القضية الوطنية بين اليمين واليسار
المؤرخ يكتب بوعي أن الواقعة مقدسة، والرأي حر، أما الفنان فهو يكتب بلا آفاقٍ تحدُّه، أو يشغله الوصول إليها، حصيلة المؤرخ هي المعلومة، بينما يضيف الفنان ما تبتدعه مخيِّلته إلى ما توصل إليه من وقائع التاريخ وشخصياته. المؤرخ يروي التاريخ، ما جرى، من خلال وجهة نظر موضوعية، أو منحازة، أو مغرضة، بينما الفنان يوظف التاريخ مضافًا إليه مخيلته، بما يصنع عملًا إطاره الفترة التاريخية، أو الشخصية التاريخية، لكنه — ربما — لا يجاوز الحقيقة التاريخية بما يفرضه الصدق الفني، بما يتطلبه الفن، فهو قد يضيف من عندياته شخصيات، وقد يضيف، أو يحذف، وقائع، ما يشغله هو العمل الإبداعي في ذاته.
أستاذنا سعيد عبد الفتاح عاشور يرى أن رواية التاريخ هي مهمة المؤرخ، أدواته فيها المصادر والمراجع والوثائق التي تعرض للفترة، أو للشخصية التي يعنى بتناولها. أما توظيف التاريخ، أو استيحاؤه، أو استلهامه، إلى آخر هذه التسميات، فإنه لا يعدو الإساءة إلى قيم التاريخ، وتشويهها، من خلال وقائع مكذوبة، ووسم الشخصيات بما ليس فيها، ومجاوزة الواقع التاريخي إلى خيال تتشوَّه به صورة التاريخ.
نحن نقرأ رواية التاريخ في كتابات عبد الرحمن الرافعي وشهدي عطية الشافعي وإبراهيم عامر ومحمد أنيس ورءوف عباس وعبد العظيم رمضان وصلاح عيسى ويونان لبيب رزق وغيرهم، ونقرأ رواية توظيف التاريخ بأقلام جرجي زيدان ومحمد فريد أبو حديد ومحمد سعيد العريان ونجيب محفوظ وعادل كامل وسعد مكاوي وغيرهم.
•••
رواية ثروت أباظة «قصر على النيل» تعرض لسنوات المخاض التي ربما تجد نطفتها في سني الحرب العالمية الثانية، وما بعدها: نشوء التنظيمات الطلابية والعمالية، ما بين سرية وعلنية، فانتشار وباء الكوليرا، فتفجر المأساة العربية على أرض فلسطين، فانتشار الإرهاب السياسي، بداية من الاغتيالات إلى حملات الاعتقال والسجن، فتوقُّع لحظة الميلاد.
الفنان يتخذ موقف الرفض الحاد والعنيف للتنظيمات الماركسية، وهو موقف مستمد من واقع طبقي ينتمي إليه، وأفكار محددة يؤمن بها. لذلك فهو يدين التنظيمات السياسية ذات المفهومات الاجتماعية المتطورة، وفي مقدمتها — بالطبع — التنظيمات الماركسية، ويقدم لنا تلك التنظيمات — أحيانًا — في مبالغات كاريكاتورية، اختلقها الخيال الرافض، وليست المعايشة الملاحظة والمتدبرة. إنه لا يكتفي بمناصرة الطبقة الأرستقراطية ضد اليسار الماركسي المصري — وهو ما يُعَد «تصوُّرًا» منطقيًّا، لكنه يزيد فيناصرها ضد اليمين المتطرف متمثلًا في دعوة الإخوان المسلمين، باعتبار بعض المواقف التي تبنَّتها الدعوة، وكانت تمثِّل خطرًا حقيقيًّا على مكتسبات الطبقة الأعلى.
