة جديدة من الوسطاء والمهربين لتخدم في فوضى المعمعة، وتصيب من فضلاتها مغنمًا، وكان من وراء هؤلاء جميعًا طبقة أخرى متربصة تهوي — بين حين وحين — على الميدان المضطرب، لتخطف من المحمَّلين بالأسلاب قطعة تجعلها نصيبها.»٣٣
ويقول الراوي: «هبَّت علينا رياح التغيير، وأمواج الغلاء المتتابعة.»٣٤ وقد فقد الراوي عمله نتيجة لتقلبات الأسعار على الشركة التي كان يعمل بها،٣٥ لكن الراوي (لست أبًا) حقق ثروة هائلة من الاحتيال على الأسعار الجبرية، وتحطيم قيودها، والتلاعب بالسوق، وترويج البضائع المغشوشة.٣٦
وفي «أسعد الله مساءك» تغيَّر — بنشوب الحرب — كل شيء «جاء الرواج، ومضت الأسعار ترتفع، درجة بعد درجة، واسترد الملاك أنفاسهم، وانتفخت جيوب فئات ممن عُرِفوا بأغنياء الحرب، وتجهمت الدنيا للموظفين الذين تراءى لهم المستقبل طريقًا مسدودة.»٣٧
وفضلًا عن أخطار الغارات الجوية، فقد تفشَّت البطالة، وانتشر عساكر الإنجليز والمورشان السود يثيرون الرعب في الشوارع، حتى ولو لم يكونوا سكارى «واغش من جنود أجانب، من كل لون وملة وزي.»٣٨ … «كانت القاهرة تعج بقوات الكومنولث.»٣٩ تكاثر العساكر الإنجليز في قلب العاصمة بعد هزيمتهم في الصحراء،٤٠ … «إنجليز وسيخ وسنغال وأستراليون، حشرات متوحشة تتدفق أسرابها المتلاحقة من كل صوب، وإن اتخذت هيئة البشر.»٤١
كانت المدينة تخلو من المارة بعد الغروب، خشية اعتداءات ضباط وجنود الإمبراطورية ضد المواطنين المصريين، يصفهم الفنان بأنهم كانوا يسيرون صاخبين، معربدين، يحتكون بالمارة، ويخطفون طرابيشهم.٤٢ تقول الزوجة (خيوط النور): «في أيام الحرب هذه، رأينا كل شيء يُفعَل في الشوارع.»٤٣ وكان نكوص حسين كرشة (زقاق المدق) عن نجدة عباس الحلو — وهو الذي لم ينكص عن خوض معركة في حياته — وتطلُّع الواقفين المتجمعين عند مدخل الحانة، إلى المعركة بأعين فزعة، وأيدٍ مغلولة … كان ذلك تعبيرًا عن واقع الشعب المصري الذي لم يكن يملك حيلة أمام قوة الاحتلال القاهرة.٤٤ يقول الراوي (الرجل الشريف): «كان جنود الحلفاء يحتلون المدينة، ويقضون الليالي في المواخير والحانات ودُور اللهو، وكانت الغارات والظلام والجوع ونقمة المواطنين على التموين.»
وقد فعل خالد (الشارع الجديد) ما فعله ياسين (بين القصرين) عندما احتلت جحافل قوات الحلفاء جميع الملاهي، واحتكرت السهرات؛ رأى أن خير ما يفعله أن يبتعد عن موارد الجنود، وأن يسهر الليل في بيت أحد أصدقائه.٤٥ أما جحشة (بذلة الأسير) الذي كادت تتحدد أمنياته في ارتداء ما يستر بدنه، ثم صرعته رصاصة غادرة، فهو أحد ضحايا الحرب.٤٦ وكما يقول سليم باشا شلبي (الحصاد) — تعبيرًا عن موقف أعداد كبيرة من المصريين من أحداث الحرب — «والله لا أفهم منطق الذين يطالبون بأن يزجوا بنا في هذه الحرب، إننا لم نشترك فيها، وعلى الرغم من ذلك، نُضرَب كل ليلة، ونفر إلى الجحور كالأرانب.»٤٧ وتتساءل بهية (الجنة العذراء): «لماذا يحاربوننا ونحن لا نحارب؟ نحن لا نريد الحرب مع أحد!»٤٨
وفي المقابل، فإن الراوي (الشعلة) يذهب إلى أن الناس تحمَّلوا الظلام، والغارات، والجوع، ترقبًا للفرحة الكبرى بتحرير الوطن.٤٩

•••

كان الجنود الأجانب الذين انتشروا في شوارع القاهرة، هم الظاهرة الأوضح في أعوام الحرب، وكما يقول الفنان، فقد «كان جنود الحلفاء يحتلون المدينة، ويقضون الليالي في المواخير والحانات ودور اللهو، وكانت الغارات والظلام والجوع ونقمة المواطنين على التموين، وكان الخبز يختفي، ثم يظهر أسود كالطين، ومع ذلك، كنا نأكل لأننا نود أن نعيش، وكفى!»٥٠
وقد طبع البنك الأهلي ٤٠٠ مليون جنيه، حملها هؤلاء الجنود، وانطلقوا في شوارع القاهرة والإسكندرية ومدن القناة، يبحثون عن المتعة بكل السبل. أُغرقَت السوق المصرية بعشرات الملايين من الأوراق النقدية، دون أن يقدموا مقابلها غير قصاصات ورقية أطلقوا عليها «أذون الخزانة البريطانية»، كانت تلك الأرصدة تُعتبَر دينًا، وكانت تُؤدَّى بالمال المصري، أي أن مصر كانت تعطي بضائع مقابل كمبيالات، كما اتفق على أن تُدفَع نفقات القوات الأمريكية في مصر بالعملة الإسترلينية، أي أن تعطي مصر بضائع مقابل كمبيالات على إنجلترا،٥١ ولما انتهت الحرب، وأرادت مصر أن تستبدل بأذون الخزانة البريطانية جنيهات إسترلينية، راوغ الإنجليز أولًا، ثم أعلنوا أن ما تملكه مصر من الأرصدة الإسترلينية قد تجمَّد، وواصلوا الاحتفاظ بالأرصدة.٥٢
كانت القيادة البريطانية تمن على المصريين أن جنودها ينفقون في بلادهم — كل شهر — ثلاثة ملايين من الجنيهات سنويًّا، وهو ما كان يرفضه المصريون من منطلق رفض الوجود الاحتلالي: «وجوه لا حصر لها، حمراء وسوداء وصفراء ولا لون لها، من كل الجنسيات، طوابير، طوابير … أقدام متغطرسة، تنتعل أحذية سوداء غليظة، تضرب الأرض فتكاد تشقها، حذاء واحد منها كان من الممكن أن يحتويني بأكملي، وتظل رقبته فارغة.»٥٣
وكان شارع كلوت بك وما حوله، أشد مناطق القاهرة تأثرًا بالحرب، من خلال حشود عساكر الإنجليز وحلفائهم في تدفقهم على المواخير التي يشغى بها الحي٥٤ «حيث ظلام الحرب والبواكي والمواخير والحشد المتدفق من الجمهور، وعساكر الإنجليز وحلفاؤهم.»٥٥
وقد حاول فرج إبراهيم (زقاق المدق) أن يفيد من تلك الظاهرة، فحرص أن تظل حميدة عذراء ليتقاضى فيها — كعذراء — خمسين جنيهًا، دفعة واحدة، من جندي أمريكي،٥٦ وحين اختطف جنود الإنجليز ثريا (الجنة العذراء) نظر سكان الحي إلى تلك المأساة على أنها كارثة وطنية، لا حادثة عرض،٥٧ واضطر الضابط مراد (طريق العودة) إلى الدخول في معركة مع أربعة جنود أستراليين، حاولوا اغتصاب فتاة في الطريق،٥٨ وكانت «لي لي» (أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور) ثمرة زواج، دام أسبوعًا، بين أمها — المصرية — وعسكري إنجليزي اسمه جوني، سافر إلى القتال، ولم يعد.٥٩
جرى جنود الحلفاء في الشوارع — والوصف ليحيى حقي — كالمسعورين، يبحثون عن السكر والعربدة ومغازلة النساء، وازداد الطلب على الكباريهات والراقصات، واختفت بالتالي أسماء يوسف وهبي وعلي الكسار وفاطمة رشدي، حلَّت محلها أسماء سويت ميلودي وبديعة مصابني وببا عز الدين،٦٠ وكانت بديعة مصابني تقدِّم استعراضاتها الراقصة الغنائية في كازينو «أوبرا» بميدان إبراهيم، بالاشتراك مع الراقصة العالمية تحية كاريوكا، والمونولوجست المحبوب إسماعيل يس،٦١ وكانت حكمت فهمي راقصة مصر الكبرى، ويسمونها «سلطانة الغرام»،٦٢ وكثرت الحانات «الشيطاني» التي تخلقها ظروف الحرب بين يوم وليلة،٦٣ مزدحمة بالضباط والعساكر من كل صنف وجنس، ورائحة البيرة تختلط بزعيق الموسيقى الصاخبة حقًّا، والعسكريون يراقصون الفتيات السمراوات الجعْدات، والشقراوات، وبنات البلد النحيلات، والممتلئات بزواقهن الفاقع، والإنجليزيات … إلخ.٦٤
تحوَّلت بعض الفنادق إلى مواخير لجنود الحلفاء،٦٥ وهو ما فعلته ماريانا (ميرامار) حين فضَّلت أن تظل في الإسكندرية، لم تهاجر إلى القاهرة أو الريف مثلما فعل الكثيرون، حتى من مواطني الإسكندرية، فرارًا من غارات الألمان، اكتفت بطلاء النوافذ باللون الأزرق، وإسدال الستائر، وتواصلت حفلات الرقص في ضوء الشموع، والضباط الإنجليز يدفعون في سخاء.٦٦
وكان من بين المهن التي أفرزها الوجود الاحتلالي، تقديم الخدمات الترفيهية لأفراد القوات الوافدة، مثل فرج إبراهيم (زقاق المدق)، والعامل الذي تعلَّم الرطانة بالإنجليزية في المعسكرات، ثم بدأ في تقديم خدماته لجنود الإنجليز الذين انتشروا في شوارع الجيزة وحواريها،٦٧ أما عبد المجيد (مولد بلا حمص) فقد تاجر في الصور العارية والكتب الجنسية في منطقة القناة، وحقق من ذلك ربحًا وفيرًا.٦٨

•••

بدأ البعض في عقد المقارنات بين تطورات الحرب ومشكلاتهم الشخصية، وكانت تلك التطورات عاملًا مباشرًا لأن يسعى رضا (الجنة العذراء) للحصول على حقِّه في الأرض التي استولى عليه أخوه، إنه الآن مثل دولة ضعيفة فُرض عليها الحرب: «هل من الممكن أن يستسلم؟ وماذا يعمل في قضية قوة القانون لا تنصرها؟ ماذا يعمل إذا قال القانون «لا» في خلاف بينه وبين أخيه، هل يحتكم للسلام كما فعل اليوم هتلر؟»٦٩

تسأله ثريا: هل في حياتك حرب؟

يجيب: حياتي كلها حرب … الحق معي … والسلاح مع خصمي.٧٠
بل إن رضا بدأ يعقد المقارنات بينه وبين هتلر،٧١ وكان رضا يتحدث بمرارة عن الذين يسلبون الناس أوطانهم،٧٢ وكان يتساءل: إذا كانت الحياة عرضة لأن ينهيها شيء تافه، فلماذا لا نقدِم على الموت في سبيل شيء عزيز؟!٧٣
وثمة سؤال: هل يعني الفنان باختطاف العذراء ثريا سلب الاستعمار حرية مصر، دون أن تفلح في استردادها؟ هل العذراء — كما يقول عباس خضر — هي مصر التي سلبها الاستعمار حريتها، فحاولت أن تستعيدها منه؟٧٤

•••

حدث — غداة إعلان الحرب — إقبال محموم على سحب الودائع، وبخاصة ودائع صندوق التوفير التي يملكها صغار المدخرين،٧٥ ولذلك قصة من المهم أن نتوقف أمامها: لقد أنشأ طلعت حرب بنك مصر، واستطاع — رغم كل العقبات — أن يحقق نجاحًا، وركز طلعت حرب في خطة التصنيع الأولى على القطن باعتباره ثروة البلاد الرئيسة، التي كانت تقوم بتصنيعها — وتحقق منها أرباحًا طائلة — مصانع كثيرة في دول مختلفة، من بينها إنجلترا. وفي ١٩٢٧م بدأت شركة الغزل والنسج بالمحلة الكبرى تؤدي وظيفتها في تحرير القطن من السطوة الأجنبية، وبدأ الإنجليز يتنبهون لخطر التصنيع الذي يحمل لواءه طلعت حرب، وبدءوا بالتالي في التآمر وترقب الفرصة.

