الوباء

١٩٤٧م، عام الكوليرا

ربما يخلو أدبنا المعاصر من عمل روائي يرقى إلى مستوى «الطاعون» لألبير كامي، التي تصوِّر الوباء، كيف يقتحم مدينة، ويحاصرها، ويغتال أبناءها بضراوة، وإن كان محمود خيرت أول من تناول مواجهة المصريين لوباء الكوليرا في روايتَيه «الفتى الريفي» و«الفتاة الريفية» — ١٩٠٣–١٩٠٥م — عندما اجتاح المدن والقرى المصرية، في أواخر القرن التاسع عشر، ثم صوَّر طه حسين المأساة نفسها في «الأيام».

الحقيقة التي تتأكد — من خلال الأعمال الأدبية المصرية التي تعرض لمأساة الكوليرا في ١٩٤٧م — أن الخطر الذي بدأ في القرين، امتد ليشمل كل المدن والقرى المصرية، وحفلت عناوين الصحف بعباراتٍ تشير إلى تزايد نسبة الإصابات في القرين، وظهور إصابات أخرى في الإسماعيلية والقاهرة وبعض المدن الأخرى.١
المرض يبدأ بصداعٍ في الرأس، ثم همود في الركبتين، فتهدل في الجسم كله، وإسهال، وقيء، وبعد يومين، أو ثلاثة، يموت المريض.٢ تتوالى رحلات الموت، يتم الدفن على الساكت، ويتسلل الخوف، يملأ البلد كلها «خلت المصاطب، قعدات المعسل، حتى المساجد، تجمعات مختلسة، مرعوبة، تتهامس، تتناقل آخر أنباء المرض، أي الموت، من أصيب بصداع فيه الشك والأمل، الإسهال يقطع الشك باليقين، البحث عن الليمون شاغل الناس، إشاعة أن البلح هو السبب، المرض الجديد معدٍ يا أولاد، ثلاثة أيام ثم الموت، لا مريض واحد شُفي، البلد تدفن كل يوم، كل يوم موت ودفن وجنازات صامتة، الدفن لا يتوقف، في كل بيت مريض أو ميت أو مرعوب، قش الرز ملأ الشوارع والمصاطب، على قش الأرز يجلس المشيعون، المدرسة الإلزامية، ومكتب المحافظة على القرآن أُغلِقا، سوق الإثنين ما عادت تقام، كل واحد انطوى على خوفٍ عميق، خوف يخاف أن يهمس به لنفسه، لا أحد أبدًا هاجمه المرض وشُفي، البلد انقسمت قسمة غريبة كما لم يحدث أبدًا، أو كما هو حادث دائمًا.»٣ ويتحدث الفنان (أيام الإنسان السبعة) عن العربات التي تحمل المصابين في القرى، ناس لا يعودون، موتى بلا قبور، يُلقَى بهم في حفر تُردَم بالجير الحي.٤

•••

كانت البداية في سبتمبر ١٩٤٧م، عندما كشف سامي لبيب طبيب المجموعة الصحية بالقرين مركز أبو حماد مديرية الشرقية على مجموعة من المواطنين، يشكُون من قيء وإسهال، وشخَّص الطبيب الأعراض بأنها تسمم غذائي، ثم عانى الطبيب من الأعراض نفسها. ثم تبدى الخطر في أول حادثة وفاة، وأثبتت التحليلات التي أُجريَت في معامل وزارة الصحة بالقاهرة، أن ما أصاب أبناء القرين إنما هو حالات كوليرا فعلية، وقيل إن الوباء بدأ في قرية «المحسمة».

كان معسكر التل الكبير — القريب من القرين — هو أكبر المعسكرات الإنجليزية في الشرق الأوسط، فمساحته تزيد عن عشرة آلاف فدان، تحوي مخازن ضخمة للأسلحة والذخائر، وكان من الأعمال الرئيسة لسكان القرين، شراء مخلفات السلاح في داخل المعسكرات كل مساء، وبحوزتهم كميات من الأسلحة، ومن الملابس والأطعمة المحفوظة، كانت عاملًا مباشرًا في الإصابة بالكوليرا، ثم تفشي الإصابة فيما بعد.

رُوي أن أبناء القرية كانوا يتسللون — في الظلام — إلى سفح الجبل القريب من المعسكر، ينبشون الأرض، يبحثون في بقايا الأطعمة التي لم تصل إليها النيران، وكانت قوات الإنجليز قد خصصت المكان لإحراق الأطعمة المتبقية من موائد الجنود.

