شيء في صدري
لعلِّي أوافق المؤرخ الإنجليزي جوردون تشايلد رأيه في تفسير التاريخ، وأنه من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — قراءة تاريخ غير مشوب بالتحيُّز، فالمؤرخ بشر، وهو خاضع لظروفٍ عديدة، وعوامل متباينة، من بينها مصالح الطبقة التي ينتمي إليها، والمناخ الاجتماعي، والحزب — أو التنظيم — الذي يمثِّله.
نحن نلحظ في كتابات معظم المؤرخين المصريين الذين عرضوا لثورة ١٩١٩م — مقدماتها وأحداثها ونتائجها — أن رؤيتهم للثورة كانت من زاوية محددة، هي — في واقعها — رؤية الحزب الذي ينتمون إليه، ويعبِّرون عنه، فأيديولوجية عبد الرحمن الرافعي، وتفسيره لمقدمات الثورة وأحداثها ونتائجها، هي أيديولوجية الحزب الوطني، وتفسيره للثورة. ويعرض العقاد لتلك الأعوام الملتهبة — في أكثر من مؤلَّف — على ضوء إيمانه بزعامة سعد زغلول، ويناقش هيكل ذلك كله من وجهة نظر الأحرار الدستوريين.
وإذا كانت الحيدة ضرورة حتمية في تناول الفنان لأحداث التاريخ (والمقصود بالحيدة هنا، أن يتجرَّد الفنان من كل عاطفة خاصة، ثم الحرص على عرض الواقع بأمانة وتجرد) فثمة فارق بين تناول أحداث التاريخ بموضوعية، وإبداء رأي ذاتي في تلك الأحداث. كتب هوارد فاست رواياته التاريخية عن توم بين وسبارتاكوس وغيرهما، من وجهة نظر ماركسية، كما عبَّر برناردشو في أعماله عن انتمائه للاشتراكية الفابية.
يحدد تشيخوف علاقته بشخصيات قصصه بأنه يهتم بهم جميعًا باعتبارهم بشرًا «وهي في أن أعرض للشخصيات والمواقف بطريقة مقنعة، فلست رجل حزب»، ذلك لأن الفنان لا يكتب منشورًا حزبيًّا، ولا يعبِّر عن محصلة سياسية، وإنما يقدم عملًا فنيًّا يستمد أصالته من الصدق، برغم ما يذهب إليه بعض النقاد من أن أسلوب تناول الفنان للتاريخ يختلف تمامًا عن أسلوب المؤرخ، وأن الفنان حرٌّ في اختيار أبطال قصصه، وفي وضع هالات القداسة فوق رءوسهم، أو انتزاعها.
إن تحريك الشخوص، بحيث تؤيد موقف الفنان السياسي، وليس تعبيرًا عن طبيعة هذه الشخوص، تزييف لوظيفة الفن؛ الفن الصادق ينزع القشور المذهبية والطائفية والطبقية عن ذاته، من خلال نماذجه.
ليس إبداء رأي الفنان بواسطة شخوصه، دون تقيُّد باحتمال طبيعة الشخوص لهذا الرأي، وليس التحليل السياسي، سِمة العمل الفني، مهما كانت درجة اعتناق الفنان لفكرة سياسية، أو لمذهب.
وإذا كان دفاع ثروت أباظة عن الطبقات الأعلى في المجتمع المصري قد جعل «فكرية» الرواية تعبيرًا عن وجهة نظر أبعد ما تكون، حتى عن حيدة الفن التي تنأى به عن التقريرية والمباشرة، وإنطاق الشخصيات بآراء الكاتب، والحفاظ على مسار السرد الروائي، بحيث لا يجاوز «المقولة» التي يحرص الفنان عليها … فإن حسين شكري باشا في رواية إحسان عبد القدوس «شيء في صدري» هو التعبير المجسد لباشوات ما بين الثورتين ١٩١٩م و١٩٥٢م، وهم الذين قامت — بدافع محاربتهم — الحركات السياسية والاجتماعية، ما بين معتدلة ومتطرفة، بدءًا بالأحزاب التي تعلن الوطنية وتضمر العمالة، وانتهاءً بالفكر اليساري وامتداداته إلى التنظيمات الشيوعية.
