الأفغاني وتلميذه الإمام
جمال الدين الأفغاني، الذي بدأ في عام ١٨٦٩م رحلة أسطورية إلى معظم بلدان الشرق،
يوزِّع
السعوط بيُمناه، والثورة بيُسراه، توخيًا لتحقيق هدفَين: إصلاح الإسلام ليساير المدنية
الحديثة، وتحرير الشرق من سيطرة الغرب … ذلك الأفغاني هو مفتاح كل الأحداث التي شهدتها
مصر، منذ عهد إسماعيل إلى نهاية الثورة العرابية، بل إن فؤاد دوارة يجد الأفغاني هو
الجد في رواية نجيب محفوظ اللص والكلاب مستدلًّا على ذلك بما سمعه سيد الرحيمي عن سيرة
والده «لا أسرة له في مصر، كان أبوه مهاجرًا من الهند، وقد عرفه صاحبي في نادى الصفوة،
فتوطدت بينهما أسباب الصداقة، وعن سبيله عرف ابنه الوحيد سيد، وهو ابن وحيد لا أخ له
ولا أخت، وقد مات الأب منذ أربعين عامًا تاركًا لوريثه ملايين الجنيهات التي اقتناها
من
تجارة المشروبات الروحية، فلا أحد له في مصر إلا الذرية التي يحتمل أن يكون أنجبها في
مغامراته العديدة.»
١ فؤاد دوارة — لكي يستقيم له فهم مدلول هذه الكلمات — فإنه يتصور أن والد
هذا الأب المجهول هو جمال الدين الأفغاني «الذي عاش فترة من حياته في الهند، وقدم
مهاجرًا إلى مصر يحمل في حقائبه بذور أول ثورة فكرية عرفتها مصر الحديثة، وكان يجتمع
في
قهوة البوسطة بنخبة من المثقفين المصريين من أمثال سعد زغلول وأديب إسحاق وسليم نقاش
والمويلحي وغيرهم، ينشر أفكاره الثورية بينهم، ويحدِّثهم عن ضرورة نشر الوعي السليم بين
جماهير الشعب.»
٢
وبصرف النظر عن صواب هذا التفسير أو خطئه، فليس ثمة شكٌّ أن كلمات الأفغاني الحاسمة
الواضحة، كانت أحد الإرهاصات المهمة لثورة شارك في قيادتها بعض تلاميذه: «إنكم معشر
المصريين قد نشأتم على الاستعباد، وتربيتم على حجر الاستبداد، لقد تناوبتْكم أيدي
الغاصبين من الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والماليك، وكلهم
يشقُّ جلودكم بمبضع نهمٍ، ويهيض عظامكم بأداة عسفة، ويستنزف قوام حياتكم — التي تدمعت
بما
يتحلب من عرق جباهكم — بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم كالصخرة المُلقاة في الفلاة، لا
حسَّ
لكم ولا صوت. انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار طِيبة وحصون دمياط، شاهدة بمنعة
آبائكم وأجدادكم! هبُّوا من غفلتكم! واصحوا من سكرتكم! عيشوا كباقي الأمم أحرارًا، أو
موتوا مأجورين شهداء. أنت أيها الفلاح المسكين، تشق قلب الأرض لتستنبت ما يسد الرمق
ويقوم بأود العيال، لماذا لا تشق قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون أتعابك؟ إذا
صحَّ أن من الأشياء ما ليس يُوهَب، فأهم هذه الأشياء الحرية والاستقلال، لأن الحرية لحقيقية
لا يهبها الملك أو المسيطر عن طِيب خاطر، وكذلك الاستقلال، بل هاتان النعمتان
إنما حصلت، وتحصل عليهما الأمم، بالقوة والاقتدار.»
كلمات «تنقر حبة القلب!»
وقد تركت هذه الكلمات أثرها في نفوس المصريين، وتلاميذ الأفغاني بصفة خاصة، فجعلوا
من
طاقاتهم صدًى لها، وظلَّ أثر تعاليم محمد عبده — مثلًا — في مجالات الدين والأخلاق
والتربية والإصلاح الاجتماعي واضحًا في الحركة الفكرية المصرية منذ ثمانينيات القرن
الماضي إلى ما بعد ثورة ١٩١٩م. أما قاسم أمين فقد أفاد — على نحوٍ ما — من أستاذية
الأفغاني وكلماته المسئولة، في كتابَيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة». أما عبد الله
النديم، فقد استحدث بعض الأشكال الفنية التي يمكن نسبتها — مع علم الدين لعلي مبارك —
إلى بدايات الفن السردي في مصر، والتي حاول فيها دعوة المصريين إلى التمسك بالقيم
والمثل الموروثة، والتنبُّه إلى الواقع المجحف الذي يحيون أسارى له، وثمة فقرات من رواية
«ليالي سطيح» يؤكد فيها حافظ إبراهيم — على لسان بطله الخرافي — حقيقة مهمة: إن تأثير
الأفغاني لم ينتهِ برحيله، ولا بالقضاء على الثورة العرابية، وإنما ظلت أفكاره ومبادئه
وتعاليمه — التي تجد إرهاصاتها في أفكار ومبادئ وتعاليم الشيخ حسن العطار، ثم من بعده
رفاعة الطهطاوي، مثلًا لأجيالٍ متعاقبة من المثقفين في كل المجالات. يقول سطيح: «فما
ضرُّكم لو تساندتم جميعًا، وأنتم لا تجاوزون منازل القمر عدًّا، فرفعتم من شأن هذه
الدولة، وحركتم من الخامدين، وهززتم من الجامدين، فإني أراكم بين متصفحٍ على أخيه،
ومتنبل على قرينه، وليس هذا صنع مَن يريد ما تريدون، ويحاول ما تحاولون من رد هذه الدولة
إلى شبابها، بعد ما خلا من سنها، ولو لم يتداركها الله بذلك الأفغاني لقضت نحبها، ولقيت
ربها، قبل أن يمتعها بِكُم، ويمتعكم بها. أدركها الأفغاني ولم يبقَ فيها إلا الذَّماء،
فنفخ
فيها نفخة حرَّكت من نفسها، وشدَّت من عزيمتها. أدركها وهي شمطاء قد نهض منها بياض المشيب
في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب ناصية القرن الخامس، فسوَّدت يده البيضاء ما
بيَّضت من شعرها سود الليالي، وتعهدتها همته بصنوف العلاج، حتى استقامت قناتها، وبدا
صلاحها. وقد كان الناس في هذا العهد يدينون باللفظ، ويكفرون بالمعنى، فما زال بهم حتى
أبصروا نور الهدى، وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى. وقام بعده نفرٌ ممن تأدَّبوا
عنه،
فكانوا كالسيوف فرَّجت للرماح ضيق المسالك، فانفسح للمتأدبين المجال، وجال كلٌّ جولته،
وتنبَّه الوجدان، وتيقظ الشعور، وتحرك الفكر حتى أفضى إلى حركة النفس، وظهر أثر جمال
الدين في النفوس العالية، وأصبحت تبتدر كلامه الأسماع الواعية.»
٣ ويصف المازني جمال الدين بأنه كان أشبه بمولدٍ كهربائي ضخمٍ «يبعث الحرارة
والقوة والحيوية في حيثما حل.»
٤ يضيف الرافعي إن الله قيَّض للشرق «جمال الدين، فنفخ فيه روح اليقظة والحياة،
وأهاب بالنفوس أن تنهض وتتحرك، وبالقول أن تستيقظ، وبالأمم والجماعات أن تتطلع إلى
الحرية، فكانت رسالته إلى الشرق مبعث نهضته الحديثة.»
٥
والحق أن الأفغاني لم يبدأ من الصفر، والقول بأنه من تحت عباءة الأفغاني و«حزبه
الوطني الحر» خرجت أجنحة ثلاثة: جناح عرابي، وجناح النديم، وجناح محمد عبده،
٦ هذا القول يحتاج إلى مراجعة للسلفية — أو لنقل النقلية — في اجتهاداتنا،
فشخصية الزعيم في الشعوب الأبوية، تأخذ منحًى أسطوريًّا، تختلط فيه الحقيقة بالتمني
والخيال، وتخلع عليه ألوان التقديس وعبادة البطولة.
لقد ارتوت التربة الفكرية المصرية من قبل بأفكار رفاعة رافع الطهطاوي الذي عاصره
الأفغاني لمدة عامين، ومن قبله ارتوت هذه التربة بأفكار الشيخ حسن العطار، الذي يمثِّل
بداية التخلص من استكانة العصور الوسطى، وربقة الحكم التركي، والذي اعتنق أفكاره وبشَّر
بها، عددٌ كبيرٌ من التلاميذ، من بينهم الطهطاوي والطنطاوي والتونسي وغيرهم، وهذه النقطة
سنناقشها في فقرات تالية.
•••
يصف السحار أول ظهور للأفغاني ومحمد عبده: «بينما موكب الخديو إسماعيل ينطلق كعادته
كل يومٍ على جسر قصر النيل، فانسابت عربته الفاخرة المكشوفة يجرُّها جوادان كريمان، وقد
جلس الحوذي الإيطالي في مقعده شامخًا بأنفه، وعلى رأسه قبعته العالية، وإلى جواره
إيطالي آخر في ثيابٍ مزركشة، وقد ربَّع ذراعيه في صدره، وانطلق أمام العربة فارسان من
فرسان الحرس، والتفَّ حولها فرسان المماليك، وأخذ الناس ينظرون إلى الركب الفاخر في فتور،
بينما كان شيخان يرمقان إسماعيل في شزر، وقد مُلِئ صدرهما حنقًا عليه. كانا يحسَّان بآلام
الشعب، ويعرفان حقيقة النكبة التي حلَّت بالبلاد. كان أحدهما في الثالثة والثلاثين، يلبس
عمامة بيضاء وقفطانًا، رفيع القامة، أسمر اللون، يلوح ذكاؤه في عينين تنفذان إلى
الأعماق. والآخر في الأربعين، أسمر اللون، ربعة، ممتلئ، مسترسل الشعر، بجبة وسراويلات
بيضاء سوداء تنطبق على الكاحلين، وعمامة صغيرة بيضاء على زي علماء الآستانة، وسحنته تدل
على أنه ليس مصريًّا، كان عالمًا حكيمًا، راح يجوب الشرق، ينفخ فيه من روحه لينفض عنه
غبار الخنوع والاستسلام، التفتَ إلى تلميذه، وقال: لا بد من خلع هذا الطاغية، بل لا بد
من
قتله وإراحة المصريين منه. فقال تلميذه: هذا هو الرأي … ولكن مَن يقتله؟
– أنت.
وانطلق السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده يتناجيان، ويفكران في تخليص الناس
من ذلك الذي يجرُّ البلاد إلى هاوية الدمار.»
٧
وقد قال الأفغاني كلمته ومضى — من قبل أن تبدأ أحداث الثورة — قال لمودعيه يوم ترحيله
بالقوة عن مصر في ١٨٧٩م: «لقد تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفى به لمصر عالمًا.» أما
الإمام، فقد أعلن — بداية — رفضه الحاسم للثورة، وغيوم الأحداث المتوقعة تتلبَّد في سماء
المجتمع المصري، ثم أصبح من دعاتها ومؤيديها بعد احتماء الخديو بالقوى الأجنبية —
وإنجلترا بخاصة — التي كانت تُعِد — بصورة سافرة — لاحتلال البلاد، ففي الثالث من ديسمبر،
مرَّ الإمام ببيت طلبة باشا، فسمع جلبة، ورأى بعضًا من صغار الضباط يجولون من جانب إلى
آخر من البيت، فدخل للزيارة، ليجد عرابي وجمعًا غفيرًا من الضباط، وأحد أساتذة المدرسة
الحربية، وجلس الإمام، واستمر الحديث في وجهته. قال عرابي: لا بد من تقييد الحكومة
بمجلس النواب، وأن لا سبيل للأمن على الأرواح إلا بتحويل الحكومة إلى مقيدة دستورية،
فقد آن الأوان للتخلص من الاستبداد. فقال الشيخ محمد عبده: علينا أن نهتم الآن بالتربية
والتعليم بضع سنين، وأن نحمل الحكومة على العدل بما نستطيع، وأن نبدأ بترغيبها في
استشارة الأهالي في بعض مجالس خاصة بالمديريات والمحافظات … ويكون ذلك كله تمهيدًا لما
يراد من تقييد الحكومة، وليس من اللائق أن نفاجئ البلاد بأمرٍ قبل أن نستعد له، فيكون
من
قبيل تسليم المال للناشئ قبل بلوغ سن الرشد، يفسد المال ويفضي إلى التهلكة. وظل الإمام
على معارضته للحركة العرابية بشدة، واتهمها بعدم التبصر، حتى هدَّده قادتها — يومًا —
بالقتل إذا ظل يعترض طريقهم ويناوئهم. وفي الحقيقة أن الإمام كان يخشى أن يجرَّ «هذا
الشغب» — على حد تعبيره — إلى البلاد احتلالًا أجنبيًّا «يستدعي تسجيل اللعنة على
مسبِّبيه إلى يوم القيامة.» كان — كما وصفه طه حسين — «يمقت الثورات والانقلابات
العنيفة، وأي عمل يتصف بالعنف.» أما البواعث الخفية التي أشار إليها الإمام في أسئلته
لقادة الثورة، فهي مرفوضة من واقع مبادئ الإمام الإصلاحية في الأقل. تساءل: هل تغيَّرت
سنة الله في الخلق، وانقلب سير العالم الإنساني، أم بلغت فيكم — يعني قادة الثورة —
الفضيلة حدًّا لم يبلغ إليه أحدٌ في العالمين، حتى رضيتم واخترتم عن رويَّة وبصيرة، أن
تشاركوا سائر أمتكم في جاهكم ومجدكم، وتساووا الصعاليك حبًّا بالعدالة والإنسانية؟ أم
تسيرون إلى حيث لا تدرون، وتعلمون ما لا تعلمون؟ هذه الأسئلة، تعكس منطقًا خطيرًا
يناقش مبادئ الإمام نفسها. فهو من أسرة متوسطة، وقد وصل إلى أعلى المناصب، لكن انشغاله
لم يفتر بمستقبل البلاد، وسُبل تحريرها من ربقة التخلف الزري. وأغلب الظن أن الإمام لم
يجد وسيلة للتهوين من قيمة الثورة، ويحد بالتالي من انطلاقها الذي كان يجد فيه خطرًا
متوقعًا، إلا أن يشوِّه حقيقة بواعثها في نظر قادة الثورة أنفسهم.
•••
يصف رشيد رضا الشيخَين الأفغاني ومحمد عبده بأن «كلًّا منهما حكيم عاقل، وأن السيد
جمال الدين رجل دين، وإن غلبت عليه السياسة، والشيخ محمد عبده رجل سياسة، وإن غلب عليه
الدين.»
٨ قال للهنود — حاضًّا على الثورة ضد قوات الإنجليز: «أما والله لو كنتم
سلاحف وأنتم بهذه الكثرة، وسبحتم إلى الجزر البريطانية، ورفستموها بأرجلكم، لأغرقتموها
إلى قاع البحر.»
٩
أما في «ليالي سطيح» فإن حديث الصاحبَين يؤكد جهود الإمام في «العلم والعرفان والتقدم
والعمران» وما يقابلها من كراهية للسياسة، بلغت حدَّ إعلان براءته منها: «… فمن أي
تلاميذ الإمام تكون، فقد سمعنا أنهم فريقان، فريق قد اختصَّه بسياسته، وفريق قد اختصَّه
بعلمه، وقد أثنى عليهما العميد، وتنبَّأ لهم بالطالع السعيد.
– لا علم لي بما تقول؛ فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط
ثماره، فما سمعته يخوض في ذكر السياسة — قبَّحها الله — ولكنه كان يملأ علينا المجلس
سحرًا من آياته، ويتنقل بنا بين مناطق الأفهام ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب
العارفين بأسرار الخلائق وحكمة الخالق، وكان ربما ساقه الحديث إلى ذكر أحوال هذا
المجتمع البشري، فأفاض في شئون الاجتماع وحاج العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة. ولم
يزل ذاك همَّه — رحمه الله — يلقي في الأزهر دروس التفسير، وفي داره دروس الحكمة، حتى
مضى
لسبيله، فإن كانوا يسمُّون تلاميذه أحزابًا، ويقسِّمون تعاليمه أبوابًا، فتلاميذه حزب
العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران، على أنه كان من أشد الناس تبرمًا
بالسياسة وأهلها، حتى أعلن براءته من الالتصاق بها، فقال عنها في كتابه «الإسلام
والنصرانية» ما قال.»
١٠ ثم تطورت الأحداث، ورأى الإمام ما رأى من خيانة الخديو، وتهديد الأسطول
البريطاني للإسكندرية، فانضم إلى جانب الثورة «فهو يخطب في كل حفلٍ ليؤجج نار الثورة
في
الصدور.» بل إنه وضع صيغة اليمين لكبار الضباط الذين اجتمعوا بقشلاق عابدين. كما تولى
تحليفهم على القرآن بأنه «إذا حصلت حرب يكونون جميعًا يدًا واحدة في الدفاع عن البلاد»
ذلك رغم تأكيده — فيما بعد — بأن الثورة لم تكن من رأيه. وكان عفو الخديو عن الإمام،
وعودته إلى مصر، ثم اشتغاله بأكثر من منصبٍ هام … كان ذلك كله بطلبٍ من الإنجليز —
واللورد كرومر بالذات — لأنهم كانوا في حاجة إلى أفكاره التي ازداد إيمانه بعد اغتيال
الثورة، وبعد أن فارقه الأفغاني، وهي أن كل خطوة إصلاحية في الأخلاق، وفي التربية، يجب
أن يكون لها السبق، تمهيدًا لأية نهضة سياسية. لقد رفض الإمام نصيحة أستاذه الأفغاني
بأن يقتل الخديو؛ لأن الأفغاني كان ثائرًا يطالب المصريين بأن يحطموا بفئوسهم رءوس
الإقطاعيين. ودعا محمد عبده إلى قتل الخديو إسماعيل عند كوبري قصر النيل، ووافقه الإمام
على فكرته، لكنه لم ينفذها بالطبع، فقد كان ذا نفسٍ هادئة ترفض العنف بكل أشكاله. لم
يكن
الإمام يؤمن بالقوة سبيلًا لتحقيق مطالب الشعب، وكان تحويل هذه المطالب إلى واقع فعلي،
يستلزم — في رأيه — تغييرًا جذريًّا بطيئًا، في طبيعة المجتمع، وفي صورته. «عرضت عليه
حين كنا في باريس أن نترك السياسة، ونهبُّ إلى مكان بعيد عن مراقبة الحكومات، ونعلِّم،
ونربي من نختار من التلاميذ على مشربنا، فلا تمضي عشر سنين إلا ويكون عندنا كذا وكذا
من
التلاميذ الذين يتبعوننا في ترك أوطانهم، والسير في الأرض لنشر الإصلاح المطلوب، فينتشر
أحسن الانتشار.»
١١ كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، بينما كان الإمام يراه عن طريق التربية.