كان أهل القرية يعلمون أنه «في ساعة معينة من ساعات النهار تقبل عربة، أو أكثر، من عربات الجيش البريطاني، فتعبر الكوبري الخشبي على ترعة الإسماعيلية، ثم تنحرف — يمينًا — نحو القرية، ومن هناك إلى سفح الجبل، حيث تتم عملية إحراق الأطعمة على مشهدٍ من أهل المحسمة، وأحيانًا كانت العربات تتأخر قليلًا عن موعدها، وأحيانًا كانت تأتي مبكرة، ورأى أهل القرية — زيادة في الاحتياط — اختيار واحد منهم كل يوم، ليقف على رأس الكوبري المتهالك، يرقب عربات الإنجليز وهي في طريقها إليهم، وألِف الناس في المحسمة أن يستمعوا إلى صراخ «الديدبان» يعلنهم بنبأ ظهور العربات على الطريق.»٥ وعرف الإنجليز بالأمر، فدسوا سمًّا في الطعام المتخلف، ما لبث أن أحدث تأثيره الضاري في بطون آكليه، ونقل العشرات من أبناء المحسمة إلى المستشفى يعانون آلام التسمم.٦

ساعد على انتشار المرض، أنه ظهر مع بداية موسم جني البلح — المحصول الرئيس لبلدة القرين — وأفلح الأهالي في تهريب كميات منه، سواء في صورة فاكهة أو عجوة، باعوها في المدن والقرى القريبة والبعيدة، وباعوا معها الوباء.

غادر الوباء حدود القرين إلى القرى الواقعة على طريق المعاهدة: مسطرد، العادلية، كفر قليوب، أنشاص، الأميرية، أبو حماد، أبو زعبل … إلخ، ومنها إلى مديريات ومحافظات أخرى، حتى شملت مصر كلها، وشملت بيانات الإصابة مواطنين من أنحاء البلاد، والمرض معدٍ، ثلاثة أيام ثم الموت، لا مريض واحد شُفي، والبلد تدفن كل يوم، كل يوم موت ودفن وجنازات صامتة «الدفن لا يتوقف، في كل بيت مريض أو ميت أو مرعوب.»٧ وانتشرت شائعة أن عساكر الإنجليز كانوا يرسمون دائرة باللون الأحمر على البيوت التي يثقون أن بها كوليرا، لتُحرَق فيما بعد.٨

وفي قصة «شمعة تحترق» نتبيَّن سببًا مناقضًا لمجيء الكوليرا، فهي قد جاءت في زجاجة من ماء زمزم وَفدَ بها أحد الحجاج، تخاطفها أبناء قريته فلم يجد — لإرضائهم جميعًا — إلا أن يلقي بماء الزجاجة في بئر القرية، لتكون بداية انتشار الوباء في معظم القرى والمدن المصرية.

السبب الذي يورده الفنان لتسلل الوباء إلى مصر، يختلف إذن عن السبب الذي أجمعت عليه كل المصادر، وهو الأطعمة الملوثة التي وصلت إلى أهالي القرين من معسكرات الجيش الإنجليزي.٩
تحدثت الصفحات الأولى في الجرائد عن زيادة نسبة عدد إصابات الكوليرا في القرين، وظهور إصابات جديدة في الإسماعيلية والقاهرة وبعض المدن الأخرى،١٠ وأُغلقَت المدارس، وعاد التلاميذ إلى منازلهم، وهجر الفلاحون أسواقهم، وأقفلوا عائدين إلى قُراهم، وانفضَّت الموالد، ومنعت الحكومة الاجتماعات العامة، وخلت دور السينما من رُوادها، وأقفلت المطاعم والقهاوي، وأُغلقَت الحمامات ومحال بيع البوظة، وأخليت المستشفيات والمجموعات الصحية، ورُشَّت المناطق بالطائرات، ومُنع وقوف القطارات في بعض المدن، وطُبقَت إجراءات المنع إلا بشروطٍ على كل المسافرين إلى الوجه القبلي، وكفَّ المثقفون عن جدالهم حول معنى الحياة، وعدلوا عن رغبتهم في الموت، وتملَّكهم تشبث مجنون بالأرض،١١ وتعالت التحذيرات: اغسلوا الخضراوات، حتى الفجل، بشيء اسمه برمنجانات … إياكم وماء الترعة … الماء يجب أن يُطهَّر … يُغلى، ثم يُترَك حتى يبرد.١٢
ويحكي الراوي (الزهرة الصخرية) أن وفاة ثلاثة أشخاص في الشارع الذي يقيم فيه، جاءت بالبوليس، فأُغلِق الشارع تمامًا، وبدأت في التردد عليه عربات الصحة وأنابيب الرش والتشريط والحقن، وأُحرقَت الأماكن التي كانت تعيش فيها الجثث الثلاث قبل موتها.١٣
كان عمال الصحة يغطون كل شيء باللون الأبيض، ويقتحمون البيت، ويرشُّونها، حتى تحت الأسرَّة وفوق الأسطح، وكان الناس يقفون في طريق العربات يتلقون البودرة البيضاء على وجوههم وأجسامهم، ضمانًا لعدم الإصابة بالمرض.١٤