ثم جاءت الفرصة في اليوم التالي لإعلان نشوب الحرب العالمية الثانية، فقد نشرت جريدة «المصري» بالمانشيت الأحمر، خبرًا يقول إنه قد تم سحب ٢٫٥ مليون جنيه في يوم واحد، وبالطبع أثار الخبر فزعًا بين المودعين، فهرعوا إلى سحب ودائعهم، وبلغ جملة ما استرده المودعون في بنك مصر وفروعه تسعة ملايين ونصف مليون من الجنيهات، ولجأ طلعت حرب إلى البنك الأهلي يطلب الحصول على قرض، فطلب ضمان الحكومة، وكانت المفاجأة — عندما طلب طلعت حرب ذلك الضمان من رئيس الوزراء علي ماهر — أنه اشترط — لتقديم الضمان — خروج طلعت حرب من بنك مصر، ولم يتردد الرجل لحظة، وقدم استقالته.

وكانت استقالة — أو إقالة طلعت حرب — حدثًا مثيرًا، أغضب المواطنين، فقد كان الرجل أول من غادر أحادية النظرة إلى الاستقلال، وأصر أن يكون الاستقلال الاقتصادي موازيًا للاستقلال السياسي، فضلًا عن الاستقلال الاجتماعي الذي كان لطلعت حرب فيه أيضًا إسهامات طيبة.

•••

في بداية الحرب، دعا فوزي السيد (الدكتور خالد) صديقه إلى مائدة غداء في بيته، تكلفت عشرة قروش: زوجَان من الحمام بثلاثة قروش، ورطل من اللحم بثلاثة قروش، وملوخية وطماطم بخمسة مليمات، وخبز بقرش ونصف، وأقة موز بقرشين، وكانت أسرة فوزي السيد تنفق في اليوم العادي خمسة قروش، وفي الأيام غير العادية عشرة قروش.٧٦
طبع الإنجليز أوراقًا مالية زائفة، أغرقوا بها السوق المصرية،٧٧ وتحوَّلت الأحوال الاقتصادية إلى جحيم حقيقي،٧٨ بعد أن اجتاحت موجات الغلاء حياة المصريين.٧٩ «وقد تبين أن بعض السلع التي لم يمكن تسعيرها، طبقًا لأحكام المرسوم بقانون، لتعدُّد وتنوُّع أصنافها، ومواصفاتها، قد توالى الارتفاع في أسعارها، مع أنها من ضروريات الحياة للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وقد لاحظنا أن بعضها كانت تزداد أسعاره جزافًا من يومٍ ليوم، بل من الصباح إلى المساء. وزاد في تفاقم الحالة أن اندس في السوق يقضي من لا خلاق لهم من المضاربين والمتهافتين على جر المغانم، من لا عهد لهم بالتجارة، فأمعنوا في سحب السلع من السوق، بقصد تخزينها وحبسها عن التداول، انتظارًا لتصريفها بأسعار عالية — بلا مبرر — من مقتضيات التجارة الشريفة، ولا وازع من الضمير الحي.»٨٠
ارتفعت الأسعار — في الفترة من ١٩٣٩م إلى ١٩٤٥م — إلى ثلاثة أمثالها، وكان تأثير ذلك — بصورة مباشرة — على الطبقات الفقيرة، حتى إن عطيات (الدكتور خالد) ثارت لإصرار البائع على أن يعطيها ثماني بيضات بالقرش، فطلب منها الرجل أن تحمد الله على ذلك، لأنه لن يعطيها — فيما بعد — إلا سبع بيضات بالقرش؛ فالإنجليز يأخذون البيض.٨١
ويتبدَّى تأثير الحرب الاقتصادي على أسرة عاكف (خان الخليلي) عندما حل رمضان، قال أحمد عاكف: «رمضان له حقوقه ما في ذلك من شك، ولكن الحرب ضرورة قاسية جارت على جميع الحقوق.»٨٢
وكان من بين أسباب فرحة أم أحمد عاكف (خان الخليلي) أن الحكومة سمحت ببيع اللحوم طوال شهر رمضان،٨٣ ويقترب عيد الفطر، وتلمِّح الأم إلى أن رائحة الكعك الطيبة بدأت تنتشر في الجو، فيقول أحمد عاكف متذمرًا: في مثل هذا الزمان لا يتشمم الناس رائحة الكعك، ولكنهم يسألون الله الستر.٨٤
وتقول الأم متحسرة: يا حسرتاه على أيام السلم، حين السمن سمن، والدقيق دقيق، والكعك كعك.٨٥
ويطالعنا بيت «بين القصرين» بصورة جديدة، تنذر بالانحلال والتدهور: انفرط نظامه، وتقوَّض مجلسه، بعد أن كان النظام والمجلس روحه الأصيل.٨٦ وبلغ تغيُّر التقاليد حدَّ امتناع معظم الأسر عن صنع الخبز والكعك، وشراء الخبز من البقالين والكعك من محال الحلوى،٨٧ ويتذكر الراوي (على أهون سبب): «كنا في أعقاب الحرب الأخيرة التي امتصت الكماليات والضروريات على السواء، أيام كانت الأمهات يبكين بعين، ويزغردن بفم، وهن يجهزن بناتهن،٨٨ وكان الناس يشطرون عود الكبريت شطرَين، الشطر الواحد يشتغل ويقضي الحاجة،٨٩ وكان عم جابر السائق بمصلحة السكك الحديدية (الجنة العذراء) يعود من الصعيد ومعه التموين، ما دام سكان القاهرة لا يجدون السكر ولا الشاي ولا الزيت ولا الجاز، وترددت نكتة عن إحدى السيدات، لم تجد زيتًا لقلي السمك، رمت بالسمك في البحر، فهتف السمك لرئيس الوزراء!٩٠
وعلى الرغم من المستوى الاقتصادي المرتفع لأسرة راتب بك، فإن ظروف الحرب الاقتصادية لحقتها، وتمثَّل ذلك في اهتمام السيدة بتخزين السكر والجاز، وشجارها الدائم مع الطباخ، وقصرها تناول اللحم على أيام محددة في الأسبوع،٩١ حتى إيجارات الشقق زادت، ونشأت أزمة في المساكن، وارتفعت إيجارات المساكن الجديدة،٩٢ واعتاد الناس تعبير «إيجار قديم قبل الحرب»،٩٣ وتقول أنهار (الحصاد): «الناس في القاهرة بعضهم فوق بعض طبقات، من العسير في هذه الأيام أن تعثر على ثقب إبرة خالٍ.»٩٤ وكان تضاعف إيجارات المساكن — أثناء فترة الحرب — دافعًا لأن تفكر أم زينب (أم زينب) في إخلاء البيت الذي تملكه كله، وتؤجره من جديد، وشرعت بالفعل في مضايقة السكان بشتى الوسائل، حتى يضطروا إلى مغادرة البيت،٩٥ وثمة صاحب بيت (الجنة العذراء) حوَّل حظيرة دواجن في السطح إلى حجرة للسكنى، بعد أن أضاف حائطًا خشبيًّا رابعًا للجدران القائمة، وفتح بابًا، ورمَّم السقف.٩٦ ويرجع الرافعي بواعث أزمة المساكن، إلى آلاف المساكن التي قُدِّمت إلى ضباط وجنود قوات الحلفاء، مما أوجد الظاهرة، لأول مرة.

•••

يُعَد وباء الملاريا في مقدمة النتائج السلبية التي أفرزتها الحرب؛ ظهر في مديريتي أسوان وقنا عام ١٩٤٤م نتيجة لدخول بعوضة «الجامبيا» بواسطة الطائرات البريطانية. بدأ الوباء في قرية «أبو سنبل» في أبريل ١٩٤٢م، ثم انتقل إلى أسوان، ثم — بواسطة القطارات والبواخر — إلى مديريات الوجه القبلي. وبالطبع فقد ارتفعت حدة الوباء في مديريتي أسوان وقنا، وبلغ عدد المصابين ٢٤٩٧٩٩، مات منهم ٢٠٤١٦، أي بنسبة ٨٪. والمحزن أن الصحف كانت تنشر أن الإسعافات تُسرَق في الطريق، فلا يصل منها شيء إلى المنكوبين، وأمر الملك بإرسال الجيش إلى الصعيد للإشراف على توزيع المؤن والأدوية والبطاطين، ولم تتمكَّن الدولة من استئصال الوباء إلا في فبراير ١٩٤٥م، في عهد وزارة أحمد ماهر.

وقد انتشر التيفوس في القاهرة، وانتشرت الحمى كالطاعون،٩٧ وإصابة رشدي عاكف (خان الخليلي)، ثم وفاته، بمرض السل، يثير الخطورة التي كان يتهدد بها ذلك المرض المجتمع المصري، فإلى ١٩٥٢م كان ١٥فردًا من كل ألف مصري يواجهون خطر الموت بمرض السل، وزاد عدد مرضى السل عن نصف مليون، لم يكن لهم من الأسرَّة المخصصة للعلاج، بينما بلغ عدد المرضى في بريطانيا ٩٠٠٠، بينما عدد الأسرَّة الخالية ٤٠٠٠.٩٨

•••

كان الموظفون هم أشد فئات المجتمع المصري تضررًا من نتائج الحرب الاقتصادية، حتى إن كمال (السكرية) وصف نفسه وزملاءه الموظفين، بأنهم «فقراء حرب» مقابلًا لأغنياء الحرب،٩٩ يعني هؤلاء الذين أغرتهم ظروف الحرب بالمغامرة في السوق السوداء، ليحققوا أرباحًا طائلة.
إن توفيق (موعد) يعلن في حزن: «لا شيء إلا أنباء الحروب والغارات، كأنما خلت الدنيا مما يستحق أن يُروى، وولاة الأمور لا يعنون بغير ذلك من الشئون، أما حالة الموظفين والنظر في إنصافهم ومنحهم من الدرجات ما يستحقون، فذلك ما لا يتطلب منهم أقل العناية والاهتمام.»١٠٠

وفي تقرير اللجنة المالية لمجلس الشيوخ سنة ١٩٤٦م: «لم تصب الأداة الحكومية بمثل ما أصيبت به في السنوات الأخيرة من فوضى واضطراب، إن الأمر قد وصل إلى حدٍّ لا يصح السكوت عليه.»

ويسأل رفعت (الحصاد): ماذا فعلت في قضية الرشوة الأخيرة؟

يقول مرسي وهو يبتسم: حُفظَت في مكتب الحاكم العسكري.

– كيف تُحفظ والتهمة ثابتة؟!

– حُفظَت قضية الرشوة برشوة أكبر منها.١٠١
ويقول الأستاذ: الاختلاسات هي موضة هذه السنة (١٩٤٢م).١٠٢

وتغري أم حميدة (زقاق المدق) الست سنية بقبول العريس المرشح: مرتبه عشرة جنيهات لا تنقص مليمًا.

قالت المرأة غير مصدقة، عشرة جنيهات؟

قالت أم حميدة: هذا قليل من كثير … وما مرتب الموظف إلا بعض رزقه.١٠٣
لكن عبد المنعم شوكت يعلن — في المقابل — أنه «لم تعد الوظيفة بالمطلب السعيد.»١٠٤
قررت حكومة حسين سري — في ١٩٤١م — علاوة غلاء لذوي المرتبات الضئيلة، لكن القرار لم يسفر عن نتائج حقيقية، وصفها البعض بأنها «علاوة تسكين، لا علاوة تطبيب.»١٠٥ كما أصدرت حكومة الوفد حركة إنصاف المنسيين، وثمة موظف صغير عُيِّن في أول مربوط الدرجة السادسة عام ١٩٢٤م، ولم يُنقَل إلى الدرجة الخامسة إلا في ١٩٤٣م، بعد أن جاءت حركة إنصاف المنسيين.١٠٦
وناشدت الحكومة الموسرين تقديم ما بحوزتهم من حبوب مخزونة لإطعام الشعب، وفتحت المزارع الملكية مخازنها، لكن الأزمة ظلت على شدتها، نتيجة لإصرار رجال الإدارة في الريف على أن يقدم المزارعون التزاماتهم، عينًا بدلًا من المال، وانتشرت السوق السوداء.١٠٧

•••

ولعل أخطر نتائج الحرب الاقتصادية — الظاهرة في الأقل — ذلك النقص الحاد في الخبز، فنتيجة لارتفاع أسعار المواد الغذائية كالخضراوات واللحوم والشحوم والسكر وغيرها، عوَّضت الطبقتان المتوسطة والفقيرة ذلك، بزيادة استهلاك الخبز، في الوقت الذي كان محصولا القمح والذرة يعانيان عجزًا طارئًا (موسم ١٩٤١-١٩٤٢م) مبعثه قلة السماد.