١٢ كان مصلحًا اجتماعيًّا يؤمن بالتدرُّج وليس الطفرة. ومن هنا، اختلف النقيضان
في أحيانٍ كثيرة، حتى قال الأفغاني — يومًا — في رسالة إلى تلميذه الإمام «إنما أنت
مثبط. نحن قد شرعنا في العمل، ولا بد من المُضي فيه ما دمنا نرى منفذًا.» وفي مقدمة
«ليالي سطيح» أجاب الإمام — إبان إقامته بالسودان — عن سؤالٍ لصحفي إنجليزي في أحداث
الثورة العرابية، وفي الخديو توفيق تحديدًا، قال: «إن توفيق باشا أساء إلينا أكبر
إساءة، لأنه مهَّد لدخولكم بلادنا. ورجل مثله انضم إلى أعدائنا أيام الحرب، لا يمكن أن
نشعر نحوه بأدنى احترام. ومع هذا، إذا ندم على ما فرط منه، وعمل على الخلاص منكم، ربما
غفرنا ذنبه. إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية، وقلوبهم إنجليزية.»
١٣ ثم بدا أن الإمام اقتنع بأسلوب أستاذه، فأصدرا معًا — بعد نفي الإمام —
جريدة «العروة الوثقى» التي كانت تنبض بالأفكار الثورية، ومنها — كما جاء في رسالة من
الإمام إلى ولفرد بلنت، ١١ أبريل ١٨٨٤م — صيانة استقلال الشعوب الشرقية من عدوان الدول
الغربية، وإحداث قلاقل واضطرابات تدفع الحكومة الإنجليزية إلى العدول عن أعمالها
المناوئة للعرب والمسلمين. لكن الإمام ما لبث أن عاد إلى نهجه الإصلاحي منذ عودته إلى
مصر عام ١٨٨٩م؛ فلعن السياسة، وساس، ويسوس، ورغم ذلك، فقد أدان الثورة العرابية، وسعى
للتقرب من الخديو، وصادق اللورد كرومر، وقال: لقد انتقدت الحكومة بشدة، لكنني كنت ضد
الثورة، وكتب قصيدة هجا فيها عصابات الجند التي قامت لعزل «خير رئيس كنت راجيه.» وتراخت
كل الصلات بين الأفغاني والإمام، حتى الشخصية منها. ثم مات الأفغاني في ١٨٩٧م، وقد
تناثرت الشائعات حول حقيقة وفاة الأفغاني: هل تم باتفاق، أو بإهمال، أو أن المرض استطاع
أن ينتصر؟ قيل إن الرجل لُقِّح بمادة سامة سبَّبت له حالة مرضية شبيهة بالسرطان. فعل
ذلك
الدكتور غبارة — جاسوس قصر يلدز على جمال الدين — والدكتور بنكوك — مدير المختبر
البكتريولوجي بمدينة نشان طاش حيث أقام الأفغاني. وأجرى إسكندر قمبور زادة — كبير جراحي
القصر السلطاني — جراحة للأفغاني، لم يتحقق لها النجاح، وفاضت روحه بعد أيام، ويُروى
أنه
في لحظات حياته الأخيرة، طلب الأفغاني ورقة وقلمًا — وكان المرض قد منعه لفترة طويلة
من
الكلام — وكتب: «تشهد يا ألله أن كلام النبي قبل وفاته: أمَّتي أمَّتي … وأنا
أقول: ملَّتي ملَّتي! والملاحظ أن الأتراك العثمانيين كانوا يعبِّرون عن القومية بكلمة
«الملة»، وكانوا يقولون إن الدين والملة شيء واحد.»
١٤
•••
قبل أن يفد الأفغاني إلى مصر، كان عضوًا في مجلس المعارف الأعلى بالآستانة. ألقى
خِطابًا في دار الفنون باللغة التركية التي أجادها بعد ستة أشهر من نزوله الآستانة، تحدَّث
في النبوة والرسالة. ثار العلماء، اتهموه بأنه قال: الرسالة والنبوة صنعتان تنالان
بالاكتساب. أكد الإمام — فيما بعد — أن الأفغاني لم يقُل ذلك، لكن الرجل — بتأثير ما
قيل
— خرج مظلومًا، شبه مطرود، واتجه إلى القاهرة.
فلماذا اختار جمال الدين الأفغاني الإقامة في مصر؟
يقول: «مصر أحب بلاد الله إليَّ، وقضيَّتها أهم قضايا المسألة الشرقية، وهي مفتاحها،
ولقد
كان المتأمِّل في سيرها — قبل التدخل الاستعماري فيها — يحكم حكمًا ربما لم يكن بعيدًا
من
الواقع: أن عاصمتها لا بد أن تصير، في وقتٍ قريبٍ أو بعيد، كرسي مدنية لأعظم الممالك
الشرقية. بل كان هذا الأمر أمرًا مقررًا في نفوس جيرانها من سكان البلاد المتاخمة لها،
وهو أملهم الفرد كلما ألمَّ خطب أو عرض خطر. والمصريون هم أحفاد الغزاة الفاتحين من أعز
قبائل العرب، وإخوانهم الأقباط أحفاد أولئك الأشداء الذين آثارهم تدلُّ على عظمة هِممهم.
وإذا اتحد المصريون، ونهضوا كأمة لا ترى، بُدًّا في استقلالها، ولا تقبل به بديلًا، وثبتوا
وصابروا ورابطوا وارتبطوا، فبشِّر المصريين بحسم المآل ونيل الاستقلال. نعم، سوف تخلص
مصر
لأهلها إذا هم عملوا بالحزم، وهيَّأوا ما يلزم من العزم، وما يتطلَّبه حكم الذات من القوى.»
والحق أن صحوة الشرق بالمعنى الإسلامي، كانت هي الهدف من التحرك النضالي لجمال الدين
الأفغاني، فالرجل لم يكن عربيًّا، وإن كانت أحاديثه باللغة العربية، ولم تكن قضايا
العالم العربي تشغله إلا من حيث اتصالها بقضايا الإسلام ككل، أو المسألة الشرقية كما
كانت تُسمَّى آنذاك. كانت خطة الأفغاني تتحدد في تخليص دول الإسلام من النفوذ الأوروبي،
والعمل على تحقيق الاستقلال الداخلي بإيجاد النظم الدستورية الحرة فيها، تمهيدًا لقيام
ممالك مستقلة متحدة، تحت لواء خليفة واحد، مكونة لدولة قوية قادرة على صد العدوان الخارجي.
١٥ وكان رأيه أنه «لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم»، ومواقفه ضد خليفة
الآستانة، وإمبراطور فارس، وقيصر روسيا، وخديو مصر، إنما كانت تنطلق — في الأساس — من
الرغبة في تحرير العالم الإسلامي من الاستعمار وظلم حكامه في آن. ومن هنا كانت صيحته:
«إن الشعوب هي التي صنعت الملوك، وليس الملوك هم الذين صنعوا الشعوب.»
وحين أُلقي القبض على الأفغاني، ووُضِع — بالقوة — في القطار المتجه إلى السويس، رفض
عرضًا من قنصلَي إيران وبعض وجهاء المصريين لمساعدته بمائة دينار، يستعين بها في سفره،
وقال: «احتفظ بالمال، فأنتم أحوج إليه؛ إن الليث لا يعدم فريسته حيثما ذهب.»
•••
كانت جمعية «العروة الوثقى» هي آخر خطوات الأفغاني في درب تحقيق حلم الدولة الإسلامية
الكبرى التي تنهض بالشرق، وترد على مطامع الغرب، وتدفع عدوانه. ويصف مصطفى عبد الرازق
الجمعية بأنها «جمعية سرية، تضم ذوي المكانة والرأي في بلاد الإسلام المتفرقة.»
١٦ واعتمدت «العروة الوثقى» في مواردها على تبرعات أعضاء الجمعية السرية ذات
الفروع في البلدان المختلفة، فبعد كل اجتماعٍ لكل فرعٍ كان الأعضاء يتبرعون بشيء من المال
في صندوقٍ صغير، ليُنفَق من هذا المال على جريدة «العروة الوثقى» والقائمين بها.
١٧ وعلى الرغم من النفقات الباهظة التي كان يتكلَّفها إصدار جريدة عربية في
باريس، فإن جريدة «العروة الوثقى» كانت توزع «بالمجان»، وتُرسَل — مهداة — إلى ملوك العرب
وأمرائهم وساستهم، وإلى كل من يطلبها «ومن لم يصل إلينا اسمه، فما عليه إلا أن يكتب إلى
إدارة الجريدة بالاسم المعروف به، ومحل إقامته، على المنهج الذي يريده، والله الموفق.»
١٨ ومن كلمات الأفغاني في الجريدة: «إن الأمة التي ليس لها في شئونها حلٌّ ولا
عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة
لحاكمٍ واحدٍ إرادته قانون ومشيئته نظام»
١٩ «هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء ستمائة مليون من النفوس، وأراضيها آخذة
من المحيط الأطلسي إلى أحشاء بلاد الصين، تربة طيبة ومنابت خصبة وديار رحبة، ومع ذلك
نرى
بلادها منهوبة وأموالها مسلوبة، يتغلب الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبًا شعبًا،
ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة، ولم يبقَ لها كلمة تُسمَع، ولا أمر يطاع.»
٢٠ «إن الإفرنج تأكد لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين، إنما في الرابطة
الدينية، وأدركوا أن قوتهم لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية، ولأولئك الإفرنج مطامع في
ديار المسلمين وأوطانهم، فتوجَّهت عنايتهم إلى بثِّ هذه الأفكار الساقطة بين أرباب الديانة
الإسلامية، وزيَّنوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة وفصم حبالها، لينقضوا بذلك بناء الملة
الإسلامية ويمزقوها شيعًا وأحزابًا.»
٢١ «لهذا يحق لنا أن نأسف غاية الأسف على أمراء الشرق، وأخص من بينهم أمراء
المسلمين، حيث سلَّموا أمورهم، ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية للأجانب عنهم،
بل
زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم.»
٢٢ «الذي يعتقد بأن الأجل محدود، والرزق مكفول، والأشياء بيد الله يصرفها كما
يشاء، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه، وإعلاء كلمة أمَّته أو ملته، والقيام بما فرض
الله عليه من ذلك؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشييد المجد على
حسب الأوامر الإلهية وأصول الاجتماعات البشرية.»
٢٣ «إن الحالة السيئة التي أصبحت فيها الديار المصرية لم يسهل احتمالها على
نفوس المسلمين عمومًا. إن مصر تُعتبَر عندهم من الأراضي المقدسة، ولها في قلوبهم منزلة
لا
يحلها سواها، نظرًا لموقعها من الممالك الإسلامية، ولأنها باب الحرمَين الشريفين.»
٢٤ «واجعلوا عصبيتكم سبيلًا لتوحيد كلمتكم واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد
أخيه ليرفعه من هوة النقص إلى ذروة الكمال، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على
الإثم والعدوان.»
٢٥ وكان من الطبيعي أن يُصدِر مجلس النظار المصري — برئاسة نوبار باشا — قرارًا
بمصادرة أعداد «العروة الوثقى»، وفرض غرامة مالية على من يُضبَط متلبسًا بقراءتها، كما
صدرت قرارات مماثلة في الهند وسوريا والسودان.
ولعلنا نجد تعبيرًا عن «المدرسة» التي أنشأتها العروة الوثقى، في هذه الكلمات التي
يبين فيها الشيخ رشيد رضا عن مشاعر استقباله لأعداد المجلة التي كانت في حوزة والده:
«كنت مرة أبحث في أوراق والدي العتيقة، وأتصفَّح ما فيها من الجرائد المطوية، فعثرت على
أعدادٍ من العروة الوثقى، فطفقت أقرؤها المرة بعد المرة، وهي تفعل في نفسي فعلها؛ تهدم
وتبني، وتعد وتمني، وما كان وعدها إلا حقًّا، ولا تمنيها إلا رجاء وأملًا؛ أحدثت إصلاحًا
وعملًا، فكانت هي أستاذي الثاني الذي أثَّر في نفسي، وأقيم عليه بناء عملي وأملي.»
٢٦ وطبيعي أن رشيد رضا لم يكن التلميذ الوحيد الذي انضم إلى مدرسة العروة
الوثقى، فقد كان ثمة تلامذة كثيرون، من بينهم عبد القادر المغربي الذي روى حادثة
مشابهة. وقد أسرفت الحكومة البريطانية في محاربة «العروة الوثقى»، حتى استطاعت أن تُوقِف
صدورها عقب العدد الثاني عشر، في أكتوبر ١٨٨٤م. وبعد إغلاق العروة الوثقى، سافر محمد
عبده إلى بيروت، وقرر الإقامة بها، بينما لبَّى الأفغاني دعوة الشاه لزيارة فارس، ثم
اتجه
إلى روسيا، فأقام بها ثلاث سنين، ثم عاد إلى فارس، ومنها — بعد خلافه مع الشام — إلى
أوروبا، ثم إلى الآستانة حيث قضى أيامه الأخيرة.
•••
في العاشرة من صباح التاسع من مارس ١٨٩٧م، غادر الأفغاني الحياة على أكتاف أربعة
من
حمَّالي الآستانة، يحيط بهم عدد من رجال الشرطة، وخلف النعش سار ثلاثة أشخاص: مريد يوناني
اسمه جورج كوتشي، وسهل باشا بن فضل باشا الملا باري، وعلي قبودان راغب المصري. ونزل
الجسد — الذي كان في حياته حركة دائمة — قبرًا مؤقتًا في «شيخر مزار لغة بإسطنبول».
ومُنعَت الصحف في الولايات العثمانية من تأبينه،
٢٧ وظل قبر الأفغاني في مقبرة المشايخ بالآستانة مهملًا ضائعًا، حتى عثر عليه
الأمريكي جارلس ريجارد كراين في ١٩٢٦م، فأقام عليه ضريحًا من الرخام، ثم نُقل الرفات
في
١٩٤٤م إلى أفغانستان، حيث أُودعَت ضريحًا يتوسط جامعة كابول. لم يكتب الإمام عن أستاذه
—
في مناسبة رحيله — كلمة رثاء واحدة، ويورِد عثمان أمين تبريرًا لأقوال الإمام وتصرفاته
بأن «الشيخ محمد عبده لم يصادق الإنجليز عفوًا، ولا إرضاء لهواه، بل ألجأته إلى ذلك
الظروف؛ كان يريد الإصلاح حقًّا، ولم يكن بمقدوره أن يمضي في إصلاحه، وأهل الجمود
والتقليد يقيمون في وجهه العراقيل، ويحيكون من حوله الدسائس، فكان طبيعيًّا — إذن — أن
يلتمس
موافقة الإنجليز، وكان لهم حينئذٍ النفوذ الفعلي في البلاد.»
٢٨ ويذهب تبريرٌ آخر لتلك المهادنة الغريبة، إلى أن باعثها هو الحصول على
مساندة اللورد كرومر فيما سعى إليه الإمام من مشروعات إصلاحية في الأزهر والقضاء الشرعي
وغيرها.
٢٩
•••
أما عن الأوضاع داخل دول العالم الإسلامي، فقد كان الأفغاني يؤمن — في البداية —
بأن
الفوارق الطبقية قدرٌ مكتوب، فهو يتحدث عن دعاة الاشتراكية بأنهم طائفة «تسعى لتقرير
الاشتراك في المشهيات، ومحو حدود الامتياز، ودرس رسوم الاختصاص، حتى لا يعلو أحدٌ على
أحد، ولا يرتفع شخصٌ عن غيره في شيء ما، ويعيش الناس كافة على حدِّ التساوي، لا يتفاوتون
في حظوظهم، فإن ظفرت هذه الطائفة بنجاحٍ في سعيها هذا، ولاق هذا الفكر الخبيث بعقول
البشر، مالت النفوس إلى الأخذ بالأسهل والأفضل، فلا نجد من يتجشَّم مشاق الأعمال، ولا
من
يتعاطى الحرف الخسيسة، طلبًا للمساواة في الرفعة، فإن حصل ذلك اختلَّ نظام المعيشة،
وتعطَّلت المعاملات، وبطلت المبادلات، وأفضى إلى تدهور هذا النوع في هوة الهلاك.»
٣٠ ويشدد الأفغاني الهجوم على السوسياليست (الاشتراكيين) والنهليست (العدميين) والكومينست
(الشيوعيين)، ويجد أنهم يزينون ظواهرهم بدعوى مساندة الضعفاء،
والمطالبة بحقوق المساكين والفقراء، وحقيقة الأمر أن «غاية ما يطلبون إنما هو رفع
الامتيازات الإنسانية كافة، وإباحة الكل للكل، وإشراك الكل في الكل، وكم سفكوا من دماء،
وكم هدموا من بناء، وكم خرَّبوا من عمران، وجميعهم على اتفاقٍ في أن جميع المشتهيات
الموجودة على سطح الأرض منحة من الطبيعة، وفيض من فيوضها، والأحياء في التمتع بها سواء،
واختصاص فرد من الإنسان بشيء منها دون سائر الأفراد بدعة في شرع الطبيعة سيئة يجب محوها
والإراحة منها.» لكن الأفغاني يتعلم، نعم يتعلم. حتى سفير الله، القديس، الأستاذ، باعث
النهضة إلى آخر تلك التسميات، يتعلم. يعانق هموم الناس، يتذوق عرقها، يستمع إلى نبضات
قلوبها الواهنة والصاخبة، يعيد دراسة أفكاره وآرائه ومفهوماته للمشكلات من حوله، ويدرك
— ربما — أنه كان عليه أن يتعلم ليعود إلى المنطلق الصحيح، ويملي على أحد تلاميذه
كتابًا بعنوان «خاطرات جمال الدين»، يقول فيه مخاطبًا الملوك على لسان الرعية «لا مزية
لكم علينا كما زعمتم، ولستم أطهر عنصرًا ولا أطيب طينة، بل نراكم أناسًا استولى عليكم
حب الذات، وأسرتكم الشهوة، واستعبدكم الهوى. وأما اعتقادكم أن لا قوام لنا إلا بكم، فأنَّى
لكم صدق هذا الاعتقاد وقد أصبحتم كَلًّا على كواهلنا، ونحن نغرس ونحرث، ونغزل ونحُوك
ونفصل ونخيط، ونبني ونشيد، ونخترع الصنائع، ونتفنن في المعارف، وأنتم تأكلون وتشربون
وتلبسون وتسكنون وتتمتعون بلذة الراحة.»
٣١ حتى نظرية النشوء والارتقاء التي أفرغ لها الأفغاني وقته في الهند، يرد
عليها ويفندها، ما يلبث أن يغيِّر موقفه منها، فهو يشرح قول المعري: والذي حارت البرية
فيه
… حيوان مستحدث من جماد. يقول: لا أغالي، ولا أبالغ إذا قلت ليس على سطح الأرض شيء جديد
بالجوهر والأصول. أما مقصد أبي العلاء فظاهرٌ واضح، ليس فيه خفاء، فهو يقصد النشوء
والارتقاء، مهتديًا بما قاله علماء العرب قبله بهذا المذهب … فإذا كان بناء مذهب النشوء
والارتقاء على هذا الأساس، فالسابق فيه علماء العرب وليس داروين، مع الاعتراف بفضل
الرجل وثباته على تبعاته، وخدمته للتاريخ الطبيعي من أكثر وجوهه، وإن خالفته وخالفت
أنصاره في مسألة نسمة الحياة.
