في أعقاب الحرب
أودت الحرب بحياة أكثر من ٥٠ مليون نسمة، بين رجال ونساء وأطفال، مدنيين وعسكريين،
من كل دول
العالم، إما في الغارات الجوية، أو في معسكرات الاعتقال، أو في جبهات القتال، فضلًا عن
الدمار الشامل
الذي حل بمساحاتٍ شاسعة، وأحال المدن أنقاضًا وخرائب.
وإذا كانت الحرب قد انتهت بهزيمة دول المحور — ألمانيا وإيطاليا واليابان — فإنها
قد أثَّرت —
بقسوة — في الدولتَين المنتصرتين: بريطانيا وفرنسا، ولم يعُد لهما تلك المكانة القديمة.
١
تأثرت كل الدول التي خاضت الحرب العالمية الثانية — سواء كانت منتصِرة أم مهزومة —
بويلات الحرب،
عدا الولايات المتحدة التي ظلَّت — إلى إيقاف القتال — في منأى عن تأثيرات الحرب؛ لم
تتعرض مدنها، ولا
منشآتها ومرافقها الاقتصادية، للدمار الذي شمل كل البلاد المتحاربة، فخرجت أقوى من الجميع،
حتى لقد
تضاعفت صادراتها في نهاية الحرب ١٥ مرة بالنسبة لما كانت عليه قبلها، أما من الناحية
العسكرية، فقد
انتقل جيشها إلى المرتبة الأولى، وتميزت بحصولها على إمكانية صنع القنبلة الذرية.
ظلت الحرب — حتى النهاية — خارج أراضيها، ومن ثَمَّ فقد بدأت — غداة الحرب — في تنفيذ
مخططها، لتحل
محل الدول الاستعمارية السابقة التي كانت تتشكل فيها خريطة العالم قبل نشوب الحرب، مثل
ألمانيا واليابان
وبريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وغيرها، وأعلن الرئيس الأمريكي ترومان: «إن الولايات
المتحدة أمة قوية
اليوم، ولا توجد أمة أقوى منها، وليس هذا اعتزازًا وافتخارًا، وإنما هو حقيقة وأمر واقع،
وعلينا بمثل
هذه القوة أن نتولى الزعامة ونقبل المسئولية.»
٢
لكن الولايات المتحدة — في الحقيقة — لم تعُد سيدة العالم، فقد شاركها الاتحاد السوفييتي
زعامة
العالم، انقسم العالم إلى غربي بقيادة الولايات المتحدة، وشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي،
٣ وبدا عالم ما بعد الحرب في صالح الاشتراكية بصورة مؤكدة، فبعد أن كان المعسكر الاشتراكي
داخل حدودٍ معينة، منذ أواخر العشرينيات، امتد غربًا حتى المنطقة الروسية من ألمانيا
وتشيكوسلوفاكيا،
والتي تأكد انضمامها إلى المعسكر الاشتراكي بانقلاب فبراير ١٩٤٨م، وشرقًا إلى جزيرة سيخالين
في اليابان
وكوريا الديمقراطية، بالإضافة إلى ازدياد نشاط الحركات اليسارية في كل أنحاء العالم،
وحصول الأحزاب
الشيوعية على نسبة عالية من أصوات الناخبين في دول أوروبا الغربية.
فقد حصل الشيوعيون في انتخابات فرنسا — على سبيل المثال — في ١٩٤٩م — على أصوات ٥٥٧٤٠٠٠
فرنسيًّا،
ونال شيوعيو إيطاليا في العام نفسه على ٤٨٥٣٠٠٠ صوتًا،
٤ حتى في بريطانيا، أسقط الشعب رمز انتصاره تشرشل، وانتخب حزب العمال لقيادة البلاد، بدلًا
من
حزب المحافظين.
٥
وكان من نتائج الحرب أيضًا: القضاء — بصورة نهائية تقريبًا — على النازية والفاشية،
وظهور المعسكر
الشيوعي كقوة كبرى، وانتشار الشيوعية في مناطق جديدة من العالم، وإتاحة الفرصة لكثير
من الأحزاب
الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية للوصول إلى الحكم، ومحاولة تطبيق النظريات
التي كانت تبشِّر بها
منذ أكثر من نصف قرن.
وبعد أن كان مجموع البشر الخاضعين للاستعمار أكثر من ١٥٠٠ مليون، يشكِّلون حوالي
٦٦٪ من مجموع سكان
العالم، شهدت السنوات العشر التالية للحرب تصاعدًا لحركات التحرر؛ فلم يعُد خاضعًا للاستعمار
سوى ٦٪ فقط
من مجموع سكان العالم.
٦ تحرَّر عددٌ كبير من المستعمرات من السلطات الاستعمارية، وتعاظمت قوة الحركات الوطنية
في آسيا
وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وظهرت دول جديدة، مثل الباكستان (دولة باكستان الإسلامية)
وسيلان وبورما
والأردن وسوريا ولبنان وإندونيسيا … إلخ، وتحققت طفرة علمية هائلة، ومن هنا جاء قول السير
أنتوني بارسونز:
«لقد تغيَّر العالم منذ ١٩٤٥م تغيُّرًا شديدًا.»
٧
أُلغيت الأحكام العرفية في اليابان — عقب انتهاء الحرب — في أكتوبر ١٩٤٥م، وفي ٢٤
أكتوبر ١٩٤٥م برزت
الأمم المتحدة إلى الوجود، وكان توقيع ميثاقها قد تم في سان فرنسيسكو في ٢٦ يونيو ١٩٤٥م،
وشارك في
التوقيع مندوبو ٥١ دولة. وعند إعداد ميثاق المنظمة الدولية بُذلَت كل الجهود لتلافي العيوب
التي شابت عهد
عصبة الأمم، ومنها الأخذ بالمبدأ البرلماني القائم على حكم الأغلبية، بدلًا من الأخذ
بقاعدة الإجماع
التي نص عليها قانون عصبة الأمم، والتوسُّع في اختصاصات الجمعية العامة، والتأكيد على
احترام حقوق
الإنسان، وضمان الحريات الأساسية للجميع دون تمييز، وإنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي
كهيئة أساسية،
وإنشاء مجلس الوصاية للعمل على استقلال المناطق الخاضعة للانتداب، أو الاستعمار، لكن
تقرر الاحتفاظ بشرط
الإجماع بين الدول الخمس الكبرى المتمتعة بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن (حق الفيتو)،
وذلك في ممارسة
المسئولية عن حفظ السلام والأمن الدوليين.
وفي ١٩٤٩م نشأت جمهورية ألمانيا الاتحادية، وتولَّت تقديم قادة النازي إلى المحاكمة،
وحققت ألمانيا —
المهزومة — تطورًا اقتصاديًّا مذهلًا، وسُمِّي ما حدث بأنه «معجزة»، وانتصرت الثورة الصينية،
بقيادة ماو تسي
تونج، وأُعلن عن تأسيس جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر ١٩٥١م، وتكونت — للمرة الأولى
— حكومة ديمقراطية
شعبية،
٨ كما نشطت حركات التحرر في العديد من دول آسيا وأفريقيا، وانتُخب أول مؤتمر عالمي للسلام
في
استوكهلم سنة ١٩٤٩م، وانتُخب جوليو كوري رئيسًا للمجلس، وأصدر المجلس نداء استوكهلم ضد
القنبلة
الذرية،
٩ واندلعت الحرب الكورية في منتصف ١٩٥٠م، وأعفى الرئيس الأمريكي ترومان الجنرال ماك آرثر
من
منصب القيادة العامة في أبريل ١٩٥١م،
١٠ وطرح احتمال قيام حرب عالمية ثالثة، طرفاها المعسكران الغربي والشرقي.
•••
يلخص البعض نتائج فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في ناحيتين: أولاهما أن احتمال
نشوب حرب
ثالثة قد أصبح بعيدًا إلى حدٍّ كبير، إن لم يكن قد وصل إلى حد الاختفاء، لكن الحرب الباردة
— بوصفها
تعبيرًا عن العلاقة بين الكتلتين الكبيرتين — ستظل قائمة إلى ما لا نهاية.
١١ والملاحظ أن الحرب الباردة بدأت في عهد الرئيس الأمريكي ترومان (١٩٤٧م)، واستمرت حوالي
أربعين
عامًا، حتى سقوط الاتحاد السوفييتي.
أكدت الحرب أنه لم تعد توجد دولة تستطيع أن تحمي نفسها في عزلة عن غيرها، وأنه ينبغي
الاتجاه إلى
خلق قوات دفاع متحالفة، مترابطة،
١٢ يفسر ذلك مشروع مارشال الذي أرادت به الولايات المتحدة إعادة بناء أوروبا، واستمر من
الفترة
١٩٤٨م إلى ١٩٥٣م، وكان من بين الأهداف الأولى في سياسة بريطانيا — عقب الحرب — أن تحمل
الولايات المتحدة
مسئوليات أكبر في بعض المناطق العالمية، مثل منطقة جنوب شرقي آسيا، وجنوب شرقي أوروبا.
١٣
وفي ١٧ مارس ١٩٤٨م وُقِّعت اتفاقية بروكسل، أو ميثاق الاتحاد الغربي بين بلجيكا وفرنسا
ولوكسمبرج
وهولندا والمملكة المتحدة. وينص أهم بنودها على أنه في حال تعرُّض أي من الأطراف الموقِّعة
لاعتداءٍ مسلح في
أوروبا، فإن الموقعين على الاتفاقية يتعهدون بتقديم كل المتاح من وسائل الدعم والمساندة.
وفي ٤ أبريل
١٩٤٩م وُقِّعت — في واشنطن — اتفاقية شمال الأطلنطي بين الولايات المتحدة وكندا والأعضاء
الخمسة في معاهدة
بروكسل، إضافة إلى الدنمارك وأيسلندا وإيطاليا والنرويج والبرتغال. وقد رد الاتحاد السوفييتي
ودول
الكتلة الشرقية على إنشاء حلف شمال الأطلنطي، الذي شمل دولًا أخرى هي اليونان وتركيا
وألمانيا
الفيدرالية؛ أنشئ حلف وارسو من خلال اتفاقية بين الاتحاد السوفييتي والديمقراطيات الشعبية،
أي التي
يحكمها النهج الماركسي.
خرجت قوات الإنجليز من الهند الصينية وإندونيسيا، فلم يبقَ فيها غير قوات الفرنسيين
والهولنديين.
١٤ كانت السياسة البريطانية — حينذاك — تخضع في كل مكان، للمبدأ الذي يقول إن الحكم الاستعماري
لا يمكن أن يبرَّر إلا بنجاحه في تمهيد الطريق بأسرع ما يمكن لكي يخلفه حكم ذاتي،
١٥ وفي الفترة ما بين ١٩٤٥م و١٩٥٩م، اتسع نطاق الاستشارة بين بريطانيا ودول الكومنولث بانضمام
الهند والباكستان (١٩٤٧م) وسيلان (١٩٤٨م) وغينيا والملايو (١٩٥٧م).
١٦
كانت الثورة تجتاح آسيا ضد كل الإمبراطوريات الاستعمارية: أعلنت إندونيسيا استقلالها
في ١٥ أغسطس
١٩٤٥م، وكانت فرنسا تعاني مأزقًا عسكريًّا خطيرًا في الهند الصينية، لم تجد معه معونة
حلفائها، وأعلنت
فيتنام استقلالها في ١٩٤٥م، وعانت الهند أحداثًا خطيرة، حتى شعوب أمريكا اللاتينية لم
تعد تقبل سيطرة
الدولار بروح الاستسلام القديم.
١٧
وتأكد اتجاه دول الكومونولث إلى سياسات مستقلة أكثر وضوحًا بعد عام ١٩٤٧م، عندما
نالت كلٌّ من الهند
والباكستان استقلالهما، وكانت الحركات الاستقلالية بين المستعمرات في مجال الشئون الخارجية
— قبل عام
١٩٤٧م — نادرة نسبيًّا.
١٨
وفي يوليو ١٩٤٥م سقط حزب المحافظين الذي حقق الانتصار لبريطانيا بزعامة تشرشل؛ أجريت
انتخابات
برلمانية أسفرت عن فوز حزب العمال بنسبة كبيرة، وتخلَّى تشرشل عن رئاسة الوزارة، وتكوَّنت
وزارة برئاسة
الزعيم العمالي كليمنت آتلي.
قال الرجل: «سقطت الوزارة البريطانية، سيعود حزب العمال إلى منصة الحكم، ستفرج الأزمة
السياسية في
مصر، ستفوز بالاستقلال التام دون الموت الزؤام.»
١٩
ووصف الكتاب الأبيض لعام ١٩٥٠م، السياسة البريطانية في مرحلة ما بعد الحرب، بأنها
تعنى بالحصول على
«الأمن عن طريق تنمية الدفاع الذاتي الجماعي، في نطاق ميثاق الأمم المتحدة، بالتعاون
مع دول الكومنولث
والولايات المتحدة الأمريكية، والدول الأخرى التي تعتنق هذه الآراء»، وكانت تلك أول مرة
تُذكَر فيها
الولايات المتحدة في القسم الخاص بالدفاع في كتاب أبيض.
٢٠
وفي مايو ١٩٥٠م صدر إعلان ثلاثي من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، يعلن ضمان
السلام
والاستقرار في الشرق الأوسط، والمحافظة على الحدود القائمة، وضمان خطوط الهدنة ضد أي
اعتداء
مسلح،
٢١ وفي منتصف ١٩٥٢م أنشئت وكالة الطاقة الذرية الإسرائيلية.
•••
لعله يمكن القول إن الحرب الباردة بدأت بالفعل في ٦ أغسطس ١٩٤٥م، حين أسقطت الولايات
المتحدة
القنبلة الذرية فوق هيروشيما، فقد أعلن الاتحاد السوفييتي في ٢٣ سبتمبر ١٩٤٩م، أنه يمتلك
القنبلة الذرية،
وقد أجرى تجربتها بنجاحٍ في يوليو من العام نفسه.
٢٢
ساد — بتأثير الحرب الباردة، على حد تعبير إيتالو كالفينو — نوعٌ من التوتر والتمزق
الأبكم اللذين
لم يظهرا في صورة مرئية، لكنهما كانا يسيطران على النفوس.
٢٣
يصف فوزي السيد (واحترقت القاهرة) الولايات المتحدة في أعقاب الحرب، بأن الناس كلهم
كأنهم «قد
أصابهم الجنون، إن كل إنسان يجري، كل إنسان يعدو ويلهث، لماذا؟ لماذا؟ إنني منذ وصلت
وأنا أعيش وسط
الزحام، إنني لم أجد دقيقة واحدة ألتقط فيها أنفاسي، بعد رحلتي المضنية.»
٢٤ … «زحام لا ينقطع، جعله يتصور نفسه قد تحوَّل إلى نملة، أو نحلة في خلية نحل.»
٢٥ … «ها هو ذا في نيويورك قلب العالم الجديد، فما الذي يستطيع أن يفعله فيها، لقد تملَّكه
شعور
باليأس والقنوط، وامتلأ إحساسًا بأنه ضائعٌ وسط غابة كثيفة مليئة بالحيوانات المفترسة
والوحوش، والنباتات
المتكاثفة السامة، والهوام والحشرات، حيث لا يعرف له طريقًا، بل لا يتبيَّن موطئ قدميه.»
٢٦ … «أي جنون دفعه إلى هذه البلاد، لقد أخطأ إذ تصورها شيئًا يقارب إنجلترا التي سافر
إليها
أكثر من مرة. إن إنجلترا تحتل مصر، ومن هنا فإن كل ساستها، كل صحافتها، تعرف كل شيء عن
مصر، ويهمها سماع
ما يجري في مصر. أما هنا فأي علاقة لهم بمصر، إنهم لا يحسون بمصر، أو بأي مكان آخر في
العالم، ونقوده،
نقوده المحدودة التي يحملها، أو التي ستجيء له في القريب العاجل، بماذا تفيده إلا أن
يأكل ويشرب
وينتقل.»
٢٧ … «لقد بدأت أحس بصعوبة المهمة التي جئت من أجلها، بل لا أكتمكم أن اليأس يوشك أن يدب
إلى
نفسي، لاستحالة رفع صوت مصر وسط هذه الغابة الموحشة، والبرية المقفرة.»