وقد بلغ العجز في محصول الحبوب مليوني أردب من القمح، ومليونًا ونصف مليون من الذرة، وأرجع إسماعيل صدقي ذلك العجز إلى مواصلة زراعة القطن بعد قيام الحرب في ١٩٣٩م، بدلًا من قصر الزراعة على الحبوب في أوقات الحرب، كما أشار صدقي إلى أن من أسباب الأزمة وجود قوات الحلفاء في مصر، وتقديم نحو نصف مليون أردب من القمح إليها، واستهلاكها حوالي خمسة آلاف أردب شهريًّا خارج الثكنات.١٠٨
ونظرًا لارتفاع أسعار القطن، فقد فضَّل الفلاحون وملاك الأراضي زراعة القطن بدلًا من المنتجات الزراعية الأخرى، مما أدى إلى تقلُّص مساحات تلك المنتجات، إلى حد البدء في استيرادها من الخارج، وهو ما دفع الملك فاروق إلى مصارحة مجلس الوزراء في اجتماع حضره بنفسه، في ٢٩ أكتوبر ١٩٤١م، بأنه خير لمصر أن يشبع أهلها بثمرات أرضهم من المواد الغذائية، وأن يأمن الفقراء فيها غائلة الجوع، من أن يزيد محصول القطن أملًا في ربحٍ مشكوك فيه».١٠٩

•••

واجهت البلاد — كما أشرنا — أزمة حادة في الخبز، وتصدَّت الحكومة للأزمة بسلسلة من الأوامر والقرارات العسكرية بإباحة خلط القمح بدقيق الأرز أو دقيق الذرة، والاستيلاء على القمح ودقيقه في أنحاء البلاد، والاستيلاء على الذرة، وحظر نقل الدقيق والقمح من أي مديرية أو محافظة إلى خارجها، لضمان كفاية كل إقليم لنفسه من القمح. ثم استولت الحكومة (في ٧ أبريل ١٩٤٢م) بصورة جزئية، على محصول القمح، وصدر في سبتمبر من العام نفسه أمر عسكري بصناعة الخبز من خليط دقيق القمح بجميع عناصره، عدا الردة، ومن دقيق الذرة الصيفية الخالي من الردة.١١٠
ثم تصاعدت أزمة القمح في الظهور منذ أواخر مايو ١٩٤٢م، أولًا: لسوء تقدير وزارة الزراعة للمحصول الجديد، إلى حد قيامها بتصدير كميات منه، لتُفاجَأ — فيما بعد — أن المحصول الجديد به عجز قدره مليون ونصف مليون أردب، وثانيًا: استهلاك قوات الحلفاء في مصر، «وبات الفقراء يئنون ويترنَّحون، أصبحوا لا يجدون الخبز إلا بشق الأنفس.»١١١

وكان حدثًا سُرَّ له الرفاق، حين دخل عليهم رفعت (الحصاد) — ذات ليلة — وهو يفض أمامهم لفافة بها مكعب من الخبز الفينو، «وصاح الجميع في فرح: خبز أبيض.

وقال مرسي: والله لقد نسيت أن في الدنيا خبزًا أبيض.

وراح رفعت يقطع الخبز بالسكين وهو يحس زهوًا: كنت أستطيع أن أبدِّل هذا بزجاجة ويسكي.

قالت الممثلة الكبيرة: الويسكي موجود، أما هذا الخبز فقد نسيناه، إنه أندر من الشرف هذه الأيام».١١٢
وتفاقمت الأزمة إلى حد قيام المواطنين بالهجوم على المخابز، واختطاف الخبز من أيدي حامليه في الشوارع.١١٣
أما في الريف، فقد اضطر الفلاحون إلى طحن الذرة الصفراء التي كانت تُقدَّم إلى الماشية، وعجنوا منها خبزهم.١١٤
وكان من بين الأمور العاجلة — على حد تعبير مرشح زقاق المدق — زيادة الأقمشة الشعبية والسكر والكيروسين والزيت، وعدم خلط الرغيف، وخفض أسعار اللحوم،١١٥ وكما يقول الراوي (كفر الهلالي) فقد كانت مصر تحسب أن الحرب لن تطول، فلم تتخذ الاحتياطات لتموين البلاد، فارتفعت الأثمان، وشُحَّت البضائع في الأسواق، ونفد القمح لصعوبة توريده، وتكدَّس القطن لصعوبة تصديره،١١٦ فانخفضت أسعاره بالتالي، وخَفِّضت مساحاته المنزرعة، وتوقفت الواردات والصادرات، وتضاعف الطلب على المؤن لتزويد الجيوش المقيمة، وزادت كميات النقود الورقية، واتسع التضخم، وارتفعت الأسعار، وانتشرت السوق السوداء، وظهر تجار الحرب، وأصحاب الدخول الطفيلية، وقدَّرت إحدى الصحف قيمة الألماس الذي تزيَّنت به المدعوات في حفل زفاف حلمي سليم بميزانية دولة صغيرة،١١٧ وكما يقول الفنان فقد تاجر الناس في الحرب، وتعلَّموا اللغات، وقلَّدوا الأغراب و«يتحررون، يتحررون حقًّا.»١١٨

•••

يقول مساعد سائق القطار (فندق الدانوب): «كل شيء تغير في هذه الدنيا بعد الحرب، حتى الفحم.

يسأل السائق: لماذا؟

يقول المساعد: كان الفحم قوالب ضخمة، وكان القالب الواحد يسيِّر قاطرة بأسرها، كنا نُنزل القالب في حوض الورشة، ونضربه ضربتين على يافوخه، ومثلها على جنبه، فيتهشم ويتناثر، فننضحه بالماء، وندفع منه المجدافين أو الثلاثة في النار، وننام على حسِّه، أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه.»١١٩
ولأن الورق كان عزيزًا وصعب المنال،١٢٠ فقد ارتفعت أسعاره، حتى ورق اللف تعذَّر وجوده، وعمد الباعة إلى الصحف القديمة، يشترونها بالأرطال والأقات،١٢١ وكانت المطابع تلاقي كسادًا وضيق حال لارتفاع أسعار الورق، وانقطاعه من الخارج،١٢٢ واقترح المعلم محمود سيكا (٤ حشاشين وقطة) على زملائه شراء كمية من الورق، وتخزينها لمدة ستة أشهر أو سنة، ثم بيعها بخمسة أضعاف أو عشرة.١٢٣

ويلمح أحمد عاكف (خان الخليلي) جماعة من لابسي الجلابيب البيضاء أحاطوا بمائدة عند مدخل قهوة الزهرة، ومضى كلٌّ منهم يعد رزمة ضخمة من الأوراق المالية.

ويقول أحمد عاكف، لعلهم من أغنياء الحرب.

يقول أحمد راشد: سيهجرون طبقة ويَلحقون بطبقة أخرى.

– إن الحرب ترفع كثيرين من السفلة.

– السفلة! هذا صحيح، ولكن لا يوجد حدٌّ فاصل بين السفلة والطبقة العالية، فأرستقراطيو اليوم كانوا سفلة الأمس، ألا تعلم أن رعاع الغزاة انتهبوا في الماضي أراضينا بحكم الغزو؟ وها هم أولاء يكوِّنون طبقة عالية متمتعة بالجاه والسفر والامتيازات التي لا حصر لها.١٢٤
وكانت تطورات الحرب بابًا للأرباح الأسطورية التي حقَّقها الراوي (الشفق)، فقد أخلص لعمله في التجارة، وأنشأ متجرًا ضخمًا للصوف في القاهرة، ورسخت قدماه في دنيا الثراء والجاه، حتى انتُخِب رئيسًا للغرفة التجارية، وكان يضايقه كثيرًا حملة كاريكاتير الصحف على أغنياء الحرب، وتصويره لهم في صورة قطَّاع الطرق (الشفق، الشيطان يعظ)، كذلك كان من بواعث حالة الانتعاش المادي في حياة أنور بك (نحن لا نزرع الشوك) صفقة كبيرة مع الجيش البريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية.١٢٥
ويتحدث الفنان عن المدن الجميلة والمساكن الأنيقة التي يشيِّدها الأغنياء، بينما الفقراء «أجسام بغيضة لا حياة فيها، كانت المدينة تتعذب برؤيتهم، كانوا أشبه ما يكونون بوخزات الضمير، وخزات ضمير متأصلة في أعماق الأرض. ورغم كل ذلك، لم يكونوا يريدون الموت، كان استجداء قطعة من الخبز من الذين انتزعوا منهم كل شيء، هو بالنسبة لهم فرصة الحياة.»١٢٦
وعمومًا، فقد كان انقطاع ورود المنتجات الأجنبية، وزيادة الطلب من قوات الحلفاء باعثًا لتحقق الرأسمالية المحلية تطورًا واضحًا، تمثَّل في ارتفاع قيمة الإنتاج من ١٠٠ مليون جنيه في ١٩٣٨م، إلى ٣٥٠ مليون جنيه في ١٩٤٥م.١٢٧
وتذهب معظم الكتابات — إلى أن الرأسمالية الوطنية قد حققت تطورًا كبيرًا في سني الحرب، فقد تكون حوالي ٤٠٠ شركة مساهمة يقارب مجموع رأسمالها ٨٠ مليون جنيه، ولارتفاع أسعار الحلي والمجوهرات في ١٩٤١م — نتيجة للحرب — فقد أقبل الكثير من المصريين على بيع ما لديهم من المجوهرات والحلي، ودفع أثمانها في شراء أراض زراعية.١٢٨
وقد اتخذت الحكومة إجراءات استثنائية للحيلولة دون ارتفاع الأسعار، وإخفاء السلع وتخزينها، وتشكلت لجنة لتحديد الأسعار، اتخذت بالفعل عدة قرارات، اصطدمت جميعها بحرص أغلبية التجار على تحقيق مكاسب غير مشروعة، وسريعة، وزادت اللجنة من قراراتها التأديبية، مع ذلك فلم ينقطع نشاط السوق السوداء،١٢٩ وحين صدر الأمر العسكري بصنع الخبز من دقيق القمح، مضافًا إليه دقيق الأرز، رفع هذا الخلط أسعار الأرز، فأثرى من ذلك بعض كبار التجار؛ ولأن أكل البطاطس قد أصبح وقفًا على جيوش الحلفاء، فقد باع والد كامل طن البطاطس بسبعين جنيهًا.١٣٠

•••

ساعدت الحرب على التنمية الصناعية، كما أنها حفزت عددًا كبيرًا من الممولين على الاستثمار في الصناعة، نتيجة لامتناع ورود البضائع الأجنبية في أثناء الحرب، ومحاولة إيجاد البديل من الإنتاج الصناعي المحلي، إلى جانب تصنيع قطع غيار محلية للآلات المستخدَمة في الصناعة والنقل،١٣١ واشتغلت المصانع ليل نهار ليتسنى لها الاستجابة إلى المطالب التي تزايدت أثناء الحرب، وقد أنشئت خلال الحرب ٣٧٥ شركة مساهمة، مجموع رأسمالها ٧٨ مليون جنيه.١٣٢

لكن النشاط الصناعي ظل مقصورًا — في غالبيته — على إنتاج السلع الاستهلاكية، وبلغت نسبة المصانع الصغيرة ٨٥٪ من جملة المصانع التي أقيمت أثناء الحرب، وإن جاء معظم الإنتاج من المصانع الكبيرة التي هيَّأت لها الحكومة فرص احتكار بعض السلع الهامة.

نمت الصناعة بعامة بمعدل يزيد على ٥٫٥٪ سنويًّا، في الوقت الذي نقص فيه عدد المصانع الصغيرة التي تقل قيمة إنتاجها السنوي عن ٥٠٠ جنيه، من ٥٤٫٩٪ إلى ٣٧٫٧٪، بينما ارتفع عدد المصانع التي يزيد إنتاجها على ألف جنيه من ٢٩٫٤٪ إلى ٣٩٫٦٪.١٣٣ ونشأت صناعات مثل الجبن الجاف وتعبئة الخضراوات وورق اللف والعلف الصناعي وقطع الغيار والنشادر ومواقد الغاز والعدسات والأجهزة العلمية والطبية والمسامير والأسلاك والأنابيب وصنابير المياه، وكانت صعوبة الحصول على قطع الزهر الخردة التي تُستعمَل في صب مواسير المياه، وطارات بوابير الحرث، وحدافات المكن، باعثًا لأن يشتري المعلم محمود الرشيدي صاحب المسبك (في المسبك) قطعًا من مخلفات الجيش البريطاني لاستعمالها، أغلفة قنابل، طارات بوابير، أجنحة دبابات، أكتاف مدافع، مواسير مدافع، قطع آلات مكن … إلخ، وخصص لذلك أحد عمَّاله: الأسطى سلامة.١٣٤
ويقول حسين شاكر (شيء في صدري): «كانت أيسر المقاولات وأكثرها ربحًا، مقاولات الجيش البريطاني.»١٣٥
وكانت الإسكندرية بالقرب من ميدان القتال في الصحراء الغربية، مما أدى إلى انتعاشها، تجاريًّا وصناعيًّا.١٣٦

•••

كانت صورة الملكية الزراعية تثير التأمل، وضرورة المراجعة (لذلك أعلن محمد خطاب دعوته بتحديد الملكية الزراعية) فقد كان ٥٪ يملكون ٣٤٪ من مجموع الأراضي، بينما ٩٤٪ لا يزيد ما يملكون على ٣٥٪ من مجموع الأراضي، بالإضافة إلى حوالي ١١ مليونًا من المعدمين الذين لا يملكون إلا قوتهم الجسدية، وهي قوة كانت — للأسف — تعاني أمراضًا كثيرة، بتأثير سوء المعيشة، وقلة الدخول، والأمراض المتوطنة. ولو أن الزوج عبد الله (الحرام) وجد عونًا ما لإنقاذ حياته، فمن المؤكد أن «الحرام» الذي هوت عزيزة في «حفرته» ما كان ليحدث!