٣٢ ويكتب جمال الدين في «العروة الوثقى» عن بواعث تأليفه لرسالته «الرد على
الدهريين»، وعن المقصود بتعبير «دهريي الشرق» بأن الرسالة كُتبَت ضد نفرٍ من المسلمين
الهنود، وأن المقصود من الدهريين الشرقيين هو المفكر الهندي السيد أحمد خان (١٨١٧–١٨٩٨م)
وأتباعه الذين تخرجوا في كلية «عليكرة» الهندية، وما نشروه من أفكارٍ في مجلة أحمد
خان «تهذيب الأخلاق» تبين عن التهادن — بل والتعاون — مع الاستعمار البريطاني، وتناقض
أفكار الأفغاني وتفسيراته للقرآن وتعاليم الإسلام بصورة كلية، ومن هنا، تميزت رسالة
الأفغاني بالحماسة والحدة التي اتسمت بها غالبية كتاباته ضد الاستعمار، الأمر الذي يغيب
— إلى حدٍّ كبير — عن كتاباته الفلسفية والفكرية.
٣٣ وبالطبع، فإن الدهريين ليسوا هم الماركسيون، لأن الأفغاني كتب رسالته في
١٨٨٠م، ولم تكن الماركسية — كنظرية — قد تبلورت بعد، بل إن ماركس مات في ١٨٨٣م دون أن
تكتمل نظريته؛ اكتملت في أعمال إنجلز خلال العشرين عامًا الأخيرة من القرن التاسع
عشر.
والحق أن مواقف الأفغاني الدينية — حتى في ضوء التطورات التي شهدها العالم فيما بعد،
والعالم الإسلامي بخاصة — هي متقدمة بكل المقاييس. كتب — على سبيل المثال — أن «بلاد
الشرق الإسلامية، وقد وقعت فريسة لحكم المغيرين عليها، قد أظلَّتها عهود من الجهل والتأخر
دفعتها إلى تقديس التقاليد البالية، والتمسك بأهداب المعتقدات الموروثة التي أعاقت دفع
عجلة التقدم والرقي في هذه البلاد، وكانت سببًا في تخلف دول الشرق عن الغرب، وخاصة في
ميدان العلوم الحديثة. والغريب في هذا الأمر أننا وقد استكنا لهذا الوضع، وبتنا لا نرضى
البتة بتغييره أو مجرد تعديله أو تحسينه، قد اطمأننَّا على ما نستحوذه بين أيدينا من
علم
الأجداد، لا نريد غيره مطلقًا، وأصبح من السهولة بمكان أن تذهب إلى البرازيل في أقاصي
الأراضي، وأن تقيم هناك ما تشاء من الأنظمة الإسلامية والثقافية المتطورة، من أن تحاول
مجرد إصلاح أحوال الإسلام في بخاري الإسلامية؛ وبذلك لم تعد هناك حاجة تدعو إلى
الاستغراب بأن العرب الذين أقاموا حضارة مرموقة في الأندلس لا يستطيعون اليوم أن يقيموا
صرحًا حضاريًّا مماثلًا في مراكش أو في فارس أو في الجزائر؛ العلة فينا والداء في
داخلنا. إذا أردنا أن نداوي العلة فلا بد من الدواء، ودواء هذا الداء أن نتحصل على
العلم، وأن نكتسب المعرفة؛ وبذلك وحده نستطيع أن نحيا ونتقدم.»
٣٤
كان شاغل الأفغاني تحريض، وتثوير، العالم الإسلامي ضد الاستعمار، وحين ادَّعى السُّنية
والنسب إلى أفغانستان؛ فلأن الشيعة أقلية في الحياة الإسلامية، وفي أفغانستان سمَّى جمال
الدين نفسه جمال الدين الرومي، وفي بغداد سمَّى نفسه جمال الدين الإسطنبولي. كان تعدُّد
صوره ما بين المسرف في التقوى، وكان سنيًّا أمام شعوبٍ يدين غالبيتها بالسنة، وكان
شيعيًّا، وكان علمانيًّا في مواقف كثيرة! كان رأيه أن الشرق لن يجد خلاصه إلا بتصالحه
مع
العقل والعلم. بينما أصدر أحد علماء الأزهر — في الستينيات من القرن العشرين — بحثًا
عنوانه «كذب على الله من قال إن الأرض كروية». كان الإسلام — في تقدير الأفغاني وتخطيطه
— وسيلة إلى غاية، وكانت الغاية هي النضال ضد الاستعمار. ولم تكن قضية الإيمان — كما
يتبدَّى في العديد من المواقف — تشغله كثيرًا. كانت آراؤه في التجديد الديني تنطلق من
فكرة أن السبب الأول في تدهور الحضارة الإسلامية، هو إهمال ما كان سببًا في النهوض
والمجد وعزة الملك، بمعنى ترك حكمة الدين والعمل بها «وهي التي جمعت الأهواء المختلفة
والكلمة المتفرقة، وكانت للملك أقوى من عصبية الجنس وقوته.» وذهب إلى أن استرجاع عزة
المسلمين وقوتهم رهنٌ بالعودة إلى دينهم النقي «من يعجب من قولي إن الأصول الدينية
الحقة، المبرأة من محدثات البدع، تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف
على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل، وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها أقصى
الغاية في المدنية، فإن عجبي من عجبه أشد، ودونك تاريخ الأمة العربية، وما كانت عليه
قبل
بعثة الدين من الهمجية والشتات وإتيان الدنايا والمنكرات، حتى جاءها وقوَّاها وهذَّبها
ونوَّر
عقلها وقوَّم أخلاقها وسدَّد أحكامها، فسادت على العالم، وساست من قولته بسياسة العدل
والإنصاف.» ودعا الأفغاني إلى وحدة الشعوب الإسلامية، وإزالة الفوارق بين الفِرق
الإسلامية، وأجمل عوامل النهوض بالأمم بتحرير العقل من الخرافات والأوهام وتوجيه النفوس
وجهة الشرف والطموح ودعم العقائد الدينية بالأدلة والبراهين، وتهذيب الأفراد وتأديبهم،
وقال إن هذه العوامل متوفرة في الإسلام.
٣٥ وعمَّق جمال الدين من فكرته بالدعوة إلى قيام جامعة إسلامية، توحِّد بين
المسلمين، وتجعل منهم القوة الضاربة التي سبقت وضربت الصليبيين، وأخرجتهم من البلدان
الإسلامية.
٣٦ ويقول محمد أحمد خلف الله «إن الأفغاني — سعيًا وراء تحقيق فكرته — كان
يتنقَّل في الدول الإسلامية، ليختار أشدَّها قوة وتقدمًا؛ فتنقَّل بين فارس وتركيا ومصر،
وأقام في مصر أطول فترة ممكنة، ورأى في المصريين الشعب الذي يمكن أن يحقق الفكرة، بسبب
ما وصل إليه الجند المصريون من تقدُّم في ميدان القتال، وما وصل إليه المصريون المدنيون
من تقدُّم في ميادين المعرفة البشرية والصناعات المدنية.»
٣٧
فلماذا أخفقت فكرة الجامعة الإسلامية؟
لقد كان رأي أبو الهدى الصيادي أن واجب المسلمين في كل أقطار الخلافة، هو الوقوف
وراء
السلطان، ومساندته في سياساته، بصرف النظر عن صواب هذه التصرفات أم نزوعها إلى الظلم
«وأعظم واجب على كل مسلم في المشارق والمغارب القيام لنصرة الدين تحت رايات أمير المؤمنين.»
٣٨ وقد أنكر الأفغاني أن يكون الخروج على الحاكم الظالم فتنة — وهو ما شدَّد
عليه أبو الهدى — كما أنكر أن يكونوا أولو الأمر هم أصحاب السلطان، فلم يكن إلى جانب
الرسول
ﷺ حاكم عندما نزلت الآية «والمقصود بأولي الأمر هم أهل الحل والعهد
القادرون على الاستنباط للأحكام في حالة عدم وجود النصوص القطعية الدلالة، الواردة مورد
التكليف.»
٣٩
لم يكن الخلاف بين الأفغاني والصيادي حول السبب — وحده — السبب في إخفاق فكرة
الجامعة. الأفغاني يشترط الشورى للوقوف إلى جانب الخليفة، والصيادي يذهب إلى أن الواجب
الديني هو الوقوف خلف السلطان، حتى لو كان ظالمًا. ثمة أسباب أخرى، في مقدمتها أن فكرة
الجامعة الإسلامية قد أقلقت الفئات غير المسلمة، والمسلمين غير السُّنيين. كذلك فإن
«الفكرة» واجهت رفضًا مستترًا — أو معلَنًا — من رؤساء الدول الإسلامية. كان من الصعب
على أي واحدٍ منهم أن يتنازل عن سلطته الخاصة من أجل السلطة الاتحادية، ومن ثَم فقد تنازل
عن فكرة الجامعة حتى لا يتنازل عن عرشه. وكما يقول محمد أحمد خلف الله، فقد كان الأمر
أبعد من هذا «فالقضية ليست قضية رؤساء الدول، وإنما هي قضية الأمم الاسلامية ذاتها، تلك
الأمم التي تختلف فيما بينها جنسًا ولغة وتاريخًا وعادات وتقاليد، وكلها أمور تدعو إلى
الاختلاف لا الاتفاق، وإلى التفرُّق لا الوحدة.»
٤٠
•••
كان شيوخ الأزهر — كما يقول إبراهيم الهلباوي في مذكراته — يعتقدون أن الأفغاني «رجل
ملحد، نزل مصر ليضل الناس، ويجمع حوله شيعة ينشرون إلحاده وضلاله.»
٤١ ويروي بلنت أن الإمام محمد عبده أرجع المحاولات الأولى لإدخال الماسونية
مصر إلى أواخر عهد الخديو إسماعيل، وكانت المحافل المصرية على صلة بمثيلاتها في أوروبا.
وقد انضم الأفغاني إلى أحد تلك المحافل، وحصل على درجة ٣٣، وهي أعلى درجات المحفل،
٤٢ لكنَّ الأفغاني ما لبث أن ترك المحفل بعد أن تبيَّن عدم جدواه، ولعله يمكن
القول إن الأفغاني انضم إلى عضوية الماسون بتأثير شعاراتها الداعية إلى الحرية
والمساواة، فضلًا عن أن المحافل كانت تضم شخصيات كبيرة لها ثقلها في كافة المجالات،
وتصوَّر الرجل أن الماسونية ربما تفيده في تحقيق أهدافه.
٤٣ وكما يقول بلنت فإن إسماعيل كان يشجع الماسونية «لخدمة أهدافه حين بدأت
متاعبه، ولكن الماسونية لم تكن لها قوة في مصر على الإطلاق.»
٤٤
•••
أذكر نصيحة أستاذنا يحيى حقي بأن أحاول دراسة الفترة التي أمضاها الأفغاني في روسيا
القيصرية، وعلى الرغم من أن جمال الدين بدأ اهتماماته السياسية — في تقدير غالبية
الروايات — في عام ١٨٧٧م، عام الحرب الروسية العثمانية، فإن السنوات الثلاث التي أمضاها
الأفغاني في روسيا القيصرية (١٨٨٧–١٨٨٩م) لم تسلط عليها من الأقلام المؤرخة أضواء كافية،
ربما لأنها كانت بعيدة — إلى حدٍّ ما — عن قلب العالم الإسلامي الذي كان يمُوج بالمفكرين
والأدباء والمؤرخين الذين شغلوا بما طرحه الأفغاني من قضايا. وفيما يُروى، فإن في مقدمة
الأسباب التي دفعت الأفغاني للقيام برحلته الروسية، اختلافه في الرأي مع شاه إيران «فقد
استرعَتْ خُطبه ضد الإنجليز انتباه الصحف الروسية حينذاك. كما أنها أدت إلى اتفاق القوى
التقدمية في روسيا معه في الرأي بالتنديد بالسياسة الاستعمارية الإنجليزية في الهند
ومصر وأفغانستان، والتي كانت تناوئ المصالح الروسية في الشرق الإسلامي بصفة عامة.»
٤٥ الواقعة التاريخية تقول إنه حين أحسَّ الأفغاني بتغيير معاملة شاه إيران له،
وأنه ربما غدر به، استأذن الشاه في تبديل الهواء، واتجه إلى روسيا. وكانت تلك الرحلة
بدعوة من حاكم موسكو كاتكوف
Katkof، وإن أشارت روايات
أخرى أن الدعوة وصلته من مسئولين روسٍ آخرين. وقد بدأت إقامة الأفغاني في أوائل يوليو
١٨٨٧م، واستمرت حوالي ثلاثة أعوام، وقد أتقن اللغة الروسية خلال العام الأول بحيث أتقن
التحدث بها، وتنقَّل بين موسكو (حوالي العام) وبيتربرج
Peterburg عاصمة روسيا آنذاك (١٨ شهرًا). كما زار
مدينة كييف ومناطق القوقاز الإسلامية، واجتمع الأفغاني — فيما أعلن — بالعديد من
الشخصيات الروسية المؤثرة، مثل جيرسوم
Gurrsum وزير
الخارجية، وريختر
Ruchter وإبروتشيف
Abrytchev وغيرهما من قادة الجيش. كما عُيِّن في
سبتمبر ١٨٨٨م عضوًا بالجمعية الجغرافية القيصرية في بيتربرج. وإذا كان عبد المنعم شميس
يرى أن اتصال الأفغاني بقيصر روسيا كان محاولة سياسية لمنع الصدام بينها وبين البلاد
الإسلامية، وإيجاد تحالفٍ يقف في وجه المد الاستعماري الغربي،
٤٦ فإن العقاد يذهب إلى الرأي نفسه تقريبًا؛ ذلك لأن الحرب الروسية التركية
كانت هي بداية التصدُّع الحقيقي، تصدُّع يسبق الانهيار مباشرة، في بناء الإمبراطورية
العثمانية، وقد أوقف جمال الدين محاضراته وندواته لمدة ستة أشهر جزعًا على الإسلام من
نتائج تلك الحرب.
٤٧ ويضيف العقاد سببَين آخرين: فقد سافر الأفغاني إلى روسيا — في تقديره — لأنه
كان ينوي أن يستخدم مقامه فيها لأغراضٍ ثلاثة. أولها أن يكفَّ من عداوة الدولة الروسية
التقليدية لدولة الخلافة، بحيث لا يقع منها عدوانٌ جديدٌ في أثناء مقامه بعاصمتها، والغرض
الثاني رفع الظلم عن الرعايا المسلمين، وتمكينهم من حريتهم الدينية على قدر المستطاع،
والغرض الثالث هو الانتفاع بالمنافسة القديمة بين الروس والإنجليز في تحريك المسائل
الشرقية بجملتها، لا سيما مسائل الأمم التي على طريق الهند من مصر إلى فارس إلى أفغانستان.
٤٨ وثمة آراء تذهب إلى أن مبعث الحرب التركية الروسية — ١٨٧٧م — كان أطماع
روسيا الإقليمية في تركيا، وكانت مصر — باعتبارها ولاية عثمانية — مُلزَمة بأن تمدَّ
تركيا
بالمال والرجال.
٤٩ ورأيٌ بأن الاستيلاء على أفغانستان كان حلمًا قيصريًّا قديمًا، دليله بضعة
مؤشرات، منها: أن الأفغاني ركز في المقالات التي نشرتها له الصحف الروسية على القضية
الأفغانية، دون سواها من قضايا العالم الإسلامي. ومنها: أن الأفغاني اتفق مع وجهة النظر
الروسية في «التنديد بالسياسة الاستعمارية الإنجليزية في الهند ومصر وأفغانستان.» وكانت
صورة الصراع بين الدولتين — إنجلترا وروسيا — آنذاك، تتلخص في سعي بريطانيا لضم
أفغانستان إلى مستعمراتها، بينما كانت روسيا تهدف — في الوقت نفسه — إلى تثبيت نفوذها
السياسي في أفغانستان، ذلك لأن «تقاليد القرن التاسع عشر قد جعلت أفغانستان منطقة
محايدة يتصارع فيها العملاء السريون الروس والبريطانيون.»
٥٠ ومنها: أنه عندما انتهت — في ١٨٨٧م — المباحثات بين إنجلترا وروسيا حول
الحدود الروسية الأفغانية، فإن الأفغاني — الذي تابع تلك المباحثات في بيتربرج — وقرأ
ما كتبته الصحف الروسية حول الموضوع، كتب يقول: «يا تُرى ما نوع التصور الذي تبادر إلى
أذهان الروسيين في أثناء المباحثات التي جرت مع الأفغانيين، والتي أذن بها وتبنَّاها
الوسطاء الإنجليز، وهي شأن من صميم شئون الأفغانيين وحدهم؟ وبأي حق تسمح روسيا لإنجلترا
بهذا الوضع الذي يجعلها وكأنها نصير للوساطة الإنجليزية، وفي هذا أكبر الضرر عليها؛ إذ
يجلب مقت وكراهية الأفغانيين لها. ومثل هذا الوضع إنما يعطي للروس إمكانية ضئيلة مع
الوقت، في سبيل استمالة الأفغانيين لهم، وتثبيت نفوذهم السياسي عليهم، وعلى غيرهم،
كمناصرين لقضايا حرية هذه الشعوب.»
٥١ ويطالبنا أحد التفسيرات لكلمات الأفغاني بألَّا نندهش إذا صدر مثل هذا القول
عن توقع مناصرة الروس لقضايا حرية شعوب الشرق الإسلامي من ربقة الاستعمار الإنجليزي أو
غيره من قبل الأفغاني أو الشيخ محمد عبده أو غيرهم من الزعماء. لقد تصوَّر هؤلاء المفكرون
— في ضوء الأوضاع السياسية العامة التي كانت تتحكم في موازين القوى الدولية، وفي علاقات
الدول الأوروبية بصفة خاصة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر — أنه يمكن لشعوب
الشرق الإسلامي أن تعتمد — في سبيل حصولها على استقلالها السياسي — على تضارب المصالح
الاستعمارية بين الدول الأوروبية الكبرى، فلا غضاضة إذن إذا وجد الأفغاني أن من مصلحة
الأفغانيين أن يوطدوا علاقاتهم بروسيا في سبيل مناوأة الإنجليز، والتخلص من نفوذهم
وسيطرتهم على بلاد الأفغان.
٥٢ لكن صاحب الرأي يقدر — في فقرة تالية — أن «مقالات الأفغاني التي هاجم فيها
السياسة الاستعمارية لإنجلترا في الشرق الإسلامي «قوبلت» بترحابٍ شديد، ومساندة قوية
من
قبل القوى التقدمية في روسيا، وباستحسان الدوائر الحاكمة فيها الذين وجدوا فيها فرصة
لمناوأة النفوذ الإنجليزي في أفغانستان، وسبيلًا إلى تعزيز وتثبيت نفوذهم السياسي على
هذه البلاد.»