وإذا كانت «بين القصرين» تعبيرًا عن وجهة نظر البرجوازية الصغرى، ومواقفها، في فترة تتسع مساحتها الزمنية، لتبدأ قبل قيام ثورة ١٩١٩م، وتستشرف المستقبل فيما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن «قصر على النيل» تعبير عن وجهة نظر البرجوازية الكبرى في نفس تلك الأحداث والتيارات المتصارعة، وإن كانت «بين القصرين» تجد بدايتها الزمنية في ١٩١٧م، لكنها تمتد لتصل إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أما «قصر على النيل»، فإنها تجد طرف خيط البداية في أيام تولي سعد زغلول رئاسة مجلس النواب، ثم تجد النهاية — وإن كان ليس ثمة نهاية مؤكدة في الروايتين — في حادثة مصرع محمود فهمي النقراشي رئيس الوزارة المصرية في عام ١٩٤٨م.
من هنا، فإن «قصر على النيل» تطالعنا بشخصياتٍ تنتسب إلى الفئات المعارضة لسعد زغلول، حتى وإن لم ينضوِ رجالها تحت لواء حزب معارض، فقد كان أحمد باشا شكري يحرص أن ينأى عن لعبة الأحزاب، وإن اتخذ موقف المؤيد لهذا الحزب حينًا، والمعارض لهذا الحزب حينًا آخر، وإن دلَّ الحوار الذي تبادله مع ابن شقيقته النائب وصفي في بداية الرواية على حقيقة انتمائه، فهو يسأل: «خير يا سي وصفي، أراك سارحًا … أراكَ تفكر في خطبتك الجديدة.
– أي خطبة … أي خطبة يا عمي؟
– يا أخي … أنا قلت خطبة، أقصد خطبتك في مجلس النواب … ألا تنوي مهاجمة أحد غدًا؟
– والله يا عمي، سعد باشا أصبح رجلًا عسيرًا على المهاجمة، فهو منذ تولى رياسة مجلس النواب، وهو يعمل على ضم الكلمة … لو كان سار على هذا النحو منذ أول عمله بالسياسة، لأراحنا.
– الواقع أن العيب الأساسي في سعد أنه استغل الديكتاتورية الشعبية، وهي ديكتاتورية تعطي صاحبها سلطات واسعة، وتجعله يعمل كأنما هو وحده صاحب البلد.
– ولكنه في هذه الأيام الأخيرة أصبح يستعمل الديكتاتورية الشعبية استعمالًا معقولًا.
وإذا كان تمسُّك وصفي بالتقاليد، وإيمانه بأن المرأة التي تعطي موعدًا لرجل — مهما كانت الغاية بريئة — لا يصح أن يقترن الرجل بها، سببًا في تخليه عن ابنة عمه التي أخلصت له الحب، وحطمت التقاليد من أجله، فإنه — مع ذلك، أو إلى جانب ذلك — ظل نمطي الشخصية: حرص على الشرف والكرامة والنزاهة والابتعاد — بصرامة — عن مواطن الشبهات، والتمسُّك بالحق مهما بلغت فداحة المقابل، بل إنه قد أخرس صوت قلبه حين تبيَّن قسوة المصير الذي ساقت إليه ابنة عمه — سهير — نفسها، مقابلًا لصدمة تخليه عنها. تقابلا خلسة، واتفقا على أن يصحِّحا الخطأ، لكنه ما لبث أن طرد الفكرة تمامًا فور دخوله إلى بيته، فما ذنب الزوجة المسكينة؟ وما ذنب الأولاد؟
وتصادف سهير — التي يحرص الفنان أن يقدمها هي الأخرى في رداء المثالية المطلقة — موقفًا عاطفيًّا حادًّا، ترفع بتأثيره سماعة التليفون:
– وصفي.
– نعم.
– أأستطيع أن أكلمك؟
– أنا وحدي.
– لا يمكن يا وصفي … لا أستطيع.
– نعم … أعرف.
– فلتكن صداقة.
وعلى الرغم من قسوة الفنان في تقديم سليمان، من خلال هذه العبارات التي تجنح إلى التقريرية والمباشرة، فإنه يعيده — ختامًا — إلى إنسانيته، بعد أن قبض البوليس على ابنه بتهمة الشيوعية.