وعلى الرغم من تأكيد الفنان (ثم تشرق الشمس) على أن الحرب قد أغدقت مكاسب كثيرة على أصحاب الأراضي، نتيجة لارتفاع أثمان المحصولات،١٣٧ فإن الراوي (الضفيرة السوداء) يقول: «وفي سنوات الحرب الثانية لم ينجُ الريف من الخراب.»١٣٨
جاهر عدد من كبار الملاك برفض كل محاولات تغيير الصورة الثابتة في القرية المصرية، رفضوا كل محاولات التطوير، فتعليم أولاد الفقراء — في نظرهم — ينطوي على مخاطرة اجتماعية، يصعب تقبُّلها، وطالب بقصر التعليم على أبناء الأغنياء، كي لا تزيد أعداد العاطلين، وتنشأ ثورات نفسية — على حد تعبيره — لا لزوم لها.١٣٩
وأدت الزراعة المستمرة، واختلال الدورة، وقلة الأسمدة، إلى إنهاك الأرض، ونقص معدلات الإنتاج الزراعي.١٤٠ كما أثقلت تكاليف العيش كواهل الفلاحين: بالغ ملاك الأراضي في إيجارها، وارتفعت أثمان الضروريات، فلجأ البعض (قبل أن تفيض الكأس) إلى الجريمة، وهاجر البعض إلى المدن، وإلى معسكرات الإنجليز بالقناة.١٤١ ورغم الأمر العسكري، الذي كان ينص على ألا يقل أجر العامل الزراعي عن عشرة قروش، فإن بعض الجهات — ومن بينها السراي الملكية! — كانت تعطي العامل خمسة قروش فقط!١٤٢
ورفض صدقي فرض الضريبة التصاعدية، بحجة أن ذلك سيؤدي إلى انخفاض أثمان الأراضي الزراعية، وقد ناقشه محمد مندور في هذا الرأي، بأنه «من مصلحتنا جميعًا أن تنخفض الأثمان، لا أثمان الأراضي الزراعية فحسب، بل وأثمان كل شيء في بلادنا، وصلت أثمان الأطيان الآن إلى حد المضاربة، وارتفاع تلك الأثمان معناه انخفاض قيمة النقود، وسياستنا كلها ترمي الآن إلى رفع قيمة النقود، ومحاربة الغلاء في كافة مواده.»١٤٣
واتخذت الحكومة قرارًا بإلزام بعض المديريات، بقصر زراعتها على الحبوب، ثم عرضت على المزارعين أسعارًا مرتفعة للحبوب المخزونة، فظهرت في الأسواق.١٤٤
أما المحصول الرئيس (القطن) فقد عانى مؤامرة بريطانية لخفض أسعاره، حيل بين مصر وبيع الفائض من أقطانها إلى البلاد المحايدة، حتى لا تذهب — في زعمها — بطريقٍ مباشرة إلى أيدي الأعداء، ولم تحاول تصريف الكميات الهائلة من الأقطان المصرية المكدسة في المواني، بينما استطاعت بلاد أخرى أن تحقق أرباحًا طائلة من صادراتها من القطن، وفي مقدمتها — بالطبع — الأمريكية، وحين أعلن الفلاحون قلقهم على محصول القطن، عهد البرلمان إلى الحكومة بمفاوضة إنجلترا على شرائه.١٤٥
بدأت الأحاديث تدور حول القطن، وكيف أن الفلاحين ستُخرَب بيوتهم إذا لم يشترِ الإنجليز كل القطن المصري.١٤٦
لذلك علا صوت المرأة في الأوتوبيس المتجه إلى القرية (قلوب خالية): مدفَّعنَّا ستة صاغ في المشوار بعد ما كنَّا بندفع سبعة تعريفة … تقولش القطن بميت جنيه … إن شالله الفلوس اللي بياخدوها دي تطلع على جتِّتهم بلا.١٤٧
وعلى الرغم من ابتعاد الريف عن جو الحرب، إلا أن الحرب ألقت ظلها على الحياة في الريف «فما كان يمر يوم بغير سرقة بالإكراه، أو تقليع مزروعات، أو قتل شنيع، أو تصادم بين أهل القرى.»١٤٨ وصدر أمر عسكري بترحيل المجرمين والمشبوهين إلى معتقل الطور، فنشط كل مأمور مركز، وكل عمدة، ونشط هواة العرائض، وسيق المجرمون والأبرياء في سلاسل وكلابشات إلى الطور.١٤٩ أصبح في استطاعة أي عمدة أن يقذف بأي شاب يتقاعس عن أداء ما هو مطلوب منه من مبالغ مادية أو محاصيل في المعتقل، بتهمة أنه «خالي عمل وخطر على الأمن»، ذلك لأن الشاب يعمل في أرض أبيه أو أهله، فهو من هذه الناحية لا يمتلك أرضًا، وقرار الحاكم العسكري ينص على ترحيل كل الذين بلا أرض، ولا يعملون أي إجراء في أرض غيرهم إلى المعتقلات.١٥٠ (أستأذنك في أن أشير إلى روايتي «بوح الأسرار»)
يقول هنداوي (قلوب خالية) عن عمدة القرية: «عمدة قال؟ ده زي ما يكون حاطط الكفر في صندوق وقافل عليه … كل حاجة يقول: الطور والأحكام العسكرية … اللي ما يشتغلش في غيطه، يهدده بالطور، اللي ما يبعتش المعلوم للدوار، يقول له ع الطور.»١٥١

وعند اعتزام السلطة المحلية نفي غانم إلى الطور، فإن الكفر كله وقف إلى جانبه، وضد الحكام المحليين، حتى النساء، حتى خصوم غانم أنفسهم.

يقول الشيخ متولي: الواد غانم ده يروح الطور ليه بقى؟ بيسرق؟ له سوابق؟ يعني، يعني هو عواطلي؟ ده صاحب أرض يا جدع.

يقول العمدة: «يا سيدي ما تاخد بالك … ما هو من ناحية القانون يُعتبَر ما لوش شغلة، أولًا لا هو أُجري بيشتغل في ملك، هو ما لوش أرض في البلد! التكليف كله باسمك! يعني حسب الأحكام العرفية ممكن يتمسك، لأنه خالي عمل، وخطر على الأمن.»١٥٢
وكان تبرير الحكومة بحرمان عمال الزراعة من حق تكوين النقابات، أنهم قد يعمدون إلى الإضراب، مما يشل الزراعة، ويكون مصدر خطر على البلاد، كما سرى الخوف من أن تكون النقابات سبيلًا لتسرب المبادئ الشيوعية إلى الريف، بالإضافة إلى أنه قد يؤدي لإثارة النزاع بين الملَّاك ومزارعيهم، وهما فريقان — على حد التعبير الحكومي — يسودهما الوئام.١٥٣

أما جمال الدين سعيد فهو يهبنا تعليلًا غريبًا لتخلف التشريعات العمالية في الزراعة، فمن الصعب — في تقديره — لم شتات العمال الزراعيين في نقابات، كما أن العلاقة بين رب العمل وبين العمال في المزارع الصغيرة، وهي المنتشرة غالبًا، إنما هي علاقة شخصية لحد كبير، فضلًا عن أن الزراعة مهنة مفتوحة لا تحتاج إلى مهارات معينة لاحترافها.

والرد على هذا الرأي الغريب وارد من خلال مواقف الإقطاع في البرلمان، وفي الحكومة، ضد أية محاولة لتنظيم الفلاحين الأُجراء، بل إن الكاتب يناقض ما ذهب إليه عندما يشير في فقرات تالية إلى أن الملكية الكبيرة التي كانت قائمة في مصر، اتسمت «بوجود طبقة من لوردات الزراعة، راحت تحكم بشريعتها هي، واستغلت عدم وجود قوانين تنظم العلاقة بين المالك والمستأجر، وبين العامل الزراعي، وسيطرت على الفلاحين سيطرة كاملة، وأبقتهم في مستوى العبيد، وفرضت عليهم الالتزامات، وربطتهم بعجلة كبار الملاك.»

عمل كبار الملَّاك على إبقاء مستويات الأجور ضعيفة، وعلى زيادة أعداد العاملين بالزراعة ليزيد عرضهم، فيقل عددهم، ويرتفع الطلب — في الوقت نفسه — على المنتجات الزراعية، نتيجة لزيادة الطلب عليها من السكان المتزايدين، وبالتالي يزداد الإيجار الذي يحصلون عليه.١٥٤ (في عام ١٩٤٢م، اعترض محمود محمد الوكيل على مشروع القانون الذي تسمح إحدى مواده بتكوين النقابات للطهاة والسائقين الخصوصيين والخدم: ماذا يكون العمل إذا أنشأ الخدم الخصوصيون نقابة لهم، فيكلفني خادمي أن أذهب كل يوم إلى النقابة، وأعود من النقابة؟ إن هذا ما سيجعل الخادم يعتقد أنه على قدم المساواة معي!)

•••

وبالطبع، فقد وصلت تأثيرات الحرب إلى الصعيد؛ زاد سعر القطن، فبادر معظم المزارعين إلى زراعة أراضيهم قطنًا، بدلًا من زراعة الحبوب،١٥٥ وصار الناس يخبزون الدقيق الذي توزعه الحكومة بالبطاقة بعد أن استولت على محصول القمح بالحيازة،١٥٦ واختفت سلع، وبارت سلع، وارتفع سعر الحاجات، حتى السكر اختفى، والشاي يُحلَّى بقطع الملبس، وشح الجاز والزيت، والشموع والمصابيح تُضاء بفتائل تُغمَس في دهن الحيوان، واشتد فقر الغالبية، وعمَّت السرقات، وانقطعت رسائل الأبناء إلى الآباء، والعكس «فلتحرق هذه النار الإنجليز، وليُحرَق هتلر، والبقالون، والملك، وتجار الأكفان.»١٥٧ وانهالت اللعنات على الألمان والإنجليز والإيطاليين، فهم السبب في معاناة الجميع.١٥٨

•••

وعلى الرغم من تفشي البطالة، بعد أن زحف آلاف العمال إلى منطقة القناة للعمل في معسكرات الإنجليز،١٥٩ فإن الفنان يشير إلى أن المحال التجارية عانت قلة العمال.١٦٠
والملاحَظ أنه منذ بداية الحرب، وجَّهت الحكومة إلى الحركة العمالية ضربات عنيفة متوالية، طاردت الشرطة النقابيين، واعتقلت قادتهم، وحظرت الإضرابات والنشاط العمالي بعامة، بل إنها أغلقت دور اتحاد نقابات عمال المملكة المصرية.١٦١

ثم أدى نمو الرأسمالية وتكاثر المصانع، إلى زيادة أعداد العمال، وتوضحت مشكلة الهجرة من الريف إلى المدن، وما تفرع منها من مشكلات اقتصادية واجتماعية، فضلًا عن التحاق الآلاف بمعسكرات الإنجليز أثناء الحرب.

وبعد أن كانت التجمعات العمالية — قبل ١٩١٩م — مبعثَرة في القليل من المصانع الكبيرة، والورش المتوسطة والصغيرة، إضافة إلى عمال العنابر والترام، فإنها قد تركزت في المصانع الضخمة والمناطق العمالية التي تضم كلٌّ منها آلاف العمال، وأصبحت الطبقة العاملة مهيَّأة لدور رئيس في صنع الأحداث.١٦٢
وكان لذلك أيضًا تأثيره في نمو الحركة العمالية، ومطالبتها ببعض الحقوق، مثل رفع الأجور، وإنشاء النقابات، كما أفاد العمال من ازدهار الصناعة النسبي، ومن القوانين العمالية التي أصدرتها حكومة الوفد، والمبادئ والاتجاهات الاجتماعية والثورية التي حملتها الحرب، فضلًا عن إقبال أعداد كبيرة من العمال على التعلم والتثقف.١٦٣
وقد اتخذ الصراع الرهيب في أوروبا مظهرًا بسيطًا له في القاهرة، عبارة عن مكتب صغير في شبرا، يديره ضباط إنجليز، ويقبل عمالًا من مصر بأجورٍ خيالية،١٦٤ التحق مائتا ألف عامل مصري بورش الصيانة والمصانع الحربية التابعة للقوات البريطانية، ونشطت — تبعًا لذلك — حركة هجرة الأيدي العاملة من الريف إلى المدن، بحثًا عن فرص العمل المتاحة.١٦٥ كانت شكوى صاحبة محل الجلود المعلنة (امرأة في الجانب الآخر) انصراف العمال للعمل في معسكرات الجيش البريطاني، جريًا وراء النقود،١٦٦ ويصف سيد (سمكة في يد اليتيم) سنوات الحرب بأنها السنوات الخضر، فقد كان يعمل بالجيش، وكانت موارده تسمح له بأن ينفق بسعة على زوجه وأمه وأخته،١٦٧ وكان التحاق حسين كرشة (زقاق المدق) بمعسكرات الإنجليز هو الدافع لتفكيره في أن يبدأ حياة جديدة،١٦٨ وكان الشاب (زقاق المدق) صبي قهوة، فلما نشبت الحرب، التحق عاملًا بمعسكرات الجيش الإنجليزي، ثم عمل قوادًا لعساكر الإنجليز.١٦٩
وعبَّر حسين كرشة عن هذا المعنى بالقول (زقاق المدق) إن الحرب ليست نقمة، ولكنها نعمة النعم «لقد بعثها ربنا لينشلنا من وهدة الشقاء والعوز، على الرحب والسعة ألف غارة وغارة ما دامت تقذفنا بالذهب.»١٧٠ إنها «أيام كانت نقود الإنجليز تُوهِم الأغرار بالثراء الدائم.»١٧١
ومن النتائج السلبية للحرب، تفاقم ظاهرة تعدد الزوجات بين أفراد الطبقة العاملة، ارتكازًا إلى الوفر المادي الذي تحقق لهم بالعمل في المعسكرات الإنجليزية، ثم تفاقمت — بتقلص فرص العمل في المعسكرات — ظاهرة أخرى، هي الطلاق.١٧٢
وفي أواخر أيام الحرب، استغنت السلطات البريطانية عن الآلاف من العمال المصريين، وعاد حسين كرشة إلى زقاق المدق — الذي كرهه! — مرغمًا، ومعه زوجته وشقيقها، وهو عامل فصلته السلطات البريطانية.١٧٣