٥٣
•••
الحقيقة التي يكاد يتفق عليها المؤرخون، أن حياة الأفغاني يلفُّها الغموض، حتى تلك
الفترة التي قضاها في القاهرة — ١٨٧١–١٨٧٩م — والتي تُعَد أخصب فترات حياته، تعاني
الظلام، وربما القتامة، في المعلومات، إلى حد الاختلاف في البيت الذي اختاره لسكناه:
هل
كان في خان الخليلي أم في حارة اليهود؟ وحقيقة التنظيمات التي كوَّنها؟ لم يكن الحزب
الوطني الحر حزبًا بالمعنى المفهوم. ولعل أول ما يطالعنا في التراجم المختلفة لحياة
الأفغاني، أنها تكاد تخضع لرواية واحدة بأساليب مختلفة في كل المؤلفات التي تعرض
لسيرته، وإن كانت رواية جرجي زيدان هي أميل تلك الروايات إلى التركيز، وإلى الإحاطة
بالتفاصيل في الوقت نفسه: «هو السيد محمد جمال الدين بن السيد صفتر، وُلِد في بيت شرفٍ
وعلم بقرية أسعد (أسد رضي الله عنه) أباد من قرى كنر من أعمال كابل ببلاد الأفغان سنة
١٢٥٤ﻫ، ١٨٣٨م. ويتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى الإمام الحسين
بن علي بن
أبي طالب. وآل هذا البيت عشيرة كبيرة تقيم في خطة كنر، ولها منزلة عليا في قلوب
الأفغانيين لحرمة نسبِها، وكانت تملك جزءًا من أرض الأفغان حتى سلب الملك منها دوست محمد
خان جد الأمير عبد الرحمن، وأمر بنقل والد السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة
كابل، وجمال الدين لا يزال في الثامنة من عمره، فعني والده بتربيته وتثقيفه؛ فتلقَّى
مبادئ العلوم العربية والتاريخ وعلوم الشريعة من تفسيرٍ وحديثٍ وفقه وأصول وكلام وتصوف،
والعلوم العقلية من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية وتهذيبية وحكمة نظرية طبيعية
وإلهية والعلوم الرياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك ونظريات الطب والتشريح، وكانت
ملامح النجابة والذكاء ظاهرة فيه منذ نعومة أظفاره، فأتمَّ هذا كله وهو في الثامنة عشرة
من عمره.»
٥٤ وعرض زيدان لأسفار الأفغاني في الحجاز والهند ومصر وفرنسا وإنجلترا
والآستانة وغيرها، وما أعلنه من آراء في أحوال العالم الإسلامي، اتسمت في عمومها
بالراديكالية، بداية من نقد سلطات الاحتلال، وانتهاءً بنقد السلطات المحلية الحاكمة.
٥٥ ولعل هذه الرواية هي التي اعتمد عليها صلاح عبد الصبور في دراسته المتميزة
«قصة الضمير المصري الحديث بين الإسلام والعروبة والتغريب» أما مذهب الرجل الديني فهو
— كما يقول الإمام — حنفيٌّ «وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلدًا، لكنه لم يفارق السنة
الصحيحة، مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية (رضي الله عنهم)، وله مثابرة شديدة على أداء
الفرائض في مذهبه، وعُرِف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته، ولا يأتي من الأعمال
إلا
ما يحل في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه. أما حميته
الدينية فهي مما لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله.»
٥٦ هذه هي رواية تلميذه الإمام. وبديهي أن الرواية ليست اجتهادًا، لكنها
معلومات أمدَّ بها الأستاذ تلميذه مباشرة، خلال رفقتهما التي امتدت أعوامًا طويلة، فهي
إذن أبعد الروايات عن الاجتهاد الشخصي، وذلك ما يشير إليه الشيخ مصطفى عبد الرازق من
أن
الأفغاني قال عن نفسه لتلميذه الإمام إنه وُلِد في أسعد أباد من أعمال كابول في بلاد
الأفغان، من أسرة حنفية المذهب، تنتسب إلى الحسين بن علي سنة ١٨٣٨م.
٥٧ وإنه قال — في مناسبة أخرى — إن الأفغان «أول أرض مسَّ جسمي ترابها.» كان
الرجل حريصًا على تأكيد أفغانيته، وأن نسبته إلى إيران إنما هي مؤامرة. قال إنه أفغاني
الأصل والفرع، وإنه لا علاقة جنسية له بإيران ولا تابعية. وقال إن الشاه يشيع ذلك عنه
بهدف استدعائه إلى إيران، ثم الانتقام منه والتنكيل به. وأضاف: وفي ١٢٨٧ هجرية — إبان
تولي صفوت باشا وزارة المعارف — عيَّنه — أي الأفغاني — عضوًا في مجلس المعارف الأعلى،
ارتكازًا إلى أفغانيته. وقال: فليسألوا الوزارة المشار إليها إن أحبوا!
٥٨ وثمة مؤلف اسمه ميرزا لطف الله خان، قدَّم نفسه باعتباره ابن أخت للأفغاني.
أورد معلوماتٍ عن نشأة الأفغاني: نسبه وأسرته وتعليمه، في كتاب بعنوان «جمال الدين الأسد
أبادي»، لكن المعلومات التي يضمُّها الكتاب تتباين — تمامًا — مع غالبية ما ذكره الأفغاني
بنفسه عن تلك الظروف. والواقع أن فارسية الأفغاني ليست وليدة اجتهادات معاصرة، فقد أصدر
الإيراني محمد حسن خان المُلقَّب باعتماد الدولة، في كتابٍ بعنوان «المآثر والآثار» «أن
جمال الدين من قرية أسد أباد من أعمال إيران. له مقامٌ عالٍ في العلوم العتيقة والجديدة.
يفتخر به أهل إيران ولهم الحق، تعلَّم العلوم الشرعية في مدينة قزوين ومدينة طهران،
وسافر إلى بلاد أفغانستان، ومنها إلى الممالك العثمانية ومصر.»
٥٩ وثمة رواية لعالِم إيراني، حاولت التوفيق بين تباين الاجتهادات في نشأة
الأفغاني. قال إن والد جمال الدين من ولاية «مازندان» إحدى مقاطعات إيران، وكان ضابطًا
في الجيش الإيراني، وأوفدته الحكومة الإيرانية في مهمة إلى بلاد الأفغاني، فطابت له
الحياة هناك، وربما تزوج فتاة أفغانية، أنجب منها جمال الدين، أو لعله كان أنجب جمال
الدين في إيران، ثم صحبه إلى وطنه الجديد.
٦٠ ويتحدث الشيخ رشيد رضا عن نطق الأفغاني بالعربية، فيقول إن جمال الدين
بالرغم من طلاقته، لم يستطع التخلص من آثار نسَبه الفارسي!
٦١ ويقول المستشرق أ. ج. براون إن جمال الدين أراد أن يُعرَف بأنه أفغاني ليسهل
حشره في زمرة السُّنيين من المسلمين، وليتخلى عن الحماية الفارسية التي كان يشك في قيمتها.
٦٢ حتى السلطات العثمانية أعلنت في أواخر أيامه، وبتأثير حربٍ ضارية بينه وبين
أبي الهدى الصيادي، أن جمال الدين ليس من أحفاد الحسين، وأنه — كما تقول وثائق الدولة
— «مازنداني من أجلاف الشيعة.»
٦٣ وكتب الصيادي رسالة إلى الشيخ رشيد رضا، صاحب المنار، قال فيها: «إني أرى
جريدتك طافحة بشقائق المنافق جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى «الحسينية» التي كان
يزعمها زورًا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميًّا أنه «مازنداني» من أجلاف الشيعة، وهو
مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية.»
٦٤ وإذا كان عبد العليم القباني يشير إلى أن باحثًا — هو عبد الباسط محمد عوض
— اتصل بالسفارتين الأفغانية والإيرانية للتحقق رسميًّا من أصل الأفغاني الإقليمي، فكان
ردهما أنه ليس لدى أيٍّ منهما دليلٌ يثبت تبعية الأفغاني لأيٍّ من الدولتين.
٦٥ فإن معظم المؤرخين الذين عرضوا لسيرة جمال الدين الأفغاني نقلوا رواية
الإمام، التي نقلها عن الأفغاني نفسه. مع ذلك، فإن الإمام يشير في فاتحة تعريبه لرسالة
«الرد على الدهريين» التي كتبها الأفغاني: «يحملني على ذكر شيء من سيرة هذا الرجل
الفاضل ما رأيناه من تخالف الناس في أمره، وتباعد ما بينهم في معرفة حاله، وتباين صوره
في مخيلات اللاقفين لخبره، حتى كأنه حقيقة كلية تجلَّت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة
روحية قامت لكل نظرٍ بشكلٍ يشاكله.» ورأى الإمام أن الأفغاني — وإن كان في الحقيقة
فارسيًّا — فقد انتسب إلى الأفغان لأمرين: أن يكون من السهل عليه الظهور بمظهر السُّني
لا
الشيعي، أن يستطيع الخلاص من رقابة الحكومة الإيرانية لرعاياها في الخارج.
٦٦ ثم تأكدت نسبة السيد — من الناحية الرسمية — إلى عائلة بالذات، وإلى بلدٍ
بالتحديد، حين أشرف ملك الأفغان محمد ظاهر شاه بنفسه على إعداد الضريح الذي نُقلَت إليه
رفات جمال الدين الأفغاني، وكان الملك في مقدمة المستقبِلين لرفات الشيخ، ووضع رئيس
الوزراء التابوت على كتفه، ينقله من السيارة إلى أرض الحديقة المطلة على نهر كابول،
اعترافًا مؤكدًا أن جمال الدين هو ابن لذلك البلد.
•••
القول بأن اعتراف جمال الدين نفسه أنه أفغاني المولد والجنسية يقطع على المتشككين
طريقهم «فهو أدرى بحسبه ونسبه»،
٦٧ هذا القول لا يخلو من طرافة، فضلًا عن أنه يحتاج إلى مراجعة شديدة.
لقد قدم الأفغاني نفسه — في البداية — إلى مريديه، ونقل المريدون ما رواه لهم
الأفغاني — ونتذكر قول الباحثة الأمريكية نيكي ر. كيدي إن الأعوام السبعة والعشرين الأولى
في حياة الأفغاني كان غالبيتها من رواية الأفغاني وحده، وقرأنا عن حياة الأفغاني منذ
الطفولة إلى الكهولة في كتابات الإمام ومحمد رشيد رضا وعبد القادر المغربي ومحمد
المخزومي وغيرهم. وبالطبع، فلم تكن الروايات — في مجموعها — سوى ترديدٍ لما رواه
الأفغاني نفسه. حتى لقبه الذي اختاره لنفسه، أو اختاره له آباؤه، وهو السيد جمال الدين
الأفغاني الحسيني، كالنسب الذي اختاره أحمد عرابي لنفسه.
القيمة الأهم في كتاب كيدي أنه ليس مناقشة لاجتهاداتٍ سابقة، بمعنى أن الباحثة لم
تغلق
دائرة بحثها على الكتب والدراسات التي عرضت من قبل لسيرة الأفغاني وشخصيته وأفكاره،
لكنها اعتمدت — في الدرجة الأولى — على الوثائق الصحيحة في المكتبات العامة والخاصة
والمتاحف، في إيران وأفغانستان وروسيا وبريطانيا، وفي كل البلاد التي ذهب إليها
الأفغاني بشخصه، أو بدعوته، ثم قدمت — في النهاية — كتابها الذي يصعب رفض
مناقشته!
تشير الباحثة — ابتداء — إلى أن كل المعلومات التي ترددت عن نسبة جمال الدين إلى
أفغانستان مصدرها جمال الدين نفسه، وأنه لا توجد أية وثائق مصدرها أفغانستان سواء كانت
متعلقة بالأسرة أو الأقارب أو أي شيء آخر، بينما يوجد الكثير الذي ينسبه الأفغاني إلى
إيران «يبدو أن السبب في أن جمال الدين الذي قدَّم نفسه كأفغاني وليس كإيراني، هو رغبته
في أن يقدم نفسه للعالم الإسلامي كسُني وليس كشيعي.» «ويلاحظ أن اسم خادم جمال الدين
الذي
لازمه مدة طويلة — وهو أبو تراب — اسم شيعي إيراني.»
٦٨ والغريب أنه في فترة حياة جمال الدين الأفغاني نفسه كان الكثير من أتباعه
يرَون أنه من أصل إيراني «وقد عثر على كثير من الوثائق، من بينها مراسلات بين جمال الدين
وأسرته في إيران.»
٦٩ المصادر الموثوق بها عن السنوات السبع والعشرين الأولى من حياة السيد جمال
الدين قليلة للغاية،
٧٠ «لم يكن الأفغاني أفغانيًّا، كما يدَّعي، بل إيرانيًّا، ولم يكن سُنيًّا، بل
شيعيًّا.»
٧١ «سواء كان الأفغاني قد وُلِد — كما يقول هو — في أفغانستان، أو — كما تقول
الوقائع التاريخية — في إيران، فإنه قد أتى من منطقة تمُوج بالروح الإسلامية، وهو لم
يكن
إيرانيًّا فحسب، بل كان أيضًا من تلك الأقلية المتعصبة — الأرثوذكسية — الشيعة.»
٧٢ «لقد ظهر جمال الدين في الحياة السياسية، في أفغانستان.»
٧٣ وعلى الرغم من أن كيدي تعتمد في كتابها على الوثائق والمصادر الخطية، فإنه
من الخطأ — في تقديري — بل من الخطر — أن يلغي ذلك الجهد العلمي جهودًا سابقة، وإن
اختلفت معه في منهجيتها وأساليب بحثها. إن القيمة الأولى التي يجدر بنا أن نخرج بها من
كل ما قدمته كيدي، أن الاكتفاء بمصادر السلف في رواية التاريخ، دون جهد حقيقي في
التحليل والنقاش والمقارنة، هو إلغاء حقيقي لمعنى الدراسة التاريخية، وحتى عرض الوثائق
وتحليلها، باعتبار ذلك عرضًا وتحليلًا للحقيقة بصورة موضوعية، ربما يفضي بنا إلى نقيض
ما نطلب. والمثل الذي يحضرني الآن ما فعله عبد الخالق لاشين ومصطفى النحاس في مذكرات
سعد زغلول. كان المصدر الذي اعتمد عليه الباحثان هو مذكرات زعيم ثورة ١٩١٩م، لكن المنهج
في كلٍّ من الدراستَين و«التخريجات» التي كان الباحث يحرص على إبرازها … ذلك كله جعل
من
كل دراسة مقابلة للأخرى، ومناقضة لها. إن الدراسة التاريخية يجب ألَّا تجاوز طلب الحقيقة،
وحتى إصدار الأحكام على الحقائق المؤكدة يجب أن يراعي ظروفًا موضوعية شديدة
التعقيد.
وقد أفاد لويس عوض من اجتهادات الباحثة الأمريكية، في قوله إن لقب الحسيني يوحي بجذورٍ
شيعية عميقة، لا تتمشى مع الدولة العقلانية، بل ولا تتمشى مع العقيدة السُّنية، وإنما
تذكِّرنا بباطنية الطرق الصوفية. لم يكن يذكر اسمه مقرونًا باسم أبيه وجده، وإنما يكتفي
بنسبه إلى الحسين. لكنه في رواية عبد المنعم شميس جمال الدين بن صفدر الذي يمتد نسبه
إلى السيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب.
٧٤ وكان يتجوَّل بعواصم العالم كرجلٍ بلا وطن، وكان ذا شخصية مغناطيسية وأوشاج
مغناطيسية، حتى نشأت حوله أسطورة دامت إلى زمننا الحالي. يضيف لويس عوض أن الناس كانوا
يعرفون متى جاء، ومتى مضى، وماذا قال، لكن أحدًا لم يجرؤ أن يفتح دفاتره ليسأل: من هو؟
ولماذا جاء في الوقت المناسب؟ ولماذا مضى في الوقت المناسب؟ ولماذا قال ما قال؟ كل
رجالات عصره حُوسَبوا حسابًا عسيرًا، ما عدا جمال الدين الأفغاني، لا أحد يعرف لماذا.
كل
الناس كانوا من أعوانه أو مريديه: الخديو والمجاور والجنرال والأديب وعالم الأزهر
والعمدة واليهودي والنصراني.
٧٥
•••
ونتجاوز هذا الاستطراد، ونشير إلى أنه عندما عرض عليه بعض مريديه وأعوانه أن يضيفوا
إلى الجنيهات العشرة التي كانت الحكومة المصرية قد فرضتها له، أبى، وقال: إنني رجل شريف
النسب، وحرام على آل البيت أن يعيشوا من الصدقات!
٧٦ وحين زار الأفغاني بغداد في ١٨٨١م، اجتمع به الوالي محمد سري باشا، وسأله عن
مذهبه «ولكن السيد جمال الدين أعرض عنه، ولم يعره التفاتًا، فأُحرج الوالي، وظهرت علائم
الخجل على وجهه.»
٧٧ وطلب إليه أحد المستشرقين أن يسلط ضوءًا على المُعتَم من حياته الخاصة، «أكتب أنني كنت
أحتفظ بجبة غير التي فوق جسمي، ولكنني حين رأيت نفسي رهن المنفى والتشريد
دائمًا، فقد تركت تلك الجبة واكتفيت بالتي فوق جسدي، حتى أكون خفيفًا في الانتقال والترحال!»
٧٨ ويثير عبد القادر المغربي قضية نشأة الأفغاني، وهل كانت في أفغانستان أم
إيران؟ ويبدي الرجل دهشته من الخلاف في نسبة جمال الدين، ذلك «لأن الرجل عاش في عصرنا
وبلادنا، وأعماله ومساعيه تقع تحت موقع أبصارنا، والأدلة متوافرة لمعرفة حقيقة نسبه.»
٧٩ مع ذلك، فإن المغربي لا يهبنا رأيًا محددًا في حقيقة نشأة الأفغاني! وقد
ارتاد عبد المنعم شميس محاولة جادة لوضع النقاط على الحروف فيما يتصل بنشأة الأفغاني
ونسبه، لكن المحاولة — رغم صدقها — لم تحسم القضية على أي وجه، وظلَّت عشرات الأسئلة
في
مواضعها؛ فالكاتب يقرر أنه «لم تتكشَّف حتى اليوم تفاصيل حياة جمال الدين الأفغاني في
طفولته وصباه.»
٨٠ و«يبدو أنه تلقى مبادئ العلوم في قريته حتى بلغ الثامنة من عمره.»
٨١ و«لم يعلم على وجه التحقيق أسماء المدارس والأماكن التي تلقى فيها.»
٨٢ و«لذلك يبدو الضباب كثيفًا عند البحث عن مرحلة التحصيل في حياة الأفغاني؛
فهو منذ طفولته حتى الثامنة عشرة من عمره يصعب الوصول إلى طرائق حياته وبيئته وتعليمه.»