فإذا تبيَّن لنا أن الفنان لم يتخذ موقف الرفض من أبناء الطبقة الأرستقراطية في رواياته التي تعرض لها مثل «قصر على النيل»، و«ثم تشرق الشمس»، و«الضباب»، وغيرها … فيما عدا موقفه من شخصية سليمان، تلك التي أعاد لها — في النهاية — إنسانيتها، أو أعادها إلى إنسانيتها.
الفنان يناصر طبقة من خلال السرد الروائي، ونوعية الشخصيات، والديالوجات التي يضمنها أفكاره. أبناء الطبقة الأرستقراطية يدينون بمثاليات شبه مطلقة، والذين تدفعهم الأهواء الوقتية إلى السير في الدروب المظلمة، تدركهم اليقظة في وقتٍ مبكر. الثراء حقيقة، والفقر أيضًا حقيقة، ما عدا ذلك فتطلعات حاقدة لاستلاب المكاسب التي جناها الآخرون من كدِّهم.
وحين يتحدث فوزي عبد المجيد عن القلة الضئيلة التي تبتلع أموال الأمة، يقول له جعفر — ولعله الفنان: «هؤلاء الذين تقول عنهم إنهم يأكلون أموال الأمة، هم الذين يدفعون الضرائب، وهم الذين يعولون من حولهم من الفقراء، ويمدُّونهم بالعون.
– يعتقدون أنهم متفضلون … أنهم يعطون الفقراء من حقِّهم.
•••
وتمر الأعوام، لتجاوز بنا فترات مهمة في تاريخنا الحديث، مثل تولي محمد محمود حكم البلاد بيدٍ حديدية، ثم من بعده إسماعيل صدقي، وانعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية على الحياة المصرية، ثم مظاهرات ١٩٣٥م الدامية، فتوقيع معاهدة ١٩٣٦م، فنشوب الحرب العالمية الثانية، لينشأ من خلالها جيلٌ جديد، ينبض بالأماني والتطلعات، ثم دخول الجيوش العربية فلسطين، بداية لأعوام المأساة التي لم تنته بعد، والتي كانت عاملًا مباشرًا في مقتل محمود فهمي النقراشي رئيس الوزارة المصري، فمقتل زعيم الإخوان المسلمين الإمام حسن البنا، ثم الأحداث الدراماتيكية المتتالية، وصولًا إلى ثورة الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م.
كان جيل العشرينيات إذن هو المنطلق لجيل الأربعينيات في «قصر على النيل»، لأن معاداة التيارات السياسية المتطرفة كان هو التصرف الطبيعي، والحتمي، لأبناء الطبقة الأرستقراطية، ومن يَدينون بالولاء لهم — أعني سيد عبد البديع — وأيًّا كانت الأسباب التي قبِل بتأثيرها أحمد سليمان الانضمام إلى خلية شيوعية، وإصرار شقيقته هناء على الاقتران برفيقٍ شيوعي، والتحاق سيد عبد البديع بجماعة الإخوان المسلمين … فإن تلك المواقف التي تنطلق بالضرورة من رفض البناء الطبقي في المجتمع، تضغط على دلالات بذاتها، أو المفروض أنها كانت ستضغط على تلك الدلالات، لو لم يحرص الفنان على أن تكون الشخصيات والأحداث تعبيرًا عن المواقف التي التزم بها قبل أن يبدأ كتابة السطر الأول من روايته، أو أنها كانت الباعث الحقيقي — كما أشرت — لكي يكتب «قصر على النيل»، ومن بعدها «ثم تشرق الشمس».
•••
الجيل الثالث، أو جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتجسَّد ملامحه في أربع شخصيات رئيسة، هي: أحمد بن سليمان — الذي كانت صدمة تخلي وصفي عن حبه لسهير باعثًا إلى موافقتها الانتقامية للاقتران به — وهناء الابنة الثانية لسليمان وسهير، وفوزي عبد المجيد المنحط الأصل، وسيد بن عبد البديع الدكر كاتب دائرة الباشا، الذي ظل حريصًا على ولائه للأسرة التي تكفَّلت بتعليمه.