٢٨ … «إنه يجب أن يعود إلى مصر، أن يحذِّر مواطنيه، أن يحذِّر بني الشرق جميعًا، من أن
ينحدروا إلى
هذه الهوة التي تردَّى فيها الأمريكان في ظل ماديتهم وسعارهم الجنوني إلى ماديات الحياة،
فماذا أورثهم ذلك
إلا القلق والاضطراب العصبي والجنون.»
٢٩
•••
«… وبدأ الصراع رهيبًا في أوروبا، واتخذ هذا الصراع الرهيب له في مصر مظهرًا بسيطًا،
عبارة عن
مكتبٍ صغيرٍ في شبرا، يديره ضباط إنجليز، ويقبل عمالًا من مصر، وبأجور خيالية.»
٣٠ ذلك ما كتبه الفنان عن تأثيرات الحرب في المجتمع المصري.
والواقع أن مصر لم تتأثر — بصورة مباشرة — بأضرار الحرب، فلم يُقتَل البشر بصورة
جماعية، ولم تدمر
القنابل أحياء بكاملها من مدنها الكبرى، ولم تُدمَّر معسكرات الجيش ولا المصانع ولا الجسور،
ولا غيرها من
المرافق الحيوية، وظلَّت وسائل الإنتاج والمواصلات سليمة تمامًا،
٣١ بل إن الحرب كانت — بدرجة ما — فرصة لدعم الاقتصاد المصري في المجالَين الزراعي
والصناعي.
يقول حسن: «لقد علَّمتنا الحرب أن نفعل كل شيء بلا مبالاة، وأن يتحالف الناس مع أعدائهم
لكي يغلبوا
أعتى أعدائهم، كما فعل الإنجليز مع الروس.»
٣٢
•••
يقول خالد محيي الدين: «ويعود للحرب فضل إيقاظي على معاني الاستقلال والحرية والاستعمار،
وعلى دور
الاتحاد السوفييتي وهتلر وأوروبا والولايات المتحدة. ما هي الفاشية؟ وما هي النازية؟
وما هي الشيوعية؟
وما هي الديمقراطية؟ كلها تعبيرات ومفردات جديدة اقتحمت حياتي وحياة جيلي من أتون الحرب.»
٣٣
أما فوزي السيد فهو قد أصبح — كما يقول — يكره العنف وشتى وسائل استخدام الإكراه
والضغط، «أصبحت
أكره التآمر في الظلام، والعمل، أي عمل، في الخفاء، وأومن بالعلانية، وأنها هي السبيل
الوحيد لتطهير أي
فكرة، وتمحيص صلاحيتها. لقد أصبحت أقدِّس حكم القانون، القانون الذي لا يُفرَض من أعلى،
ولكن ينبع من قلب
الجماعة ووجدانها، ويعبِّر عن إرادتها.»
٣٤
ويصف وسيم خالد صورة الموقف في أعقاب الحرب، بأنها كانت تتسم بزيادة مطردة في عدد
السكان، يقابلها
موارد غير نامية، وغير مستغلَّة، وبطالة مقنَّعة، وسافرة، وعشرات الآلاف من العمال الذين
كانوا يعملون —
أعوام الحرب — في معسكرات الجيش البريطاني، وصناعات شهدت رواجها أثناء الحرب، ثم انتهت
بنهايتها،
وتناقضات طبقية، ومشكلات تجارية وصناعية، ومشكلة تعليم، ومشكلة خريجين أجهدهم العثور
على وظيفة،
واحتكارات أجنبية تخنق أية محاولة وطنية في أيٍّ من مجالات التجارة والاقتصاد، بالإضافة
إلى نوعية الحكم
البوليسي القائم آنذاك.
٣٥
أما إبراهيم الورداني فيصف إيجابيات الحرب بأنها «كانت عملية تأمُّل هائلة، وعلى
الطبيعة، للمصريين،
ليروا بحدقة العين كيف يعيش الإنجليزي والأمريكي والفرنسي، وعلى أي مستوى … وكيف أن الفارق
شاسع، وجارح،
ويكوي الكرامة … فلماذا، وكلنا بشر؟ ولسوف أغامر وأقول — الكلام للورداني — أن لا عرابي
ولا مصطفى كامل
ولا سعد زغلول قادر على إعطاء حجم الحركة لنمو اليقظة المصرية، بقدر ما فعلته تلك السنوات
الثلاث
العجيبة، إنها هزَّت السخط الراقد المستسلم في النفس المصرية، وكانت بدء توزيع القرار
النفسي، الذي امتد
وجمح على طول الأربعينيات، بأن آن الأوان لاستلام المنهوبة مصر، استلامها من الإنجليز،
ومن فاروق، ومن
كذا باشا، وكذا بيه، وكذا خواجة.»
٣٦
•••
انسحب الإنجليز — في أعقاب انتهاء الحرب — من ثكنات مصطفى باشا (مصطفى كامل)، وتركوا
فيها قوة
رمزية،
٣٧(الخراط، سكندريتي) وأُغلقَت مخازن البحرية البريطانية في كفر عشري، ورحلت أعداد من جنود
الإنجليز إلى بلادهم، وسافرت أعداد إلى معسكرات القناة،
٣٨ واتجه طوفان من العمال المصريين إلى مدن القناة، سعيًا للعمل في معسكرات الإنجليز.
٣٩
يقول رياض قلدس (السكرية): «متى تنكشف هذه الغمة؟ متى تُرفَع الأحكام العرفية؟ متى
يعود السلطان
إلى القانون الطبيعي والدستور؟ متى يُعامَل المصريون كالآدميين؟»
٤٠
وتقول منيرة: أشعلوا الحرب، وذهبوا، وعلينا أن ندفع الثمن!
٤١
كان البواب الذي أصابته شظية في قدمه، فسبَّبت له عرجًا دائمًا، رغم أنه لم يكن شريكًا
في الحرب على
أي نحو، إلا أن العمارة التي يحرسها فيها بريطانيون … كان ذلك البواب هو شعب مصر الذي
ابتُلي بويلات
الحرب، لا لشيء إلا لأن الإنجليز استعمروا بلاده،
٤٢ وكان المعلم محفوظ واحدًا من المواطنين المصريين البسطاء الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لحربٍ
لم
يعرفوا باعثها ولا جدواها، خرج محفوظ من الحرب بلا ذراعٍ، وفقد كل شيء، حتى النقود التي
ادَّخرها، أخذها
منه الألمان، وضاعت كل أحلامه في أن يفتح ورشة، أو يفتح قهوة، ومات معظم أصدقائه وزملائه
في تلك الحرب
التي لم يكونوا مسئولين عنها، ونظر الرجل إلى الملايين من الغربان تغطي السماء، وقال
لنفسه: «قد تكون
الحكمة من وراء الحرب هي إطعام هذه الملايين من الغربان.»
٤٣
ولا شك أن حميدة تُعَد ضحية مباشرة لمأساة الحرب، فلو لم يرحل عباس الحلو إلى معسكرات
الإنجليز
بالقناة، ويأتي فرج إبراهيم القواد — بإغراءات الحرب — إلى زقاق المدق ما أتيح لحميدة
أن تجاوز عالمها
المحدود، وابتلعت طموحاتها، وقنعت بالزواج من شاب في مثل ظروفها.
ويقول الراوي (عودة الأسير): «ليت مَن يدفعون بهذه المخلوقات التعسة إلى كل هذا الهوان،
يدركون أن
الإنسان لا تُشفى آلامه، ولا تؤسى جراحه، عندما ينقشع دخان البارود، أو تتعالى أهازيج
النصر.»
٤٤
•••
إذا كانت نتائج الحرب في أوروبا قد تمثَّلت في دمارٍ اقتصادي واجتماعي شمل عشرات المدن
وملايين
القتلى ومئات الألوف من الأسر المشردة، فإن الضغوط الاقتصادية كانت هي الأثر المباشر
الواضح للحرب
العالمية الثانية.
وظني أن محاولة النظر إلى تأثيرات الحرب في بلادنا، بالزاوية نفسها التي ينظر بها
أدباء الغرب إلى
تأثيرات الحرب في أوروبا، ينطوي على مجانبة للدقة، وربما للصدق.
ثمة عاملان، أسهما — بصورة مؤكدة — في تجنيب البلاد نتائج بالغة الخطورة: أولهما:
تجنيب مصر ويلات
الحرب، وبُعد المعارك عن مراكز الإنتاج فيها، صناعية كانت أم زراعية. وبتعبيرٍ أدق، فإن
مواردها
الاقتصادية لم تتأثر تأثرًا مباشرًا، بل إنه يمكن القول إن الحرب أتاحت الفرصة للاقتصاد
الصناعي
والزراعي لتدعيم أركانه، حتى استطاعت الصناعة المصرية أن تمد الشعب بجانبٍ كبيرٍ من حاجاته،
ولولاها لكانت
حال البلاد، من حيث التموين بمنتجات الصناعة، أمرًا صعبًا ودقيقًا. أما العامل الثاني،
فهو أن البلاد
استطاعت كفاية نفسها بنفسها بحاصلات الأرض من مواردها الخاصة إلى حدٍّ كبير.
٤٥
أضاف إلى البعد الإيجابي للمشكلة قدوم العمال المصريين إلى مدن القناة، سعيًا للعمل
في معسكرات
الإنجليز.
٤٦ وكان الريس مخلوف (أحزان مدينة) نفرًا يعمل بالكوريك والزنبيل لدى أحد المقاولين، ثم
ترقَّى
إلى ريس أنفار، ثم وسَّع الله عليه فصار مقاولًا، وزاد نشاطه في معسكرات الإنجليز، وتضخم
رصيده في البنك،
وخلع الجلباب، وارتدى البذلة، واشترى سيارة، وخصَّص لها سائقًا.
٤٧
مع ذلك، فإنه ينبغي الإشارة إلى منع بريطانيا الدول الأخرى — زمن الحرب — من شراء
القطن المصري
إلا بعد استئذانها، كما استطاعت أن تسحب من البنك الأهلي — أثناء الحرب وبعدها — نحو
٤٥٠ مليون جنيه
أوراق نقد، لإنفاقها على واردات قواتها، والإنفاق على القوات، وكان ذلك المبلغ عاملًا
مباشرًا في
الارتفاع الفاحش في تكاليف المعيشة، وأدى ارتباط العملة المصرية بالعملة الإسترلينية،
مع فرض قيود
الاستيراد والتصدير وانعدام رقابة الحكومة، على إصدار البنك الأهلي لأوراق النقد، إلى
وضع البلاد فيما
يشبه الحصار الاقتصادي، فلا تستطيع أن تستورد شيئًا إلا من منطقة الإسترليني،
٤٨ وأضاف إلى المشكلة في الإسكندرية — سلبًا — إغلاق مخازن البحرية البريطانية في كفر عشري،
وذهاب أعداد من الإنجليز إلى بلادهم، وسفر أعداد إلى معسكرات القناة.
٤٩
•••
يقول حسين كرشة: كيف انتهت الحرب بهذه السرعة؟ كان الأمل معقودًا بهتلر أن يطيلها
إلى ما
لا نهاية، ولكن أنهاها حظنا الأسود.
يضيف: نحن تعساء، بلد تعس وأناس تعساء، أليس من المحزن ألا نذوق شيئًا من السعادة
إلا إذا تطاحن
العالم كله في حرب دامية، فلا يرحمنا في هذه الدنيا إلا الشيطان؟!
٥٠
وكان حسين كرشة وعباس الحلو من آلاف العمال الذين استوعبتهم سنوات الحرب، معسكرات
القوات
البريطانية والأمريكية، والذين بلغت أعدادهم ٣٠٠ ألف عامل، تلقوا أجورًا سخية، ارتكازًا
إلى قانون العرض
والطلب. فلما انتهت الحرب، انتفت الحاجة إلى تلك الأعداد الهائلة من العمال، وتوقف العديد
من المشروعات
الصناعية والتجارية والمهن المتصلة بتموين قوات الحلفاء بالمؤن والعتاد والخدمات، فأُغلق
الكثير من
المصانع، وتوقفت صناعات كثيرة كانت تحتاجها الجيوش الأجنبية، وقلَّت الأجور، وارتفعت
تكاليف المعيشة،
وتفاقمت مشكلة البطالة في ظل قانون العرض والطلب.
٥١
وإذا كانت الدولة قد أعلنت أن عدد العمال الذين استغنت عنهم السلطات البريطانية بلغ
٢٥٢٤٦
عاملًا،
٥٢ فقد أعلنت مصادر بحثية أن عدد المتعطلين بلغ أكثر من مائة ألف عامل، فإذا علمنا أن السلطات
البريطانية لم تصرف للعمال مكافآت عن مُدد الخدمة التي أمضوها في معسكراتها، فإننا ندرك
طبيعة المأزق
الذي وجدت فيه الحكومة المصرية نفسها، سواء بتدبير الأموال التي تعِين هؤلاء العمال على
مواجهة ظروفهم
المادية الجديدة، أو بتدبير الأعمال الجديدة لهم،
٥٣ كذلك كانت أعداد لا بأس بها من عمال النسيج قد تركت مهنة النسيج للالتحاق بالعمل في
معسكرات
الجيش البريطاني، سعيًا وراء الأجر الأكثر ارتفاعًا، وقد عاد هؤلاء العمال في أعقاب الحرب
إلى مصانعهم،
مما أوجد الفرصة أمام أصحاب المصانع للافتئات على حقوق العمال.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أُغلقَت المصانع التي أُنشئت لسد احتياجات البلاد في ظل ظروف
الحرب القاسية،
وتضاعفت أعداد العاطلين، مما أدى إلى انخفاض مستوى الأجور، في المقابل من ارتفاع الأسعار،
وزيادة تكاليف
المعيشة عمومًا. وينعى الأستاذ بكير الغلاء الذي شملت تأثيراته كل شيء بعد قيام الحرب،
لكنه — بعد
انتهائها — لا يريد أن يزول،
٥٤ وضاعف من حدة الأزمة — وصورتها الظاهرة — آلاف العمال الذين كانوا قد هاجروا من الريف
إلى
المدن، سعيًا وراء فرص العمل، فظلوا في المدن بلا عمل، تربة خصبة للأمراض الاجتماعية
الخطيرة.
٥٥
أضاف إلى تفاقم الأزمة توالي ارتفاع أسعار الحاجيات والاحتياجات الضرورية، ورواج
تجارة «فضلات
الأغذية»، بداية لانتشار وباء الكوليرا في ١٩٤٧م، كما انتشرت صناعة البوظة التي لجأ إليها
العمال كشرابٍ
مخدِّر يقتل الشهية للأكل، وعرف العمال ارتداء قماش الخيش أثناء العمل، وتضاعفت أعداد
المصابين بأمراض
مهنية، وأمراض صدرية، وحُرم الكثير من أبناء العمال من حق التعليم، بعد أن أُلحِقوا بالعمل
منذ حداثة
أعمارهم.
٥٦
ولعله — في ضوء كل ذلك — ينبغي النظر إلى إقدام حامد وحسين على سرقة معسكرات الإنجليز،
رغم
تعرضهما للقتل برصاص الجنود.
٥٧
وقد حفلت الصحف التقدمية — عقب الحرب — بعناوين وتحقيقات، تصِف أحوال الطبقة العاملة
بأنها «حياة
بؤس أسود مرير» و«حياة تنزف دمًا» و«حياة قبور للكادحين وقصور للمستغلين» … إلخ.
•••
يقول الفنان إن أحدًا لم يكسب من الحرب سوى التجار، ويصِف تاجرًا تعرض للإفلاس بقوله:
«لعله التاجر
الوحيد الذي أفلس في هذه الأيام.»
٥٨
يصف محمود حسين — اسم مستعار — البرجوازية المتوسطة في أعقاب الحرب العالمية الثانية،
بأنها مكونة
من المراتب الريفية والمدنية التي تكسب جل معيشتها من استغلال الآخرين، ولكن دون أن يكون
لها — في
الإطار التاريخي — أية مكانة سياسية أو اقتصادية مسيطرة.