٨٣ و«ما عرفنا لجمال الدين إخوة أو أخوات؛ فالحياة العائلية مجهولة، ووسائل
المعيشة مجهولة، وطرائق تعليمه مجهولة أيضًا.»
٨٤ «ولم يذكر مؤرخوه كيف عاش في الهند، وكيف أفاد من العلوم التي نقلها
الإنجليز إلى تلك البلاد.»
٨٥ «وبعد ذلك غادرها إلى الأقطار الحجازية لأداء فريضة الحج، وطالت مدة سفره
إليها نحو سنة، وهو ينتقل من بلدٍ إلى بلدٍ، ومن قطر إلى قطر، حتى وافى مكة المكرمة في
سنة ١٢٧٣ﻫ/١٨٥٦م. ويحيط الغموض بهذه الرحلة أيضًا، فلا تعلم أي البلاد زار جمال
الدين، ولا أي الأقطار نزل بها. كما أنه لا يبين لنا كيف كان يعيش، وما هو مورد رزقه
خلال عام كامل، تجوَّل فيه حول بلاد المحيط الهندي، أو عبر القارة الآسيوية من الهند
إلى الحجاز.»
٨٦ وقد وضع صلاح الدين السلجوقي سفير أفغانستان الأسبق بالقاهرة بحثًا دافع
فيه عن جمال الدين الأفغاني، جاء فيه أن «أجداد السيد من ملوك الطوائف، وكان لهم نفوذ
كبير في سائر أرجاء الوطن الأفغاني، ولا يزال أفراد هذه العائلة يطلق عليهم لقب «باشا»،
وهو لقب خاص بهم دون غيرهم. وأصل كلمة باشا آرية معناها «الملك»، فهؤلاء السادات كانوا
ملوكًا من جهتَين: الأولى، لأنهم من ملوك الطوائف، والثانية لأن أحفاد النبي
ﷺ هم
ملوك في نظر الأفغانيين من حيث الرتبة والشرف.»
٨٧ وفي ١٩٧١م، شارك مسئولون أفغانيون في الاحتفالات التي أقيمت في مصر بمناسبة
مرور مائة عام على قدوم جمال الدين الأفغاني إلى مصر، وتحدث رئيس الوفد — عبد الرحيم
نوين وزير الثقافة الأفغاني آنذاك — عن مولد جمال الدين في قرية أسعد أباد الأفغانية،
ونسبه الذي يرتقي إلى الإمام علي بن أبي طالب، وأن ضريحه يقع في قلب جامعة كابول. وثمة
مدينة هي جزء من كابول سُمِّيت باسم جمال الدين الأفغاني، تخليدًا لذكراه. ويُروى أن
السلطان عرض عليه — ذات يوم — أن يجعل الآستانة وطنه «إذ لا وطن لك.»
٨٨ وزعم الأفغاني انتماءه إلى نسب الرسول
ﷺ وأنه كان سُنيًّا من بلاد
الأفغان. وكان إذا سُئل عن وطنه أجاب: ليس لي وطن، إنه لا وطن اليوم للمسلمين! والإجابة
لا تخلو من ذكاء. لكن الرجل — في اجتهادات كثيرة — لم يكن من نسل الرسول، وكان
شيعيًّا، وبلدته أسد أباد التابعة لبلاد فارس،
٨٩ والأسئلة تمتد، فتشمل اتصالات الأفغاني الغامضة بالدول الأوروبية الثلاث:
إنجلترا وفرنسا وروسيا.
ولعلي أعترف أن القضية ليست في البلد الذي ينتمي إليه جمال الدين، من حق الذين تعنيهم
معطيات الرجل ألَّا يشغلهم مسقط رأسه، وما إذا كان هو أسد أباد بفارس، أم أسعد أباد
بأفغانستان، أم أن التسميتَين تسمية واحدة، واللبس في الترجمة؟ «نحن لا نهتم بمسقط
رأسه لأن الإسلام لا حدود لأرضه، والأفغاني التفَّ حوله الشيخ المعمَّم والأفندي المطربش
والتاجر والصانع والمتعلم والأمي. وسواء كان جمال الدين أفغانيًّا أو إيرانيًّا أو حتى
أمريكيًّا، فكل ذلك لا يهم.» «إن ما يهمنا هو عطاء الأفغاني، وتأثيره على الأحداث.»
٩٠ ولعلِّي أوافق لامبير في رأيه بأن الرجال الممتازين لا ينتسبون في الحقيقة
إلى المدينة، ولا إلى القرية، ولا إلى الأمة التي تعتز بهم. إنهم قليلو العدد، وقد ألقت
بهم المقادير على سطح الأرض، فليسوا توشية ولا حلية لأحد، بل هم أفذاذ في المسار
الإنساني، لا سبيل إلى تعريفهم،
٩١ لكننا — في الوقت نفسه — لا نستطيع أن نهمل الأعوام السبعة والعشرين الأولى
من عمر الأفغاني: ما حقيقتها، وكيف رواها، وماذا حذف وأضاف؟
مأساة المجتمع الأبوي أنه يُسقِط كلَّ ما قد يعلق بشخصية القائد أو الزعيم من سلبيات
ونقائص. بيت الشعر الذي يتحدث عن عين الرضا التي تكل عن رؤية العيب مهما كان واضحًا،
تعبيرٌ بالغ الدلالة عن مجتمع الأبوة، مجتمع القبيلة الذي يخضع — بصورة مطلقة — للزعيم،
فالنظرة تدين بالسلفية التي ترفع ما مضى، وما يحدث، إلى مرتبة القداسة، ويفرض التحريم
قيوده على أية محاولة للحوار، أو النقاش الموضوعي. وقد عانت سيرة الأفغاني — إلى حدٍّ
كبير — من مأساة المجتمع الأبوي. إن مفكرًا كبيرًا، هو أحمد أمين، يقف أمام قبر
الأفغاني في الآستانة، ويصفه بأنه «محيي النفوس ومحرر العقول ومحرك القلوب وباعث الشعوب
ومزلزل العروش، ومن كانت السلاطين تغار من عظمته وتخشى من لسانه وسطوته، والدول ذات
البنود تخاف من حركته، والممالك الواسعة الحرية تضيق نفسًا بحريته … وأنه «باذر بذور
الثورة العرابية، ومؤجج النفوس للثورة الفارسية، ومحرك العالم الإسلامي كله لمناهضة
الحكومات الأجنبية، والمطالبة بالإصلاحات الاجتماعية.»
٩٢ ولأن الكلمات ليست للرثاء — فقد كان مضي عشرات السنين على رحيل الأفغاني —
فإن الوصف الأدق لها أنها تميل — كعادة أبناء المجتمعات الأبوية في تقديس آبائهم،
زعمائهم وقادتهم، إلى المبالغة والتفخيم، وتفتقد الموضوعية. وبالإضافة إلى أن جمال
الدين عالِم ومفكر ومصلح، فهو إنسان فيه كل ما في البشر من جوانب إيجابية، وجوانب سلبية،
وكل جوانب الإنسان – ما دمنا نحرص على وضعه في إطار آدميته — تحتمل المناقشة. إن
«البطل» في المجتمع القبلي، أو الأبوي، أسطورة، تنبض حياته بالغرائب والمعجزات، أما
البطل «الإنساني» فهو يخطئ ويصيب ويعاني ويراجع مواقفه. كانت القيمة الأولى في شخصية
الأفغاني هي إنسانيته، لكن الجانب الإنساني توارى — تمامًا — في الاجتهادات التي أرَّخت
لحياته.
بالإضافة إلى أن التركيز على سنة الوفاة لترجمة ما، بدلًا من سنة الحياة، مردُّه إلى
أن
معظم الذين يترجم لهم، تُعَد سنة الوفاة بالنسبة لهم أثبت من سنة المولد، وأن تفصيلات
حياتهم كبارًا — وقد أصبحوا مرموقين — تفيض بالأحداث والتفصيلات، بينما تغيب تفصيلات
النشأة إلى حدٍّ كبير، وربما تختلط في الروايات المختلفة، ويغلب عليها التناقض، وقد تعاني
الكثير من الأكاذيب والترهات!
•••
سئل محمد عبده: أكنت تلج هذه اللجاجة في عنادك مع العرابيين لو كان السيد جمال الدين
في مصر؟ قال الإمام: لو كان السيد جمال الدين هنا لما قامت الحركة العرابية، ولا احتاج
أحد إليها، لأن السيد كان يغني بشخصه عن كل ذلك!
٩٣ ويقول برنار ميشيل: أينما ذهب جمال الدين كان يترك وراءه ثورة تغلي
مراجلها، ولسنا نعدو الحق، أو نكون مبالغين، إذا قررنا أن جميع الحركات الوطنية الحرة،
وحركات الانقضاض على المشاريع الأوروبية التي نشاهدها في الشرق، ترد أصولها مباشرة إلى
دعوته.
٩٤ ويشير بلنت إلى إن سعي العثمانيين في تحويل حكومتهم إلى دستورية في بادئ
الأمر، قد يُنسَب إلى شيء من آثار جمال الدين؛ فقد أقام في عاصمتهم يحاورهم ويخطب فيهم،
وقد ثبت أنه اجتمع ببعض رجال «تركيا الفتاة»، وهم الذين قاموا بالانقلاب التركي، وعرف
منهم خطتهم، فشجعهم، ودعا لهم بالتأييد. ويقول لوثروب: ولما كان مقيمًا بالآستانة، مهَّد
بتهيجه المتواصل للحركة الصغيرة المؤقتة التي قامت سنة ١٩٠٨م.
ومن الروايات التي قيلت عنه إن بعض حاشية السلطان عبد الحميد عابوا عليه أنه يلعب
بحبات مسبحته بين أصابعه: كيف تلعب بحبات المسبحة في حضرة السلطان؟ فقال جمال الدين،
دون أن يلقي بالًا إلى السلطان الذي كان يجلس في حضرته: هل يكون من العجيب أن ألعب
بحبات مسبحتي أمام السلطان، ولا يكون من العجيب أن يلعب السلطان بأفراد رعيته؟! ومما
يُروى عن جمال الدين، أن الإنجليز عرضوا عليه — فترة الثورة المهدية — مُلك السودان،
باعتباره شخصية دينية قوية يمكن أن تقف ضد شخصية المهدي، فقال الأفغاني: يا عجبًا، وهل
أنتم تملكون السودان حتى تولوني عليه ملكًا أو حاكمًا. دعوا السودان لأهله، ودعوا مصر
لأهلها، وإني أعاهد المهدي على هذا في ثورته وجهاده ضدكم.
٩٥ والحق أننا لا ندري إلى مَن توجه جمال الدين بهذه الكلمات، فالرواية منسوبة
إليه، وليس ثمة مَن أشار إليها من الساسة أو المؤرخين الإنجليز من أتيح لهم أن يقتربوا
من الأحداث آنذاك. فضلًا عن سؤال آخر محير: لقد كان الأفغاني — عند قيام الثورة المهدية
— في العاصمة البريطانية، يقطن غرفة في سطح أحد البيوت، فلماذا اختار لندن لإقامته؟
وكيف وافقت الحكومة البريطانية على أن تستضيف في عاصمتها ذلك الذي نذر حياته للنضال ضد
الاستعمار البريطاني أينما وُجد؟ مجرد أسئلة لا تعني ما يرفضه تاريخ الرجل، وعلاقته
بالإنجليز التي كانت سيئة بالفعل … لكن الحكاية رواها الأفغاني، وردَّدها تلاميذه عنه
دون
مشاهدة، وتعرُّف عن قرب!
•••
إذا كانت الروايات التاريخية قد عنيت بإسهامات الأفغاني في الحياة السياسية خلال ما
يقرب من نصف قرن، فإنها قد أهملت — إلى حدٍّ كبير — بعض الجوانب النفسية في تلك الشخصية
المتميزة، والتي يمكن — بدراستها — إلقاء المزيد من الضوء، وتفسير ما قد يغمض من شخصية
البطل. وبالقطع، فإن دراسة الجوانب الشخصية للأفغاني مجاله دراسات موسَّعة أكثر إحاطة
وتخصصًا، لكن من المفيد — في تصوري — أن نشير إلى بعض تلك الجوانب كملامح مبتسرة. ربما
تساعد الدراسات المتأنية على الإضافة إليها، أو الحذف منها، أو شجبها.
وصف الإمام أستاذه بأنه كان حاد المزاج «وطالما هدمت الحدة ما بنته الفطنة.»
٩٦ ولم يكن جمال الدين يخفي ثوريته التي تصل إلى حد الرغبة في القتل؛ وقد دخل
في شبابه — في العشرين من عمره على وجه التحديد — في خصومة مع المبشِّر ميرزا باقر الذي
كان لا يفتأ يهاجم الأفغاني ويستهين به ويعارضه في كل ما يقول، ورغم تحذير جمال الدين
لميرزا باقر من أن يأتي إلى داره، فإن الرجل لم يكترث للتحذير، وواصل المجيء والاستهانة
والمعارضة. وبقية القصة يرويها عبد القادر المغربي: «فهيَّأ السيد زمرة من شجعان الأفغان،
وجهَّزهم بالهراوى الضخمة، حتى إذا صدر منه ما ضاق صدر السيد عنه، قام إليه ولطمه على
وجهه بملء يده، ثم أشار إلى رجاله فهبُّوا إليه وبطحوه، وانهالوا عليه بالهراوى ضربًا
وجيعًا حتى سال الدم من فمه ومنخريه، واستغاث بجدَّي السيد، النبي والحسين،
فتركه السيد، وذهب حبوًا إلى الإنجليز، فلامه هؤلاء وقالوا له: أنت المخطئ في مجادلتك
قومًا خرجت من دينهم.»
٩٧ وروى جمال الدين لأصدقائه أن حكومة شاه إيران أرسلت له كتابًا بواسطة
سفيرها في لندن، تستعطفه، وتقسم عليه بجدِّه المصطفى، أن يقلع عن مقاومة الشاه، ويكفَّ
عن
الطعن عليه، والوقيعة فيه. ووعدته الحكومة الإيرانية — لقاء سكوته — بما يتمنى من مالٍ
وهدايا، فقال الأفغاني: لا أتمنى إلا أن تُزهَق روح الشاه، ويُشَق بطنه، ويوضع في القبور!
٩٨ وكان مقتل شاه إيران ناصر الدين بيد رجل من أتباع جمال الدين المتأثرين
بآرائه ونزعاته، قال وهو يطعنه: خذها من يد جمال الدين. ورُوي عن جمال الدين أنه لما
بلغه ما حدث أبدى إعجابه بالقاتل، مما دفع السلطان عبد الحميد إلى الخشية على حياته،
فضيَّق على الأفغاني في مقابلاته، ومنع زيارته إلا بإذن، فلما طلب الأفغاني الإذن له
بمغادرة الآستانة، ماطله السلطان حتى حلَّت المشكلة نفسها بمرضه بالسرطان في فمه، ثم
وفاته.
٩٩ يقول عبد الله النديم (العودة إلى المنفى) عن الأفغاني: «إن حديثه الساحر
سيفقد كلَّ سحره إذا حاولت أن أكتبه لك، يجب أن تسمعه منه لتحس أي نوع من الناس ذلك
الرجل. إن خبرته العظيمة هي خبرة رجل طاف ببلادٍ كثيرة، وجادل حكامًا وعلماء ومفكرين،
وحكمته هي حكمة رجلٍ عاش مع كل حكماء العالم في كتبهم، وشارك في معارك الحرب والسياسة.
إنه يريد تجديدًا للإسلام يكون أساسًا لنهضة الشرق، كما كان تجديد المسيحية على يد
البروتستانت أساسًا لنهضة الغرب.»
١٠٠ لكن النديم ما يلبث أن يقول — في مذكراته — كلامًا مغايرًا: «كان قد سبقني
إلى تشجيع الخائفين الشيخ محمد جمال الدين، فإنه ألَّف حزبًا من الشبان، وجمع إليه بعضًا
من الأعيان دبَّت فيهم روح الغيرة الوطنية، وملأ آذانهم بالمفاخر الشرقية، فنبغ بحثه
أذكياء ونبلاء، وأنفع بعلومه أساتذة فضلاء، غير أنه كان يستعمل وجهة خصوصية، ويؤمل رفعة
ذاتية، ومزج بالاعتقاد ما وجه إليه الانتقاد، ثم عدل بهم عن أنديته الأدبية إلى المحافل
الماسونية، فحق عليه البعض، ولكنه لزم الغض.»
١٠١ لقد أخذ النديم على الأفغاني أنه يعيش في القمة، ويتعامل مع الصورة العامة
للناس والمشكلات، ويتقاضى راتبًا شهريًّا من الخديو، ومن ثَم فهو لا يمكن أن يرى الأشياء
الصغيرة.
١٠٢ ويروي رشيد رضا أن جمال الدين كان يشرب الكونياك كل ليلة في مقهى متاتيا،
والتمس له العذر بأنه كان يستعين بالكونياك على المرض.
•••
أجمعت كلُّ الروايات على أن مصطفى رياض هو الذي دعا الأفغاني إلى الإقامة في القاهرة،
وإن اختلفت تلك الروايات في ظروف توجيه الدعوة. ثمة رواية أن الرجلين التقيا في القاهرة
للمرة الأولى، بينما يشير أحمد شفيق إلى أن الأفغاني التقى برياض في الآستانة، وتعرَّف
إليه، فدعاه للقدوم إلى مصر، وقررت له الحكومة راتبًا، على أن يلقي بضعة دروس في
الأزهر، لكن «حدث بينه وبين الشيوخ سوء تفاهم — الرواية لأحمد شفيق باشا — أدى إلى
انقطاعه في مسكنه، مع بقاء راتبه له. وقد اتصل به كثير من الباشوات مثل رياض باشا وأحمد
خيري باشا ومصطفى باشا وهبي، ومن المفكرين يومئذٍ، كالشيخ محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم
الهلباوي وإبراهيم اللقاني وسليم النقاش وأديب إسحاق وغيرهم، فجعل يبثُّ فيهم مبادئ
الوطنية بجرأة وصراحة.»
١٠٣ أما الإمام، فقد أكد أن الأفغاني جعل من بيته مدرسته، منذ قدم إلى القاهرة
حتى غادرها منفيًّا.
١٠٤ وفي رواية الرافعي أن «رياضًا» دعا الأفغاني إلى البقاء في مصر، بعد قدوم
الأفغاني إليها للسياحة، والتعرُّف على أحوالها، ورغب في الإقامة مع إجراء راتبٍ شهري
له
قدره ألف قرشٍ كل شهر. وثمة روايات أخرى، تزيد قليلًا، أو تنقص قليلًا، على ما ترويه
هاتين الروايتَين، لكن كل الروايات اتفقت على أن الأفغاني أقام في مصر بدعوة من رياض.
ويطرح السؤال نفسه: لماذا؟
لقد قدِم الأفغاني إلى مصر في المرة الأولى من الهند، أقام في القاهرة أربعين يومًا،
واتخذ له مسكنًا بحي القلعة، وعمل بتدريس الفلسفة.