أما أحمد سليمان، فقد ارتكز انضمامه للحركة الشيوعية إلى عاملَين: احتقاره الشديد لوالده الذي كان يجسد التكالب على الفرص والمال، بصرف النظر عن شرعية الوسائل، فهو يبدي رأيه في أبيه صراحة: «أنا لا أرى أبي قد كدَّ واجتهد.
تقول أمه: بل إنك تعلم أن أباك قد نال دبلوم الهندسة.
يقاطعها في سخرية: من أوروبا.
– وهل ترى أباك غنيًّا؟
– هو غني بلا شك، إنه يعيش عيشة الأغنياء.
– أنت تعلم أنه ليس غنيًّا.
– إذن فأنتِ الغنية، كم اجتهدت، وكم كدحت؟!
– أبي جدَّ واجتهد حتى يوفر لي السعادة.
أما هناء، فقد كان الباعث الحقيقي لقبولها الزواج من فوزي — لا أقول، حبها له — أنها كانت تكره المال الذي تزوج أبوه — بتأثيره — أمها.
«– إذن فأنتِ تعرفين أنني في فترة الزواج هذه قد تعودت نوعًا معينًا من المعيشة، وأصبحت لا أستطيع أن أعود إلى المستوى الذي كنت أعيش فيه … فإن هذا يخجلني أمام أصدقائي.
– إذن … ماذا تريد؟
– والله أمرك.
– أتكفيك السيارة؟
قالت الأم: السيارة وأثاث البيت.
قال فوزي: وماذا أفعل بأثاث البيت؟ إنني لن أحتاج منه إلا إلى أثاث ثلاث غرف فقط، النوم والمكتب والمائدة.
قالت سهير: وماذا تريد أيضًا؟
– أمرك.
حاول سيد أن يقيم علاقة مع فتاة من القرية، فضبطه والده وهو يسرق لها بعض كيزان الذرة، ثم حاول أن يقيم علاقة مع فتاة من المدينة، فكاد ينتهي به الأمر إلى السجن، وفي خطوات حازمة مشى السيد إلى هدف آخر، وقد تحدد مقصده، وتبيَّن له الطريق.
وقف السيد أمام شاب وقور السمت، نامي اللحية، في وجهه عزم وإصرار، وفي عينه ثورة يخفيها هدوء يغشى ملامحه جميعًا، وكان يجلس إلى مكتب متواضع، وقف أمامه سيد يقول: أريد طلب انضمام.
– وأين تحية الإسلام؟
– السلام عليكم … السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
– السيد عبد البديع الدكر.
– تشرفنا، أنا عبد العاطي بسيوني.
وإذا كانت مواقف بعض الأدباء من الحركات السياسية المتطرفة، مثل الشيوعيين والإخوان المسلمين، تتراوح — كما رأينا — بين التأييد ونقيضه، فإن تلك المواقف جميعًا تتغلف بذلك الرداء السحري الذي يمكن تسميته بحيدة الصورة الفنية، مما ينأى بالعمل الفني عن التقريرية والجهارة، والارتكاز إلى الصورة الفنية أكثر من التزامه بالمقولة السياسية.
لكن ثروت أباظة يرفض حيدة الفن تمامًا، إنه يحرص على تأكيد الفكرة التي يدعو إليها من خلال العمل الفني، حتى ولو تجاوز مقومات العمل ذاته.
وعلى سبيل المثال، فإنه يدين الحركة الشيوعية المصرية، ليس في أفكارها ومبادئها فحسب، وإنما في أخلاقيات أفرادها كذلك، إن أحمد لا يصبح شيوعيًّا إلا هربًا من احتقاره لأبيه، ومن فشله في كل شيء. أما فوزي فإنه يخدع هيام بعاطفة زائفة، ويقنعها بالزواج حتى يستولي على أموالها، حتى رئيس الخلية لا يضحي بتوقيعه — على حد تعبير الفنان — إلا ليحصل على أجرٍ ضخمٍ … إلخ.