٥٩
أدَّى ارتفاع أسعار القطن، وتنامي الأنشطة الاقتصادية والمالية إلى تضاعف أصحاب الملايين
ثماني
مرات، بلغوا ٤٠٠ مليونير بعد أن كانوا خمسين، وفي المقابل، ارتفعت الأسعار ثلاثة أضعاف
دون أن توازيها
زيادة في المرتبات،
٦٠ بل إن الحرب أدَّت إلى ارتفاع أسعار الكثير من البضائع بنسبة تجاوزت ٦٠٠٪، وظل هذا الارتفاع
قائمًا إلى ما بعد الحرب بسنوات، وخاصة بعد نشوب القتال بين دولتَي تركيا واليونان.
انتهت الحرب — والكلام لفؤاد مرسي — «وقد تغيرت خريطة مصر الاجتماعية، بعد أن كانت
الحرب قد زادت
الأغنياء غنى، والفقراء فقرًا.»
٦١ حتى إن المعلم قطب اضطر إلى الحياة مع أسرته في الدكان، بعد أن عجز عن دفع ايجار
المنزل،
٦٢ وحققت فترة الحرب مكاسب مؤكدة للرأسماليين المصريين، بدليل الودائع المصرفية التي قفزت
من
٤٥ مليون جنيه إلى ١٢٠ مليونًا من الجنيهات،
٦٣ ويشير الراوي إلى أن الأسعار قد جُنَّت في أعقاب الحرب، حتى صار رطل اللحم بخمسة قروش،
وأقة
البلح بقرشين، وأقة العنب بثلاث ونصف، وأقة البرتقال بقرش ونصف.
٦٤
•••
كان في مصر — عقب الحرب — ١٢ ألف أسرة تملك ٨٠٪ من الأرض، بينما كان هناك ١٧ مليونًا
لا يملكون
إلا ٢٠٪ من الأرض. ولتقريب الصورة، فقد كانت صورة الملكية الزراعية تحددت في حوالي ٠٫٥٪
من ملَّاك الأراضي،
يملكون ٤٣٪ من مجموع الأراضي الزراعية، بينما ٩٤٪ من الملَّاك لا يزيد مجموع ملكياتهم
عن ٣٥٪، بالإضافة
إلى ١٢ مليونًا من الأُجراء وفقراء الفلاحين.
٦٥
وقد توضحت التطلعات الطبقية والرغبة في الثراء وفي الوضع الاقتصادي المتميز، ربما
ارتكازًا على
قول فواز بك: «الناس لهم الغنى، لا يهمُّهم من أين أو كيف أصبح غنيًّا، المهم عندهم أنه
غني.»
٦٦
يصف الفنان تلك الأيام بأنها «أيام المال السائب والثراء والحرام، وصفقات السرقة،
بين الأورنس
وزبانية من ضحايا الجشع.»
٦٧ «واختل ميزان المعيشة، فتوارت الأسعار القديمة إلى الأبد، وانهمرت الثروات على أناس،
فلم
يبق في القعر إلا الموظفون.»
٦٨
كان للحرب تأثيراتها الإيجابية في حياة قطاعات محددة ومحدودة من المصريين، «كانت
كل السبل ممَّهدة
للربح والثراء.»
٦٩ ثمة من كانوا — قبل نشوب الحرب — ناسًا عاديين، وتحوَّلوا — في أثنائها — إلى أعيان،
٧٠ وقد استطاع تاجر الأقمشة — من مكاسبه في أعوام الحرب — أن يبني أشياء كثيرة، ومنها مزرعة
صغيرة،
٧١ واستطاع التاجر شخلول أن يحقق من تجارة المانيفاتورة ثروة طائلة، ويصبح من أغنياء الحرب،
الذين زودوا الصحف بمادة، لا ينضب معينها، من النكات والصور الهزلية، والتعبير للفنان.
٧٢
أما تاجر الحبوب حمدان، فقد أفاد من تجارته في أعوام الحرب، حتى ضاعف ثروته.
٧٣ ويقول يسري لخيري: «تعال معي إلى المذبح، تعال إلى سوق الخضر، تعال إلى تجار الدقيق
واللبن
ومتعهدي الجيوش، تعال انظر إلى المجد الذي بلغوه بلا شرفٍ ولا عائلة ولا كرامة، بلا شيء
إلا الذكاء وفهم
الدنيا كما يجب أن تفهم، تعال انظر إليهم الآن، الأموال مكدسة تجري بين أيديهم كما تجري
على لسانك ألفاظ
الكرامة والشرف والمركز العائلي، ولكن الفلوس تجري فتأتي بفلوس، وكلامك يجري فلا يأتي
إلا بالفقر
الأصلي.»
٧٤
وكان الباعث لإصرار حسين كرشة على هجرة زقاق المدق أن كثيرًا من زملائه يقطنون في
بيوت فيها
الكهرباء.
٧٥ وقد بدأ الريس مخلوف حياته نفرًا، يعمل بالكريك والزنبيل لدى أحد المقاولين، ثم رُقِّي
إلى ريس
أنفار، ثم عمل بالمقاولات، ومارس نشاطًا واسعًا في معسكرات الإنجليز، حتى ادَّخر حسابًا
كبيرًا في البنك،
وكان يوقِّع على الشيكات بختمٍ يحمل اسمه، وببصمة الإبهام، ثم تخلَّص من الجلباب، وارتدى
بدلة، وإن احتفظ
بالعمامة.
٧٦
ويروي الفنان عن الحاج محمود النجار، الذي حوَّلته الحرب العالمية الثانية إلى ثري،
وانتقل إلى طبقة
أخرى، وإن لم يزايله الإحساس بأنه من طبقة أدنى «إنه منذ سبع سنوات يملك آلات ضخمة في
ورشة النجارة
الكبرى، وكثير من العمال يقولون له يا عمي، وكثير من الأهالي يلقِّبونه بالبيه، عدة ألقاب
واحترام من كل
نوع وعز ونعمة، يتضاءل أمامها دخل الطبيب والمهندس والمدرس، لكن الحاج خاوي النفس غير
مطمئن إلى منزلته،
يحس كأن شيئًا ضخمًا يُنقِص النعمة الضخمة.»
٧٧
وكان شعبان نجارًا في الجيش الإنجليزي، ثم اتفق مع الحارس الإنجليزي على سرقة المخازن،
واقتسام
أثمان ما يبيعانه، ولما ادَّخر بعض الأموال، اتجه إلى المتاجرة في المواد التموينية،
وتهريب الشاي والسكر
والزيت من القاهرة إلى الأرياف، واتسعت أعماله فراح يفيض على الموظفين الذين يتعامل معهم
بالرشاوي
المادية والحسية،
٧٨ لكن شعبان فطن إلى أن المال لا يكفي وحده ليجعل منه ما يريد، وكان يتمنى أن يصبح واحدًا
من
أبناء الطبقة الراقية، ومن ثَم فقد سعى إلى مصادقة بعض أبنائها،
٧٩ وكان الرجل يتوهَّم أنه ما إن يندس في تلك الطبقة حتى ينال كل نسائها،
٨٠ ويشير محمود أفندي إلى «واحد زميلي في المواصلات اشترى شوية مواسير خردة وسلك وصفيح
… صفيح
يا ناس … النهاردة بقى راجل بتاع تلاتين أربعين ألف جنيه.»
٨١
وبعد أن أصبح عبده صقر قوادًا، تبدَّلت حياته تمامًا، فقد بدَّل ثيابه البالية، وارتدى
جلباب حرير
سكروتة، وزيَّنت أصابعه خواتم ذهبية، وعرفت سجائر الهوليود طريقها إلى جيبه، وزاد فأدمن
قعدات الحشيش التي
يروي فيها النكات، ويطلق الضحكات، ليبين فمه المفتوح عن أسنان من الذهب الخالص.
٨٢
وقد مات عم فرج بائع الحلوى والدندرمة قبيل الحرب، فحلَّت ابنته مسيحة محله في إدارة
العربة، ولم
يتوقف نشاطها حتى بعد زواجها من بائع فاكهة سريح، بل أضافت إليه تجارة الخردة أيام الحرب،
وتضخَّم نشاطها،
فهجرت عربة الحلوى، واكترت جراجًا صغيرًا في شارع الرضوان، جعلته مركزًا لنشاطها، وجعلت
من زوجها
معاونًا لها، ثم اكترت مكانًا جديدًا في الأرض الفضاء التي حلَّت محل الحقول، وملأته
بمخلفات الجيش
البريطاني «وأصبحت معلِّمة بكل معنى الكلمة».
٨٣
وكان حسين بك واحدًا من هؤلاء الذين تضخمت ثرواتهم بعد الحرب،
٨٤ كما كان عبد الحميد واحدًا ممن تاجروا في مخلفات الحرب، وجنوا من ذلك أرباحًا هائلة؛
كان
عساكر الإنجليز يأتون إليه باللوريات، محمَّلة بالبطاطين والمأكولات المحفوظة والمعاطف
والملابس،
فيشتريها ببضعة جنيهات، يبيعها بالألوف.
٨٥
أما إبراهيم العقب، فقد عمل متعهدًا للكرتة — الزبالة — وبقايا الأطعمة، من ثكنات
الجيش
الإنجليزي، وكان يدفع للطباخين الإنجليز، فيدسوا بين كومات الزبالة علب الأطعمة المحفوظة
والسجاير
والبطاطين والأسلحة، وغيرها مما أتيح له بيعه، وتكوين ثروة هائلة منه.
٨٦
وكان والد علي بك البنان مجرد سرِّيح باللبن على باب الكريم، ثم فتح دكانًا صغيرًا
في الخرنفش،
فلما قامت الحرب أمر الله بالثراء «ولا راد لأمره.»
٨٧ وكانت الابنة «لي لي» ثمرة زواج دام أسبوعًا بين أمها بديعة وعسكري إنجليزي، سافر بعده
إلى
الموت في الحرب، وإن ضمنت بديعة معاشًا شهريًّا، ظلَّت تصرفه من السفارة البريطانية بشيكٍ
من لندن لمدة خمسة
وعشرين عامًا،
٨٨ ويقول حسَّان لأهل قريته: «تعرفوا أغناها غني في مصر يكون مين الأيام دي؟ واحدة رقاصة،
غازية، واحدة فاتحة صالة مَغنى وهز بطن.»
٨٩
وعلى الرغم من الظروف المادية القاسية التي عاناها الموظفون، فإن البعض أفلح في تحقيق
الثراء في
ظل أوضاع الحرب.
وعلى سبيل المثال، فقد استغل عمر وظيفته في الحصول على ١٥٠٠ أقة شاي بالسعر الرسمي،
وباعها في
السوق السوداء بزيادة جنيه لكل أقة، وتحقق لعمر الثراء بتسلُّمه لألف وخمسمائة جنيه،
وهتف بفرحة: أصبحت
غنيًّا من أثرياء الحرب … أنا موظف غني … أنا موظف حرب!
٩٠ وحتى تقنع أم إبراهيم الخاطبة أهل العروس بالشاب الذي تقدم لخطبة ابنتها، فقد ادَّعت
أنه مدير
كبير، راتبه خمسون جنيهًا، ويمتلك عزبة مائة فدان في شبين الكوم.
٩١
أما المعلم جعدة، فقد كان — قبل إعلان الحرب — بائع بطاطة، ولم يكن يملك حتى عربته،
فقد كان
يقترضها بقرشٍ في اليوم. فلما نشبت الحرب، وجد له عملًا في المعسكر البريطاني في العباسية،
واستبدل
بالجلابية قميصًا وبنطلونًا، ثم انتقل إلى التل الكبير، وتاجر هناك في الأغذية والمهمات،
ومارس أكثر من
مهنة حتى أثرى ثراء فاحشًا، وقُبِض عليه — يومًا — بتهمة الاتجار في أحذية الجيش، ثم
خرج إلى ثروة
طائلة،
٩٢ وكان المكناس واحدًا من أثرياء الحرب، خلع الجلابية والقبقاب والطاقية، وارتدى البدلة،
ودخل
في زمرة الأفندية،
٩٣ وتضاعفت ثروة الخواجة نعوم، وتضخمت، من تجارة العطور وأدوات الزينة؛ كانت بضاعته تقتصر
على
العطور المغشوشة، وكان عبد السلام عفيفي (الخرز الملون) قد بدأ حياته جزارًا، يورد اللحوم
للجيش
البريطاني في أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم أصبح واحدًا من أغنى أغنياء مصر، فلم
يعُد أحد يذكره
بمهنته القديمة،
٩٤ كما عمل عبد الله في أعوام الحرب على بيع الماء الملون لأصحاب الدكاكين، على أنه ويسكي
اسكتلندي، وأثرى من ذلك ثراء فاحشًا،
٩٥ ويقول صبري (الدكتور خالد): «كل مَن نعرف ومَن لا نعرف قد أصبحوا أغنياء حرب، حتى إحدى
الخادمات التي اشتغلت في بيتنا صادفتها في الطريق تخب في أفخم الأثواب، مقصوصة الشعر،
وكدت أكذِّب نظري
لولا ما أطالعه عن أرتيستات الحرب، وغواني الحرب، وسألت شقيقي — مرة — عن أحد الخفراء
في بلدتنا،
فأجابني أنه قد أصبح من المتخصصين في سرقة المعسكرات الإنجليزية، وأنه اقتنى ثروة كبيرة
في هذا السبيل،
وهناك تجار أصبحوا من أصحاب الملايين لاتجارهم في مخلفات الجيش، والبيوت كلها تستخدم
المسروقات من الجيش
الإنجليزي. إن مصر كلها في حالة سُعار، ولم يبقَ فقير مجرد.» لكن شكري يستطرد بالقول:
«يؤسفني أن أحرمك
حتى من هذا الانفراد بالفقر؛ فالأغلبية العظمى لا تزال على حالها من الفقر المدقع، بل
لعل ظروف الحرب،
وارتفاع الأسعار، وقلة الأقوات، قد زاد في حالتها سوءًا.»
٩٦
وعلى الرغم مما أثبتته الحرب من فرص الكسب الهائل أمام العمل الحر، فقد ظلت الأغلبية
من المصريين
على ولائها للعمل الحكومي؛ تبتغي أيسر الرزق وأهونه، وتصبر على ما قد يضطر المرء إليه
من وضعٍ مادي
ومعنوي.
٩٧
وفي لحظة صراحة — بتأثير الخمر — يعلن الموظف الكبير أنه إنما حصل على ثروته من عمليات
السمسرة،
ومن الرشوة، ومن ألوف الجنيهات التي كان يتقاضاها ثمنًا لكل إمضاء، ومن عضويته في شركاتٍ
تعطيه رواتب
باهظة، دون أن تكون له بها صلة مباشرة.
٩٨
ويقول الرجل في «السكرية»، تعليقًا على ممارسات الحكومات المختلفة: «طول عمرهم يعدون
بإخراج
الإنجليز، وبفتح جامعة جديدة، وبتوسيع شارع الخليج … فهل تم شيء من هذا؟!»
٩٩
•••
لا نبعد عن الحقيقة — والقول لسيد ياسين — إذا لخصنا المشهد المصري، الذي استمر من
عام ١٩٤٥م حتى
عام ١٩٥٢م، بعبارة جامعة مفادها أن الصراع السياسي والطبقي في مصر من ناحية، والمواجهة
مع المحتل
الإنجليزي من ناحية ثانية، تحوَّل إلى موقف ثوري، بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ في علم
الثورة.
١٠٠
فبعد انتهاء الحرب في صيف ١٩٤٥م، أُجريَت الانتخابات في بريطانيا، وفاز حزب العمال،
وتطلَّعت القيادات
السياسية المصرية إلى حكومة بريطانية أشد ميلًا للتعاون مع مصر، ولتحقيق أمانيها في الاستقلال،
وبعث
إسماعيل صدقي رسالة إلى مجلس النواب، قال فيها: «الآن وقد تهيَّأ جوٌّ من التسامح السياسي
المرجو، فأقترح
على المجلس، وهو على أهبة الانفضاض، أن يطالب الحكومة، بل يطالب الأحزاب بالعمل من غير
توانٍ، على تصفية
مسألتَي الجلاء والسودان.»