وعلى الرغم من الأوامر الصارمة بمنع انتقال المواطنين من مدينة إلى أخرى، حتى لا يتسرب المرض من المناطق الموبوءة، إلى الأماكن التي لم يقتحمها الوباء، ودفع المكافآت لمن يبلِّغ عن الحالات المُشتبَه فيها، وعزل المصابين فورًا، وحقن الملايين بالمصل الواقي، ومصادرة الأغذية المكشوفة، وحظر بيع المياه الغازية.

على الرغم من ذلك كله، فإن الزمام أفلت حين استطاع بعض الملوثين الهروب من مدنهم وقراهم، إلى مدن وقرى أخرى، وأُعلن أن القطر كله منطقة موبوءة، وبدأت المعركة الهائلة بين الناس والفيروس الصغير المنتشر في الأطعمة والأجساد، وإن كان لا يُرى.١٥ وبسط الوباء جناحين أسودين على الحياة المصرية بضعة شهور، وأصبح همًّا عامًّا للشعب جميعًا، وهمًّا خاصًّا لكل مواطن يتَّقي خطره بالنظافة الشخصية. وعندما نشرت الصحف أن عصير الليمون الحمضي يقي من الوباء، ارتفع سعر الليمونة من خمسة إلى سبعة مليمات، ثم إلى عشرة مليمات، ثم نفد الليمون، فقطفه الناس وهو لما يزل أخضر على شجيراته.١٦ وكان رجال البوليس (الوباء) يطاردون الباعة المتجولين في الشوارع والحارات والأزقة، يقلبون لهم الفطائر والبلح والترمس والحلوى.١٧
كانت شهيرة معاوية القليوبي (حديث الصباح والمساء) واحدة من ضحايا الوباء، أصابها، فنُقلَت إلى مستشفى الحميات، وماتت في المستشفى،١٨ وفَقَدَ الدكتور إبراهيم عقل (المرايا) ابنَيه — دفعة واحدة — في الوباء، فأسلم نفسه إلى حالة متصلة من الدروشة، وصار يتردد كثيرًا على جامع الحسين، ويمضي الساعات متربعًا أمام المقام،١٩ كما رزئ الراوي (بيان مشترك ضد الزمن) بضياع ولدَيه، صفية وسعد، في شهر واحد.٢٠ أما بطلة قصة «الوباء»، فقد كانت تعتزم أداء فريضة الحج، للتكفير عن حياتها الملوثة، والعودة للعمل في مهنة أخرى، سافر من قبلها أفواج، وعندما أوشك أن يقوم حاجز بينها وبين ماضيها، أدركت أن الله رفض نقودها، ومحاولتها للتوبة.٢١
وبالطبع، فقد صادفت حملة التطعيم مصاعب تمثَّلت في انعدام الوعي والتواكلية. ثمة من قال (ما دام هناك نساء) باطمئنان: «والله ما فيه حاجة بتحوش المرض أبدًا، ده كله أمر ربنا … تعرف أيام الكوليرا؟ كنت آكل بلح من غير غسيل، ولا اتحقنت ولا حاجة، دي الحقن بتجيب العيا.»٢٢

•••

هل كان الضباط الإنجليز يعلمون بوجود الوباء، فتعمَّدوا السكوت عنه، حتى ينتقل المرض إلى العمال المصريين العاملين في معسكرات التل الكبير، فضلًا عن تجار المخلفات وسواهم ممن كانوا يترددون على المعسكرات؟