والحق أني حاولت أن ألخص ذلك الفصل الذي يعرض فيه الفنان للنقاش المحتدم في إحدى جلسات «الخليَّة»، ثم آثرت أن أنقل الفصل، رغم طوله النسبي — مع حذف فقرات غير مؤثرة في السياق — لصعوبة التلخيص.
الفنان لا يكتفي بالسرد الروائي، لكنه يضمنه ملاحظاته وتعليقاته ووجهة نظره: «كانت الأضواء المتهافتة تنبعث من المصابيح في خوف، فما يستطيع نورها أن يفسح لنفسه مكانًا وسط الظلام. وكان فوزي جالسًا مع بعض شباب آخرين تبدو على وجوههم سيماء الاهتمام الكبير، منهم من يصطنع هذا الاهتمام، ومنهم من لا يستطيع أن يضع على وجهه تعبيرًا آخر غير هذا … وكان المكان زاخرًا بالهمس، يتجمَّع فيصبح ضجيجًا لا ترتاح إليه الأذن، وكان فوزي منهمكًا في حديثٍ مع بعض إخوانه حين أحسَّ بهذه الضجة، فلم يلبث أن نظر في ساعته، ثم قال: أيها الرفاق، اجتماعنا اليوم مهم غاية الأهمية، فالرفيق زكي قد عاد من موسكو، وسيروي علينا ما شاهده هناك، وما يجب عليه أن نفعله حتى نصل إلى الكمال الذهبي، ولكن ينقصنا واحد، هو الرفيق صالح.
وحينئذٍ قال أحد الرفاق في جدٍّ: طالما إن الرفيق صالح لا يصلح لنا، ونحن حين نقبله نخالف تعاليم أحد فلاسفتنا، وأظنه إنجلز، الذي يعتقد أن ضم الأغنياء إلى حظيرتنا خطأ كبير؛ لأنهم يضطرون إلى معارضة مصالحهم الشخصية، ولأن العدالة التي نهدف إليها لا بد أن تصيبهم هم إصابة بالغة.
وردَّ فوزي في إصرار مدافعًا عن صديقه أحمد، فلم يكن صالح هذا الغائب إلا أحمد في اسمه الحركي.
قال فوزي: إن الرفيق صالح معنا منذ وقت طويل، وقد أثبت جدارته في أشياء كثيرة، ولا ننسى أنه كان يمدُّنا بالمال، حين كان المال يتأخر عنا، ثم أنت تنسى أن مولوتوف من الأغنياء.
– هذا خطأ لا بد أنه سيُصحَّح.
– أظن أننا لم نصل إلى درجة انتقاد الحزب.
ووقف في صدر القاعة شاب قصير القامة، يضع على عينيه نظارة سوداء قاتمة، تكاد تخفي خديه الغائرين اللذين يحيطان بفم دقيق، فيه صرامة، وفيه احتقار لكل شيء، وفيه حقد على كل شيء، ذاك هو المسئول، وهو رئيس هذه الخلية.
وقف فلم يزِد على أن قال: الرفيق زكي يتفضل.
لكن أحدًا لم يتقدم، فقال المسئول مرة أخرى: الرفيق زكي.
فامتدت أيدٍ كثيرة إلى شاب … فقام في تؤدة قائلًا: أيها الإخوان، إن اسمي فؤاد زين العابدين.
ثارت في القاعة ضجة كبيرة، ودق المسئول النضد الذي أمامه بعنفٍ، وقال: ننبِّه الرفيق زكي أنه يفشي سرًّا ما كان له أن يبوح به، فاستأنف فؤاد حديثه كأنه لم يسمع شيئًا: إن اسمي هو فؤاد زين العابدين، وكلكم يعرف ذلك، وقد قصدت أن أجيء إليكم لأكشف عن عيونكم عصابة من الجهل، أنتم في خطر.