١٠١
وفي ٢٠ ديسمبر ١٩٤٥م أعلنت الهيئة السياسية — التي كوَّنتها الحكومة الائتلافية التي
تكوَّنت من حزبَي
السعديين والدستوريين — بدء المفاوضات مع الحكومة البريطانية، وسلَّم السفير المصري في
العاصمة البريطانية
مذكرة إلى المسئولين الإنجليز في العاصمة البريطانية، بطلب الدخول في مفاوضات بين الدولتين،
وإعادة
النظر في معاهدة ١٩٣٦م.
وتلكأت الحكومة البريطانية — أكثر من شهر — في تسليم ردِّها، ثم ردَّت — في ٢٠ يناير
١٩٤٦م — على
المذكرة المصرية بالنظر في تعديل المعاهدة المصرية الإنجليزية، بأنه لا يوجد سببٌ للنظر
في هذا التعديل،
وأن هدف المفاوضات هو استمرار الارتباط بين مصر وبريطانيا، وإدخال مصر في سياسة التكتلات،
والإبقاء على
قاعدة عسكرية في مصر والسودان، وإعطاء هذه القاعدة طبيعة شرعية، وقالت المذكرة البريطانية
بالحرف: «إن
سياسة حكومة جلالة الملك هي أن تدعم، بروحٍ من الصراحة والود، التعاون الوثيق الذي حقَّقته
مصر ومجموعة
الأمم البريطانية والإمبراطورية في أثناء الحرب — وهو ما نوَّهت به المذكرة المصرية —
وأن تقيم هذا
التعاون على أساس المشاركة الحرة الكاملة بين نِدَّين للدفاع عن مصالحهما، ومع احترام
استقلال مصر وسيادتها
استقلالًا تامًّا.» وكتبت جريدة «ويكلي سبكاتور»: «لقد استهدف رئيس الوزارة المصرية للجاجة
خصومه من
الوطنيين، وإلحاحهم. ولا شك في أنه يستحق كل تأييد نستطيع أن نمدَّه به؛ لأن الجيش المصري
لم يبلغ من
القدرة حدًّا يستطيع معه حماية القناة، وجنودنا لا يستطيعون أن يرابطوا على القناة إلا
إذا كانت لهم
معسكرات في هذه المنطقة، ولمَّا كانت هذه المعسكرات لم تنشأ بعد، فليس هناك مكان لإقامتهم
إلا منطقة
القاهرة.»
نشرت حكومة النقراشي الرد البريطاني، وكان له أسوأ الأثر في نفوس الجماهير المصرية
(وهل ثمة أثر
أسوأ من النظر إلى مصر، البلد المستقل، كجزءٍ من مجموعة الأمم البريطانية؟!)، وخرجت المظاهرات،
صورة
تذكِّرنا بما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وإن لم تكن بالعنف نفسه الذي خرجت
به في ١٩١٩م، ربما لأن
مظاهرات ١٩١٩م استهدفت الوجود الاحتلالي المنتشر في كل أنحاء مصر، بينما كانت القوات
البريطانية — في
العام الذي قدَّم فيه النقراشي مذكرته — متمركزة في منطقة القناة.
أدركت جماعات الشباب خطورة إجراء المفاوضات على النحو الذي تطلبه الحكومة البريطانية،
ومن ثَمَّ فقد
شرعت في تعبئة وتنظيم صفوفها، كمنطلقٍ لكشف خيانة أحزاب الأقلية واتجاهها التهادني، وكان
شعارها: لا
مفاوضة إلا بعد الجلاء … الجلاء … الدماء … تدويل قضية الجلاء.
وإذا كان المصريون قد بدءوا التحرك، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لنيل استقلالهم،
فإنهم
أقدموا على التحرك نفسه في أعقاب الحرب الثانية. وكان المغزى واضحًا في كتاباتٍ على الجدران
تقول: يا
شباب ١٩٤٥م، كن كشباب ١٩١٩م، وبدأت اجتماعات الطلاب — أعني أنها شملت الجنسين — من قبل
أن تفتح الجامعة
أبوابها، وبدأ التدارس في الوسائل التي تكفل دفع الاحتلال إلى إنهاء وجوده في الأراضي
المصرية.
وشهدت ملاعب كلية الطب بالقاهرة اجتماعاتٍ لكل ممثلي الحركات الطلابية المصرية وقادتها،
على اختلاف
نزعاتهم السياسية والعقائدية، بهدف تكوين جبهة وطنية واسعة للنضال ضد الاستعمار وأعوانه
المحليين،
وانتهت الاجتماعات إلى تكوين لجنة تحضيرية، تنبثق منها اللجنة الوطنية للطلبة، وحددت
قوى الثورة الرئيسة
— في تلك المرحلة — بأنها قوى العمال والصناع والطلبة والتجار والموظفين، وأكدت أن الكفاح
ضد الاستعمار
ليس موجهًا ضد قوات الاحتلال فحسب، بل إنه يجاوزها ليصبح كفاحًا بين الثورة الوطنية والاجتماعية،
ووضعت
في مقدمة أهدافها تصفية عملاء الاستعمار، وشركائه من الإقطاعيين وكبار الماليين المرتبطين
بالاحتكارات
الأجنبية، كذلك هاجمت اللجنة في بياناتها الرأسمالية المحلية، وأكدت عزم مجموع الأمة
على تغيير الأوضاع
الاجتماعية، وطالبت بإعادة توزيع الأرض، ومنحها للفلاحين في شكل ملكيات صغيرة، وإنشاء
نظام تعاوني،
وحتَّمت وجوب أن تقوم الطبقات الشعبية بدورها في الحركات الوطنية، لأن الطبقات الحاكمة
القائمة تتعاون مع
الاستعمار، وأشارت إلى أن العنف الثوري هو سبيل تحقيق مطالب المستعمرات، وليست المهادنة
والاستبراء.
ثم رفعت اللجنة أهم شعاراتها السياسية، وهو وحدة نضال الشعبَين المصري والسوداني،
فحددت — لأول مرة
— طبيعة النضال المشترك بين الحركتين الوطنيتين في مصر والسودان.
•••
دعت «اللجنة التحضيرية للجنة الوطنية للطلبة» إلى أول مؤتمر عام — في ٩ فبراير ١٩٤٦م
— بحرم
الجامعة، كرد فعلٍ لرد الحكومة البريطانية على طلب مجلس الوزراء المصري ﺑ «جلاء القوات
البريطانية،
وتحقيق مشيئة أهل وادي النيل في مصر والسودان.» وكان الرد البريطاني مخيبًا للآمال، فقد
اكتفى بالحديث
عن معاهدة ١٩٣٦م، وأنها أساسٌ طيبٌ للعلاقة الثنائية بين مصر وإنجلترا.
وكان الاجتماع الذي عُقِد في جامعة القاهرة في التاسع من فبراير ١٩٤٦م، وحضره ما يقرب
من عشرة آلاف
طالب، قد انتهى إلى عدة قرارات هي: إيقاف المفاوضات الدائرة … إلغاء معاهدة ١٩٣٦م واتفاقيَّتي
السودان لعام
١٨٩٩م … جلاء قوات الاحتلال فورًا … تنظيم مظاهرة سلمية لرفع قرارات المؤتمر إلى المسئولين.
سارت المظاهرة التي انتظم فيها الآلاف من طلاب الجامعات والمدارس الثانوية، حتى وصلت
إلى كوبري
عباس في طريقها إلى قلب المدينة، وكان ينتظرها هناك قوات اللواء سليم زكي بخطة مدبَّرة
لإغراقها في النيل.
كان سليم زكي — حكمدار العاصمة — عميلًا صريحًا للإنجليز، كوَّن فرقة بوليس خاصة سُميَت
«فرقة الباشا»،
مهمتها الانتقام من الطلبة الذين ينظمون المظاهرات، أو يتخذون مواقف من أي نوعٍ ضد سلطات
الاحتلال.
١٠٢
يقول الراوي: «… وتدفق الطلبة في شارع الجيزة كنهرٍ اجتاح سدَّه، وهتفوا بسقوط الوزارة،
واستمررنا
في سيرنا قاصدين قلب القاهرة، ولكن ما إن بلغنا كوبري عباس حتى وجدناه مفتوحًا، فوقفنا
حيارى لا ندري ما
نفعل. وقفزت إلى رأسي فكرة، فاخترت ثلاثة طلبة، فانطلقنا، وأخذنا زورقًا، وجدَّفنا حتى
بلغنا الجهاز الذي
يحرِّك الكوبري، فأدرناه، فأخذ الكوبري يتحرك، ونحن نهتز طربًا، وأخيرًا تمكَّنت المظاهرة
من العبور،
فقفلنا بزورقنا عائدين، وقفزنا إلى الشاطئ، ورحنا نعدو لنلحق بإخواننا. وما إن لحقنا
بهم، حتى وجدنا
جنودًا انقضُّوا على المظاهرة يحاولون تشتيتها، وهوى جندي بهراوته على رأس طالب بجواري.
في نفس الوقت دمدم
الرصاص، ودوى في المكان، وسقط طالب مجندلًا، ففرَّ الجميع، وهممت بالفرار إلى ملجأ يحميني
من الرصاص
المتساقط.»
١٠٣
كان الطلبة — والوصف لمحمد صدقي — يقاومون طلقات الرصاص، وضربات العصي، ومطاردة خيول
السواري،
وامتلأ الكوبري بالطلبة الذين حاولوا اجتيازه هربًا من المطاردة، وانفتح الكوبري فجأة؛
استدار، فوق
الصينية التي وُضِع عليها، بجزءٍ كبير من الطلبة، مع بعض الجنود الذين راحوا ينهالون
عليهم بالعصي والبنادق،
والطلبة محصورون بين جانبي الكوبري المعلق في الهواء، يقاوم بعضهم الضرب بالتصدي اليائس
للجنود، ويتلقَّى
البعض الضرب بحثًا عن النجاة، قافزًا إلى الماء، أو متخطيًا سور الكوبري الحديدي.
١٠٤
كان سليم زكي قد أصدر أوامره، ففتح الكوبري، وبدأ هجوم قوات البوليس على الطلبة من
الخلف، واضطرت
أعداد كبيرة من الطلبة إلى القفز في النيل، وجُرح حوالي مائتَي طالب، وأصيب منهم ٨٤ إصابات
خطيرة.
كان ما حدث إعادة لمأساة كوبري عباس، أو الجيزة، التي وقعت في نوفمبر ١٩٣٥م، ومثَّل
ما حدث شرارة،
اندلعت لها المظاهرات والاضطرابات في كل أنحاء مصر، واستُشهد ثلاثة من المواطنين في الإسكندرية،
وثلاثة
في الزقازيق، وواحد في المنصورة، وتحوَّلت مظاهرات القاهرة في اليوم التالي (١٠ فبراير)
إلى مظاهرات عنيفة
ضد السراي وحكومة النقراشي، وحطَّم المتظاهرون الزينات الملكية التي كانت معدَّة للاحتفال
بعيد ميلاد الملك
في اليوم التالي (١١ فبراير) ولاستقبال الملك عند حضوره افتتاح المدينة الجامعية، وانتزعوا
صور الملك،
وأشعلوا فيها النيران، كما حطموا فروع الأشجار الخضراء في طريق الموكب الملكي حتى المدينة
الجامعية.
١٠٥
وفي مساء اليوم نفسه، أصدرت الحكومة أمرًا بإغلاق الجامعة لأجلٍ غير مسمى، لكن المظاهرات
تجددت في
اليوم التالي تهتف: لا ملك إلا الله، وألقت بكومات التراب على الشعلة الملكية، وامتدت
المظاهرات،
وانتشرت في كل مدن مصر، وسقط شهداء ومصابون، وانتشرت الأحاديث عن «المظاهرات والجرحى
والقتلى وكوبري
عباس واستبداد الحكومة»،
١٠٦ وتزايدت الاعتصامات والإضرابات في الإسكندرية، وأثيرت احتمالات اقتحام البوليس.
١٠٧
•••
اعتاد صلاح عمران أن يكره كوبري عباس، ما من مرة يراه، أو يمشي فوقه، إلا وتطارده
الفكرة التي
كثيرًا ما عذبته: الطلاب فوق الكوبري يهتفون للوطن، ولكن جسم الكوبري يتحرك ببطء ليفتح
بئرًا عميقة نحو
الأمواج، تتساقط فيها الأجساد.
١٠٨
ويسأل الرجل: ولكن: هل صحيح أن كثيرًا من الطلاب غرقوا في النيل … هل رأيتهم وهم يقذفون
بأنفسهم؟
– هكذا يقولون … ولكن الجميع نجوا فيما يبدو.
١٠٩
وهذا هو ما يذهب إليه الرافعي في قوله إنه قد بولغ في تصوير حادثة كوبري عباس، لاستغلالها
ضد
وزارة النقراشي، وأنه لم يُقتَل أو يغرق أحد.
١١٠
أصدرت وزارة الداخلية بيانًا يتحدث عن بعض الشبان من الطلبة وغيرهم، حاولوا القيام
بمظاهرة صباح
ذلك اليوم، «فاتجهوا إلى كوبري عباس، وكان وقتئذٍ ميعاد فتحه لمرور المراكب، فنزل بعض
المتظاهرين في
قوارب، واعتدوا على مهندس الكوبرى لحمله على قفله، وبالفعل أُغلِق الكوبري بطريقة غير
نظامية، وأوضح
البوليس للمتظاهرين بأن قفل الكوبري لا يجدي، وأن المظاهرات ممنوعة، لكنهم أصروا على
سير المظاهرات،
فتقدم إليهم مرة أخرى وكيلا الحكمدار بمفرديهما، فأعادا عليهما النصح، فأبى المتظاهرون،
وأخذوا في إلقاء
الحجارة على رجال القوة، فتقدمت القوة، وفرقتهم، وقبضت على زعمائهم، وأخطرت النيابة للتحقيق،
والبوليس
يكرر الإعلان بأن المظاهرات ممنوعة منعًا باتًّا.»
أحدث ما جرى ردود أفعال عنيفة في الشارع المصري، أدانت جميعها رئيس الوزراء محمود
فهمي النقراشي،
واعتبرته مسئولًا عن إصدار الأوامر بارتكاب «المذبحة»، وكتب طه حسين يطالب بمحاكمة المسئولين
عنها «وقبل
كل شيء أن تعرف الأمة المصرية بالضبط عدد القتلى والجرحى، وإن كان قتيل واحد يكفي لمحاكمة
ألف وزارة،
وألف نقراشي.» ووصف محمد مندور ما حدث بأنه «همجية»، ودعا إلى الجهاد حتى يتحقق النصر.
أما عزيز فهمي،
فقد كتب كلامًا مؤثرًا عن خطف جثث الشهداء بالكلب نمر، أو بغيره، وتحريم الاحتفال بالشهداء،
واستباحة
دمائهم.
ورغم أن مأساة كوبري عباس قد التصقت بجسد النقراشي كثوبه، فإنه قد وجد تبرئة له من
أقلامٍ مؤرخة
كثيرة. وعلى سبيل المثال، فإن هدى شامل أباظة أرجعت اتهام النقراشي بارتكاب مذبحة أفرزها
الخيال، نتيجة
اختلاط الوعي بين أحداث كوبري عباس في ذلك العام، وأحداث الكوبري في عهد وزارة توفيق
نسيم الثالثة عام
١٩٣٥م، وذهبت روايات كثيرة إلى أن رجال البوليس لم يكن في حوزتهم أسلحة، أو شيء من الأدوات
التي تُستخدَم
في الاعتداءات، وأنه لم يلجأ إلى ضرب الطلبة — بالعصي — إلا بعد أن بدءوا في رجم العساكر
بالحجارة.
وكانت أعداد شهداء المذبحة — في تقديراتٍ — تفتقد الصدق؛ لقد قفز الكثيرون من فوق الكوبري
إلى النيل، أو
إلى الضفة الطينية المقابلة، وسقط مئات المصابين، لكنَّ أحدًا لم يستشهد، وكان ما حدث
بعيدًا عن أوامر
النقراشي، إضافة إلى عدم علمه الآني بما حدث.