ولعل تلك الإشارة مما يصح تسميتها إثبات النفي، فأغلب الظن أن «باشا» «شيء في صدري» هو تلك الشخصية الواقعية في حياة الاقتصاد المصري، الذي بدأ حياته خريجًا في مدرسة الفنون والصنائع، المدرسة نفسها التي تخرج فيها بطل رواية عبد القدوس، ثم اقترن بسيدة اسكتلندية سهَّلت له صفقاته وارتباطاته، وحمته بنفوذها من المؤامرات التي تهدَّدته، وهو أيضًا ما أقدم عليه بطل الرواية.
كان أحمد عبود متزوجًا من سيدة اسكتلندية شديدة الذكاء، قوية الشخصية، وكان صديقًا للسفير البريطاني رونالد كامبل. وقد اشترى عبود ٥٨٧٤ فدانًا في أرمنت من الكونت فونتارس — أو الفيكونت هنري جبريل — وهو الاسم المدوَّن في عقد الملكية — اشتراها بما عليها من منشآت ومخازن ومنازل وحظائر وأشجار ونخيل ووابورات بستين ألفًا من الجنيهات. ولم يكن أحمد عبود يختلط بالفلاحين، وكان يعطي كل سلطاته لمفتش اسمه عبد الرحمن عرفات، يساعده عشرة نظَّار، يراقبون سير العمل في أراضي التفتيش.
كان عبد الرحمن يعامل المستأجرين معاملة قاسية، ويسيء إليهم، ويهدِّدهم، حتى تربص به مزارع في عام ١٩٥٠م، وانتظر إلى أن ودع زوجة عبود عند المرسى، وأطلق عليه رصاصة أردته قتيلًا، وأُلقي القبض على ثلاثين فلاحًا، لم يفرج عنهم إلا بعد إلصاق التهمة باثنين من الخفراء، برأتهما محكمة النقض.
وكان أسلوب تكوين الشركات، والمضاربات، وتعيين أعضاء مجالس الإدارات والمديرين، وخفض الأسعار ورفعها، وشراء الذمم، والرشاوى، والمضاربات … ذلك كله كان القاسم المشترك في الشخصيتين: الروائية والواقعية.
أغلب الظن أن «شيء في صدري» هي عرض روائي لحياة تلك الشخصية التي قامت بدورٍ يصعب إنكاره في الحياة الاقتصادية والسياسية في مصر، ووصل نفوذها حدَّ إسقاط وزارات، وتشكيل وزارات أخرى موالية، والاعتصام وراء نفوذها أمام كل محاولة لمناقشة الحساب.
وكانت الثورة التي قامت في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، انتصارًا مؤكدًا لمحمد أفندي السيد بالذات، ذلك الموظف الصغير الذي استعصى على حسين شاكر، وتعفَّف عنه، ومن ثَم حاول أن ينتقم منه في أسرته.
كان قادة هذه الثورة من أبناء الطبقة الوسطى الصغيرة، أبناء مزارعين، وأبناء تجار، وأبناء موظفين صغار؛ ومن هنا جاء قول جاك بيرك إن الثورة كانت ثورة فلاحين، ليس لأن الفلاحين هم الذين قاموا بها، وإنما لأن أبناء هؤلاء الفلاحين الذين تخرجوا في الكلية الحربية والجامعات، وعملوا في المهن المختلفة … كانوا هم قادة الثورة.
•••
يعتبر بعض الباحثين فترة الحرب العالمية الأولى، البداية الحقيقية لنشأة ونمو الرأسمالية المصرية الحديثة؛ فقد حققت أسعار القطن ارتفاعًا كبيرًا، مفاجئًا (من ٣٨ دولارًا سنة ١٩١٦م إلى ٩٠ دولارًا سنة ١٩١٩م) وبدأ عدد من كبار الملاك في استثمار أموالهم في العمليات المالية والتجارية. وكان في مقدمة مظاهر التطور الرأسمالي — من خلال حركات التصنيع — تأسيس بنك مصر، بداية لإنشاء شركاته التي أسهمت في تعميق ملامح الصورة الصناعية في مصر.