•••

كان العامل في سنة ١٩٤١م يعمل ١٢ ساعة يوميًّا، يحصل منها على نصف ساعة للراحة، بينما تكفيه نصف الساعة في يوم الجمعة للصلاة، وتناول الطعام والراحة.١٧٤ وفي يوليو ١٩٤٢م أُجري تحقيق عن المصروفات الضرورية لعامل له زوجة وأربعة أطفال ليغطي نفقات مأكله وملبسه ومسكنه، وبلغ مجموع ما يحتاجه العامل في شهر كامل ٤٤٠ قرشًا، فلما استبعد اللحم والبيض والسمك والصابون، إلى جانب الملابس والأدوية التي استُبعدت في المرة الأولى، بلغ ما يحتاجه العامل ٣٤٦ قرشًا في الشهر، وكان متوسط الأجر الشهري آنذاك ٢٩٢ قرشًا، بما يعني أن غالبية العمال كانوا يعيشون تحت مستوى الفقر،١٧٥ وكان غالبية العمال في المصانع الكبرى يفضِّلون ورديات الليل لينصرفوا إلى بعض مهامهم الخاصة بالنهار، ومنها الزراعة، لأن العمال فلاحون، وكما يقول كاتب السيرة الذاتية، فإن غرامهم بالزراعة موروث.١٧٦

كان محلج أحمد جلال في مدينة دمنهور، وطبيعة العلاقة بين العمال والإدارة، بُعدًا رئيسًا في رواية محمد فريد أبو حديد «أنا الشعب»، لكننا نغادر الرواية دون أن تهبنا اهتمامًا حقيقيًّا بما كان يجري في المحلج الذي عمل فيه سيد زهير مشرفًا، ثم ما لبث أن تركه — مطرودًا — لا لتصرُّف إيجابي، مناصرة للعمال الذين كانوا يجاهرون بالمعاناة، بل والعداء، لكن لخصومة شخصية بينه وبين مصطفى عجوة الذي كان ينقم عليه حظوته لدى صاحب المحلج، برغم أن الصحافة كانت هي المجال الذي اتجه إليه سيد زهير، بعد فصله من المحلج، وأن الدفاع عن قضية المجموع — والكادحين على وجه التحديد — كانت هي القضية الأولى التي تصدى لها، وأودع السجن مقابلًا لها.

ولعله من هنا يضطر الدارس — آسفًا — إلى إسقاط تلك الفترة المهمة من حياة سيد زهير، رغم أنها كانت إرهاصًا مؤكَّدًا بمواقفه التالية، وأنها كانت الأرضية المناسبة — والحقيقية — لنضال سيد زهير، الذي بدا غير مبرر وسط دوامة الرفض المستمر — والنمطي — لكل ما يحيط بالبطل من سلبيات مجتمعه، والحب المتعفف، والمثالي، لابنة صاحب المحلج، والخصومات الشخصية الدائمة، ومحاولات التفلسف التي لا تنتهي.

انتهت الحرب بخلطٍ واضحٍ لأوراق الطبقات الاجتماعية، فلم تعُد طبقة ما في موقعها السابق، وإن ازداد ثراء الأغنياء، وازداد الفقراء فقرًا، وأسفر التناقض — في بعض أبعاده — عن ظهور طبقتين جديدتين متصارعتين، هما طبقة تجار الحرب الذين كوَّنوا الرأسمالية المصرية الجديدة، والعمال، العدو اللدود للرأسمالية، وتزايدت — مع تزايد العمال — أجواء المثقفين الواعين الذين تخرَّجوا في الجامعة المصرية.

وكشفت ظروف الحرب عن تهادن البرجوازية المصرية وانهزاميتها، وبدا واضحًا أن كل التنظيمات السياسية ليست على مستوى «القضية»، ومن ثَم فقد تغيَّرت صورتها في أعين الجماهير، ولاحت في الأفق قوى اجتماعية جديدة بوسعها قيادة الثورة الاجتماعية.

كان من نتائج الحرب زيادة أعداد العمال المصريين بعد ترحيل، أو اعتقال، الكثير من العمَّال الأجانب.

وفي المقابل، فقد نزحت أعداد كبيرة من العمال في منطقة القناة (نتذكر — على سبيل المثال — حسين كرشة وعباس الحلو في «زقاق المدق») وواجه غالبيتهم — في الداخل — ظروفًا اقتصادية واجتماعية قاسية، حتى إن حسين كرشة اضطر إلى اللجوء إلى أبيه ليقيم عنده، بعد أن هجره فترة عمله في معسكرات القناة.

بدأت التجمعات العمالية تؤكد وجودها كقوة مؤثرة وعنيفة، وبدأ صوت الفلاحين يعلو ويتوضح كقوة ثورية، تسعى إلى الخلاص من قيادات البرجوازية، استمرارًا لنضالها في الأرض وعاصفة على مصر، وشهد المجتمع المصري بعامة — في أعقاب الحرب — حركة ثورية شاملة ضد الاستعمار، وضد الطبقات المالكة والرأسمالية، وأسهمت الطبقة العاملة في ذلك النضال، وبرزت كقوة مستقلة، وإن ارتبطت — بوشائج شتى — بالنضال المصري في عمومه.

وكان أول وأهم اشتراك للطبقة العاملة في الكفاح الوطني والديمقراطي، بمحتواه التقدمي والثوري — بعد الحرب — هو اشتراك منظمات العمال النقابية، اشتراكًا فعليًّا، وقياديًّا، في «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» التي تكوَّنت في فبراير ١٩٤٦م.

كانت معظم القيادات العمالية مستقلة عن القيادات الحزبية والبرجوازية التقليدية، وترتبط بالمنظمات الماركسية الجديدة، التي تكوَّنت أثناء الحرب وبعدها، ونتيجة للضغوط الاقتصادية الرهيبة التي عانت الطبقة العامة ويلاتها أثناء الحرب، فقد كان همها النضالي الأول هو تغيير ظروف أفرادها الاقتصادية والاجتماعية، تلك الظروف التي عبَّرت عنها صحافة العصر بعشرات النعوت مثل: «حياة بؤس أسود مرير» … «حياة تنزف دمًا» … «حياة قبور للكادحين وقصور للمستغلين» … «العمال أشباح وأكفان» … إلخ، وتعرضت الحركة العمالية لمحنة قاسية، طارد فيها البوليس السياسي النقابيين، واعتقل القادة والزعماء، وحظر النشاط العمالي بكل ألوانه.

وعلى الرغم من ذلك، فقد زاد حجم الطبقة العاملة بصورة مؤكدة، واستطاعت — في عهد الوزارة النحاسية — أن تنال اعترافًا قانونيًّا بنقاباتها.١٧٧
تبدَّى الصراع — كأوضح ما يكون — بين السراي والوفد، لاستمالة الحركة العمالية، فأصدرت حكومة الوفد — أثناء توليها الحكم عقب حادثة ٤ فبراير (ونفرد لها فصلًا مستقلًّا) — مجموعة من التشريعات العمالية التي تستهدف صالح العمال، أبرزها قانون الاعتراف بالنقابات (٦ سبتمبر ١٩٤٢م) وهو أول قانون يبيح تشكيل نقابات العمال في مصر، وينظم الشروط اللازمة لتكوينها؛ فالمادة الثالثة منه تنص على أن للعمال الذين يشتغلون بمهنة أو صناعة، أو حرفة متماثلة، أو مرتبطة ببعضها، أو تشترك في إنتاج واحد، أن يكوِّنوا فيما بينهم نقابات ترعى مصالحهم، وتدافع عن حقوقهم، وتعمل على تحسين حالتهم المادية والاجتماعية (ويُعَد هذا القانون — بالفعل — نقلة كبيرة في تاريخ كفاح الطبقة العاملة، فقد بلغ عدد النقابات العمالية التي تم تسجيلها، منذ صدور قانون الاعتراف بالنقابات إلى أبريل ١٩٤٤م، ٣٧١ نقابة (النقابة والعامل في العصر الذهبي، ١٢٨))، قانون التأمين الإجباري ضد حوادث العمل، قانون عقد العمل الفردي، قانون مكافحة الجهل ومحو الأمية، وهو يَفرض على الأميين فيما بين الثانية عشرة والخامسة والأربعين، تعلُّم القراءة والكتابة ومبادئ الدين والحساب، مع قدرٍ مناسبٍ من الثقافة، واشترط على أصحاب الأعمال التجارية والصناعية الذين يستخدمون أكثر من ثلاثين عاملًا أن يهيِّئوا — على نفقتهم — وحدات لمحو الأمية بين عمالهم،١٧٨ كما صدر في ٩ ديسمبر ١٩٤٢م، الأمر العسكري الخاص بصرف إعانة غلاء المعيشة لعمال الشركات الصناعية.١٧٩ وبلغ مداهنة حكومة الوفد للعمال وصف الوزير الوفدي عبد الحميد عبد الحق يحيى العامل المصري بأنه — كما قال الوزير بالحرف — جعل «الشمس في الشتاء دثاره، ونور القمر في الظلمة سراجه، وحشاش البرية فاكهته، وهو ماضٍ في رحلة الحياة ثابت الجأش، صارم القلب.»١٨٠ أما فؤاد سراج الدين فقد تحدث في المؤتمر الوفدي — ١٧/ ١٢/ ١٩٤٣م — بالقول: «ما أسعد الحديث عن العامل المصري؛ لأن الحديث عنه حلو ولذيذ، يخرج من القلب لا من اللسان، ولا يفيض به الفم بقدر ما يفيض به الوجدان. إن الحديث ليزيده حلاوة، وإن عباراته لتزيده طلاوة، فيغدو وقد أصبح حديث الوطنية الصادقة، ونغمة القومية الناطقة … إلخ.»١٨١

وثمة رأي أن الحكومة قد أفرغت قانون الاعتراف بالنقابات من أي محتوى إيجابي، فالنقابات يجب أن تكون خاضعة لرقابة البوليس، وتبلِّغ عن الاجتماعات التي تنوي إقامتها قبل الموعد بوقتٍ كاف، فضلًا عن تعرضها للحل الإداري إذا رأت السلطات أنها حادت عن الهدف الذي تكوَّنت من أجله، كما حرمت مئات عدة من العمال من حق تكوين النقابات حماية للطبقات الأعلى، وحرم العمال أيضًا من إقامة اتحاد عام، يحقق وجودهم الطبقي، ويحمي حقوقهم ومصالحهم.

والواقع أن الشركات لم تدخل حربًا صريحة في محاربة التشكيلات النقابية والجمعيات التعاونية التي كوَّنها العمال: «إن محاربة العمال حربًا صريحة، تنتهي غالبًا بخسارة الشركة، حتى لو خسر العمال أيضًا، إن هؤلاء العمال عندما يثورون يصبحون كقطيعٍ من الثيران الهائجة العمياء، يحطمون في طريقهم كل شيء، حتى لو اصطدموا بحاجزٍ من السكاكين ينحرهم جميعًا.»١٨٢
وأقامت الحكومة الوفدية حفلًا في ٣٠ مايو ١٩٤٣م أعلنت فيه بعض القيادات العمالية، وأعلنت فيه أيضًا — على لسان بعض القيادات العمالية الوفدية — تلقيب مصطفى النحاس بالعامل الأول، ربما قبل أن تفطن السراي إلى اللقب ويناله الملك، ثم تقرر أن يكون يوم ٣٠ مايو — وليس أول مايو — من كل عام عيدًا للعمال في مصر.١٨٣
وإدراكًا من السراي بتعاظم دور الطبقة العاملة في مجريات السياسة الداخلية، فقد حاولت استمالتهم ببعض المظاهر الديمقراطية التقليدية الساذجة للطبقات الأعلى في المجتمع المصري: دعا الملك بعض قيادات العمال إلى مائدة إفطار ملكية في شهر رمضان، وتناول الإفطار معهم «مما كان له أحسن الوقع في النفوس، فتركت أثرًا جميلًا سيظل مطبوعًا على القلوب، وسيحفظ العمال هذا العطف السامي مدى الأيام.»١٨٤

وبديهي أن المأدبة الملكية لم تُحدِث تطورًا ما في الواقع الذي كان يحياه الملايين من أبناء الطبقة العاملة، وأشار محمد مندور إلى مقال لسعادة مراد باشا وهبة، يدعو فيه كبار الأغنياء إلى التبرع لفتح مطاعم شعبية، تقدِّم للفلاحين المعوزين وجبة من الطعام.