أما النقراشي، فقد أعلن أنه منع المظاهرات، وعقَّب على ما حدث بأن الطلبة استغلوا
أسوأ استغلال،
وقال إنه كان من واجب البوليس منع الطلبة من إثارة الشغب، وأضاف: إنني أقوم بواجبي باسم
الأمة، ويجب أن
أقوم بواجبي كاملًا، وإلا كنت مقصرًا، ولا يمكن لحكومة تحترم نفسها أن تترك متظاهرين
يعبثون بالأمن، وقد
أُريقَت دماء نتيجة للتحريض.
•••
سأل أحد أعضاء مجلس الشيوخ النقراشي: كيف قتلت أبناءنا الطلبة؟
أجاب النقراشي في بساطة: ورجال البوليس … أليسوا أبناءنا أيضًا؟!
١١١
أضاف إلى تفاقم الأحداث استقالة مكرم عبيد ووزراء الكتلة الوفدية، في ١٣ فبراير، وانسحاب
عبد
الحميد بدوي، ثم إغلاق الجامعة لأجل غير مسمَّى، سعيًا لإيقاف المظاهرات بعد أن وصل مدُّها
إلى جامعة فاروق،
واعتصم طلبة كلية العلوم احتجاجًا على المذبحة.
واضطرت حكومة النقراشي — في مواجهة السخط الشعبي العارم — إلى تقديم استقالتها في
١٥ فبراير
١٩٤٦م.
١١٢
وبعد استقالة وزارة النقراشي، استدعت السراي إسماعيل صدقي ليرأس الحكومة، رغم تاريخه
السلبي،
وربما كان ذلك التاريخ هو الباعث لأن تكلِّفه السراي بتولي الحكم حتى يلجم الخوف بعنفه
— الذي عُرف به في
مطلع الثلاثينيات — مشاعر الجماهير الملتهبة.
وألَّف إسماعيل صدقي وزارته الجديدة بالفعل في ١٧ فبراير ١٩٤٦م.
وثمة حوار في «واحترقت القاهرة»:
«– على أية حال، فلم تذهب تضحية الطلاب عبثًا، لقد سقطت وزارة النقراشي ثمن هذا العدوان.
– أليس إسماعيل صدقي أو أبو السباع، رئيس الحكومة الجديدة، أشد رجعية وعداء للشعب،
وتآمرًا مع
الاستعمار؟
– هكذا تاريخه وماضيه وقوام حياته، ولكنه يعلن أنه يريد أن يكفِّر عن ماضيه، وأن
يختم حياته في
بطولة، إنه يعدنا بأن يعمل على تحقيق الجلاء، ووحدة وادي النيل، وقد سمح لدعوتنا للإضراب
والتظاهر يوم
٢١ فبراير بالانتشار والنجاح.»
١١٣
بدأ صدقي حكمه بمناورة بارعة حتى يتمكَّن — فيما بعد — من تصفية القيادات الناشئة؛
فقد أصدرت اللجنة
الوطنية للعمال والطلبة في اليوم التالي لتولي صدقي الوزارة بيانًا، يدعو إلى اعتبار
يوم الخميس ٢١
فبراير ١٩٤٦م يومًا للجلاء، واعتباره منطلقًا نحو استئناف الحركة الوطنية المقدسة لنشاطها
الذي تشترك فيه مع
الشعب المصري للمطالبة بالاستقلال التام والحرية الشاملة، وأعلن إسماعيل صدقي — ذلك الطاغية
القديم! —
في مبادرة غير مسبوقة، أن الحكومة تؤيد اللجنة، وأنها ستشترك في المظاهرة، شريطة مراعاة
القواعد
الأمنية، لكن المناضل عزيز فهمي كتب مقالًا قال فيه: «إما أن يكون هذا وطننا، أو يكون
وطنًا لأعوان
الاحتلال، فإن كانت الأولى، فمن حقنا أن نقرر مصيره ومصيرنا، وإن كانت الثانية، فهي الحرب
بين الأمة
وحكومات الأقلية.»
وينسب الراوي (واحترقت القاهرة) إلى حركة «مصر الفتاة» أنها هي التي دعت إلى مظاهرات
٢١
فبراير،
١١٤ فبعد أن تحدد ٤ مارس يوم حداد على الشهداء «كان فرح أعضاء الحزب بهذا الانتصار عظيمًا،
فقد
أحسوا بأن جهودهم المتواصلة طوال خمسة عشر عامًا قد بدأت تؤتي ثمارها، فالجميع أصبحوا
يعترفون بدورهم
الفعال في قيادة النضال الوطني، وزمام المبادرة في أيديهم، والأحزاب القديمة التقليدية
أوشكت أن تصبح
سلبية، وأن تتخلى عن قيادتها للأحزاب والحركات الجديدة الشابة.»
١١٥
•••
في صباح الخميس ٢١ فبراير ١٩٤٦م، انتشر مندوبو الطلبة والعمال في أماكن التجمعات،
وتوقفت
المواصلات، وخرج عمال النقل من جراجات الجيزة وشبرا والعباسية في مظاهرات كبيرة، كما
تدفق عمال شبرا
الخيمة، وأغلقت المحال التجارية أبوابها، وشارك في الإضراب طلاب المدارس والجامعات، وبدأت
جماعات من
الطلاب والعمال ترتاد الشوارع وهي تهتف بالجلاء، ووحدة وادي النيل، وكفاح الشعب، وكلمة
«الجلاء» مكتوبة
على الأرض، وعلى الجدران، وفوق الصدور، وشارك الأجانب المصريين في إضرابهم. ويقول الراوي:
«كانت المدينة
في الساعة العاشرة، قد أصبحت تضج وتعج بأصوات الجموع والجماهير والهتافات التي ترتفع
إلى عنان السماء،
وبدت المدينة كما لو كانت مرجلًا يغلي بالغضب على الإنجليز، بينما تحوَّل قلب القاهرة
إلى كتلة بشرية
ملتحمة.»
١١٦ «وبعد أن كانت أرض الشارع هي وحدها المغطاة بالبشر، فقد أصبحت جدران الشارع، حتى البيوت
مغطاة بالبشر كذلك، اختفت الأبواب والنوافذ والشرفات والأحجار والأخشاب، ولم يبقَ إلا
بشر، بشر، بشر، في
كل مكان، يزأرون، ويجئَرُون: الجلاء … الجلاء … الجلاء … الجلاء.
١١٧
والتقت حشود المتظاهرين في ميدان الأوبرا (أكثر من ١٥٠ ألفًا)، وألقى ممثِّلو الهيئة
والقوى
المختلفة كلماتهم، واتخذ المؤتمر الضخم قراراته برفض المفاوضات، والتمسُّك بالجلاء التام،
ووحدة وادي
النيل، وإلغاء معاهدة ١٩٣٦م، واتفاقية ١٨٩٩م، وعرض القضية على مجلس الأمن.
تحركت المظاهرات من ميدان قصر النيل إلى كل أنحاء القاهرة، تحمل قمصان الشهداء، وراح
المتظاهرون
يهاجمون المؤسسات العسكرية البريطانية المنتشرة في المدينة، فواجهتهم قوات البوليس بالرصاص،
وقال صدقي:
إنهم الدهماء والعناصر غير المسئولة، هم الذين عكَّروا صفو اليوم.
وأجاب الطلبة والعمال في مظاهراتهم: عاش اتحاد الطلبة مع العمال … الدهماء هم الزعماء!
– هل أنت مطمئن إلى أن الإنجليز لن يصطدموا بالشعب؟
– لقد صدرت إليهم الأوامر أن يلازموا ثكناتهم في الغد … ولكن الإنسان لا يعرف كيف
تتطور الأمور في
أمثال هذه المناسبات.
١١٨
تحركت المظاهرات إلى ميدان الإسماعيلية، فلما اقتربت من ثكنات القوات الإنجليزية،
غادرت الثكنات
أربع سيارات إنجليزية مصفحة، راحت تطلق الرصاص — بعشوائية — في المتظاهرين، وأصيب المئات،
واستُشهد
العشرات، من بينهم عددٌ كبيرٌ من الأطفال.
خرجت الجماهير عن الانضباط الذي كانت تلتزم به، وحاولت اقتحام الثكنات، وقذفتها
بالنيران.
١١٩ ويقول الراوي: «كان صوتي قويًّا يرن في الميدان بدون ميكروفون، كنا نهتف بكفاح الطبقة
العاملة والطلبة والشعب المصري وسقوط بريطانيا، وجاء عمال شبرا الخيمة وطلبة الأزهر والموظفون
وكل
الطوائف، والشوارع بقت عمم وطرابيش، ثم اشتدت المظاهرات، وبدأ ضربها بالرصاص من ثكنات
قصر النيل — مكان
الهيلتون دلوقت — فردينا عليهم بالحجارة وكرات النار. كان معنا عامل في قسم تشحيم الماكينات،
خلع
جاكتته، ولفَّها، وأشعل فيها النار، وطوَّحها على الثكنات، وبدأت قوات الشرطة تطلق النار
علينا، وحاصرتنا
بالنيران، فألقى كثيرون بأنفسهم في النيل، واستُشهِد العديد من المتظاهرين.»
١٢٠
•••
يقول الرجل (الباب المفتوح): «الهجوم النهاردة [٢١ فبراير ١٩٤٦م] ما كانش موجَّه
ضد الإنجليز بس،
الهجوم كان ضد الإنجليز والملك وعملاء الاستعمار على العموم، ودي مرحلة جديدة من مراحل
الوعي
الوطني.»
١٢١
يضيف الرجل: «أنا شخصيًّا أعتقد أن المظاهرة دي كانت مرحلة جديدة من مراحل كفاحنا
الوطني، أول
حاجة: اصطدام مباشر مع الإنجليز، تاني حاجة: الجيش امتنع عن تفريق المظاهرة، ومش بس كدة،
عربات الجيش
كانت ماشية في البلد وعليها شعارات وطنية، ثم اشتراك العمال مع الطلبة والشعب كله. بقول
لك إن دي بلد
الجدعنة، دا حتى النسوان خرجت من بيوتها، شفت النسوان في باب الشعرية.»
١٢٢
وفي اليوم التالي، اجتمعت اللجنة القومية (التسمية للفنان، فهل هي اللجنة الوطنية
للطلبة والعمال؟) للبحث فيما يجب اتخاذه من إجراءاتٍ للاحتجاج على مصرع الشهداء.
١٢٣
طالبت اللجنة بضرورة تقديم المسئولين «أيًّا كانوا، لينالوا جزاء ما أجرموا، فإن
لم تفعل، فإن صوت
الشعب، وهو من صوت الله، سيكون قاسيًا عادلًا، كما أن اللجنة الوطنية قد قررت استنكار
أعمال الاستفزاز
والاعتداءات الوحشية التي قام بها الجنود البريطانيون على الشعب الأعزل المسالم، كما
طالبت اللجنة
الحكومة أن تقوم بالاحتجاج، وأن تطالب بسحب القوات البريطانية من المدن الكبرى فورًا،
وأن تُعلن الحكومة،
وكل مصري مسئول، رفضَ الحكم أو المفاوضة إلا على أساس تصريح يصدر من الجانب البريطاني
بالجلاء، ودعت
الشعب ألا يلجأ إلى وسائل العنف حتى يأتي الرد البريطاني في مدة أقصاها خمسة عشر يومًا.»
١٢٤
واتفقت اللجنة على تحديد ٤ مارس يوم حداد على الشهداء، وتنظيم موكب يسير فيه الوزراء
والشيوخ
والنواب والمستشارون والقضاة والمحامون والأطباء وأساتذة الجامعة والأزهريون والمهندسون،
وإعلان الإضراب
العام، وتوقف المواصلات، واقتصار الإذاعة على تلاوة القرآن.
•••
حسب رواية عبد العظيم أنيس، فقد كانت أحداث المنشية — محطة الرمل بالإسكندرية، رد
فعل غاضبًا
لأحداث ٢١ فبراير ١٩٤٦م، حين قادت اللجنة الوطنية للطلبة والعمال مظاهراتٍ حاشدة ضد الاحتلال
في ميدان
الإسماعيلية (التحرير) وفي مواجهة ثكنات قصر النيل الإنجليزية (مكان مبنى الجامعة العربية
وفندق هيلتون
الآن)، وسقط العشرات برصاص جنود الاحتلال بين قتلى وجرحى.
١٢٥
ففي ٤ مارس ١٩٤٦م، شهدت الإسكندرية أحداثًا دامية، عندما انهال الرصاص من أحد البيوت
في شارع سعيد،
على الآلاف التي خرجت في مظاهرة على شهداء يوم الجلاء (٢١ فبراير)، وهجم المتظاهرون على
البيت يريدون
تدميره بمن فيه، لكن البوليس المصري وقف في طريقهم.
١٢٦
حاولت المظاهرات إنزال العلم البريطاني الذي كان يعلو فندق «اتلانتيك» المخصص لضباط
وجنود القوات
الإنجليزية، وصعد أحد الشبان إلى سارية العلم، وبدأ يُنزِله، لكن رصاصة أردته قتيلًا،
فاشتعلت ثورة
المتظاهرين، وحاصروا باب الفندق، وأشعلوا فيه النيران، بعد أن أغلقوه على كل من بداخله،
ثم اتجهت الجموع
إلى ميدان سعد زغلول، لتبدأ هجومًا على كشك البوليس الحربي البريطاني الذي كان يتوسَّط
الميدان.
وكما يقول كمال رفعت في مذكراته، فلأول مرة — منذ ثورة عرابي — تهتف المظاهرات لرجال
الجيش في
سياراتهم التي خرجت تراقب الحال، لقد حيَّا رجال الجيش المظاهرات، وهتف المتظاهرون لرجال
الجيش، وكان ذلك
تعبيرًا عن الضرورة التي فرضت نفسها.
١٢٧
ومات من أبناء الإسكندرية في ذلك اليوم ٢٢، وأصيب ٢٩٨.
•••
يصف الفنان (قصة حب) تفصيلات ما حدث في ذلك اليوم: «يوم ٦ مارس بالذات ده يوم كان
تاريخي بالنسبة
لي شخصيًّا، كنا أيامها بنمر بفترة رهيبة من تاريخنا. كنت طالبًا في كلية العلوم في إسكندرية،
وكل يوم
والتاني مظاهرة ومؤتمر … وكانت مصر بتتوالى عليها حكومات صدقي والنقراشي، والبلد كلها
ثائرة وواقفة ضد أي
تسليم في حقوقها … إسكندرية يومها كان مفروض إنها في حالة حداد على الشهداء اللي ماتوا
في ٢١ فبراير في
القاهرة، وليلتها بالليل كان في البلد رأيين: رأي ينادي بوجوب أن يمر اليوم هادئًا، وهذا
كان رأي
الإخوان، والرأي الثاني كان بيصر على أن تقوم مظاهرات واسعة النطاق لتخلد اليوم، ويصبح
جديرًا بذكرى
الشهداء، وانتصر الرأي الثاني، والصبح كانت البلد كلها تعج بالمظاهرات … إلخ.» وعند محطة
الرمل امتدت
مظاهرة إلى شارع سعد زغلول، واقتحم المتظاهرون كشكًا وسط الميدان، قيل لهم إنه يحوي أسلحة،
فانهالت
عليهم — من داخله — طلقات الرصاص «فلما الناس جريت، ومات اللي مات، واتعور اللي اتعور،
العساكر خافت،
وراح كل واحد منهم مصوِّب مدفعه من شباك، ونازل ضرب في الناس اللي في الميدان علشان يبعدهم
عن الكشك، وفي
دقيقة كان الميدان اللي كان بيموج بالناس فضي خالص … المدافع نازلة ضرب، والأولاد غير
مكترثين إطلاقًا،
ونازلين ضرب بالطوب والحجارة … وبعد شوية لقيوا إن الطوب أصبح لا يجدي … واحد منهم راح
قالع جلابيته
الخرق، وبلَّها بنزين من عربية واقفة، ووطى، وفضل يجري لغاية ما قرب من الكشك، وراح رامي
الجلابية المولعة
من الشباك جوة الكشك، وكان ده بداية تحوُّل في المعركة … ونجح الأولاد أخيرًا، الكشك
ولع كله وبقى كتلة
نار، ونط اتنين من العساكر اللي كانو جواه رافعين إيديهم، وسلِّموا أنفسهم للبوليس، فأحاطهم
بقوات كبيرة
علشان يقدر يحافظ عليهم.»