وثمة حوار بين فوزي وهناء، يبين عن دلالات في نظرة الفنان إلى التنظيمات الماركسية:
– هناء.
– تأخرت عليك؟
– نعم.
– دقائق.
– هي عندي سنوات.
– لا. لست أنتظر تعبيرًا جديدًا.
– وأي جديد تريدين؟
– لا أدري … ولكن هذا التعبير استُعمِل كثيرًا.
– وما أدراك؟
– اقرأ.
– آه، صحيح … نسيت أنك تكثرين من القراءة، فأنت من قراءاتك في أحلامٍ لا تنتهي.
– وأنت … ألا تقرأ؟
– بالقدر اللازم … فالقراءة البرجوازية تفسد الأفكار.
– أهناك قراءة برجوازية؟
– نعم، قراءة القصص.
– كل القصص؟
وتلك تهمة يصعب توجيهها إلى الحركة الشيوعية المصرية بالذات، لأن العديد من أفرادها هم — في الأصل — أدباء، ويمارسون كتابة القصة.
ويذهب الفنان إلى أن الشيوعيين يتوخَّون كل السبل للاستيلاء على الحكم، حتى ولو كانت غير مشروعة، ولو فرضوا أنفسهم بالقوة.
«– أنا أتكلم عن الجرائد والناس، وأرى أن الجرائد كلها مأجورة، والناس قطيع وببغاوات وجهلة.
– أي ناس؟
– الشعب.
– الشعب؟ الشعب الذي تريد له المساواة قطيع وببغاوات.
– وما دخل هذا فيما أريده له؟
– سبحان الخلاق العظيم، إن مذهبك يرمي إلى جعل الشعب على درجة متساوية في الغِنى ومستوى المعيشة.
– لا يا سيدي، ليس هذا فقط ما أريد، وإنما أريد أن أثقفه.
– من هذا الذي يريد؟
– المذهب الذي أراه.
– وهل المذهب سيثقف الشعب من تلقاء نفسه؟
– لا، سيقوم بذلك زعماؤه.
– ومن سينتخب هؤلاء الزعماء؟ هل الشعب هو الذي سينتخبهم؟
– نعم.
– أهذا ما يحدث؟
– إنهم الآن في فترة انتقال، ولا بد أن يُفرَض الزعماء لفترة معينة، ثم ينتخبهم الشعب.
– ومن الذي يفرضهم؟
•••
الفنان في «الرجل الذي فقد ظله» يقدم شوقي وسعد عبد الجواد، تعبيرًا عن بعض العناصر الشيوعية في مصر، منذ منتصف الأربعينيات.
أما سعد عبد الجواد، فقد حاول أن «يبشِّر» بالحركة الشيوعية — في سني الحرب — بأحاديث عن الصمود، ثم عن الانتصارات في الجبهة الروسية، وكتب بعض المقالات عن الحياة في الاتحاد السوفييتي.
وقال له يوسف السويفي في إشفاق: ولما يقولوا عليك إنك شيوعي ويقبضوا عليك؟
وقد بدأ سعد من القاع، فهو يرتدي الجلابية والقبقاب، ويقف خلف البنك في دكان البقالة الصغير الذي تحيا أسرته على إيراده، يبيع، ويسرق الوقت للمذاكرة، حتى يطلع الأول، الأول دائمًا، ليحصل على المجانية، ثم اعتنق الشيوعية، وظل حريصًا — بصورة مثالية — على أفكارها ومبادئها.
وربما كانت هذه الكلمات جزءًا من «النصب» الذي تحدث عنه شوقي، لكن مبروكة لم تكن في حاجة لأن يبرر لها شوقي أي شيء، فهي — أولًا — تحبه، وهي — ثانيًا — لم تشعر أنها أخطأت كثيرًا في إجهاض نفسها، وهي — ثالثًا — لم تكن تفهم من كلماته إلا الأقل، ذلك لأنها كانت جاهلة.