من هنا، يأتي القول إن الرأسمالية خالفت المألوف العالمي من حيث إنها نشأت من صفوف كبار ملاك الأراضي وليس من خلال التجار. ولعلنا نجد في ذلك تفسيرًا لرفض الرأسمالية المصرية أية محاولة للإصلاح الزراعي، فضلًا عن رفضها المؤكد، والمستمر، لكل مظاهر الديمقراطية.
والواقع أنه كان يصعب الفصل — في الكثير من الحالات — بين ملكية كبار المستثمرين للأراضي من ناحية، وللمصانع والأسهم من ناحية أخرى، والتحمت الرأسمالية — بصورة جذرية — مع الإقطاع لأن أسماء المستثمرين كانت واحدة، فأحمد عبود صاحب مصانع السكر يمتلك آلاف الأفدنة التي تنتج قصب السكر، والبدراوي عاشور يستثمر الأموال الطائلة التي تغلُّها أراضيه في شراء آلاف الأسهم، وفي عضوية أكثر من شركة مساهمة. الأمر نفسه بالنسبة لإسماعيل صدقي، وآل سراج الدين، وأحمد فرغلي، والنبيل سليمان داود، وشريف صبري، وحافظ عفيفي، وحسن نشأت، والعائلات اليهودية: صيدناوي وكافوري وعدس يعقوب، وعشرات غيرهم.
وحين أُعلنَت قرارات ثورة يوليو الاشتراكية، فقد مسَّت تلك القرارات غالبية الأشخاص — الذين تناولتهم أحكامها — فيما يملكونه من أراضٍ، ومن أسهمٍ في الشركات في آنٍ معًا. كانت الرأسمالية المصرية تعتمد — إلى حدٍّ كبير — على التعاون مع رأس المال الأجنبي، متمثلًا في مجموعة من الشركات والأفراد، استطاعت أن تحقق المصالح الأجنبية، حتى في المشروعات التي تكونت تحت شعار المصرية، مثل بنك مصر الذي أسهم بالنسبة الأقل في عددٍ من شركاته، مثل مصر للغزل والنسج الرفيع، صباغي البيضا، مصر للتأمين، مصر للملاحة، مصر للطيران، مصر للحرير الصناعي. الأمر نفسه بالنسبة لشركات أحمد عبود، التي كان يشارك في عضوية مجالس إداراتها بعض أعضاء مجالس إدارات الشركات العالمية مثل قناة السويس وغيرها.
وكان اشتراك رءوس الأموال الأجنبية تعبيرًا عن ارتباط المصالح الاقتصادية والاحتكارية بين كبار الرأسماليين المصريين والرأسمال الأجنبي. كان أعداد من كبار الماليين المصريين يشغلون مناصب العضوية في العديد من الشركات الأجنبية التي تمارس نشاطًا في مصر، مثل قناة السويس، أنجلو إجبشيان أويل، البنك الأهلي المصري، البنك العقاري المصري … إلخ.
ويُعَد اتحاد الصناعات تجسيدًا لتحالف الاحتكارات الرأسمالية، المصرية والأجنبية، فقد كان يضم — في عام ١٩٥٢م — ٤٧ عضوًا من كبار الرأسماليين المصريين والأجانب.
بالإضافة إلى ذلك، فقد حرص تحالف الرأسمالية المصرية والأجنبية على تقوية الصلات بالنظام الملكي وجهاز الحكم، من خلال إشراك عددٍ كبيرٍ من رجال السراي التقليديين ورءوس الوزارات في عضوية مجالس إدارات الشركات، حتى يقضي على أية محاولة لوقف مدِّه الاحتكاري، أو المطالبة بحقوقٍ أفضل للعاملين، وتقديم سلعة أرخص للمواطنين المستهلكين. وكان من بين الأسماء التي شغلت عضوية مجالس إدارات الشركات، في أعوام ما قبل ١٩٥٢م، شريف صبري — خال الملك فاروق — وحافظ عفيفي رئيس الديوان الملكي، الذي كان — في الوقت نفسه — رئيسًا لاتحاد الصناعات، ورئيسًا لمجلس إدارة بنك مصر، وإلياس أندراوس المستشار الاقتصادي للملك، وحسين سري أحد رؤساء الوزارات التقليديين، وأيضًا أحمد نجيب الهلالي، وعلي ماهر، ورئيس مجلس الشيوخ محمد محمود خليل، وغيرهم. وكانت تلك — في مجموعها — صورة النشاط الذي تبدَّى من خلاله نشاط حسين باشا شاكر، بطل رواية إحسان عبد القدوس «شيء في صدري».