١٠٥ وقدِم الأفغاني إلى مصر — للمرة الثانية — بقصد السياحة، لم تخطر في باله
فكرة الإقامة بها، لولا أنه التقى بمصطفى رياض الذي أغراه بالبقاء، وخصَّص له راتبًا
شهريًّا. ونحاول — في ضوء شبه الإجماع في هذه الرواية — مناقشة بواعث استضافة رياض
للأفغاني، وحرصه على ذلك، إلى حد تدبير معاش شهري له.
المُلاحَظ أن بريطانيا هي التي أشارت على توفيق باختيار رياض، سعيًا لتنفيذ مطالبها،
والوقوف أمام مطالب الوطنيين — صدر في عهده قانون التصفية لمصلحة الأجانب — وقد أثبت
في وزارة نوبار — كما يقول روزنشتين — أنه آلة صماء في أيدي الأوروبيين.
١٠٦ وكانت سياسة رياض عاملًا مباشرًا في قيام الثورة العرابية، والمقارنة بين
ما كان يؤمن به رياض وينفذه بالفعل، وما كان الأفغاني يدعو إليه، تبيِّن عن تناقضٍ حاد؛
فلم تكن الليبرالية أو الديمقراطية من مفردات قاموس رياض، فضلًا عن الثورة! وقد وصفه
حيدر باشا يكن بأنه «ذلك المستبد الذي يقف ضد كل المطالب المشروعة للبلاد.»
١٠٧ وكان أخطر ما سعى إليه تصفية الحركة العسكرية بتعيين عثمان رفقي وزيرًا
للحربية، وتشويه صورة الحركة بأن تبدو كحركة عنصرية، وصراع بين ضباط فلاحين من تحت
السلاح، وضباط شراكسة وأتراك من الطبقات العليا.
يقين الجماهير المصرية أن «رياض هو صنيعة الإنجليز»،
١٠٨ وكان يتصرف ارتكازًا إلى النفوذ الأجنبي، إلى حد أنه كان يُبدِي في أقواله ما
يسيء إلى الخديو، مقابلًا للتهديد بالأجانب ووكلائهم.
١٠٩ وكان رأيه في المصريين أنهم «همج، وأنه لا يوجد فيهم عشرة يفهمون ما يقال
في الجرانيل.»
١١٠ وقد وصفه بلنت بأنه «من رجال الجيل القديم الذي خُلِق لزمان غير زمانه،
مملوءًا بالصلف والغرور، مستبدًّا غليظ القلب، لا يطيق احتماله أصدقاؤه وأعداؤه على
السواء.» حتى ملنر وصف مظاهر عطف رياض على الشعب العادي بأنها «من قبيل عطف الإقطاعي
الطيب على عبيده.»
١١١
كان رياض يستكثر الدستور على المصريين، ويذهب إلى الاكتفاء بمبدأ مسئولية الوزارة
عن
عملها، والاستغناء عن مجلس شورى القوانين، ويُبدي — دومًا — استخفافه بميول الشعب، ويقمع
أية معارضة بالشدة. وينحاز — في الوقت نفسه — للنفوذ الأوروبي. وعلى حد تعبير الإمام،
فإنه لم يكن يخالج فكره ريبة في سكون المصريين إلى الطاعة في كلِّ ما يُؤمَرون به، حملًا
لهم على سوابقهم وسالف عهدهم، فكان في غاية الطمأنينة من ناحيتهم، ولم يرَ أنه يجب أن
ينظر فيما عساه أن يثيرهم من جهة المقابلة في تنفيذ السلطة، ومن ناحية الساخطين عليه
من
الوطنيين والأجانب.»
١١٢
وقد أفزعت حادثة قصر النيل التي فرض فيها العرابيون محمود سامي البارودي ناظرًا
للجهادية، أفزعت تلك الحادثة رياض باشا، ليس لما حملته من نذيرٍ بتردي الوضع وخطورته،
لكن — كما يقول الإمام محمد عبده — للجرأة التي دفعت هؤلاء الضباط إلى تمزيق حجاب
الهيئة المضروب بينهم وبين الحكومة، مع أنهم ليسوا إلا مصريين قد عرفوا الاستكانة
للسلطة (كذا) وتنزيه الحاكم عن أن تتطاول إليه الأوهام بالمقاومة. فضلًا عن الألسن
والأيدي، فانحصرت كلُّ الأسباب عنده في البارون درنج قنصل فرنسا العام، وأن صفته هذه،
وجهره بمساعدتهم هو الذي نفخ فيهم هذه الروح، ولولاه لم ينبض فيهم عرق، ولم ينطق لهم
لسان.»
١١٣ ويقول النديم: «وكان رياض باشا يذهب إلى العزيز، ويحسن له الالتجاء إلى الإنجليز.»
١١٤ وبعد أن استقال رياض — بعد حادثة عابدين الشهيرة — فإنه فضَّل الهجرة إلى
أوروبا، ظل في منفاه الاختياري، لم يعُد من هناك إلا بعد أن تدخلت قوات الاحتلال
البريطاني، ومالت كفة القتال إلى صالحها، واستُدعي ليتولى نظارة الداخلية في وزارة شريف
التي قدمت لمناوأة الحركة العرابية علانية.
١١٥ وكان خطباء المساجد يلعنون مصطفى رياض من فوق المنابر باعتباره صديق الأوروبيين.
١١٦ وفي منشور العرابيين عن وزارة رياض أنها «قد ركبت متن الشطط، وعدلت عن
الصراط المستقيم، ولم يكن مقصدها مؤديًا إلا إلى اضمحلال البلاد وتلاشيها، وذلك بما هو
جارٍ من التسليم للأجانب، وإن سكوتنا عن ذلك إنما هو العجز والجبن والتفريط في وطننا
ومقر نشأتنا، ولا بد من المطالبة بسقوط وزارة رياض، وتشكيل مجلس النواب ليحصل الوطن على
الحرية المبتغاة.» وقد أعلن رياض — بعد هزيمة العرابيين — أنه يؤثِر الاستقالة على
السماح لمحاميي عرابي الإنجليزيين بالدفاع عنه وأصحابه. ولما وافق الخديو — وكل الوزراء
— على نفي عرابي إلى خارج مصر، فإن مصطفى رياض ظل على إصراره بأن يكون الإعدام هو
المصير الوحيد لعرابي، ولم يخفِ تطلُّعه إلى اليوم الذي يراه فيه جسدًا متدليًا في حبل
المشنقة، أو ممزقًا برصاص الجنود! وكان الدافع الأساس — أو الوحيد — لتقديم رياض
استقالته من نظارة الداخلية هو إصراره على «وجوب معاقبة العصاة معاقبة شديدة بلا شفقة
ولا رحمة.»
١١٧ وإن لم يذكر رياض سبب الاستقالة الحقيقي في كتابه إلى الخديو، فعيِّن إسماعيل
أيوب وزيرًا للداخلية بدلًا منه.
١١٨ ثم عُيِّن رياض بعد ذلك رئيسًا للوزراء (١٩ يناير ١٨٩٣م)، وصرح — فور تسلُّم
منصبه — أنه يقبل أخذ رأي حكومة جلالة ملكة بريطانيا في جميع المسائل المصرية الهامة.
١١٩ وأصدر مجموعة من القوانين والإجراءات، ومنها: فرض الرقابة على الصحف، منع
وصول الصحف الوطنية الصادرة في الخارج إلى مصر، تعبئة جيش من العيون والأرصاد لملاحقة
الصحفيين والمعارضين، إعداد قانون جديد للمطبوعات، حجب أية فرصة لدعوة مجلس شورى النواب
للانعقاد، أو لقيام حركة شورية أو دستورية، إعادة الهيمنة الأوروبية على المالية
المصرية، بعد أن استطاعت الحركة الوطنية المصرية تحريرها، وإلزام كل الوزراء وسائر
المواطنين بتقديم ما يطلبه الرقيبان الأجنبيَّان من بيانات، كما يقدِّم لهما ناظر المالية
كشفًا أسبوعيًّا بإيرادات الخزانة العامة ومصروفاتها، على أن يحدِّد الرقيبان سلطتهما،
ولا
يطردهما الخديو إلا بموافقة حكومتَيهما، وبيع حصة مصر في أرباح قناة السويس (١٥٪ من
مجموع الأرباح)، إلغاء قانون المقابلة بحيث تصادر الحكومة ١٧ مليون جنيه، دفعها
الفلاحون لإعفائهم من نصف المستحقات، وتعود الضرائب كما كانت.
١٢٠
وفي تقرير للخارجية البريطانية أنه بتولي رياض رئاسة مجلس النظار عاد العنصر الأوروبي
إلى الهيمنة على مقدرات البلاد مرة أخرى، وعاد إلى العمل كثيرٌ من الأوروبيين الذين
أقيلوا، أو استقالوا، وزادت المشاعر المعادية للأوروبيين، واستسلم لها رياض في استحسان
مؤكد.
١٢١
وحين عرضت الحكومة المصرية اجتماعًا لمناقشة بيع أسهم قناة السويس، لم يخفِ مصطفى
رياض
خطر هذه الصفقة من الوجهة السياسية «لأن الحكومة إذا باعت حصتها في الربح، فلا يبقى لها
أي حق مادي في قناة السويس، مع أن القناة قائمة في أرض مصر.» وبرغم هذه الملاحظة، فإنه
دعا إلى ضرورة إبرام الصفقة، لأنه لا سبيل — في رأيه — غير ذلك.
١٢٢ وقد انتهت الجلسة بإقرار البيع بالفعل، لقاء ٢٢ مليونَ فرنك، وكان ذلك البيع
من أقسى الضربات التي وُجِّهَت إلى الاقتصاد المصري، وإلى السياسة المصرية.
ويشير المقتطف إلى أن مصطفى رياض كان يثق باللورد كرومر «ثقة لا يخامرها ريب»،
١٢٣ وعندما طُلب من كرومر أن يفض خلافًا بين الحكومة المصرية والشركة الأجنبية
التي تولَّت إنشاء ميناء الإسكندرية، وأنه «لا بد من أن يوقِّع رياض باشا شروط الحل التي
وضعها لورد كرومر، أخذ كرومر الشروط ومضى بها إليه، وهو لا يصدق أنه يستطيع أن يوقِّعها
في ذلك اليوم؛ إذ لا بد من النظر فيها. أما رياض باشا، فقال له: هل أنت موافق على هذه
الشروط ومقتنع بعدالتها؟ فقال: نعم. فأخذها منه، ووقَّعها من غير أن يقرأها لشدة ثقته
به.»
١٢٤ وكان رياض دائم الثناء على كرومر، ونسب إليه — وحده — الفضل فيما أصاب مصر
من التقدم!
١٢٥
وفي ٢٣ مايو ١٩٠٤م خطب رياض — وكان رئيسًا للوزراء — في حفل افتتاح مدرسة محمد علي
الصناعية — فتجاهل الخديو الذي ترأس الحفل، وقال: «جناب المحتشم اللورد كرومر اعتذر
اليوم عن الحضور في هذا الحفل لتغيُّبه عن مصر. كلٌّ يعلم ما له من المقام الرفيع والنفوذ
الشامل في هذه البلاد، وبالأخص ما له من اليد الطولى في كل ما له مساس بالمصالح
والمنافع العمومية، فهذه اليد الفعالة قد شملتنا، وهي التي كانت لنا معوانًا، بل متممًا
ومكملًا لهذا المشروع، فحق علينا أن نعرف هذه المبرَّة، ونقدم له واجب الشكر، ونثني عليه
أطيب الثناء.»
١٢٦ ومن ناحيته، فقد كتب كرومر أنه لم يكف قطُّ عن النظر إلى رياض «بعين المحبة
التي تستحقها صفاته العبقرية.»
١٢٧
ولعل ركوب رياض الموجة برئاسة المؤتمر الإسلامي الأول في ١٩١١م، كان عاملًا رئيسًا
في
إهمال التاريخ المصري لماضيه المتعاون مع الاستعمار، والذي دفعه — وهو يشهد غروب حياته
السياسية — إلى امتداح اللورد كرومر في حضرة الخديو عباس الثاني.
الغريب أن عبد اللطيف حمزة يساوي بين عرابي وسِواه من محترفي الحكم، فهو يقول «وفي
أثناء ذلك كله، يظهر عرابي وشريف ورياض وغيرهم من رجال الحكم والجيش ممن برزوا من بين
صفوف الشعب، ونجحوا في الوصول إلى درجة أعلى في سُلَّم الوعي القومي.»
١٢٨ والحق أنه إذا كان ذلك الرأي يصح بالنسبة لعرابي، فإنه أبعد ما يكون
انطباقًا على شريف ورياض؛ فشريف ينتسب إلى الأرستقراطية التركية، ولم يكن يُخفي توجهاته
التي كانت تختلف عن توجهات المثقفين المصريين، والتوجهات المصرية بعامة. أما رياض فهو
يهودي من أزمير في رواية، ومن سالونيك في رواية أخرى، وكانت له تصرفاته الخاطئة
والمشبوهة التي يجدر بنا أن نشير إليها.
•••
مصطفى رياض — السياسي الذي دعا جمال الدين الأفغاني — في لقائهما بالآستانة — إلى
الإقامة في مصر المحروسة — في رواية إلياس الأيوبي — من مدينة أزمير التركية، وكما يقول
الأيوبي، فإن مصطفى رياض من أسرة معروفة يقال لها الوزان.
١٢٩ قدِم والده إلى الإسكندرية؛ حيث أعلن إسلامه في ظروفٍ غير معلَنة، والتحق
بوظيفة مالية. وُلِد مصطفى رياض في ١٢٥٠ هجرية، وعاش طفولته في مؤسسة «المعزوزة» التي
قد
يغضب الذين تخرَّجوا فيها — على حد تعبير عبد العليم القباني — إذا ذكَّرهم أحدٌ بانتسابهم
إليها فيما بعد.
١٣٠ دخل في خدمة الحكومة المصرية بوظيفة نسَّاخ في وزارة المالية في ١١ صفر ١٢٦٤ﻫ،
بماهية قدرها ١٤٥ قرشًا، ثم عمل بالفرق الموسيقية، وفي سن السادسة عشرة مُنِح رتبة
الملازم، ثم رُقِّي — بعد شهرين — إلى رتبة البكباشي، ثم التحق بخدمة الوالي عباس الأول،
وحصل على رتبة القائمقام، ليصبح — فيما بعد — مهردار عباس الأول، ثم مديرًا للجيزة،
فضلًا عن بعض المناصب القيادية الأخرى. ثم أهَّلته مواهبه للترقي، حتى أسند إليه عباس
الأول مديرية الجيزة وأطفيح وهو في العشرين من العمر «وقد حمل هذا بعض أعدائه على نسبة
تقدُّمه السريع وحظوته في عينَي عباس، إلى تدنيه لأمورٍ يلحق العار بمرتكبيها!»
١٣١ وثمة رواية أخرى لحسين مؤنس أن عبد الرحمن الرافعي قد انخدع بأن أسرة مصطفى
رياض كانت تحمل لقب الوزان، وأن هناك ما يشير إلى أن أسرته أتت من المغرب، وهذا في ذاته
يؤيد أصله الإسرائيلي، فقد كان شيكوريل وشملا وبنزايون، وهم من أقطاب الجالية اليهودية
في مصر، في عهد الاحتلال، كانوا جميعًا من يهود المغرب، وهاجروا إلى مصر بجوازات سفرٍ
بريطانية من مالطة.
١٣٢ لكن جل الروايات تؤكد نسبة مصطفى رياض إلى أزمير، وأقلها ينسبه إلى
سالونيك. نحن لا ندري — ولا أحد ممن أرَّخوا لحياته يدري! — اسمه العبري، ولا إن كان
من
يهود الدونمة على وجه التحديد، التزامًا بما كان يحرص عليه كل أفراد الدونمة، وإن كان
الرجل قد وجد في قلم الشيخ محمد عبده مدافعًا عن أصله الإسلامي، وعلى الرغم من دهاء
الرجل، بدءًا بحذف الاسم العبري تمامًا، واستبدال اسم مسلم به، وانتهاءً بإصدار القوانين
التي تقرُّ البدل النقدي في التجنيد، وتكفل إلغاء السخرة — فيما عدا المصالح العامة!
—
واستعمال الكرباج، فإن النظرة البانورامية إلى مجموع مواقف الرجل وأعماله في الحياة
المصرية، تضع الرجل في إطارٍ جديد.
•••
البديهي أن يسعى رياض إلى التخلص من الأفغاني إذا رغب في الإقامة، لكنه هو الذي وجَّه
الدعوة للأفغاني بالبقاء. واعتذر الرجل بأنه قدِم للسياحة فحسب، فأسرف رياض في استمالته،
حتى وافق الأفغاني، لتبدأ مرحلة مهمة في حياته، وفي حياة مجموعة ممتازة من المثقفين
المصريين. وكما قلت، فإن الرواية صحيحة لأنها ذُكِرت في حياة الأفغاني ورياض فلم ينكرها
أحدهما، بالإضافة إلى أنها كانت الرواية التي أجمعت عليها — فيما بعد — كل الأقلام
المؤرخة.
فلماذا وجَّه رياض دعوته؟
يقول الرافعي إن هذا العمل قد يبدو غريبًا لأن للأفغاني ماضيًا سياسيًّا، ومجموعة
من
المبادئ والأخلاقيات التي لا يرغب فيها الحكام المستبدون «ولم يكن السيد من أهل اللف
والدهان، فينال عطفهم ورعايتهم، ويجرون عليه الأرزاق بلا مقابل، لكن الأمر يعسر فهمه
إذا عرفنا أن في إسماعيل جانبًا ممدوحًا من صفاته الحسنة، وهو حبه للعلم، ورغبته في
نشره ورعايته. وكانت شخصية جمال الدين العلمية وشهرته في الفلسفة أقوى ظهورًا — وخاصة
في ذلك الحين — من شخصيته السياسية، فلا غرو أن يكرم فيه إسماعيل العالِم المحقِّق الذي
يفيض على مصر من بحر علمه وفضله.»
١٣٣ هذا الرأي — في تقديري — يحتمل المناقشة، وإن كانت حقيقة أن رياضًا — وليس
إسماعيل — هو الذي وجَّه الدعوة إلى الأفغاني تضعف من قيمته، وكان رياض محسوبًا على
النفوذ الأوروبي بأكثر من أن يكون محسوبًا على الخديو، وثمة رواية أنه أبدى دهشته لرفض
أعضاء مجلس شورى القوانين فض مجلسهم قبل انقضاء مدة المجلس القانونية. وتساءل: «يعني
حضراتكم تقلدون نواب فرنسا الذين ثاروا على حكومتهم؟ يعني حضراتكم الآن بعمائمكم وجببكم
مثل نواب أوروبا وأمريكا؟»
١٣٤ أما قول صلاح عبد الصبور إن السلطة حاولت استمالة الأفغاني إليها، فخصَّص
رياض عشرة جنيهات كمرتبٍ شهري لشراء لسانه الحاد على الظلم والظالمين.