وأثار هذا الاقتراح مناقشات، استمرت أيامًا «نحن لا نحارب روح الخير، ولكننا لا نريد أن توضع مشاكل البلاد الكبيرة في غير وضعها الصحيح الجدير بكرامة الإنسان، فالمشكلة ليست مشكلة إحسان، وإنما هي مشكلة اجتماعية لا يجوز أن تصرفها عن وجهتها، والأساس العام لحل مشكلة الفقر في البلاد هو العدالة في تمكين مختلف الأفراد من وسائل الإنتاج، وكسب كل رجل قوته اليومي بعرق جبينه.»١٨٥
وعلى الرغم من ذلك، فإن الحركة العمالية عانت إلى حدٍّ كبير في أعوام الحرب، تسللت العناصر المأجورة إلى داخل النقابات، تتجسس على العمل النقابي لصالح الإنجليز والسراي وأصحاب رءوس الأموال، وحُرِم العمال من كل حقوق التعبير، وحُلَّت عشرات النقابات، وفُصِل قادة العمال، وحوكموا، وعُذِّبوا، في السجون والمعتقلات، وشُرِّدوا، واحتلت المناطق الصناعية الكبرى — مثل شبرا الخيمة والمحلة الكبرى وكرموز — بقوات من الجيش والبوليس، لمواجهة الإضرابات التي قام بها عمال النسيج خلال تلك الفترة.١٨٦

•••

فرضت العائلة على سامية (قصة «نوم الخلاص» لأندريه شديد) زوجًا قاسيًا، جرَّها — منذ أيام الزواج الأولى — إلى مشكلات ومشادات ومحاولات دائبة لفرض السيطرة، ويملي عليها اليأس — في النهاية — حلًّا مأسويًّا، فتقتل زوجها!

لكن الحرب غيَّرت حتى من طبيعة الأحاديث التي كانت النساء يتبادلنها من وراء النوافذ ضحى كل يوم، بعد أن ينصرف الرجال إلى أعمالهم؛ لقد أصبحت أحاديثهن سياسية، بعد أن كادت تقتصر على تناول أخبار وأسرار الآخرين،١٨٧ وثمة فتيات صغيرات من أهل الأحياء الشعبية، خرجن بحكم ظروفهن الخاصة، وظروف الحرب بعامة، عن التقاليد الموروثة، واشتغلن بالمحال العامة اقتداء باليهوديات، ثم مضين على أثر اليهوديات كذلك في العناية بالمظهر، وتكلف الرشاقة، وأصبحت غالبيتهن لا يتورعن عن تأبط الأذرع والتخبط في الشوارع الغرامية، تعلَّمن شيئًا واقتحمن الحياة،١٨٨ وقالت حميدة لأمها (زقاق المدق): ألم تعلمي أن الحرب موضة، وأية موضة؟!١٨٩

واتجه عدد كبير من فتيات الطبقات الأدنى اللائي عملن بمهن صغيرة كالخدمة في البيوت، إلى مجال جديد، يهب فرصة أكبر في الحياة الرغدة، وهو العمل في العمل في الملاهي الليلية.

تتساءل هناء (أكبادنا) في دهشة: أنا عارفة أين اختفى الخدم؟

يجيب زوجها في بساطة: في الكباريهات!١٩٠
وتواصلًا لظاهرة خروج المرأة إلى العمل، فقد تضاعفت أعداد الطالبات، حتى إن خديجة (السكرية) تقول لزوجها الذي يرى أن مكان المرأة هو البيت: «هذا الكلام كان يقال في الزمن الماضي، أما اليوم، فالبنات كلهن يذهبن إلى المدارس.»١٩١
رغم ذلك، ولأنها كانت تنتسب إلى جيل سابق، فقد كان رأيها أن الوظيفة لا تعرفها إلا الفتاة البائرة، أو القبيحة، أو المسترجلة.١٩٢
ويبين التطور المذهل في العلاقات، في قول أحمد شوكت (السكرية) لزميلته في كلية الآداب علوية صبري: هل تسمحين لي بالتقدم لخطبتك؟١٩٣
وتصارحه الفتاة: إنك تأبى إلا أن تحملني على الكلام، أرجو أن تتقبَّل كلامي بصدرٍ سمح، لقد فكرت في موضوع الزواج من قبل كثيرًا، لا بالقياس إليك، ولكن بصفة عامة، وانتهيت منه — ووافقني على ذلك والداي — بأن حياتي لن تستقيم، وأنني لن أحافظ على مستواي إلا إذا تهيأ لي ما لا يقل عن خمسين جنيهًا شهريًّا.١٩٤

فأين الحجاب، وضل الرجل الذي يُغني عن ضل الحيط، وحبس المرأة داخل جدران بيتها، لا تغادره إلا إلى القبر؟!

وبالنسبة للجانب الشخصي عند المرأة، فقد صارت النحافة هي الموضة، تقول السيدة (الشريدة): أنا أفضِّل المشي لأني أريد أن أنحف.

وينظر الرجل إلى جسدها البض الممتلئ نظرة معذَّب، ويقول: وما جدوى هذا التعب؟ إن جسمك كامل الفتنة!

تشير إلى جسدها وتقول: هذه موضة قديمة!١٩٥

•••

وفي ١٩٤٤م صدر الأمر العسكري رقم ٤٧٦، يعتبر الحدث المشرد من تسوَّل في الطريق العام، جمع أعقاب السجائر، باع السلع التافهة، عرض الألعاب البهلوانية بهدف التسول، اشتغل بالدعارة أو القمار، اعتاد النوم في الشوارع، خالط المتشردين والأشخاص ذوي السيرة السيئة.١٩٦
لم تكن في القاهرة كلها — أيام الحرب — قهوة ساهرة طوال الليل في ليالي الغارات، إلا قهوة الفيشاوي، كانوا يغلقون أبواب القهوة، ويمارسون لعبة الدومينو، ويشربون الشاي الأخضر، ويهملون القلق الذي تثيره الغارات، واتخذ المعلم كرشة صاحب قهوة زقاق المدق قرارًا باستخدام الراديو بدلًا من الشاعر الشعبي، وقال للشاعر في حسم: «عرفنا القصص جميعًا وحفظناها، ولا حاجة بنا إلى سردها من جديد، والناس في أيامنا هذه لا يريدون الشاعر، وطالما طالبوني بالراديو، وها ذا الراديو يركب، فدعنا ورزقك على الله.»١٩٧
وكانت قهوة كرشة هي آخر ما تبقى من القهاوي أمام الشاعر الشعبي، ومع أنه حاول أن يدافع عن إنشاده فيها، فإن المعلم كرشة ركَّب الراديو في موضعه من القهوة بالفعل، مستجيبًا بذلك إلى رغبة الزبائن، وأن كل شيء قد تغير.١٩٨
وكانت تلك هي المشكلة التي صادفها الشيخ إسماعيل القارئ (شجرة الجميز) عندما بدأ الناس يستغنون عنه بشراء أجهزة راديو،١٩٩ بالإضافة إلى الفونوغراف.

يسأل ياسين ابنه رضوان (الأب هو الذي يسأل!): أأزعجك إذا أدرت الفونوغراف؟

يقول رضوان: أما عني فلا … ولكن الجيران نائمون في هذه الساعة المتأخرة!٢٠٠
وقد أفاد الراديو في الدعاية — أوقات الحرب — كأحد الأسلحة الحديثة.٢٠١

ويسأل المعلم نونو أحمد عاكف: هل أنت صحفي؟

يجيب عاكف: هبني أجبت بالإيجاب؟

– مستحيل!

– ولمه؟

– أنت ابن ناس طيبين!٢٠٢

•••

نحن نتعرَّف في «ثلاثية» نجيب محفوظ إلى التغيُّر المؤكد الذي فرض نفسه في النمط المعماري لحي الجمالية، وما يجاوره من أحياء. ظلت لمئات الأعوام تتبع نسقًا معماريًّا مغايرًا، حتى الكهرباء، والراديو، والمياه النقية، وتعبيد الطرق بالأسفلت، وغيرها من المستحدثات التي دخلت على البيئة، غيَّرت من ملامح تلك البيئة بصورة واضحة، وهو ما عبَّر عنه أحمد عبد الجواد بالقول: «كل شيء جديد إلا أنا!»٢٠٣
كانت حياة أحمد عبد الجواد قد تحددت في فراشه لا يغادره، فهو يرقد عليه نهارًا، وينام ليلًا، ويتناول فيه طعامه، ويقضي حاجته أيضًا، لم يعُد بوسعه مجرد الجلوس في المشربية، أو على الكنبة في حجرة النوم.٢٠٤
وإذا كان لكل إقليم عاداته وتقاليده، وربما لهجته المميزة، ساعد على ذلك صعوبة المواصلات، وانكفاء كل إقليم على نفسه، فهو لا يتصل بالأقاليم الأخرى إلا نادرًا، وبواسطة جماعات محدودة، ومحددة … فإن ظهور القطار والسيارة، ثم الطائرة فيما بعد، بالإضافة إلى وسائل الإعلام كالصحف والإذاعة (في يوم الخميس ٣١ مايو ١٩٣٤م، انطلق البث الإذاعي للملكة المصرية، بتلاوة للشيخ محمد رفعت، تلاه الشاعر علي الجارم بقصيدة عنوانها «تحية جلالة الملك»، ثم فاصل غنائي للآنسة أم كلثوم، ثم فاصل غنائي للأستاذ محمد عبد الوهاب. ولعلنا نجد تعبيرًا عن القيمة التي أضافتها الإذاعة المصرية في حياتنا الاجتماعية، في العمود الصحفي «ما قل ودل» لأحمد الصاوي محمد، الذي اعتبر ما حدث تغيرًا هائلًا في المجتمع المصري (الأهرام، ٢٠/ ٥/ ١٩٣٤م))، أدى إلى تلاشي المسافات، واتصال الناس ببعضهم البعض، بحيث قُضي على العزلة، وزاد التأثير والتأثُّر، وتداخلت التقاليد والعادات بما يصعب إغفاله،٢٠٥ وأنشئت أول نقابة للصحفيين المصريين في ١٩٤١م، وانتُخب محمود أبو الفتح رئيسًا لها. ويحدِّث حسين شداد صديقه كمال عبد الجواد — في استغراب — عن الطربوش الذي يرتديه، ولم يعُد أحد يلبسه سواه،٢٠٦ وكانت الباخرة وسيلة سفر رئيسة، تستغرق الرحلة خمسة أيام من مرسيليا إلى الإسكندرية.٢٠٧ وتقول أنهار (الحصاد) وهي تتنهد: من ذا الذي يركب السوارس الآن؟!٢٠٨ والمعنى أن سوارس انتهت، وظل تعريف «المصنع» (١٩٤٠م) محلًّا مقلقًا بالراحة، أو مضرًّا بالصحة، أو خطرًا، واللافت أن التقرير الرسمي الصحي عن عام ١٩٤١م لم يصدر إلا في عام ١٩٥٠م.٢٠٩