لقد أصدرت القيادة البريطانية منشورًا في ١١ سبتمبر ١٩٤٧م يقضي بضرورة مضاعفة كميات الكلور المستخدَم في تنقية مياه المرشحات، الأمر الذي يؤكد وجود خوف من وباء موجود في المياه، أو أنه قد ينتقل إليها، وتأكد — بعد ذلك — أن وباء الكوليرا قد انتشر بين الجنود الإنجليز في مقاطعة البنجاب الهندية، في أغسطس ١٩٤٧م، وأن مجموعات من هؤلاء الجنود وصلت إلى معسكرات القناة في أواخر أغسطس، لتحل محل فرقة إنجليزية عادت إلى إنجلترا.

ظهرت بعض حالات الكوليرا بين الجنود الإنجليز في منطقة المعسكرات، في أوائل سبتمبر، بينما لم يظهر المرض في القرين إلا في الأسبوع الثاني من سبتمبر «إن وباء الكوليرا خرج من معسكرات الإنجليز، وهذه حقيقة لم تَعُد تحتاج إلى تأكيدٍ جديد.»٢٣
فرض الخطر نفسه، لا في القرين وحدها، وإنما في المدن القريبة والبعيدة، وتابع الناس ما جرى، ويجري، باهتمامٍ وقلق، وعُزلَت القرين عزلًا كاملًا حتى لا يتسرب الوباء إلى مناطق أخرى حاصرتها وحدات من الجيش، بينما الوحدات الطبية — في قلب المدينة — تحاول القضاء على المرض، أو التخفيف منه في أقل تقدير. لكن الكثير من أهالي القرين نجحوا — كما أشير — في التسلل إلى خارج البلدة، حاملين معهم الوباء القاتل، وعبَّرت إحدى الصحف عن سوء الوضع بقولها: «زادت نسبة الإصابات والوفيات في القرى التي انتقلت إليها العدوى، حتى إن رجال الصحة لا يكادون يبدءون العمل في قرية إلا ويكلَّفون بالاتجاه إلى الأخرى، وتعمل سيارات نقل المرضى بشكلٍ مستمر — مع عدم كفايتها — لمواجهة الحالة الموجودة الآن.»٢٤

•••

ولعل «اليوم السادس» لأندريه شديد٢٥ هي العمل الروائي الوحيد الذي تقتصر أحداثه على مأساة الكوليرا، من خلال رفقة جدة لحفيدها المصاب بالوباء، ومحاولتها إخفاءه عن الأعين حتى تنقضي الأيام الستة التي إن اجتازها المريض، شُفي من مرضه تمامًا، وبدأ في استرداد عافيته.

الرواية لا تخلو من دلالات ميتافيزيقية، فالوباء هو القدر الذي يحاصر الإنسان، لا يملك من قبضته فرارًا، والحفيد حسن تعبيرٌ عن الكائن البشري، الذي لا يملك — في الحقيقة — سوى إرادته، والجدة أم حسن هي الإيمان بتلك الإرادة — مهما تقسو عليها الأقدار، ومهما يبدو من ضعفها — وهي الحب والخير والأمل.

لكن الذي يهمنا — في الدرجة الأولى — تأثير الوباء في الحياة المصرية، وكان — بالفعل — تأثيرًا حادًّا، ومباشرًا، غيَّر — طيلة أشهر انتشاره — من سلوكيات الأفراد، ومن طبائعهم وعاداتهم، حتى ألعاب الأطفال تمثلت به، عندما كان الصغير برسوم يرتدي بيجامة مخططة، ويتسلق صندوقًا من الخشب، يقلد آثار الكوليرا، يلصق مثلثات من الورق الأخضر على جبهته وأهدابه ووجنتيه، ويفتح فمه على سعته، ويضع يديه على بطنه، ويهتف صارخًا «أنا مصاب بالكوليرا … مصاب بالكوليرا.»٢٦

الحقيقة التي تطالعنا في بداية الرواية، أن القاهرة أمنت — إلى حدٍّ كبير — من الوباء الذي انتشر في الريف بصورة بشعة، ومدمرة.