١٣٥ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة في مقابل الحقيقة البديهية، وهي أن رياض
باشا هو الذي دعا الأفغاني إلى الإقامة في مصر، وليس ثمة ما يدعو حاكمًا أن يستضيف في
بلاده أجنبيًّا يخشاه إلى حد محاولة شراء سكوته بالمال!
ويظل السؤال مطروحًا: لماذا دعا رياض الأفغاني للإقامة في مصر؟
عبد العليم القباني يهبنا تفسيرًا لبواعث عرض رياض، وموافقة إسماعيل، على الأفغاني
للإقامة في القاهرة، وهو أن إسماعيل كان منافسًا لحكومة الآستانة، وكان يحاول الانفصال
بمصر عن تركيا، ويحاول أن تبدو مصر متفوقة — مدنيًّا — على دولة الخلافة، ومن ثَم اغتنم
فرصة نزول الأفغاني في القاهرة، مُبعَدًا عن الآستانة، ليعلن أنه حامي العلم في شخص ذلك
المطرود، لتبدو القاهرة ملاذًا للعلماء والمفكرين الذين تضيق بهم دار الخلافة. وكانت
دعوة رياض للأفغاني في وقتٍ تبدَّى فيه عقم بذوره عن الإنبات في البلاد التي عاش فيها،
أو
زارها، من قبل: تركيا وفارس وأفغانستان والهند والحجاز. ولعله ينبغي الإشارة إلى أن
الأفغاني كان يختلف في نظرته إلى رياض مع الوطنيين، ويتفق — إلى حد المطابقة — مع
اللورد كرومر؛ فاللورد يودُّ لو يكثر في مصر من أمثال رياض، والأفغاني يعبِّر عن أمله
في أن
يوجد من طرازه كثير في مصر، لأنه «رجل ذو حياة وطنية هي أشرف أنواع الحياة.» ويقول
عرابي إن الأفغاني كان «مؤيدًا لوزارة رياض باشا الإصلاحية، ويرى أنها صورة حسنة
للمستبِد العادل الذي يُرجى أن ينهض بالأمة في مدى خمس عشرة سنة، كما بيَّن ذلك في مقالة
اجتماعية عامة، وجيزة. وكان يفضِّلها على إنشاء حكومة نيابية قبل استبداد الأمة لها.»
١٣٦ وكان رياض قد أصدر أوامره بالكفِّ عن استعمال الكرباج، لكنه لم يعن بأن تصبح
أوامره موضع التنفيذ، فقد ظل الكرباج والسخرة والنفي إلى السودان والتعذيب، أمورًا
قائمة في الحياة المصرية، وفي الريف بخاصة. والملاحظ أن الأفغاني لم يعبِّر عن رأيه في
رياض إلا بعد أن اتضحت صورة رياض الكلية، وتبيَّن موقفه المعادي للنوازع الوطنية، وللثورة
العرابية على وجه التحديد. نشر ذلك في مجلة «العروة الوثقى» التي أصدرها بباريس عام
١٨٨٤م، أي بعد مرور ست سنواتٍ على إجهاض الثورة العرابية.
•••
نعمان عاشور يقول إن الأفغاني كان حريصًا ألَّا ينظر إليه الناس من الزاوية الدينية
وحدها، لذلك فقد ابتعد بنفسه عن المحافل الدينية في القاهرة، ومنها الأزهر الذي لم
يدخله إلا زائرًا ومصليًا، ولم يحاول أن يلقي فيه درسًا واحدًا.
١٣٧ رواية أخرى يذهب إليها أبو المعاطي أبو النجا في «العودة إلى المنفى» وهي أن
الأفغاني كان يتردد على الأزهر، ثم ضربه الشيخ عليش — شيخ المالكية — بالمركوب في صحن
الأزهر، فانقطع بعدها عن الذهاب إلى الأزهر.
١٣٨ وغالبية الروايات تؤكد أن الأفغاني اتخذ بيتًا له في حارة اليهود، لكن عبد
المنعم شميس يذهب إلى أن إقامة الأفغاني كانت في بيتٍ بخان الخليلي، بالقرب من حارة
اليهود، ولم يكن بوسعه الإقامة في حارة اليهود لسببَين: أولهما أنها مخصصة لطائفة دينية
لا تسمح لغيرها بالإقامة بينها، وثانيهما أنه لم يكن من المعقول أن يقيم مثله — وهو رجل
معمم وله وقار — في ذلك المكان، فضلًا عن قذارة الحي! وعدم إمكان تجمُّع طلاب المعرفة
حول أستاذهم داخل حاراته، ومعظمهم من طلاب الأزهر أصحاب العمائم.
١٣٩ أما القول بأن الأفغاني لم يكن يستطيع الإقامة في حارة اليهود، حسب رواية
شميس؛ لأن سكان الحارة يجب أن يكونوا يهودًا، فهو ما يعوزه الدليل، لأن جمال عبد الناصر
— على سبيل المثال — قضى فترة من حياته في حارة خميس العدس المتفرعة من حارة اليهود،
ولا يزال البيت الذي يسكنه قائمًا. بل إن أصحاب البيت كانوا — فيما يبدو — من اليهود
المتعصبين، فوسموا باب البيت بنجمة داود السداسية، ولا يزال الباب في موضعه. وأما
التبرير بعدم إمكانية التلاميذ أن يترددوا على أستاذهم في حارة اليهود، فالأرجح أن
تلاميذ الأفغاني كانوا يتحلَّقون مجلسه في قهوة متاتيا وليس في بيته، وقد خلت كل الروايات
التي عرضت لمجالس الأفغاني من إشارة على دروسه في بيته!
والواقع أن امتناع الأفغاني عن إلقاء دروسه في الأزهر لم يكن من اختياره، فهو — في
بعض الروايات — قد حاول بالفعل، لكنه اصطدم بآراء معارضة كانت تؤمن بالسلفية، وبالذات
الشيخ محمد عليش إمام المالكية الذي طارده — كما أسلفنا — بالمركوب، وراح يتربص له
بعكازه. أما رشيد رضا فهو يؤكد أن بيته كان مدرسته، فلم يذهب إلى الأزهر مدرسًا، وإنما
كان يذهب إليه زائرًا «وأكثر ما كان يزوره في يوم الجمعة.»
١٤٠ ثم اختار الأفغاني لمجلسه داره بحارة اليهود، أو في قهوة متاتيا، أو في
المحفل الماسوني قبل أن ينفصل عنه.
١٤١
ظل الأفغاني حريصًا على أن يقدِّم شخصيته العلمية وحدها طيلة السنوات الست الأولى
من
إقامته بالقاهرة. ثم بدأت شخصيته السياسية — بعد ذلك — تتضح شيئًا فشيئًا. ويؤكد عبد
العليم القباني أن تحوُّل الأفغاني إلى الجانب السياسي — الذي لم يكن ضمن أنشطته — لم
يكن
وليد اهتمامٍ شخصي بقدر ما كان تطبيقًا لخطة الخديو في مواجهة الدولتَين الأعظم آنذاك:
إنجلترا وفرنسا، والتي تمثَّلت في إحياء المجلس النيابي، وتشجيع إصدار الصحف الوطنية،
وتأليف الجمعيات المناهضة للنفوذ الأجنبي، والاستناد إلى القوى الشعبية — عمومًا — في
مناهضة الأطماع الأوروبية، بل وحاول أن يدعم الجيش، ويضيف إلى قدراته القتالية.
١٤٢
ثمة رواية أن الخديو توفيق قال لجمال الدين — غداة توليه العرش — «إنك أنت موضع أملي
في مصر أيها السيد جمال الدين.» فقال الأفغاني: «إن قبلتم نصح هذا المخلص لكم، لأسرعتم
في إشراك الأمة في حكم البلاد على طريق الشورى، وتأمرون بإجراء انتخاب مجلس نواب يسن
القانون، ويقيم على تنفيذها باسمكم وإرادتكم، ويكون ذلك أثبت لعزيمتكم، وأقوَم لسلطتكم.»
وفي ١٨٧٩م أمر الخديو توفيق بإخراج الأفغاني من مصر هو وتابعه أبو تراب، وقبض على الرجل
ليلة الرابع والعشرين من أغسطس، ومعه أبو تراب، وظلَّا في الضبطية دون أن يتاح له الحصول
على ملابسه، ونُقِل في الصباح — في عربة مقفلة — إلى محطة السكة الحديد، ومنها — تحت
الحراسة المشددة — إلى السويس. واقتيد إلى باخرة أقلته إلى الهند، حيث ألزمته الحكومة
البريطانية الإقامة الجبرية. ويُرجِع الإمام بواعث نفي توفيق للأفغاني إلى تدخُّل قنصل
إنجلترا المستر فيفان، وإيغاره قلب الخديو على الأفغاني، وتعليمه الفلسفي هيَّج عليه
الجامدين من الأزهريين، فجاءه الكيد من هنا وهناك.
١٤٣ كان توفيق — في أثناء ولايته للعهد — مشهورًا بدعواته المعلَنة إلى الإصلاح،
وأنه من أقرب تلاميذ الأفغاني إليه، وأشدهم حماسة، ولأن الفرمانات العثمانية كانت تقضي
بأن ينتقل عرش مصر إلى أكبر أعضاء الأسرة المالكة سنًّا، فقد حاول إسماعيل — بالرشوة
—
أن ينتزع موافقة السلطان وحاشيته، على أن يئول العرش إلى أكبر الأبناء. وسعى توفيق —
فيما بعد — إلى جمال الدين الأفغاني ليذهب إلى رئيس الوزراء شريف باشا، فيقنع أباه
بالتالي بأن يتنازل عن العرش له، قبل أن تُرغِمه الدول على ذلك، ولا يملك إزاءها شيئًا،
واستجاب شريف بالفعل، ولكن إسماعيل رفض. وسعى الأفغاني إلى قنصل فرنسا دي ترو ليحصل
على تأييده في عزل إسماعيل لصالح ابنه توفيق، وأنه لا أحد غيره يمكن أن ينفذ برنامج
الإصلاح. وتنبَّه إسماعيل — متأخرًا — إلى أن ابنه كان ضالعًا مع الأجانب في مؤامرة عزله،
فقال في احتقارٍ: «هذا أمير يحمل روح عبدٍ ذليل.» وكان من أول القرارات التي اتخذها توفيق
— عقب جلوسه على العرش — نفي الأفغاني من مصر، بعد أن أقام فيها عشر سنوات، كما أقال
شريف باشا من منصبه، وأبطل كل الطموحات والمشروعات الدستورية.
والملاحظ أنه كان في مقدمة أسباب طرد الأفغاني أنه «رئيس جمعية سرية من الشبان وذوي
الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا.»
١٤٤
•••
خلَّف جمال الدين الأفغاني «الفكرة» أثرًا واضحًا في كليات وجزئيات الحياة السياسية
والاجتماعية المصرية، خلال السنوات الثماني التي قضاها في مصر المحروسة، وسنوات أخرى
تالية. وأضاف إلى تعاليم الشيخ حسن العطار، وأفكار رفاعة الطهطاوي، وسخط ملايين
المصريين، ما ساعد زهرة الثورة على التفتُّح، كما خلَّف الأفغاني «الأستاذ» عشرات من
قادة
الرأي والفكر. واستطاعت أستاذية الأفغاني العملاقة أن تثير روح النضال في نفوس العدد
الأقل من التلاميذ، لكنها — للأسف — انزوت — أو تلاشت — في قلوب معظم التلاميذ. إن البعض
ينسب إلى الأفغاني فضل نشوء الحركة الوطنية المصرية، وتطورها، واعتبر الكثيرون أحداث
الثورة العرابية بعض ثمار تعاليمه، وأن «حركة الشباب المصريين التي نماها جمال الدين
قد
انتهت إلى الثورة العرابية.»
١٤٥ فهو الذي «أنشأ الحزب الوطني الحر الذي جمع تلاميذه وأنصار دعوته، وهو
الحزب الذي قاد الثورة العرابية، وبعد هزيمتها هيَّأ نفر من بنيه لنشأة الحزب الوطني
الذي
قاده مصطفى كامل، ونفر آخر منهم انضم إلى جمعية العروة الوثقى السرية التي قادها
الأفغاني، وأصدر مجلتها من باريس.»
١٤٦ ويقول فؤاد (رسائل) في رسالة إلى حسين إن مصابيح الشرق أشعلها جمال الدين الأفغاني.
١٤٧ والحق أن الأفغاني كان يدعو الفلاح لأن يشق — بفأسه — صدور ظالميه «أنت
أيها الفلاح المسكين، تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما تسد به الرمق بأود العيال. فلماذا
لا تشق قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟» لكن الأفغاني — في
الوقت نفسه — كان يجد العدل ممكنًا في بعض أفراد العائلة الخديوية، مثل الأمير حليم،
والخديو توفيق الذي قال للأفغاني — والعرش حلم يدور في خاطره: أنت موضع أملي في مصر
أيها السيد، ثم كان في مقدمة القرارات التي أصدرها، نفي الأفغاني من مصر. والملاحظ أن
الأفغاني لم يتعرض بهجومٍ مباشرٍ على شخصية الخديو طيلة العهد الإسماعيلي، فهو قد هاجم
الظلم والاستبداد، ولم يكن الظلم وقفًا على الخديو وحده، فقد كانت هناك الجاليات
الأوروبية والتركية والشركسية. من هنا، يتوضح لنا بواعث سكوت السلطة الحاكمة في مصر عن
كلمات الأفغاني. بل لقد قام الرجل — في أخريات العهد الإسماعيلي — بالتوسط بين أعضاء
جمعية حلوان وبين الخديو، وظل إسماعيل أملًا للأفغاني في مصر، بعد أن نفى الاثنان إلى
الخارج، فهو يكتب في «العروة الوثقى»: «إننا نعلم أن إسماعيل باشا لو رجع إلى مصر لا
يكتفي بتخفيض سلطة الإنجليز في وادي النيل، بل يبذل جهده في محو النفوذ الإنجليزي
بالمرة، وربما مدَّ حباله إلى سائر البلاد الشرقية الداخلة في سلطة الإنجليز ليحبط أعمالهم
فيها، ويهدم أركان سلطتهم عليها، لأنه —
إسماعيل — يعلم أن الدولة الإنجليزية هي السبب في كل مصاب نزل به!» والعجيب أن الرفض
كان هو موقف إسماعيل من الثورة العرابية، فقد أدلى بحديثٍ إلى مراسل «الفيجارو»
الفرنسية، ندَّد فيه بالثورة، ونعت المصريين بالفلاحين الجهلة!
•••
إن رفاعة رافع الطهطاوي هو «رائد الفكر القومي في مصر». الطهطاوي بداية جديدة للفكر
السياسي المصري. عبَّر عن ذلك في كتابَيه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» (نُشِر لأول
مرة
عام ١٨٣٤م) و«مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» (نُشِر لأول مرة عام ١٨٦٩م)،
فضلًا عن مقالاته في «الوقائع المصرية» في أثناء دراسته لها، ودروسه في مدرسة الألسن
وغيرها من المؤسسات الثقافية التي أنشأها، أو أشرف عليها. وهو كذلك — في تقدير زكي نجيب
محمود — «أول بذر لبذور الحرية في تاريخنا الحديث.»
١٤٨ يضيف الكاتب: «قضية الحرية ثارت — أول ما ثارت — من الناحية الفكرية — عند
الطهطاوي، إثر عودته من باريس، وتأثُّره بما رآه هناك من حريات لم يكن عرفها في مصر،
لا
قبل أن يسافر منها إلى باريس، ولا عقب عودته إليها، فكانت وجهة نظره ضرورة قبولنا للغرب
الجديد، والتبشير بضرورة أخذنا بشيء من الحرية كما رأى القوم هناك يحيونها، ومنذ بدأ
الطهطاوي دعوته إلى الحرية، أخذت تلك الدعوة تتردد على أقلام الكُتاب.»
١٤٩ يقول لويس عوض: «لا يزال الاتجاه التقليدي إلى بداية تاريخ مصر الحديث
بحملة بونابرت على مصر عام ١٧٨٩م أنسب اتجاه بين المؤرخين حتى يظهر ما ينقضه، ولا يزال
الاتفاق التقليدي على بداية تاريخ الفكر المصري الحديث برفاعة رافع الطهطاوي — ١٨٠١–١٨٧٣م
— أنسب اتفاق حتى يظهر ما يدعو إلى العدول عنه.»
١٥٠ جاوز رفاعة دهشة الجبرتي أمام التقدم العلمي للفرنسيين، إلى الدهشة —
والإعجاب — بما حققوه في المجالات السياسية والاجتماعية … وهو ما يبين في رحلته التي
خلَّص فيها الإبريز عندما لخَّص باريز! ويقول جمال الدين الشيال: «وهناك صفة هامة من
صفات رفاعة تستحق الالتفات والتسجيل، فقد كان فيها الرائد الأول للمصريين جميعًا، تلك
هي عاطفة الوطنية القومية. كان رفاعة يحب مصر حبًّا قويًّا، ملك عليه نفسه. وكان الدافع
له إلى الإخلاص في عمله، والتفاني في أداء واجبه. وقد تغنَّى بهذا الحب كثيرًا في شعره،
بل نحن لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن معظم شعره قصائد ومقطوعات وأناشيد وطنية لم يسبق
إليها، أو إلى مثلها، أحدٌ من المصريين، وفي كتبه المختلفة كان يعقد الفصول الطوال
للتحدث عن الوطن والوطنية، وتحليل هذا المعنى، وضرب الأمثلة بمن عاشوا وضحُّوا في سبيل
أوطانهم. أثارت هذه العاطفة في نفسه طبيعة الخير، وقوَّاها ثقافته الواسعة في باريس،
ودراسته للعلوم الفلسفية والاجتماعية والسياسية هناك. وأزكاها أيضًا أنه شاهد ثورة
الشعب الفرنسي في سنة ١٨٣٠م، فقد رأى بعينيه كيف يبذل الفرنسيون أرواحهم في سبيل وطنهم
وحريتهم.»
١٥١ ولعلنا نذكر أن الطهطاوي هو صاحب المقولة «حب الوطن من الإيمان.» كان رأيه
أن الوطنية هي قمة الفضائل، وأن حب الوطن ركن من أركان الدين، وأن دليل الوطنية هو
الرغبة في تمدين الوطن، والعمل على تجديد شبابه بالعمران. إن معنى كلمة «وطن» هو البيت،
وهو المعنى الذي كان يستخدمه المصريون قبل رفاعة. ثم استخدم رفاعة كلمة «الوطن» بمعنى
«مصر»، وكلمة «الوطنية» بمعنى «الإخلاص للوطن»، لمصر. لقد كان للعرب حضارة ومدنية وتقدم
وقوة، وكانت المواجهة، الهجوم، الفعل، سبيلهم لمواجهة الأطماع الأوروبية. فلما انتكس
العالم العربي بالتخلف منذ بداية العصور المملوكية في ١٢٠٥ﻫ، تغيَّر أسلوب المواجهة،
واتسمت كل الدعوات الإصلاحية والفكرية التي قادها زعماء دينيون ومفكرون وساسة، بالإلحاح
على وجوب الاتجاه إلى أوروبا، ومحاولة الإفادة من التقدم الذي بلغته. من هنا تتبدَّى
دلالة الكلمات في قول الطهطاوي: «لو لم يكن للمرحوم محمد علي من المحاسن إلا تجديد
المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية، بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المُدد
المديدة والسنين العديدة، لكفاه ذلك؛ فقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد، وآنسها بوصال
أبناء الممالك الأخرى والبلاد، لنشر المنافع العمومية، واكتساب السبق في ميدان التقدمية.»