١٢٨
وإذا كان عبد الحميد القط قد وجد مبالغة في رواية يوسف إدريس لأحداث ذلك اليوم، فإن
روايات أخرى
تؤكد أن الأحداث قد وقعت بالفعل، وبالصورة التي سجلها بها قلم الفنان.
ففي «واحترقت القاهرة» — على سبيل المثال — تطالعنا المأساة من بدايتها، قال سعد وهو
ينظر إلى ميدان
المحطة بالإسكندرية: الآن يمكن عمل مظاهرة بأي ثمن، بعد أن أصبح لدينا علم ولافتة، ورفع
العلم الأخضر ذا
الأهرامات الثلاثة الحمراء وسط الدائرة البيضاء، وهتف: الله أكبر، الله أكبر والمجد لمصر.
وزاد المتظاهرون شيئًا فشيئًا، وتعالت أجراس الكنائس، وارتفعت أصوات القراء بآيات
القرآن الكريم،
حدادًا على الشهداء، واكتفى البوليس — لفترة طويلة — بمراقبة المظاهرة، لكنها ما لبثت
أن تضخمت، حتى
أوشكت على قطع الميدان الكبير، والتحرك في شوارع وسط المدينة، وتحركت المظاهرة، بالفعل،
إلى ميدان محطة
الرمل، حتى غطت الميدان.
وصدرت الأوامر للبوليس بأن يضرب في المليان، وانطلقت ثلاث قذائف، وسقط ثلاثة متظاهرين،
واندفعت
الجماهير بالغضب نحو بناية يسكنها إنجليز، فقوبلوا بطلقات مدفع رشاش، وسقط العشرات شهداء،
لكن
المتظاهرين ردوا بقذف الكرات المحترقة على البناية، حتى دفعوا مَن كان بداخلها إلى الفرار،
وانتهت
المعركة بتدخل قوات من الجيش المصري، منعت عمليات الاعتداء على المتظاهرين «اطمئنوا،
اطمئنوا، لم نأتِ
للاعتداء عليكم، بل جئنا لحمايتكم، ولكن حسبكم ما فعلتم.»
١٢٩
•••
أُلقي القبض على فوزي السيد (واحترقت القاهرة) بتهمة التدبير لأحداث ٤ مارس ١٩٤٦م
في
الإسكندرية: «وهل جُنَّ رئيس الحكومة؟ ألا يعلم أن فوزي يكره العنف؟ أوَ لم يوقِّع على
بيان الجبهة، بل كان
هو الذي أعد مسودته؟ أوَ لم يمر اليوم في القاهرة بسلام؟ إنكم تعرفون فوزي، إنه لا يعمل
في
الظلام.»
١٣٠ ويقول الفنان (واحترقت القاهرة) إن شعبة الحزب الاشتراكي بالإسكندرية قررت أن تخرج عن
قرار
الجبهة بالامتناع عن التظاهر في يوم ٤ مارس ١٩٤٦م، بعد أن أحسوا أن فوزي السيد وافق مرغمًا
على هذا
القرار، حتى لا يُتهَم أنه خرج عن الإجماع.
•••
ثمة اجتهادات ذهبت إلى أن الدعوة إلى اعتبار ٤ مارس يومًا للحداد الوطني، جاء بمبادرة
من الإخوان
المسلمين، مع ذلك فإنه منذ ترأس إسماعيل صدقي الوزارة التي أعقبت حادثة كوبري عباس (١٧
فبراير ١٩٤٦م) لم
يظفر بتأييدٍ علني من القوى السياسية، عدا الإخوان المسلمون، حدثت المهادنة بين صدقي
وجماعة الإخوان،
ويشير الفنان إلى أن الإخوان المسلمين حشدوا ألوفًا من أتباعهم، وكانوا يستعملون سيارة
مجهزة
بالميكروفونات للسيطرة على المظاهرات: «هذا ما توهَّموا قدرتهم على عمله، ولكنهم ذابوا
بالأمس، ذابوا كما
ذابت أي تكتلات من أي نوع كان؛ لم يكن هناك سوى الشعب.»
١٣١
كان تأييدهم لحكومة صدقي مطلقًا، وعندما تخرج مظاهرة ضد الوزارة، فإن شباب الإخوان المسلمين
كانوا
يتصدون لها بالمِدى والعصي، وفي قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن)
تلا المهندس
مصطفى مؤمن — من قيادات الإخوان — قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا.
ويقول الراوي (طريق النسر): «إن التيارات السياسية أخذت تتبلور وتستقطب، بين تيار
الإخوان المسلمين
وأشياعهم، وبعض عناصر مصر الفتاة — وقد انحازوا إلى القصر، وإلى وزارة صدقي — وبين التيار
الوطني
اليساري، العريض، الذي ضم الطليعة الوفدية، والجماعات اليسارية على اختلاف منازعها، وبعض
أنصار الحزب
الوطني القديم.»
١٣٢
أشار إسماعيل صدقي إلى مفاوضات ١٩٤٦م بأن أحاديثه فيها تناولت «مسألة الخطر الروسي،
فأفضيت إلى مَن
حادثتهم باعتقادي أن النفوذ الروسي سيجد في مصر مرعًى خصيبًا، نظرًا للفوارق الهائلة
بين طبقات الشعب
فيها.»
١٣٣
وفي ١٠ يوليو ١٩٤٦م أصدر صدقي قرارًا بحل العديد من الهيئات والمنظمات والصحف الوطنية،
واعتقال
الكثير من المثقفين المتبايني الأيديولوجيات، وإن سُمِّي ذلك كله بقضية الشيوعية الكبرى!
وفي الخامس عشر من الشهر نفسه، قدم إسماعيل صدقي إلى مجلس الشيوخ نماذج من كتابات
القيادات
السياسية وتفكيرها: الحكومة تزيد الأغنياء غنى، والفقراء فقرًا، إن جانبًا ضخمًا من ثروة
مصر تحتكرها
أقلية من الناس، لا تبغي لغالبية الشعب غير المرض والفقر والجهل. إن الباشوات الرأسماليين
يشتركون في
مجالس إدارة عدة شركات، بلغ استغلالها للشعب حدًّا كبيرًا، ولا هدف لها غير توفير الأرباح
الفاحشة لحفنة
من كبار الرأسماليين. إن جموع الأمة عاقدة العزم على تغيير الأوضاع الاجتماعية. إن القوانين
في معظمها
لمصلحة الرأسمالية. الناس سواسية كأسنان المشط، وإن في هجرة الرسول إلى المدينة معنى
الثورة على الجوع
والفقر. يجب على الطبقات الشعبية أن تقوم اليوم بالدور الرئيس في الحركات الوطنية، لأن
الطبقات الحاكمة
الحالية تتعاون مع الاستعمار. إن سوء توزيع الثروة القومية يتطلب إعادة توزيع الأرض،
ومنحها الفلاحين في
شكل ملكيات صغيرة، وإنشاء نظام تعاوني. إن الشرق يتحرر، لا بالمهادنة والاستجداء، ولكن
بالعنف والثورة،
وفي مصر ثورة تأخذ نيرانها في ازدياد كل يوم، بل كل ساعة.»
١٣٤
كان رأي شوقي محمود (طريق النسر) أن حكومة صدقي على وشك عقد معاهدة، تكبل البلد،
وتمتهن كرامتها،
تتيح امتلاك المطارات، واحتلال ضفتَي القناة.
١٣٥
في ذلك الشهر، أغلقت كل المصانع والشركات أبوابها، وتعطلت الدراسة بجامعة فؤاد الأول
والمعاهد
الفنية والمدارس الثانوية والابتدائية، وتوقف الترام والأوتوبيس.
١٣٦
خرجت المظاهرات تهتف بسقوط مشروع اتفاقية صدقي-بيفن، وبالجلاء التام أو الموت الزؤام.
١٣٧ وفي الإسكندرية، تدفقت المظاهرات من مدرسة نبوية موسى للبنات، ومحرم بك الثانوية، والمرقسية
الثانوية، وطلبة دون بوسكو، وعمال الجمارك والميناء من الورديان والقباري وباب الكراستة،
تتلاقى
الهتافات: الجلاء التام … الاستقلال التام … يسقط الاستعمار والاستقلال … بيفن بيفن …
يسقط بيفن.
١٣٨
ودعت الجبهة الوطنية التي شكَّلها علي ماهر، إلى مظاهرة سلمية في ميدان عابدين، احتجاجًا
على
مفاوضات صدقي-بيفن، وألقت الحكومة القبض على قيادات المتظاهرين.
١٣٩
وفي المقابل، قرر إسماعيل صدقي علاوة ٤٠ قرشًا في اليوم للضباط، وعشرة قروش للجنود،
تحفيزًا لهم
على مواجهة المظاهرات.
١٤٠
وعلى الرغم من الدور النضالي الذي قامت به اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، فإنها
لم تعمَّر سوى
بضعة أشهر، فقد وقعت في بعض الأخطاء التي تدل على عدم تمتعها بنضجٍ سياسي كاف؛ إذ استمر
نشاطها مقصورًا
على المدن، وفي صفوف الطلبة والعمال والحرفيين، ولم يمتد إلى الفلاحين، كما أنها لم تحسن
تنظيم صفوفها،
ولم تخلق لجانًا ذات جذورٍ عميقة بين صفوف الشعب، فاستمرت «لجنة علوية، ليس لها لجان
شعبية في المصانع
والمدارس والأقاليم، ولهذا لم تستطع أن تدفع بالحركة الوطنية دفعاتٍ أكبر إلى الأمام،
ومع كل ذلك، فيمكن
اعتبار هذه اللجنة نوعًا من الجبهات الوطنية، غير التابعة لأي حزب من الأحزاب التقليدية.»
١٤١
•••
كان مشروع معاهدة صدقي-بيفن يتضمن بعض البنود التي لم تجد استجابة من الرأي العام
المصري، ومنها: إقامة دفاع مشترك أبدي بين مصر وإنجلترا يخفي بين طياته تبعية أبدية من
مصر لإنجلترا، واستمرار قناة
السويس تحت النفوذ البريطاني، وإلزام مصر بدخول الحرب كلما أرادت إنجلترا، بما يعني استمرار
الاحتلال
البريطاني لمصر لسنوات ممتدة، بينما كانت معاهدة ١٩٣٦م موقوتة بعشرين سنة. وكان رأي العقاد
أن مشروع صدقي-بيفن هو خير ما تحصل عليه دولة ضعيفة كمصر، من دولة قوية كبريطانيا.
١٤٢
يقول الراوي (طريق النسر) إن صدقي شنَّ حملته الشهيرة ضد الوطنيين واليساريين والشيوعيين،
ومَن
عارضوا معاهدة الدفاع المشترك التي كانت تهدف إلى ربط مصر بالعجلة الخلفية للاستعمار
الإنجليزي، وتقنِّن
وجود جنود الاحتلال على أرض مصر، في القنال، وتُكسِبه مشروعية ومصداقية.
١٤٣
بطشت حكومة إسماعيل صدقي بالذين يعارضون مشروع صدقي-بيفن، وأفلحت في تحويل الصدام
بينه وبين
الوطنيين إلى صدام بين الوطنيين بعضهم ببعض، ووصف صدقي دور الوفد آنذاك بالشغب، ودعا
إلى وجوب عودة
المشاغبين إلى دراساتهم الجامعية، وإن لم يمانع في إلقائهم الخطب الحماسية،
١٤٤ كما اصطنعت الحكومة قضية الشيوعية الكبرى التي ادَّعت فيها قيام علاقة بين حزب الوفد
والكومنترية — الدولية — التي تدعو إلى نشر الشيوعية في العالم، رغم أن الكومنترن قد
حُلَّ في عام ١٩٤٢م.
سمَّى إسماعيل صدقي المشاركين في الإضرابات والمظاهرات، بالرعاع والدهماء والعناصر
العميلة،
١٤٥ وروى البعض أنه كان «يدفن الناس أحياء»، وذكرت صحيفة «أخبار اليوم» أن الذين قُبَض عليهم
هم
«جماعة من الخونة والمأجورين للأجانب، يحاربون استقلال وطنهم وسعادة شعبهم»، وحلَّت الحكومة
كل التنظيمات
الكبرى الديمقراطية والوطنية، مثل مؤتمر نقابات عمال القطر المصري واتحاد خريجي الجامعة
ورابطة فتيات
الجامعة والمعاهد … إلخ، وأغلقت الصحف التي تعارضها، مثل الوفد المصري والبعث والفجر
الجديد والطليعة
والضمير والجبهة واليراع وأم درمان، وسجنت في ١١ يوليو ١٩٤٦م عشرات من المثقفين والعمال
والطلاب في
الإسكندرية وبورسعيد والإسماعيلية والسويس. وفي ١٥ يوليو ١٩٤٦م أعلن صدقي في مجلس الشيوخ
أن اللجنة
الوطنية للعمال والطلبة لها هدف مستتر هو الترويج للشيوعية، وأن أحد أعضاء مؤتمر نقابات
عمال القطر
المصري قد أرسل برقية يستنجد فيها بدولة أجنبية، وأن مجلة «البعث» وفدية شيوعية!
لكن صدقي فشل في فرض المشروع.
•••
فشلت مفاوضات صدقي-بيفن، وسقطت حكومة إسماعيل صدقي. ويقول جلال الدين الحمامصي: «الذي
لا شك فيه
أن إسماعيل صدقي كان يستطيع أن يحقق اتفاقًا مع بريطانيا، لكنه كان يُعَد — منذ بدء حياته
السياسية —
خصمًا سياسيًّا للشعب، وكان كذلك من الذين قتلتهم السياسة الحزبية في مصر، ففقدت مصر
بذلك كفاءة وقدرة
ونبوغًا، قَلَّ أن تجتمع في شخصٍ واحد، وكان الرجل في هذه المفاوضات يريد أن يختم حياته
السياسية خاتمة
طيبة، وأن يحقق لمصر كسبًا يمحو به هذه الخصومة التي استبدَّت بالشعب نحوه.»
١٤٦
وعهِد الملك إلى النقراشي بتأليف الوزارة الجديدة في ٨ ديسمبر ١٩٤٦م، أي بعد عشرة
أشهر فقط من حادثة
كوبري عباس، وبالطبع، فقد مثَّل تأليف النقراشي لوزارته الثانية تحديًا من الملك، ومن
النقراشي، لإرادة
الشعب.
١٤٧
جاء النقراشي من جديد، ولم يكن أمامه إلا أن يتجه إلى هيئة الأمم، قطعت المفاوضات
بين النقراشي
والإنجليز في ٢٥ يناير ١٩٤٧م، بعد أن استغرقت حوالي العام. بدا حرص الحكومة البريطانية
على المساومة، وسد
كل الطرق التي تنتهي بتحقق الاستقلال، فوجد النقراشي أن اللجوء إلى مجلس الأمن هو السبيل
المتاح،
الوحيد، كي تستخلص مصر حقوقها.
١٤٨
يقول فوزي السيد (واحترقت القاهرة): إن الشعب قد سئم المفاوضات، ويريد أن يتجه صوب
هذه القوة
الجديدة، قوة هيئة الأمم التي أصبحنا أعضاء فيها، والتي يحظر قانونها أن تحتل دولة عضو
أرض عضو
آخر.
١٤٩
وفي اليوم الذي قُطعَت فيه المفاوضات، أصدر مجلس الوزراء المصري بيانًا جاء فيه:
«لقد ذهبت الحكومة
المصرية في سبيل الاتفاق مع الحكومة البريطانية إلى أبعد حدٍّ ممكن، ورغم ذلك لم تجد
في الاقتراحات
والعروض التي جاء بها الجانب البريطاني ما يُرضي حقوقنا الوطنية، لذلك يقرر مجلس الوزراء
عرض قضية البلاد
على مجلس الأمن.»