وبصرف النظر عن «انتهازية» سعد عبد الجواد التي طفت إلى السطح، لما تهيَّأت لها الظروف المواتية، و«ضعف» شوقي الذي حاول التغلب عليه بقوة إرادته، فإن الاثنين معًا كانا يقفان على أرضية «الفكر» الذي يتأمل ويناقش ويحلل، ويحاول أن يعبِّر عن رأي، ويتخذ موقفًا، بعكس فوزي عبد المجيد — مثلًا — الذي ألبسه الفنان رداء الرفض للحركات اليسارية عمومًا.
•••
أما الإخوان المسلمون، فلعل في حديث سيد عبد البديع مع عضو الجماعة عبد العاطي بسيوني، ما يدل على حقيقة موقف الفنان من الجماعة:
– أين أنت يا أخي؟
– في الدنيا.
– لقد أرسلنا إليكَ بعد خروجك من المعتقل، فلم تأتِ.
– آتي إلى أين؟
– إلى الأسرة.
– أي أسرة؟
– ألست السيد عبد البديع الدكر؟
– هذا أمر لا شك فيه.
– هل جننت في المعتقل؟
– لا، بل عقلت.
– ألا تعرف الأسرة؟
– لا، ولكن أعرف أن الجماعة قد حُلَّت.
– لكننا نجتمع.
– لا شأن لي باجتماعكم.
– أكفرت بمبادئنا؟
– نعم، وآمنت بنفسي.
– أتحنث في يمين أقسمتها؟
انضم سيد عبد البديع الدكر إلى الإخوان المسلمين فرارًا من أزماته الجنسية، مثلما انضم عبد المنعم شوكت (السكرية) إلى الإخوان المسلمين فرارًا من أزماته الجنسية، لكن شتَّان ما بين الموقفَين. سيد عبد البديع أخفق في إقامة علاقة من أي نوع بينه وبين الجنس الآخر، ضبطه أبوه وهو يسرق كيزان الذرة لفتاة الحقل، لقاء وعدٍ بلذة، ثم اختفى لما حاول أن يطارد فتاة أمام الأمريكين، وكاد اندفاعه يودي به إلى السجن؛ فُرضَت عليه «العفة» إذن، ولم يعُد أمامه ألا الفرار من لحظته المتوترة الممتدة، إلى لحظة أخرى مغايرة، ينعم فيها بالراحة والطمأنينة والسلام، ومن ثَم كان انضمامه المباغت إلى جماعة الإخوان المسلمين.
أما عبد المنعم شوكت، فقد كان موفَّقًا في علاقته العاطفية غاية التوفيق، وهو قد لاذ بالزواج فرارًا من العلاقة غير البريئة — في تقديره — مع ابنة الجيران، بل إنه حرص على نصح فتاته ألَّا تفرِّط في جسدها تحت دعوى أي شيء. وكان انضمامه إلى الإخوان المسلمين من قبل أن تبدأ علاقته العاطفية بفتاته، وكانت تعاليم الإخوان بالتالي، هي الدافع لأن يرفض الانفصام بين مبادئه المعلَنة، وتصرفاته غير المعلَنة، وأن يكون واضحًا مع نفسه، ومع الآخرين، التزامًا بتعاليم الإمام حسن البنا ودروس الشيخ المنوفي التي كان يتلقَّاها في مقهى أحمد عبده.
نجيب محفوظ — من خلال شخصية عبد المنعم شوكت — يناقش، ويحلل، وربما يبدي رأيًا عبر غلالة الفن الرقيقة الشفافة، أما ثروت أباظة — من خلال شخصية سيد الدكر — فإن الإخوان المسلمين — في تقديره — ليسوا أكثر من مصيدة لاجتذاب الشباب المراهق الذي يعاني الكبت والضياع، دون أن يكون للوازع الديني تأثير ما.