١٥٢ واللافت أنه «من اللحظة التي ظهر فيها الطهطاوي، وأذاع فيها أفكاره
الجديدة، انقسم الوضع الفكري في مصر إلى تيارَين، الأول هو تيار المدرسة التقليدية
الأزهرية الإسلامية، والثاني هو تيار المدرسة الجديدة القومية الليبرالية، وظل الحال
هكذا حتى عصر إسماعيل ومرحلة الثورة العرابية.»
١٥٣ وبوسعنا أن نتبيَّن الهزة التي أحدثها رفاعة في المجتمع المصري، من هذه
الواقعة التي رواها المستشرق البريطاني إدوارد لين، فقد كان في إحدى مكتبات القاهرة
عندما دخل رجل يسأل عن كتاب رفاعة «تخليص الإبريز»، واعتذر البائع بعدم وجود الكتاب،
فتطوع أحد المعمَّمين — كان يرافق إدوارد لين — فقال للسائل: «أنا أقصُّ عليك قصة هذا
الكتاب
الذي أنصحك بألَّا تقرأه: لقد ذهب الشيخ رفاعة إلى بلاد الإفرنج، فأكل لحم الخنزير،
وخالط النساء، وأتى من الموبقات ما يحجز له مكانًا في النار، ثم عاد إلى مصر.»
١٥٤
وحين مات الطهطاوي «اهتزت مصر لموته — والوصف لأحمد أمين — واحتشد لتشييع جنازته
الألوف المؤلفة من رجال المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس، وازدحمت الشوارع
بالناس يردُّون بعض جميله: يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه
أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسِّس نهضتهم، وكلهم
يتوجع لفقده، ويشِيد بذكره. وسار المشهد من منزله ﺑ «المهمشا» حتى إذا قارب المدينة كان
ينتظره شيخ الأزهر وعلماؤه وطَلَبته، فاشتركوا في تشييع الجنازة، ووضع النعش في القبلة
الجديدة، ولا يكون ذلك إلا لعظيمٍ. وأخذ الأفاضل في رثائه بالقصائد والخُطب، ثم حُمِل
إلى
«بستان العلماء» حيث طُويَت صحيفته، وبقيت آثاره خالدة تعظم وتتزايد وتتوالد.»
١٥٥
وسنعرض لهذه النقطة — تفصيلًا — في فقرات تالية.
•••
يشير الشيخ الأوزبكستاني لطف الله (قمر على سمرقند) إلى دور الإمام محمد عبده في
النهوض بالمجتمع المصري، وإخراجه من حالة اليأس: فتح عشرات المدارس، ومئات الكتاتيب
الصغيرة، حتى يعلِّم الأولاد، وحاول أن يعيد الحياة إلى الأزهر، باعتبار أن الجهل هو
الآفة التي يجب استئصالها، راهن الإمام على المستقبل.
١٥٦ ذلك ما يقوله — بعامة — المستشرق مالكولم كير
Malcolm
Kerr عن دور الإمام في الحياة المصرية: «إننا لا نجد في مصر مَن لا
ينهض على تراث الأستاذ الإمام محمد عبده، بل نجد كثيرًا من العلماء يدَّعون أن التراث
يعود إليهم دون غيرهم، ذلك أن الجهود الإصلاحية التي بذلها الأستاذ تُعتبَر — بصورة عامة
— نقطة البداية لانطلاق الفكر الإسلامي الجديد في مصر، إذا إنه قام بتمهيد الطريق التي
أدت إلى هدم التقليد الأعمى، أو النظرية التي تدعو إلى التمسك بما جاء به السلف، فقد
دعا الأستاذ الإمام دعوة ملحَّة إلى فتح باب الاجتهاد من جديد، وأدى ذلك إلى بثِّ مبدأ
التفكير الحر.» وحتى أوائل القرن، كانت المناقشات تحتدم في أروقة الأزهر حول تقدير
الإمام محمد عبده: هل يُعَد زنديقًا أو فاسقًا، لأنه يطلب تدريس الحساب والجغرافيا في
الأزهر، ويعارض في كرامات الأولياء، وتألَّفت جماعة من علماء الأزهر «لتزييف خطته وإنكار
بدعته.»
١٥٧
كان الأزهر هو الأساس الذي حاول الإمام أن يقيم عليه بناء مجتمعه المثالي. من هنا،
فقد صرف معظم جهوده لتحويل الكتب الصفراء، وأروقة النقاش العقيم، إلى بؤرة إشعاع فكري
وحضاري، يفيد منها المجتمع المصري كله. بل إنه كان يجد في إصلاح الأزهر إصلاحًا للعالم
الإسلامي، لأنه كان ملتقى الآلاف من أبناء العالم الإسلامي الذين يتلقَّون العلم في
أروقته. وصارح الإمام تلميذه رشيد رضا بأنه إذا يئس من إصلاح الأزهر، فسينتقي عشرة من
طلبة العلم، ويجعل لهم مكانًا في بيته بعين شمس «أربيهم فيه تربية صوفية مع إكمال
تعليمهم، وأستعين بك على ذلك.»
١٥٨ ويشير طه حسين إلى ضيق طلبة الأزهر — في الفترة التي أمضاها طالبًا فيه —
بكتب الأزهر، تأثرًا برأي أستاذهم الإمام في كتب الأزهر ومناهجه، وكانوا يسمعون من
الأستاذ الإمام — حين يشهدون درسه، أو حين يزورونه في داره — أسماء كتب قيمة في النحو
والبلاغة والتوحيد والأدب أيضًا. وكانت هذه الكتب بغيضة إلى شيوخ الأزهر لأنهم لم
يألفوها، وربما اشتد بغضهم لهذه الكتب لأن الإمام دلَّ عليها، ونوَّه بها. وكما يقول
رشيد
رضا، فقد «كانت حلقة درسه في الأزهر واسعة جدًّا، تحيط بأعمدة كثيرة، وكان يقرأ في بيته
درسًا في الأخلاق أو السياسة لطائفة من المجاورين. قرأ في ذلك كتاب «تهذيب الأخلاق»
لابن مسكويه الرازي، فكان ذلك سبب طبعه المرة الأولى، وقرأ كتاب كيزو «في السياسة».»
١٥٩ أما الذين نافسوا الإمام من الشيوخ الأعلام فقد حاولوا أن يذهبوا مذهبه،
فدلوا طلبتهم على كتبٍ قيمة أخرى، لا تُقرَأ في الأزهر لأن الأزهريين لم يألفوا قراءتها
(قال سعد زغلول: إن الذي كان يحضر دروس الإمام في الأزهر لا يسعه إلا أن يحتقر دروس
سائر العلماء فيه.) لكن تلك الجهود لم تسفر عن نتائج ذات بالٍ؛ لأن الأزهر كان أحد
مكونات المجتمع الذي يعاني التخلف القاسي الزري في كل نواحي حياته وأبعادها. يقول: «إن
نفسي توجهت إلى إصلاح الأزهر، منذ كنت مجاورًا فيه بعد التلقي عن السيد جمال الدين، وقد
شرعت في ذلك، فحيل بيني وبينه. ثم كنت أترقَّب الفرص، فما سنحت إلا واستشرفت لها، وأقبلت
عليها. حتى إذا ما صدفت الموانع لويت، وصبرت مترقبًا فرصة أخرى. وبعد أن عدت من المنفى،
حاولت إقناع الشيخ محمد الإنبابي — شيخ الأزهر — فلم يصادف قبولًا.» ولا يخلو من دلالة
هذه المقولة التي تُنسَب إلى مشايخ الأزهر، حين غادروا معامل العلماء الفرنسيين، بعد
أن
تعرَّفوا إلى تجاربهم الكيمائية: «الحمد لله الذي خلق الفرنجة ليبحثوا في العلم حتى نتفرغ
نحن لعبادة الله.» وكان قول الأزهريين «اعتقد ولا تجادل.»
١٦٠
في ١٩٠٢م كان في الأزهر ٢٦ رواقًا، و١٥ حارة، ويدرِّس به ٢٣٦ مدرسًا، ويدرس فيه ٨٨٠٩
طلاب.
١٦١ وكانت عادة أعيان الريف أن ينذروا واحدًا من أولادهم للأزهر تقربًا إلى الله.
١٦٢ وكان إمام (شباب امرأة) واحدًا من هؤلاء المجاورين الذين قدِموا من الريف
للدراسة في الأزهر.
١٦٣ وثمة أسر تضطر إلى حرمان أولادها من التعليم الحديث، وتبعث بهم إلى الأزهر
كمجاورين (المجاورون: من يساكنون الأماكن المقدسة، ويعتكفون في المساجد، وقد غلبت هذه
الصفة على طلاب الأزهر في العهود الماضية، (أحمد أمين، محمد عبده، ٢١)) عجزًا منها عن
تدبير أكثر من القوت الضروري، والكسوة التي لا غِنى عنها.
١٦٤ يبدأ الولد بحفظ القرآن في كتَّاب القرية، ثم يأتي إلى القاهرة — للمرة
الأولى — في قارب شراعي، ويذهب إلى الأزهر، ويجلس في صحنه وجلًا مشدوهًا فرحًا، ويسكن
في غرفة واحدة في الباطلية مع بلدياته، يأكلون ويشربون وينامون ويقرءون الألفية ويحفظون
العلم.
١٦٥ كان الطالب يفِد من قريته إلى الأزهر، فيسجل اسمه في الدفاتر، ثم هو غير
ملتزمٍ بشيء إلا التقدم لامتحان العالمية. إنه يختار المدرس، والعلوم التي يتلقَّاها،
والمواعيد التي يحضر فيها.
١٦٦ وكانت الدراسة في الأزهر تستغرق نحو عشرين عامًا أو أكثر، قد ينجح الطالب
فيها أو بعدها، وقد لا ينجح، وكانت دراسته صعبة مملة، طويلة.
١٦٧ وكان الغالبية من طلبة الأزهر يسكنون حجرة في الحي نفسه، وربما اشترك اثنان
أو ثلاثة في غرفة واحدة، وأثاث الحجرة لا يعدو حصيرًا — مفروشًا — على الأرض، وصندوقًا
للثياب
والزاد، ومرتبة للنوم، وحلة لطهو الطعام. والطالب يستيقظ في أذان الفجر، فيصلي الصبح،
ويتجه إلى الأزهر ليحضر درس الفقه الذي يستمر إلى الضحى. فإذا ختم الشيخ درسه قال:
والله أعلم، فينصرف الطلبة، ليتسلَّموا جراياتهم — كل طالب له من رغيفين إلى خمسة —
فيأتدمون من دكاكين الفول المدمس والطعمية المنتشرة في الحي. وربما استعاض الميسورون
عن
الفول والطعمية بالجبن والزيتون والحلاوة الطحينية، وينقلب الأزهر كله إلى مائدة هائلة
للطعام. ثم يطالع الطلبة درس النحو حتى موعد صلاة الظهر، فيفرغ من أداء الصلاة، ليبدأ
درس النحو الذي يمتد إلى العصر، ويكون درس الفقه هو آخر ما يتلقَّاه الطالب، فيعود إلى
بيته، ليشعل مصباح الجاز، ويتسامر مع أصحابه أحيانًا، ويذاكر أحيانًا أخرى، حتى يتقدَّم
الليل، فتُفرَد المراتب، وتخلد الأجساد إلى الراحة، تأهبًا ليومٍ جديدٍ.
١٦٨ يقول الشيخ إبراهيم: «كان ذلك منذ نصف قرن، تمنيت يومها أن أجاور في
الأزهر، فشددت الرحال إلى القاهرة، وذهبت إلى حلقات الشيوخ، وكلي رغبة في تلقي العلم.
وراح الشيوخ يلقون ما يعرفون وما لا يعرفون. حاولت أن أفهم، ولكني لم أفهم مما يقولون
شيئًا. هذا يشرح الكفراوي على الأجرومية، وذاك يشرح الزرقاني على العزية، وثالث يسهب
في شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فأحسست رأسي يدور، وأعمدة الأزهر تتراقص، وخُيِّل إليَّ
أن الشيوخ يتحدثون بلغة أخرى غير اللغة العربية.»
١٦٩ ولعله يجدر بنا أن نشير — هنا — إلى الرواية المخطوطة للأديب الراحل عصام
الدين حفني ناصف، عن أحداث الثورة العرابية، والتي يُرجِع فيها إخفاق الثورة إلى ثقافة
أحمد عرابي الأزهرية، بحيث جعلته يتردد في اقتناص الفرص والتقدم إلى النجاح.
١٧٠
ويذهب السحار إلى أن حركة الإصلاح في الأزهر بدأت قبل ١٨٨٢م، لكن أحمد شفيق يقول
في
مذكراته إن حركة الإصلاح الحديثة في الأزهر تعود إلى أواخر ١٨٩٤م «… وذلك أن الشيخ محمد
عبده — لما رأى من عباس جرأته وجهاده للأخذ بناصية الحكم، والحد من تدخل الإنجليز — مال
إليه، وتقرَّب منه بواسطة محمد ماهر باشا، فاستقبله عباس بترحابٍ وعطف، ومال إليه لما
آنسه
فيه من صدق الوطنية وأصالة الرأي، وتقابلا مِرارًا بصفة غير رسمية في عابدين والقبة
والمنتزه، وتحدَّثا فيما يمكن عمله من خدمة الوطن وتحقيق أمانيه، فاقترح الشيخ عليه أن
هناك ثلاث نواحٍ لا تزال بعيدة عن تدخل الإنجليز، ولا يعارضون الخديو في العمل
لإصلاحها، لأنها دينية محضة، وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشعبية. وأشار على سموه بأن
يبدأ بإصلاح الأزهر، واتفقا على أن يقدِّم الشيخ إلى سموه مذكرة بما يراه من وجوه
الإصلاح.» ونحن نجد في «حديث عيسى بن هشام» التي تصوِّر المجتمع المصري في مطالع القرن
العشرين، نقدًا لعلماء الدين، لأنهم يعبِّرون عن فكرٍ متخلف، إلى حد أن أحدهم يسأل يومًا:
خبِّروني — ناشدتكم الله — ما هو هذا العلم الذي يسمُّونه الجغرافيا؟ فيجيبه شيخ آخر:
هذا
هو الذي يقال له عندنا علم تخطيط البلدان، ولو كان قاصرًا عندهم على ذلك لما كان ضارًّا
ولا نافعًا، ولكن ضرره عظيم ومغبته وخيمة، بما امتزج فيه من نسبة الدوران للأرض،
والسكون للشمس، وتعليل حوادث السماء بتلك العلل المبتدَعة التي يكذِّبها العيان، ولا
يقوم
عليها البرهان، مثل زعمهم أن مطر السماء من جوف البحر، وأن السحاب أبخرة متكاثفة، وأن
الرعد والبرق من احتكاك السحب بضغط الهواء، مما ينافي العلل المعروفة المعقولة بيننا،
ويناقض ما رواه كعب الأحبار من أن السحاب من ورق الجنة، وأن الرعد صوت ملكٍ يسوق السحاب،
وأن البرق لمعان حربة بيده. وكان يقين أهل الأزهر أن الطبيعة والجغرافيا والكيمياء
والتاريخ، هي علوم أهل الدنيا، وتحويل الميضأة إلى حنفيات حرام، وقراءة كتب في الفلسفة
حرام، وارتداء الحذاء بدعة.
١٧١
لم يشهد الأزهر إذن أية محاولة جادة لإصلاحه وتطوير مناهجه، إلا في الثلاثينيات من
القرن العشرين، وفي عهد الإمام المراغي بالذات (مع ذلك، فقد كان الإمام واحدًا من
هؤلاء الذين سمعوا مقالات الإمام محمد عبده وآراءه، ثم عادوا بها إلى مدنهم وقراهم
ليُحدِثوا هزَّات في تفكير الناس (الأيام ٢: ١٢٦)) ولعل ذلك التطور الذي أكده الفنان
في
«قلعة الأبطال» مبعثه الحماسة والإعجاب بشخصية الإمام محمد عبده، وبكل سِمة ثورية. لقد
دعا
الإمام — حقيقة — إلى وجوب تحرير الأزهر من قيود التخلف، لكن دعوته لم تصادف — مثل
دعوات أخرى سابقة — آذانًا واعية، ذلك لأن الإمام لم يكن أول من دعا إلى تطوير الأزهر.
فعلى الرغم من أن الواجهة الفكرية للأزهر لم تخرج — لفترة طويلة — عن بيت الشعر
القائل:
وكل خير في اتِّباع من سلف
وكل شر في اتِّباع من خلف
على الرغم من ذلك، فإن الأفكار المتحررة لم تعدم — قبل الإمام — أصواتًا تردِّدها
بين
جدران الأزهر وأروقته. وكانت هذه الأصوات لعلماء من الشبان يؤمنون بدراسة العلوم
العسكرية، وأن «مدار سلوك جادة الرشد والإصابة منوطٌ بأولي الأمر من هذه العصابة — علماء
الأزهر — التي ينبغي أن تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السُّنة الشريفة، ورفع أعلام
الشريعة المنيفة، معرفة سائر المعارف البشرية المدنية التي لها مدخل في تقديم الوطنية،
لا سيما وأن هذه العلوم الحكيمة العليمة التي يظهر الآن أنها أجنبية، هي علوم إسلامية
نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتابات العربية.» وكان الأزهر — برغم الكتب الصفراء،
وخيانات بعض العلماء، وجمود أفكاره — ملتقًى للتيارات الثورية التي وجدت لها في كل
العهود مَن يحرص عليها، ويزيد مِن قوتها. ثم جاء الأفغاني، وبدأ في ترديد أفكاره ليأخذها
عنه تلاميذه، ويصرفون جهودهم لتحويلها إلى واقعٍ فعلي:
«كيف حال الأزهر؟
– إنه في ثورة.
– وهل يثور الجماد؟!
– ارتفعت أصواتٌ تدعو إلى تحرير الفكر من قيد التقليد.
– أصوات من؟
– أصوات السيد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده.»
١٧٢
نعم، كان يوسف — الأزهري الصغير — رمزًا لعشرات المدرسين والطلاب من أبناء الأزهر
الذين ينقلون إلى قراهم أفكار الأزهر الجديدة، التي تنبض بها تعاليم الأفغاني والإمام.
لكن الأزهر لم يعدم قبلهما — وفي ظروف مغايرة تمامًا — من ينادي بالأفكار نفسها، ولم
تحقق نتائجها المرجوة بصورة حاسمة، لأن الأزهر — رغم خطورة دوره ورسالته — كان بضع
لبنات في بناءٍ خرب، ذلك البناء هو المجتمع المصري.
هوامش