١٥٠
وفي مايو ١٩٤٧م أصدر أرنست بيفن وزير خارجية إنجلترا بيانًا يؤكد فيه استمرار معاهدة
١٩٣٦م، وأدلى
النقراشي بتصريحٍ، في الثامن عشر من الشهر نفسه، قال فيه «إن بقاء الجنود البريطانيين
في الأراضي المصرية
يخل بسيادة أمتنا الحرة المستقلة، وإن الحكومة البريطانية لتعلم عِلْم اليقين أن وجود
قواتها في بلادنا هو
ضد مشيئة الأمة، فإننا نطالب مجمِعين بجلاء هذه القوات عن البلاد جلاء تامًّا ناجزًا،
وألا يكون هذا
الجلاء معلقًا على إعادة النظر في معاهدة قديمة، أو على إبرام معاهدة جديدة. لقد أبرمت
معاهدة ١٩٣٦م في
ظروف خاصة، زالت ولم يبقَ لها وجود الآن، فإن الحرب التي كانت على الأبواب قد انتهت من
زمنٍ بعيدٍ، وقد
استنفدت معاهدة ١٩٣٦م أغراضها في هذه الناحية، وفي نواحٍ أخرى، ولن نستطيع أن نقبَل استمرار
سريان معاهدة
تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة، وإنني لواثق أنه لا توجد دولة من أعضاء هيئة الأمم المتحدة
ترضى
بإرغامنا على قبول جنود أجنبية في أراضينا … لقد انتهجت بريطانيا في السودان سياسة ترمي
إلى تشجيع
السودانيين على الانفصال عن مصر، وهي سياسية عدائية لمصر والسودان على السواء … إن وجود
الجنود
البريطانية في السودان هو نتيجة لاحتلالهم السابق لمصر، وليس لهذه الجنود حقٌّ للبقاء
في السودان أكثر مما
لها في مصر.»
١٥١
وأكد النقراشي أن حكومة مصر تُعِد للتوجه إلى الأمم المتحدة «للحصول على تسوية عادلة
للنزاع القائم
بيننا وبين بريطانيا، ولا يخامرنا شك في أن مبدأ المساواة في السيادة لجميع الأمم الأعضاء،
وهو المبدأ
الذي قامت عليه الأمم المتحدة، سوف يكفل لمصر حقوقها كاملة غير منقوصة.»
١٥٢
كان الحزب الاشتراكي قد قرر إيفاد أحمد حسين إلى أمريكا ليعطي الحكومة الجديدة —
كما أعلن — درسًا
في وجوب التوجه بالقضية إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم،
١٥٣ بل إن أحمد حسين يؤكد أن النقراشي سافر إلى نيويورك بعد سفره هو.
١٥٤
والحق أن تأييد الشعب لسفر أحمد حسين إلى أمريكا (١٩٤٦م) الذي فاق ما كان يتوقعه الرجل
نفسه، لم
يكن — باعتراف أحمد حسين — سوى تعبير عن رغبة الشعب في الاتجاه نحو مجلس الأمن، بعد أن
أخفقت المفاوضات
المتوالية بين رؤساء الوزارات المصرية والمسئولين في الحكومة البريطانية.
وذهب النقراشي على رأس وفد مصري كبير إلى نيويورك، لعرض قضية استقلال مصر على الأمم
المتحدة،
ورُفعَت القضية بالفعل — في ٨ يوليو ١٩٤٧م — إلى مجلس الأمن، وطلب النقراشي جلاء القوات
البريطانية عن مصر
والسودان جلاءً تامًّا ناجزًا، وإنهاء النظام الإداري المالي في السودان،
١٥٥ وهتف النقراشي بمقولته الشهيرة: «أيها القراصنة، اخرجوا من بلادنا!»
ويشير السادات إلى أنه في الوقت الذي كان الشعب كله يؤيد موقف النقراشي في مجلس الأمن،
أرسل
النحاس برقية إلى سكرتير الأمم المتحدة، يعلن فيها أن النقراشي لا يمثِّل شعب مصر.
١٥٦ وعندما قال النقراشي في مجلس الأمن «اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة»، قال حمدي بك عارف
(حديقة زهران): «ومجلس الأمن يا عزيزي كان حيعمل إيه؟ هه؟ وإيه فايدة اللي قاله النقراشي؟
ولا حاجة
طبعًا يا مون شير، فيه خطوة أهم من كدة.»
١٥٧
والملاحَظ أن القضية المصرية عُرضَت على هيئة الأمم المتحدة في ١٩٤٧م، وهو العام
نفسه الذي عُرضَت فيه
القضية الفلسطينية. واستمرت مناقشة القضية المصرية إلى سبتمبر من العام نفسه، وأخفقت
كل الاقتراحات في
التوصل إلى حلٍّ محدد، وعاد الوفد المصري إلى القاهرة دون أن يحقق نجاحًا من أي نوع.
١٥٨
عاد النقراشي إلى البلاد في ٢٠ سبتمبر ١٩٤٧م، واستُقبِل استقبالًا حماسيًّا، والغريب
أنه بعد فشل
النقراشي في الحصول على تأييد مجلس الأمن في إجلاء الإنجليز من مصر، عاد ليعلن سياسة
جديدة هي «التجاهل
التام للإنجليز».
١٥٩
•••
برز في الحركة النقابية — في أعقاب الحرب — اتجاهان:
الأول، تولَّت قيادته بصفة رئيسة، القوى الاشتراكية الجديدة، وتشكَّل من نقابيين وفديين،
ونقابيين
وطنيين مستقلين، وشيوعيين. وقاد هذا الاتجاه الحركة العمالية الجماهيرية في معركة النضال
ضد الاحتلال
والرأسمالية المستغلة، كما ناضل هذا الاتجاه من أجل وحدة عمال مصر في اتحادٍ عام، بعيدًا
عن القيادات
السياسية الأرستقراطية والبرجوازية، وقاد العديد من المعارك الطبقية الكبيرة، مثل إضرابات
شبرا الخيمة
والمحلة والإسكندرية وعمال النقل … إلخ.
أما الاتجاه الثاني، فقد مثَّل امتدادًا لكل العناصر والقوى اليمينية والرجعية، التي
كانت قد تربَّت
وتكوَّنت في علاقاتٍ مع الأحزاب السياسية اليمينية — السعديين أو الأحرار الدستوريين
— أو ارتبطت بالأمير
عباس حليم ومجموعة الباشوات التي كانت تشكِّل الهيئة الرئيسة لحزبه، أو العناصر التي
ارتبطت بمكتب العمل
ومديره البريطاني عند تأسيسه في الثلاثينيات، وعناصر جديدة فرضها رأس المال على الحركة
النقابية في
التشكيلات التي عُرفَت باسم نقابات المنشآت.
ولا شك أن العمال قد خرجوا من الحرب وقد اكتسبوا قوة جديدة، نتيجة لنمو الصناعة،
وصدور القوانين
العمالية في عهد حكومة الوفد، وإفادة العمال من الاتجاهات والمبادئ الثورية التي حملتها
الحرب. مع ذلك،
فإن النقابات العمالية ظلَّت تعاني نشاط البوليس السياسي والمدسوسين عليها من العملاء،
والمصادرة، واحتلال
المقار، وحل النقابات إداريًّا، وفصل النقابيين، واعتقالهم، ومحاكمتهم، ودفعهم إلى السجون
والمعتقلات،
واحتلال مناطق صناعية بأكملها مثل شبرا الخيمة والمحلة الكبرى وكرموز، لمواجهة الإضرابات
التي قام بها
عمال النسيج، وقيام البوليس باغتيال زعماء العمال لحساب الرأسمالية في مصانع الشوربجي
وسباهي
وغيرها.
١٦٠
وبالنسبة للظروف المعيشية، فقد كانت مساكن العمال في المناطق الصناعية أشبه بالحظائر،
وكان عمال
المحلة وشبرا الخيمة يسكنون الحجرة بالوردية، وربما اشترك أكثر من ٢٠ عاملًا في سكنى
حجرة
واحدة.
١٦١
وقد شهدت الفترة من أواخر ١٩٤٤م إلى ١٩٥٢م ازديادًا في حدة الصراع الطبقي، وتولى
قيادة الإضرابات
قيادات جديدة، إلى جانب بعض القيادات القديمة، وخاصة تلك التي كانت قد بدأت تستقل في
نشاطها عن الأحزاب
البرجوازية منذ إضرابات ١٩٣٨م، وشهدت منطقة شبرا الخيمة نضالًا مريرًا من العمال ضد أصحاب
رءوس
الأموال.
١٦٢
كان أول إضراب — عقب الحرب — هو الذي قام به عمال المنطقة، في الثاني من يناير ١٩٤٦م،
واستمر ٢١
يومًا، واعتقل البوليس زعماء الإضراب، وقدَّمهم إلى المحاكمة، لكن الإضراب — رغم بشاعة
الوسائل التي اتُّخذت
لقمعه — أسفر عن تأليف لجنة عليا بمكتب وزير الشئون الاجتماعية في يوليو ١٩٤٦م، لبحث
مشكلة عمال شبرا
الخيمة.
١٦٣
استمر إضراب عمال شبرا الخيمة ٢١ يومًا، بحيث سُميَت المنطقة اسم «المنطقة الحمراء»،
وحُلَّت النقابة
العمالية، ونشطت تحركات البوليس في المنطقة. ثم اضطرت الحكومة إلى تأليف لجنة عليا بمكتب
وزير الشئون
الاجتماعية في يوليو ١٩٤٦م لبحث مشكلة عمال شبرا، ثم أصبحت إضرابات شبرا الخيمة من معالم
النضال العمالي
في أعقاب الحرب الثانية.
وقام عمال المحلة الكبرى في يونيو ١٩٤٦م، بإضرابين كبيرين، بقيادة بعض العناصر اليسارية
والمستقلة،
في مواجهة النقابة العميلة التي كانت قد فرضتها شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى،
وللمطالبة
بتحسين الأجور، والعلاج المجاني، وتوفير وسائل الإسعاف الطبية، وقانونية الإجازات الأسبوعية،
والحد من
الجزاءات القاسية، والغرامات المالية، ومنع تشغيل النساء والأطفال إلى ساعات متأخرة من
الليل. وتعرضت
مدينة المحلة — أثناء تلك الإضرابات — لعملية حصار شبه كاملٍ من قوات الجيش والبوليس،
واعتُقِل المئات من
العمال، وقُدِّموا إلى المحاكمة، وفُصِل، وشُرِّد عدد كبير من العمال القدامى والنقابيين،
ومُنعُوا تمامًا من
العودة إلى المحلة، حتى تتهيأ الفرصة لكي تؤدي النقابة العميلة دورها.
١٦٤
كما قام عمال شركة الغزل الأهلية بكرموز في ٢٥ يونيو ١٩٤٦م، و٣ يوليو ١٩٤٦م، و٢٠
مارس ١٩٤٨م، بثلاثة
إضرابات، احتلوا أثناءها المصانع، واصطدموا بالبوليس الذي اعتقل عددًا كبيرًا من القادة
النقابيين،
وفَصلت إدارة الشركة المئات، وسعت لتصفية النقابة، وفرض نقابة أخرى عميلة.
١٦٥
وفي ١٧ أغسطس ١٩٥٠م قتلت قوات البوليس ثمانية عمال في إضراب لعمال شركة سباهي، وألقت
بجثثهم في
ترعة المحمودية.
١٦٦
وخرج عمال شركة الجوت بشبرا الخيمة (في ٣١ مارس ١٩٤٧م) يهتفون: يسقط الاستعمار …
يحيا اتحاد
العمال،
١٦٧ وأضرب عمال شركات الغزل الأهلية، والنيل، وقناة السويس، وشل، ونيومان، وكلينر، واحتل
أعداد
من العمال مصانعهم، وتدخَّل الجيش لإطلاق النار على العمال، ورفضت الحكومة البريطانية
إخراج قواتها من
منطقة القناة.
وفي العام نفسه، أصدرت شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى لائحة جديدة للجزاءات،
تتضمن بنودًا
قاسية لم يعهدها العمال من قبل، كما أن تلك اللائحة كانت تعطي لإدارة الشركة حقوقًا جائرة
على العمال،
تصل إلى فصلهم دون إعطائهم مكافأة عن مدة الخدمة، وذلك لأتفه الأسباب، ومنها: إنذار كل
عاملٍ بالفصل من
العمل إذا ضُبطَت معه صحيفة أو مجلة أو طعام، أو إذا ضُبِط أثناء العمل يؤدي الصلاة،
أو كان عاري الرأس.
وفي الثاني من سبتمبر ١٩٤٧م، أضرب عمال شركة مصر بالمحلة، واستمر إضرابهم عدة أيام،
عادوا بعدها
إلى العمل، بعد أن أعلنت الحكومة تدخلها وموافقتها على حل النقابة القديمة، وإعادة الانتخابات
لتكوين
هيئة شرعية تمثِّل العمال، وتستطيع الدخول في مفاوضات مع الشركة والحكومة لتسوية مطالب
العمال. وقال بيان
للعمال، نشرته جريدة «الجماهير»، إن العمال عادوا إلى عملهم في هدوء ونظام، لكن إدارة
الشركة واصلت
استفزازها لهم وإهمال مطالبهم، ونقلت بعضهم دون مبرر، ومن ناحيتها لم تتخذ الحكومة أية
خطوة لإرغام
الشركة على تعديل موقفها «فاضطر العمال إلى الإضراب السلمي يوم ١٧ سبتمبر، دون إحداث
أي ضرر
بالمصنع.»
١٦٨ وواجهت الحكومة ذلك الإضراب بأقصى درجة من العنف، وسقط أربعة قتلى، وجُرِح ما يزيد عن
المائتين، واعتُقل ٦٨ شخصًا، منهم ٥٧ عاملًا، وبلغت قيمة الخسائر المادية حوالي ٢٠ ألف
جنيه، كما توقف
العمل في المصانع، وأرسلت الحكومة قواتٍ من الجيش، مسلحة بالمدافع الرشاشة والعربات المصفَّحة
والدبابات،
بهدف السيطرة على الموقف في المدينة.
ولم تقتصر المظاهرات والإضرابات على عمال المصانع، وإنما نظَّمها وشارك فيها عسكريون
ومدنيون في
الجيش والبوليس، طالبوا هم أيضًا برفع رواتبهم، وتحسين أحوالهم المعيشية؛ هدد القضاة
(١٩٤٧م) بالامتناع
عن العمل، واستقال مهندسو مصلحة المباني.
وكان ذروة تلك الإضرابات ما قام به ضباط البوليس في ١٥ أبريل ١٩٤٨م، وشاركهم فيه الكونستبلات
والصولات والجنود، وتضامن الشعب — لأول مرة — معهم في المظاهرات.
ففي أبريل ١٩٤٨م، أضرب رجال البوليس — الضباط والعساكر — لأول مرة في تاريخ مصر عن
العمل، رفع
عساكر البوليس بنادقهم في الهواء، ورشقوا في كل سونكي رغيف خبز.
١٦٩
كانت تلك هي المرة الأولى التي يقف فيها رجال البوليس ضد الحكومة التي تستخدمهم أداة
قمع ضد
المواطنين.
واللافت أنه حين قرر إبراهيم حمدي أن يقتل عملاء الإنجليز في مصر، رفض أن يدرج رجال
الشرطة في قائمة العملاء،
رغم أنه عانى الكثير من ضرباتهم ومطارداتهم؛ كانوا — في تقديره — أدواتٍ لتنفيذ سياسة
لا ذنب لهم
فيها.
١٧٠
وإذا كان الأب (في بيتنا رجل) قد تساءل: لماذا يحمل رجال البوليس بنادق؟ ليقتلوا
بها الأبطال،
ليقتلوا بها الثورة، ليقتلوا بها الحب، وليحموا بها الإنجليز والخونة والباشوات والملك
وأعداء
إبراهيم.
١٧١ فإن صفية (حديقة زهران) تدافع عن رجال البوليس بقولها: العساكر مالهمش ذنب، الذنب ذنب
اللي
قال لهم اضربوا.