•••
وعلى الرغم من السلبية المطلَقة التي كان يواجه بها يوسف (قصة يوسف) تطورات الأحداث من حوله، فإنه قد اقتنع — من خلال إفلاسه المرة تِلوَ الأخرى — أن تركُّز الإنتاج والتجارة في أيدي حفنة من المحتكرين، هو الذي يلقي بصغار التجار والصناع والحرفيين في طاحونة الاستغلال، لتقضي عليهم، وتدفعهم إلى صفوف العمال المعدَمين، ومن ثَم، فقد اتجه إلى العمل السياسي.
•••
لعل رواية «شيء في صدري» محاولة للإجابة عن السؤال: هل الشعور بالاحترام صدى مشاعر الناس وآرائهم وتصرفاتهم، أو أن الذات هي — وحدها — مصدرها؟
واصل حسين شاكر رحلة صعوده القذرة؛ بدأ مقاولًا صغيرًا مع القوات البريطانية، يحاسب الجيش البريطاني على عشرة قروش أجرًا للعامل الواحد، ثم يدفع للعامل خمسة قروش فقط، ثم تعدَّدت صفقاته، وامتد نشاطه، بفضل زوجته الإنجليزية التي كان اقترانه بها أنجح صفقاته.
وعلى الرغم من أن حسين شاكر قد أقدم على الزواج من ابنة الكولونيل ديفيز، فإن العلاقة بينهما لم تزِد عما كانت عليه — فيما عدا ورقة الزواج — بين محيي بك عارف ومدام جورجيادس في «حديقة زهران»، كان مقابل خدمات مدام جورجيادس لمحيي عارف عمولات مالية، وفحولة جسدية، تحاول إرضاءها ما أمكن.
وحين يشكو عبد العظيم بيه، مفتش الضرائب إلى حسين شاكر باشا، يسأله الباشا: «وعملت فيه إيه؟
يجيب: كلمت الوزير إمبارح في حفلة الجمعية الخيرية، ووعدني إنه حينقله سوهاج.
ثم أصبح بمقدور حسين شاكر أن يسقط وزارات، ويعيِّن وزارات أخرى موالية، وإن لم يهجر الشيء الذي كان يتحرك في صدره موضعه، وكانت الفرصة في التخلص منه هي وفاة محمد أفندي السيد، لتواجه الزوجة والابنة مستقبل أيامهما بمعاشٍ لا يزيد عن اثني عشر جنيهًا، تُوفي الزميل القديم في ١٤ سبتمبر ١٩٤٧م.
لكن نظرات الابنة الهادئة، الرافضة في صمتٍ، والتي كانت تثقب صدره، وتحرك ذلك الشيء داخله، دفعته إلى إفساد حياة الأم وابنتها، فاعتدى على كل منهما، وأدمنت الأم الخمر بصورة صعب معها شفاؤها منها، ولم يقتصر خطره على الأسرة الصغيرة فقط، لكنه امتد إلى خال الفتاة وحبيبها، بل إن الشيء الذي يتحرك في صدره تحوَّل إلى وحشٍ مجنون، مدمر، يحاول أن يقضي حتى على صاحبه. تخيل سلسلة من المؤامرات التي يصل تأثيرها إلى معاونيه، الذين ما لبثوا أن حاولوا ردَّ الضربات بأخرى أشد، ولا يفيق الوحش المجنون، المدمر، إلا بقيام ثورة يوليو، وإقدامها على محاسبته، فيسقط صريعًا بالشلل؛ ويعجز «الباشا» — بدءًا وختامًا — عن الحصول على احترام الآخرين، فضلًا عن احترامه لنفسه.