•••

كانت المعارك الرائعة التي خاضتها شعوب الاتحاد السوفييتي ضد النازية، عاملًا مباشرًا في اهتمام المثقفين بمظاهر الحياة في تلك البلاد. وبدأت حركة بطيئة، لكنها جادة، في ترجمة ألوان من الأدب الروسي، وبالذات أعمال كُتاب ما قبل الثورة الاشتراكية، التي تتسم بنبض إنساني، ومنها أعمال تولستوي وتورجنيف وجوركي وتشيخوف، وكما يقول الفنان، فقد كان بعض شباب الجيل يحاول — ما استطاع — أن يتعرف على زعماء الفن والفكر في العالم، وأن يصل إليه ضجيج الحضارة التي تنهار، في الوقت الذي كانت فيه القنبلة الذرية قد اختُرعَت، والأدوية المهدئة للأعصاب قد انتشرت، والبشرية كأنها تعاني المخاض.٢١٠
وساعد التحالف بين دول الغرب الاستعمارية والاتحاد السوفييتي في مواجهة المحور، على وصول بعض المطبوعات بالإنجليزية — لأول مرة — إلى القاهرة، وقرأ الشباب المصري ما لم يكن قد اطلع عليه من الفكر الاشتراكي،٢١١ إلى جانب إبداعات روس، قبل نشوء النظام السوفييتي، وبعد قيامه.
وفي ١٩٤٢م صدرت مجموعة سوء تفاهم لبشر فارس، وقدَّم لها بكلمات تؤكد أن القصة ليست لتسلية القارئ، بل لإثارته، وأنه ليس من الضروري أن يكون لها حبكة، «بل شأنها أن تتلاحق على موج الحياة المتدفقة، فلا مقاطعة ولا توقف، ولكن مساومة وتبسط، ذلك هو الإيقاع الكافي الهابط، المستقيم المنكسر، لا تحسبه خطة ملفقة في ذهن المنشئ.» وقد ناقش طه حسين أفكار بشر فارس وأعماله في مجلة «الكاتب المصري»، وكتب بشر فارس (فبراير ١٩٤٨م) مقالة بعنوان «الظلال في الأدب» وجَّهها إلى طه حسين، وشرح فيها معنى الأدب المظلل في التراث العربي، وفكرة الإيهام في الأدب العربي «ولو كان اليسر أشرف من العسر، والجلي أرهف من الخفي، في رأي المستبصرين من العرب والمستغربين، ما ذهب الراسخون في علوم القرآن مذهب المهرة في فنون النقد. ألا ترى إلى أولئك وهم بين يدي الآية الكريمة: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»٢١٢ قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير: واعلم أن العلماء ذكروا من فوائد المتشابهات وجوهًا، الوجه الأول: أنه متى كانت المتشابهات موجودة، كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيدَ الثواب. قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، و«الفن كذلك جنة، ومتعتها نورانية»، وقال بشر فارس «فمن الظلم أن يقول قائل، ساه أو مغرض، بأن أدبنا الغابر مثل الغالب من الأدب الحاضر في قرب المعنى وسهولة التعبير، أو يقول بأن قارئ الأمس كأكثر قراء اليوم في بطء الذهن وجمود الخاطر، أو في الفزع من نشاط الرواية والكلف بالتسلي والتلهي. أما سمعت أن البصراء من النقاد أكبروا المعنى الذي يجهد سامعه، فشبَّهوه بالجوهر في الصدف لا يبرز إلا للخاطر الذي يسعى فيفلح في شق الصدفة.» واستشهد الكاتب بقول الجرجاني في «أسرار البلاغة»: «ما كان من المعنى ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشد، ومن المذكور في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، أو الاشتياق له، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل.»٢١٣ ومنذ ذلك الحين — والقول ليوسف الشاروني — لم تنقطع المحاولات التجريبية، ليس في الأدب وحده، وإنما في الفنون كلها، التي كان أبرز ممثليها يوسف الشاروني نفسه ورمسيس يونان وعباس أحمد وكامل التلمساني ومحمد حافظ رجب، وعشرات غيرهم. ولعلي أعتبر هذه المقالة مقدمة نظرية لكل محاولات التجريب القائمة آنذاك، والتالية لها.
بالإضافة إلى ذلك، فقد شاعت كتابات جنسية، سُميَت «أدب حرب»، مشاكلة لعبارة «غنى حرب» التي أطلقت على الذين أثروا من المعاملات مع الجيش البريطاني آنذاك،٢١٤ اخترع المبدعون شخصية «غنى الحرب»: جسد مترهل منتفخ، طربوش معوج منبعج، سلسلة ساعة ذهبية غليظة، خواتم عريضة تتلوَّى على الأصابع، وردة حمراء على جانب الصدر،٢١٥ وأغلق عبد المجيد (مولد بلا حمص) دكانه لبيع الكتب القديمة، وسافر إلى منطقة القناة، بعد أن سمع أن تجارة الصور العارية والكتب الجنسية تدر ربحًا وفيرًا هناك،٢١٦ وتقلصت مساحات الآداب والفنون في الصحف، نتيجة لأزمة الورق، واقتصر تناول الصحف على الأخبار والمقالات السياسية والاجتماعية.

أما العقاد، فقد أخلص للحديث عن حقائق الإسلام وأباطيل خصومه — عنوان أحد كتبه — فصدرت له سلسلة العبقريات الإسلامية: محمد، الإمام، الصديق، وكتب أخرى غيرها، تتناول شخصيات مهمة في التاريخ المصري، كما صدر للشيخ مصطفى عبد الرازق كتابه «تمهيد تاريخ الفلسفة الإسلامية»، وكتب عبد الرحمن بدوي كتابه «الزمان الوجودي» الذي يُعَد من أوائل المؤلفات التي تناولت المذهب الوجودي، وقدم عبد العزيز فهمي تقريرًا إلى مجمع اللغة العربية، يوضح فيه صعوبة التعلم باللغة العربية، قراءة وكتابة، واقترح استخدام أحرف لاتينية، وهو ما كان قد حدث في تركيا قبل بضعة أعوام.

•••

تكوَّنت — في ١٩٤٠م — جماعة الفن والحرية، وأعلنت أن هدفها تحطيم التقاليد العفنة في المجتمع والفن معًا، وأن شاغلها تحرير الإنسان من القيود الأكاديمية، والأشكال التقليدية الجامدة المنقولة من الخارج،٢١٧ وأصدرت الجماعة — تعبيرًا عن هدفها — مجلة «التطور»، ثم مجلة «المجلة الجديدة» بعد أن تركها سلامة موسى، وأقام أعضاؤها العديد من المعارض، وكانت الجماعة تضم مجموعة من المبدعين، أهمهم محمود سعيد، رمسيس يونان، كامل التلمساني، فؤاد كامل، أنور كامل، ألبير قصيري، جورج حنين، أتين ميريل، مارسيل بياجيني، وغيرهم،٢١٨ تميزوا بالثقافة الموسوعية، وإجادة التعبير عن آرائهم في الأعمال والتيارات الفنية التشكيلية، وإعادة تقديم الفن التشكيلي، بعيدًا عن الصورة التي استقرت في أذهان الكثيرين، وهي أنه أقرب إلى التهويمات والشطحات الفارغة،٢١٩ وقدمت الجماعة — لأول مرة — مذاهب فنية حديثة لم تكن قائمة في الحياة الثقافية المصرية، مثل السوريالية والتكعيبية والتعبيرية،٢٢٠ ثم تكوَّنت جماعة «الفن الحديث»، وكان من بين أعضائها: حامد سعيد، جاذبية سري، يوسف سيدة، زينب عبد الحميد، وقد مزج أفراد الجماعة بين تأمل الطبيعة وتأمل التقاليد الفنية المصرية العربية، دون إغفال للتقاليد الفنية الأخرى.٢٢١

•••

أصبحت صناعة السينما في القاهرة منجمًا للذهب، يجتذب المغامرين وأثرياء الحرب، ومجموعة خاصة من الرأسماليين والوجهاء، وارتفع أجر المطرب والمطربة أضعافًا مضاعفة، ووجد مؤلفو الأغاني والملحنون والعازفون عملًا دائمًا مجزيًا بعد فترة الركود التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وأقبل الجمهور على الأفلام الغنائية، وأعطى مئات الألوف من العمال نقودهم لمنتجي تلك الأفلام، وكان العمال يحصلون على النقود بوفرة من العمل في معسكرات البريطانيين.٢٢٢

يقول الرجل (غرفة على السطح): ولكن بدأنا نُغمَر بأفلام الدعاية للحرب … وهي أفلام سخيفة ورخيصة.

– كل هذا سينتهي.

– بالطبع … ما دمت أنا وأنت … نريدها أن تنتهي.٢٢٣
ويقول الراوي (امرأة في الجانب الآخر) إن دور السينما تحوَّلت إلى مواخير بسبب الحرب.٢٢٤

•••

ومن الأغنيات الذائعة في سني الحرب أغنية أم كلثوم: افرح يا قلبي، لك نصيب … تبلغ مناك ويَّا الحبيب،٢٢٥ وأغنية عبد الوهاب: طول عمري عايش لوحدي … غريب وراضي بحالي،٢٢٦ وأغنية عبد الوهاب «الجندول»،٢٢٧ وأغنية: يا اسمر اللون … حياتي الأسمراني.٢٢٨ وأغنية: جوزي اتجوز عليَّ … ولسه الحنة ف إيديَّ … يوم ما جه وجبها عليَّ … أي نار يا ناس وآدت فيَّ.٢٢٩ وكان الإجماع حول صوت أم كلثوم قد تحقق، حتى إن سيد عارف يقول بثقة: «أم كلثوم عظيمة، ولو نادت ريان يا فجل.»٢٣٠ ويقول المعلم زفتة (خان الخليلي): «اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الآذان سي عبده إذا غنى يا ليل، وعلي محمود إذا أذَّن الفجر، وأم كلثوم في امتى الهوى، وما عدا هؤلاء، فحشيش مغشوش بتراب.»٢٣١ أما نجيب محفوظ — فكان رأيه الشخصي — أنه «ما من جمودٍ مثل أن تقارن أي صوتٍ من الأصوات المصرية بهذا الصوت المتعالي، فقل في غناء أسمهان وليلى مراد ونور الهدى ما تشاء، إلا أن تقارنه بصوت أم كلثوم، فتضره من حيث أردت أن تنفعه، وتهينه من حيث أردت أن تكرمه، وتمرِّغه في التراب، وقد أردت أن تسمو به إلى السماء.»٢٣٢
وكان ظهور المونولوج تعبيرًا عن حاجة عمال المعسكرات البريطانية إلى لونٍ خفيفٍ من الغناء في أوقات راحتهم،٢٣٣ ومن أغنيات الأطفال: يا عم يا جمال، يا ولاد حارتنا، الجبل ده عالي يا عمي … إلخ.٢٣٤