١٧٢ وفي حوار بين فوزي (أزهار) وبين أصدقائه، قال فوزي السيد: إن على الشباب الوطني أن يهرع
إلى
الانضمام إلى البوليس والجيش، للوقوف إلى جوار الشعب في معاركه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا،
وللتخفيف من
وطأة الضغط الشديد الذي يمارسه البوليس بصفة خاصة ضد الشعب، لكن محيي رفض ذلك الكلام
النظري — على حد
تعبيره — وأنه ما دام البوليس تحت سلطان الإنجليز، فهو لا يمكن إلا أن يكون أداة عسف
وعدوان على الشعب،
وأن كل شاب ينضم إليه لا يمكن إلا أن يُمسَخ ويتحوَّل إلى عدو من أعداء الشعب، وانضم
فؤاد إلى جانب فوزي،
وأقسم إنه آلى على نفسه ألا يضرب مواطنًا في أية مظاهرة.
واعترض فكري بالقول: أوَلَم أضبطك يا فؤاد وأنت تعدو خلف شخص لم أتبيَّنه؟
قال فؤاد: إنه إنما كان يجري خلف ولد قذفه بحجر، وكان يهم بقذفه بحجرٍ آخر، فالمسألة
لا تعدو أن
تكون دفاعًا عن النفس.
قال محيي: أرأيت؟ هذه هي الحجة التي يلوذ بها البوليس دائمًا، عندما تضبطه يعتدي
على أحد أفراد
الشعب.
١٧٣
وكان الشاويش عبد الله (أرض الشوك) واحدًا من هؤلاء الجنود الذين تواجه بهم الحكومة
مظاهرات
الطلبة والعمال والفلاحين وصغار الموظفين، وكان يعاني نظرات الناس الرافضة وتعليقاتهم،
بل كان يعاني من أكبر أبنائه الذي شارك في المظاهرات، وفي توزيع
المنشورات. فلما تلقَّى الأوامر بأن يطلق — من غده — النار على المتظاهرين، تخايلت أمام
عينيه صورٌ عديدة
لابنه الطالب بالتجارة المتوسطة، ولأخيه العامل في أحد مصانع النسيج، وللطلاب الذين يسكنون
حارته،
وللعمال الذين يلعب معهم الدومينو على المقهى، هؤلاء هم المستهدفون من أوامر القتل، فلماذا
يقتلهم؟ وفي
اليوم التالي (١٣ نوفمبر ١٩٣٥م) أخذ عبد الله موقعه وسط الجنود، واقتربت مظاهرة، وأصدر
الضابط أمره بأن
يطلق الجنود رصاصهم في المتظاهرين، لكن الجنود الذين لفَّتهم المشاعر نفسها التي أمضى
فيها الشاويش عبد
الله ليلته، لم يتحركوا، وأخرج الضابط مسدسه، لكن عشرات البنادق — في أيدي الجنود — صوَّبت
نحو صدره،
لماذا يقتلون أولادهم وإخوتهم؟
وفي أحياء أخرى من القاهرة، رفض ضباط كُثر أن ينفذوا الأوامر، وكانوا يتركون المظاهرات
تمضي بسلام،
وهم يرددون الهتافات نفسها، بينهم وبين أنفسهم
١٧٤
وبعد أن أهملت الحكومة مطالب ضباط البوليس بزيادة رواتبهم، وقصر وظائف هيئات البوليس
والأمن العام
على خريجي كلية البوليس من الضباط ومعاوني الإدارة حَمَلة الليسانس دون غيرهم، ومساواة
العسكريين منهم
برجال الجيش، والإداريين برجال القضاء في الرواتب والعلاوات والامتيازات بعامة، بدأ ضباط
البوليس — في ١٤ أكتوبر ١٩٤٧م — تنفيذ قرارهم بالإضراب، وأمضى ٦٠٠ ضابط الليل في نادي
البوليس، كما اعتصم ضباط الأقاليم
في الأندية، وتضامن الكونستبلات مع الضباط.
١٧٥
ويرجع محمد سيد أحمد بدء تراجع الحركة الوطنية، وانحسارها، منذ نهاية ١٩٤٧م ومطلع
١٩٤٨م إلى «طغيان
قضية فلسطين على الاهتمام العام، واستخدمت الرجعية والقصر هذه القضية من أجل صرف الانتباه
الشعبي عن
الحركة الوطنية، باسم الوحدة القومية ضد الصهيونية، وصرف الانتباه عن الإنجليز والفساد،
وعن الصراع
الطبقي والاجتماعي المتنامي.»
١٧٦
•••
لماذا كانت تفشل الإضرابات العمالية؟
يقول العامل النقابي عبد المنعم العيسوي: «لكي تنجح، كانت تتطلب إمكانيات مادية،
وتنظيمات إدارية،
لم تكن ميسَّرة للعمال أو النقابة، فضلًا عن بطش رجال البوليس، وانحيازهم الكامل لأصحاب
الأعمال، فكانت
الإضرابات تفشل، ويجد العمال أنفسهم أسوأ مما كانوا، أو يخرج من صفوفهم العناصر المكافحة
التي تضطر لترك
الميدان، وكانت هذه بعض العوامل التي أخَّرت تقدُّم الحركة النقابية والعمال على حدٍّ
سواء.»
١٧٧
وحين دنت الحرب من نهايتها (١٩٤٤م) أطلق سراح النبيل عباس حليم — بعد أن اعتُقل في
سني الحرب لميوله
النازية — فبدأ العمل على توجيه اهتمامات القيادات العمالية، وولائها لصالح الوفد، وأجرى
اتصالات برؤساء
النقابات، والقيادات التي سبق لهم العمل معه في الاتحادات العمالية، للدعوة إلى الحزب،
وضم النقابات
العمالية تحت رئاسته. وعُيِّن عبد الرحم البيلي رئيسًا للحزب، وتشكَّلت لجنة الحزب المركزية
من بعض أفراد
الطبقة البرجوازية، وبعض الإقطاعيين، وكبار الموظفين، من أمثال محمد طاهر باشا، وعبد
العزيز رضوان
باشا، ومظهر سعيد، وعبد الرحمن البيلي بك، ومحمود رشيد.
١٧٨
وبلغت القيادات والقواعد العمالية ذروة وعيها، حين أصرَّت على تنحية عباس حليم عن
رئاسة حزب العمال
في يونيو ١٩٤٦م، ثم في تكوين اللجنة الوطنية للعمال والطلبة في العام نفسه.
لكن الأزمة المالية كانت سببًا في فشل القيادة الجديدة لحزب العمال المصري، وعدم قدرتها
على
مواصلة النضال مستقلة عن عباس حليم، ومن ثَم وجد أعوان الرجل ثغرة نفَذوا منها للقضاء
على محاولة تكوين
حزب سياسي يدير من خلاله العمال شئونه بأنفسهم.
وأدَّى وجود حزبَين للعمال في وقتٍ واحدٍ، يحمل كلٌّ منهما اسم «حزب العمال المصري»
إلى اختلاط الأمر على
المشتغلين في القضايا السياسية والنقابية، فقررت القيادات العمالية — تمييزًا للحزب عن
حزب عباس حليم —
تغيير الاسم إلى «حزب عمال وادي النيل»، ثم اقتُرح اسم «حزب وادي النيل الاشتراكي»، و«حزب
العمال
المستقل»، ثم استقرت الآراء على اسم «حزب العمال الاشتراكي».
١٧٩
وفي ١٩٥٠م بدأت النقابات محاولة تكوين اتحاد يجمع شملها، وأجريت اتصالات لتحقيق هذا
الهدف.
١٨٠
•••
ثمة جيل بلغ طور الشباب في أعقاب الحرب العالمية الثانية «وجعل يخضع لهذه الظواهر
الاجتماعية التي
جعلت تلم بمصر منذ انقضت تلك الحرب، وتثير فيها حركات اجتماعية معينة، يندفع معها الشباب،
ويشقى آباؤهم
وأمهاتهم بعواقب اندفاعهم هذا» (قصر على النيل، مقدمة طه حسين). وعلى الرغم من اعتقال
الحكومة لأعدادٍ
كبيرة من الطلبة، قيل إنهم سيظلون في المعتقَل إلى نهاية الحرب، فإن النشاط الطلابي ظل
قائمًا
ومتواصلًا.
١٨١
ويلحظ الأب جاك جومييه أن الشباب في ختام «السكرية» (١٩٤٤م) باتوا منقسمين على أنفسهم،
يتلمَّسون
طريقهم، ورغم إجماعهم على شجب الاحتلال، فلم يجتمع رأيهم على مَثلٍ أعلى واقعي ملموس.
والواقع أن السكرية تضع أيدينا على احتمالات الثورة، وتشير إلى وجوب قيامها بأسلوبٍ
زاعقٍ أحيانًا،
ولم يكن انقسام الشباب على نفسه إلا تعميقًا للإحساس بدور الزعماء ومحترفي السياسة في
تمييع القضية،
وتحويل المبادئ والمُثُل والقيم إلى شعارات وهتافات، فهذا الانقسام — في ظاهره — ليس
إلا تلمسًا لأقرب
السُّبل إلى الثورة.
إن واحدًا من شباب ذلك الجيل — جيل «السكرية» — هو جمال عبد الناصر، يخلص من بواكير
تجاربه في أكثر
من جماعة وحزب سياسي إلى وجوب قيام الثورة. لم ينته الشباب إذن بانقساماته هذه إلى ضياع،
وإنما تبلورت
كل تلك الانقسامات في هدفٍ واحد، محدد، هو الثورة، وكما يقول وسيم خالد، فقد «كان يوحِّد
بين كل شباب الجيل
هدف واحد، هو الرغبة في قتل الإنجليز الذين يحتلون بلادنا، لقد نشأ الجيل بأجمعه في ظروف
واحدة، سمع كله
مع طفولته عن ثورة عمر المختار في ليبيا، وبفظائع الطليان، وبحرب الحبشة البطولية، وبثورة
فلسطين،
وباستشهاد الجراحي وزملائه فوق كوبري عباس برصاص الإنجليز من أجل الدستور، ثم قامت الحرب،
وامتلأت
القاهرة بعساكر الإنجليز، وعاش الجيل بأكمله عربدتهم ومذابحهم، وكانت هناك أيضًا الحكومات
المتوالية
المتعاونة معهم.»
١٨٢
ومثلما أعقبت ثورة ١٩١٩م نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد بدت مصر — في أعقاب الحرب
العالمية
الثانية — مهيأة للثورة التي تنزع رداء الاستقلال الزائف، وتضع بدلًا منه استقلالًا حقيقيًّا،
ومثلما
كانت المبادرة للطلبة في ثورة ١٩١٩م، فقد توقع الجميع أن يبادر الطلبة بالثورة الجديدة،
المرتقبة،
وامتلأت جدران المباني في القاهرة والمدن الأخرى — قبل بدء الموسم الجامعي بنداء يقول:
يا شباب ١٩٤٥م … كن
كشباب ١٩١٩م.
١٨٣
وعلى الرغم من الوهن الذي أصاب الجماهير العمالية، نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية
القائمة،
فلعل في مقدمة النتائج الإيجابية التي تمخضت عنها الحرب، ذلك الالتحام الثوري بين القوى
العُمَّالية
والطلابية، الذي وجد أرضيته الفعلية في تكوين لجنة الطلبة والعمال في ١٩٤٦م، والتي أعلنت
— صراحة — أن
الأحزاب السياسية — على إطلاقها — أصبحت عاجزة عن قيادة الثورة، ومن ثَم فقد تعرضت لضرباتٍ
قاسية من حكومة
إسماعيل صدقي، وأثَّرت في قواها، لكنها لم تقضِ عليها، بل إنها جاوزت كل أزماتها بصورة
أشد وأقوى، وكانت هي
المحرك الفعلي للضغط الشعبي الذي اضطرت حكومة الوفد إزاءه إلى إلغاء معاهدة ١٩٣٦م في
١٩٥١م، وإعلان الكفاح
المسلح ضد الوجود الاحتلالي في القناة.
ولأن الرقابة على الصحف قد رُفعَت في يونيو ١٩٤٥م، وأُلغيَت الأحكام العرفية في أكتوبر
من العام نفسه،
فقد كانت القوى السياسية الوطنية على ثقة من قيام ثورة مماثلة لثورة ١٩١٩م، فور افتتاح
الجامعة في ٦
أكتوبر ١٩٤٥م (ألم تقم ثورة ١٩١٩م في أعقاب الحرب العالمية الأولى؟) فقد حذرت رجال الجيش
والبوليس من
محاولة التصدي لمظاهرات الطلبة المرتقبة، وأكدت «أنهم جزء من القوى الوطنية المعادية
للاستعمار، ويجب
ألا يسمحوا لأنفسهم بأن يُستخدَموا لضرب مظاهرات الطلبة التي ستندلع غدًا.»
١٨٤ لكن السادس من أكتوبر جاء، ولم تتحرك المظاهرات الطلابية.
١٨٥
وفي ٤ ديسمبر ١٩٤٨م — أول أيام الدراسة — حدثت اضطرابات ومظاهرات صاخبة في جامعة
فؤاد، وأُلقيَت
قنبلة على سليم زكي، حكمدار العاصمة، فقتلته وسط جنوده.
١٨٦
وجد الفنان (مليم الأكبر) مظاهرات الطلبة تعبيرًا عن الرغبة في الحصول على إجازة،
وليست تعبيرًا عن
ثورة، ردَّد بعض الأفراد هتافات، أجابها عنهم آخرون «ثم أشار أحدهم إلى الطريق فاندفعت
إليه جموع الطلبة
تصيح وتولول، وقد يعترض طريقهم مصباحٌ فيحطمون زجاجه، أو شجرة فيقتلعون جذعها، ويخرج
الناس إلى الشرفات
للتفرج والتسلية، فإذا مرَّت جموع الطلبة بدارٍ فيها فتيات مليحات، وقفت المظاهرة عندها
لحظات، يشتد في
خلالها الصياح، وتكثر الإشارات والتحيات، وقد يتخلَّف بعض المتظاهرين أمام هذه الدار
ليبدءُوا مظاهرة من
نوعٍ آخر، ثم تلُوح عربات الترام، فيهجم عليها المتظاهرون يزحمونها عن يمين وشمال، وأخيرًا
يظهر جنود
الشرطة فيقبضون على فتى من هنا، وفتى من هناك، وإذا بالمظاهرة تنفضُّ في طرفة عين.»
١٨٧
•••
اقتصرت الحركة النسائية — في عمومها — على أعدادٍ ضئيلة للغاية من السيدات المثقفات
وسيدات
المجتمع؛ فلم تنضم إلى تلك الحركات نساء من الطبقة الوسطى، أو الطبقة الدنيا.
وفي ١٩٤٢م أُعلِن عن تأسيس الحزب النسائي برئاسة فاطمة نعمت راشد، وتلخص برنامج الحزب
في مساواة
المرأة والرجل في الحقوق القومية والسياسية والاجتماعية، مثل حق الانتخاب والتمثيل النيابي،
وحق المرأة الاقتصادي في المساواة في الأجر مع الرجل عن
العمل الواحد.
١٨٨ وأعلن في منتصف ١٩٤٥م عن تكوين «رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية» بهدف الدفاع
عن حقوق
المرأة الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية،
١٨٩ وظهر في ١٩٤٩م اتحاد «بنت النيل» برئاسة درية شفيق، ولم يخرج برنامجه عن برامج الهيئات
النسائية الأخرى.
١٩٠
مع ذلك، فقد اشتركت النساء العاملات — رغم قلة عددهن — في كل المظاهرات السياسية
التي قامت بعد
الحرب العالمية الثانية، ومنها اشتراك العاملات في إضراب عمال النسيج بشبرا الخيمة عام
١٩٤٥م، الذي
استمر ٤٢ يومًا.
١٩١
ومما يجدر نسبته إلى إيجابيات الحركة النسائية في أعقاب الحرب، إقامة التنظيمات النسائية
— فيما
بينها — شبكة واسعة من الصلات التي انعكست على الأنشطة النسائية في كل قطر على حدة، وعلى
الأنشطة
النسائية في الوطن العربي بعامة.
وفي ١٩٤٥م مُنحَت هدى شعراوي — رائدة العمل النسائي — أعلى وسام في الدولة، تقديرًا
لدورها في
الأنشطة العامة.
١٩٢
هوامش