هوامش

(١) الأهرام، ١٩/ ٥/ ١٩٩٨م.
(٢) يوسف جوهر، المصباح الأعمى، هيئة الكتاب.
(٣) السكرية، ٢٢٥.
(٤) ثم تشرق الشمس، ٢٠٣.
(٥) صلاح عيسى، تباريح جريح، مكتبة مدبولي، ٣٣٢.
(٦) إدوار الخراط، موسيقى الملح لا تذوب.
(٧) أحزان مدينة، ٣.
(٨) إدوار الخراط، شجرة الجميز، مضارب الأهواء، البستاني.
(٩) محمود البدوي، البواب الأعرج، العربة الأخيرة، هيئة الكتاب، ١٩٩٩م.
(١٠) نحن لا نزرع الشوك، ٦٣٦.
(١١) نجيب محفوظ، الجامع في الدرب، دنيا الله، مكتبة مصر.
(١٢) الدكتور خالد، ٣٤٦.
(١٣) موسيقى الملح لا تذوب.
(١٤) خان الخليلي، ٨١.
(١٥) المرايا، ١٩٢.
(١٦) محمد عودة، كيف سقطت الملكية في مصر؟، هيئة الكتاب.
(١٧) مصر والحرب العالمية الثانية، ٢٨.
(١٨) السكرية، ٣٨٤.
(١٩) قلوب خالية، ٣٠.
(٢٠) مقدمة كتاب «وطنيتي»، مطبعة منبر الشرق، ١٩٤٧م.
(٢١) السكرية، ٢٤٥.
(٢٢) محمود البدوي، الرجل الصامت، عودة الابن الضال، مطبوعات الشعب.
(٢٣) يوسف جوهر، التراب الأحمر، المصباح الأعمى، هيئة الكتاب، ٢٠١٠م.
(٢٤) الدكتور خالد، ٤٦٩.
(٢٥) الجمهورية، ١/ ٤/ ١٩٧٦م.
(٢٦) الجنة العذراء، ٩٩.
(٢٧) عبد المعطي المسيري، أثناء الغارة، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.
(٢٨) فتحي غانم، تلك الأيام، كتاب الجمهورية.
(٢٩) فتحي غانم، بنت من شبرا، روايات الهلال، ٦٣.
(٣٠) يوسف جوهر، نار ورماد، المصباح الأعمى، هيئة الكتاب.
(٣١) الجنة العذراء، ١٠٩.
(٣٢) نجيب محفوظ، الشفق، الشيطان يعظ، مكتبة مصر.
(٣٣) أزهار الشوك، ١٢٧.
(٣٤) صباح الورد.
(٣٥) يوسف جوهر، لست أبًا، المصباح الأعمى، هيئة الكتاب، ٢٠١٠م.
(٣٦) المصدر السابق.
(٣٧) نجيب محفوظ، أسعد الله مساءك، صباح الورد، مكتبة مصر، ١٢٤.
(٣٨) يحيى حقي، تشييع جنازة كازينو، دمعة فابتسامة، هيئة الكتاب.
(٣٩) الجنة العذراء، ١١.
(٤٠) محمود البدوي، الأصلع، صقر الليل.
(٤١) يحيى حقي، مدرسة المسرح، ١١٢.
(٤٢) محمود البدوي، امرأة في الجانب الآخر، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٤٣) خيوط النور، ٧٩.
(٤٤) زقاق المدق، ٣٦١.
(٤٥) الشارع الجديد، ٤٠٧.
(٤٦) نجيب محفوظ، بذلة الأسير، همس الجنون، مكتبة مصر.
(٤٧) الحصاد، ٤٥.
(٤٨) الجنة العذراء، ١٢٤.
(٤٩) محمود البدوي، الشعلة، الأعرج في الميناء.
(٥٠) محمود البدوي، الرجل الشريف، عذراء ووحش، الكتاب الذهبي.
(٥١) المحاكمة الكبرى، ١٦١.
(٥٢) محمد مظهر سعيد، نحن والإنجليز، ١١٨.
(٥٣) أحزان مدينة، ٣.
(٥٤) الأصلع، صقر الليل.
(٥٥) المصدر السابق.
(٥٦) زقاق المدق، الرواية.
(٥٧) الجنة العذراء، ٢١٠.
(٥٨) طريق العودة، ٢٧.
(٥٩) يوسف إدريس، أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟
(٦٠) المساء، ١٠/ ٢/ ١٩٦٤م.
(٦١) إدوار الخراط، حجارة بوبيللو، ٣٣.
(٦٢) محمد صبيح، من العلمين إلى سجن الأجانب.
(٦٣) السكرية، ٢٢٨.
(٦٤) موسيقى الملح لا تذوب.
(٦٥) محمود البدوي، الوشم، حارس البستان، الدار القومية للطباعة والنشر.
(٦٦) ميرامار، ٢٥.
(٦٧) محمود السعدني، بوابة التاريخ، بنت مدارس، الكتاب الذهبي، ١٩٦٠م.
(٦٨) يحيى حقي، مولد بلا حمص، عنتر وجولييت.
(٦٩) الجنة العذراء، ١٠١.
(٧٠) المصدر السابق، ١٤٩.
(٧١) المصدر السابق، ١١٣.
(٧٢) المصدر السابق، ١٤٤.
(٧٣) المصدر السابق، ١٣٥.
(٧٤) عباس خضر، الواقعية في الأدب، ١٠٧.
(٧٥) الأصول التاريخية، ٢٠٢-٢٠٣.
(٧٦) الدكتور خالد، ٨٤.
(٧٧) محمود البدوي، الوشم، حارس البستان، الدار القومية للطباعة والنشر.
(٧٨) يحيى مختار، الطرد، عروس النيل.
(٧٩) جميل عطية إبراهيم، ليزا، أحاديث أجنبية، هيئة الكتاب.
(٨٠) بيان نشر في «الوقائع المصرية»، ٢١/ ١٠/ ١٩٤٣م.
(٨١) الدكتور خالد، ١١٦.
(٨٢) خان الخليلي، ٧٩.
(٨٣) المصدر السابق، ٨٠.
(٨٤) المصدر السابق، ١١٦.
(٨٥) المصدر السابق، ١٣٦.
(٨٦) السكرية، ٢٣٢.
(٨٧) صباح الورد.
(٨٨) محمد عبد الحليم عبد الله، الماضي لا يعود، مكتبة مصر، ١٥٦.
(٨٩) صبري موسى، على أهون سبب، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٩٠) الجنة العذراء، ١٨٤.
(٩١) الرجل الذي فقد ظله، ١: ٢١.
(٩٢) سعيد عبده، خروف العيد، شُرابة الخُرج، كتاب اليوم.
(٩٣) يوسف الشاروني، نشرة الأخبار، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٩٤) الحصاد، ١٦٩.
(٩٥) مصطفى محمود، قصة «أم زينب»، مجلة «القصة»، ٢٠/ ١٢/ ١٩٤٩م.
(٩٦) الجنة العذراء، ١١٥-١١٦.
(٩٧) محمود البدوي، ليلة لن أنساها، العربة الأخيرة، هيئة الكتاب. والملاحَظ أن المرضى كانوا يُطرَدون إذا طال مرضهم، ذلك ما كان يخشاه رشدي عاكف في «خان الخليلي».
(٩٨) فرِّق تَسُد، ٤٥.
(٩٩) السكرية، ٢٩١.
(١٠٠) محمود تيمور، موعد، إحسان لله، دار المعارف.
(١٠١) الحصاد، ٢٣٣.
(١٠٢) المصدر السابق، ١٢٤.
(١٠٣) زقاق المدق، ١٤٩.
(١٠٤) السكرية، ٢٤٢.
(١٠٥) حسين دياب، الوعي الجديد، ١٠٠.
(١٠٦) الدرجة الرابعة، في زورق الحياة.
(١٠٧) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٢٥.
(١٠٨) المرجع السابق، ١٢٦.
(١٠٩) كريم ثابت، الملك فاروق، دار المعارف، ٩٣.
(١١٠) عصب الحرب، ١٠٦ وما بعدها.
(١١١) الشارع الجديد، ٤١٢.
(١١٢) الحصاد، ١٢٨.
(١١٣) تطور الحركة الوطنية في مصر، ٢: ١٧٢.
(١١٤) هالة البدري، منتهى، روايات الهلال، ١٥٦.
(١١٥) زقاق المدق، ١٨٩.
(١١٦) شحاتة عزيز، كفر الهلالي، هيئة الكتاب، ٧٩.
(١١٧) الحصاد، ١٦٥.
(١١٨) الجمهورية، ١٩/ ١٢/ ١٩٧٠م.
(١١٩) محمود البدوي، فندق الدانوب، مكتبة مصر.
(١٢٠) حجارة بوبيللو، شرقيات، ٣٢.
(١٢١) نقولا يوسف، مكتبات ميت حضر، مواكب الناس، مطبعة دار نشر الثقافة بالإسكندرية، ١٩٥٣م.
(١٢٢) الجنة العذراء، ١٤٦.
(١٢٣) يوسف السباعي، ٤ حشاشين وقطة، ليلة خمر، الكتاب الذهبي.
(١٢٤) خان الخليلي، ٦٣.
(١٢٥) نحن لا نزرع الشوك، ٥٨٥.
(١٢٦) ألبير قصيري، الحلاق قتل امرأته، مجلة «التطور»، أبريل ١٩٤٠م.
(١٢٧) الحركة السياسية في مصر، ١١.
(١٢٨) مذكرات إبراهيم طلعت، ٤٢١.
(١٢٩) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٤.
(١٣٠) سكون العاصفة، ١١٦.
(١٣١) التصنيع والعمران، ٣٥.
(١٣٢) الطليعة، يناير ١٩٦٥م.
(١٣٣) رفعت السعيد، تاريخ المنظمات اليسارية المصرية: ١٩٤٠–١٩٥٠، ٤٨.
(١٣٤) محمد صدقي، في المسبك، الأيدي الخشنة.
(١٣٥) شيء في صدري، ٣٤.
(١٣٦) التصنيع والعمران، ٨٩.
(١٣٧) ثم تشرق الشمس، ١٧٦.
(١٣٨) الضفيرة السوداء، ١٤٥.
(١٣٩) هذا الرأي يجد — حتى الآن — من يردده، ويوجهه — كاتهام — إلى جمال عبد الناصر، الذي أتاح لأولاد الفلاحين فرص التعلم، فأفرزت — في تقديرهم — نتائج اجتماعية سلبية كثيرة، بل إن أحد كبار الملاك سخر من فكرة أن يتحول أصحاب الجلابيب الزرقاء إلى أصحاب جلابيب مكوية، حتى فكرة استبدال الجلابية لم يشغله طرحها.
(١٤٠) التطور الاقتصادي، ١١٥-١١٦.
(١٤١) كامل سعفان، قبل أن تفيض الكأس، مطبعة حسان، ٤٢.
(١٤٢) محكمة الثورة.
(١٤٣) محمد مندور، كتابات لم تنشر، كتاب الهلال، ١٢٧.
(١٤٤) مصر والحرب العالمية الثانية، ١٢٧.
(١٤٥) المرجع السابق، ١٤.
(١٤٦) الدكتور خالد، ١١٩.
(١٤٧) قلوب خالية، ٣٢.
(١٤٨) أزهار الشوك، ٨١.
(١٤٩) يوسف إدريس، الغريب، آخر الدنيا، مكتبة مصر.
(١٥٠) قلوب خالية، ٩٢.
(١٥١) المصدر السابق، ١٠٣.
(١٥٢) المصدر السابق، ٩٢.
(١٥٣) رءوف عباس، الحركة العمالية في مصر، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٧م، ١٦٦.
(١٥٤) جمال الدين محمد سعيد، التطور الاقتصادي في مصر منذ الكساد العالمي الكبير، الطبعة الأولى، ١٢٧.
(١٥٥) مجيد طوبيا، بعض المنحنيات، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٥٦) عبد العال الحمامصي، بئر الأحباش، هيئة قصور الثقافة.
(١٥٧) يحيى الطاهر عبد الله، الطوق والإسورة، الأعمال الكاملة، دار المستقبل العربي.
(١٥٨) لا أحد ينام في الإسكندرية، ٢٠٤.
(١٥٩) زقاق المدق، حسين كرشة وعباس الحلو، وغيرهما.
(١٦٠) امرأة في الجانب الآخر.
(١٦١) الحركة العمالية في مصر، ١١٤.
(١٦٢) الحركة الوطنية المصرية، ٩٠.
(١٦٣) ميلاد ثورة، ٥٢.
(١٦٤) محمود السعدني، السماء السوداء، الطبعة الأولى، ١٩٥٥م.
(١٦٥) الحركة العمالية في مصر.
(١٦٦) امرأة في الجانب الآخر.
(١٦٧) صلاح ذهني، سمكة في يد اليتيم، جاء الخريف، الدار القومية للطباعة والنشر، ١٩٦٠م.
(١٦٨) زقاق المدق، ١٤٣.
(١٦٩) بوابة التاريخ.
(١٧٠) زقاق المدق، ٤٦.
(١٧١) أمين ريان، القاهرة تحترق، الثقافة، أبريل ١٩٧٦م.
(١٧٢) نحو مجتمع طاهر، ٥٥.
(١٧٣) زقاق المدق، ٢٦٢.
(١٧٤) عبد الحافظ عبد اللطيف، يوميات أخصائي اجتماعي بالمصنع، مطبعة مصر، ١٩٤٨م، ٨.
(١٧٥) نحن النساء المصريات، ٤٩.
(١٧٦) يوميات أخصائي اجتماعي بالمصنع، ٧٧.
(١٧٧) الحركة العمالية في مصر، ١٤٤.
(١٧٨) حلقة الدراسات الاجتماعية للدول العربية، كتاب الدورة الرابعة، ٥٢٢.
(١٧٩) الحركة العمالية في مصر، ١٦٣-١٦٤.
(١٨٠) العامل والنقابة في العصر الذهبي، ١٢، والكلمات تذكِّرنا بأغنية بيرم التونسي: محلاها عيشة الفلاح.
(١٨١) العامل والنقابة في العصر الذهبي، ١٧٧.
(١٨٢) شيء في صدري، ٤٩٥.
(١٨٣) العامل والنقابة في العصر الذهبي، ١٧٧.
(١٨٤) المرجع السابق، ٣٠.
(١٨٥) رجاء النقاش، أدباء معاصرون، كتاب الهلال، ١٩٧١م، ١٢٠.
(١٨٦) الطليعة، نوفمبر ١٩٦٨م.
(١٨٧) مذكرات منسية، ١٠٤.
(١٨٨) زقاق المدق، ٥٢.
(١٨٩) المصدر السابق، ٢١٥.
(١٩٠) أكبادنا، خفقات قلب.
(١٩١) السكرية، ٢١٢.
(١٩٢) المصدر السابق، ٣١٩.
(١٩٣) المصدر السابق، ٢٢٠.
(١٩٤) المصدر السابق، ٢٢٤.
(١٩٥) نجيب محفوظ، الشريدة، همس الجنون، مكتبة مصر.
(١٩٦) تشرد الأحداث، المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية.
(١٩٧) زقاق المدق، ١١.
(١٩٨) المصدر السابق، ١١.
(١٩٩) عبد الفتاح رزق، شجرة الجميز، باب ١٤.
(٢٠٠) السكرية، ٧١.
(٢٠١) رياض محمد مفتاح، الحرب الحديثة، مطبعة الرسالة، ٧.
(٢٠٢) خان الخليلي، ٩٢.
(٢٠٣) السكرية، ١٧٠.
(٢٠٤) المصدر السابق، ٢٣٧.
(٢٠٥) صفحات من التاريخ، ١٨.
(٢٠٦) السكرية، ٣٦٤.
(٢٠٧) شعبان فهمي، وجيدة، الطبعة الثانية، ١٤٦.
(٢٠٨) الحصاد، ٢٢٧.
(٢٠٩) حلمي السلام، دقات الأجراس، ١٧١.
(٢١٠) العشاق الخمسة، الأعمال الكاملة.
(٢١١) مذكرات إنجي أفلاطون، ٣٢.
(٢١٢) سورة آل عمران.
(٢١٣) الكاتب المصري، فبراير ١٩٤٨م.
(٢١٤) عباس خضر، خُطى مشيناها، دار المعارف، ٢٤٧.
(٢١٥) محمود تيمور، خرفان، انتصار للحياة، دار المعارف، ١٩٦٤م.
(٢١٦) مولد بلا حمص، عنتر وجولييت.
(٢١٧) مذكرات إنجي افلاطون، ٣١.
(٢١٨) المصدر السابق، ٣١.
(٢١٩) صبري منصور، دراسات تشكيلية، هيئة قصور الثقافة، ٧٢.
(٢٢٠) مذكرات إنجي أفلاطون، ٣٢.
(٢٢١) دراسات تشكيلية، ١٥٩.
(٢٢٢) كمال النجمي، مطربون ومستمعون، ٤١.
(٢٢٣) غرفة على السطح، ٢٩.
(٢٢٤) امرأة في الجانب الآخر.
(٢٢٥) الدكتور خالد، ١٢٩.
(٢٢٦) المصدر السابق، ٢٣٥.
(٢٢٧) قلوب خالية، ٣١.
(٢٢٨) خان الخليلي، ١٤٧.
(٢٢٩) السكرية، ٣٤٨.
(٢٣٠) خان الخليلي، ١٥٩.
(٢٣١) المصدر السابق، ١٦٠.
(٢٣٢) جريدة «الأيام»، ٢١/ ١٢/ ١٩٤٣م.
(٢٣٣) مطربون ومستمعون، ٤١.
(٢٣٤) خان الخليلي، ٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