وحين أرادت أم حسن أن تزور قريتها «بهوات» التي اقتحمها الوباء، لتطمئن على أهلها وأقاربها، حاول سائق العربة أن يثنيها عن رغبتها بقوله: «أنتِ في القاهرة آمنة مطمئنة … فلماذا تذهبين هناك؟ إن الكوليرا في الأرياف قد صالت وجالت، وإن ما ستشاهدينه لن يكون مثار بهجة بالنسبة لك.»٢٧
وبعد أن تعرفت العجوز إلى قريتها، قال الرجل وهو يدير محرك السيارة: سأفرُّ هاربًا.٢٨

لكن العجوز عندما اقتربت من الأبواب المفتوحة؛ تبين لها خلوها من السكان، وقبل أن تهم بالعودة، أتاها صوت يتساءل: ماذا جئت تصنعين عندنا يا أم حسن؟

واستطرد الصوت — وكان لابن شقيقتها صالح: بوسعك أن تعودي من حيث أتيتِ، لقد وصلت بعد فوات الأوان، لم يَعُد هنا سوى الأموات لاستقبالك.٢٩

وعاد الشاب، فأكد قوله: إن الكوليرا لا تهم أهل المدن في شيء، إنها تهمُّنا نحن فقط.

قالت المرأة في ضيق: أنا لا أعلم شيئًا يا صالح.

– لقد مات أحد عشر شخصًا من أسرتنا، أما عن القرية فلم أعد أدري عدد موتاها … ولكن أسوأ ما في الأمر هو المستشفى.٣٠
وانطلق الشاب وهي تتبعه، وأشار إلى كومة من التراب المتكلس: عائلات بأسرها كانت تعيش هنا.٣١

وقالت المرأة: كل شيء هنا ينهار.

– ما فائدة الشرفات للأموات؟

وبعد مسافة، التفت قائلًا: كنت خرجت لأحضر هذا.

وأشار إلى الجاروف الذي كان يمسكه بيده: ولولا هذا لما وجدتني.

– كنت سأذهب إلى داركم.

– لم تعد لنا دار.

– هل غيَّرتم السكن؟

– لقد أحرقوا ديارنا بسبب العدوى، إن رجال الإسعاف يجيئون ويشعلون النيران.٣٢
وفي هجمة الوباء على النوبة، ماتت زوجات الشيخ حسين (زهر الليمون) وأبناؤه ونخيله، ظل وحيدًا في البيت، بين الجدران والأحجار، لا زرع ولا عيال، ونزل القرى ضيفًا، يأكل الخبز الحاف، ويشرب الشاي والدخان.٣٣

•••

ساعد على انتشار الوباء حرص الناس على مرضاهم، وعلى موتاهم أيضًا، كل من حمله رجال الإسعاف لم يعُد إلى بيته أبدًا «إنهم لا يعودون أبدًا.»٣٤
تحدَّى الناس الخطر، حرصًا على أحبائهم المرضى والأموات أن تقذف بهم الحكومة إلى المجهول.٣٥

وفيما عدا قلة ضئيلة من المتعلمين، يمثِّلها في «اليوم السادس» سليم، المعلم الشاب الذي ما إن أحس بأعراض المرض حتى هتف في تلميذه حسن: أسرع بإحضار عربة الإسعاف.

وتصرخ فيه المرأة: هذا جنون … إنهم إذا أخذوك فلن نراك بعد اليوم أبدًا.

– إنني رجل مثقف … إن الرجل المثقف يذهب إلى المستشفى.

وتقاطعه العجوز: لم تعُد هناك عربات إسعاف … إنها لم تعُد تأتي إلى هنا منذ أسابيع … فقد ماتت بالكوليرا.

– إنني أعرف العلامات، لقد قرأت الكتب أيتها المرأة، إنك لا تستطيعين أن تفهمي.

– ليكن، إنها الكوليرا، ولكننا سنقوم بعلاجك أنا والطفل، لن يعلم أحد بشيء، استند إلى كتفي، وسأذهب بك إلى دارك.

– بعد ستة أيام سأكون قد شُفيت، لا تنس ما أقوله لك: في اليوم السادس إما أن نموت، أو نُبعَث من جديد … اليوم السادس، لا يجب أن تجزعي، إن الأيام الستة تمر حالًا، وبعد ذلك أكون هنا من جديد.٣٦

•••

لم يعُد المعلم الشاب في اليوم السادس، ولا في اليوم الثاني عشر، طال انتظار العجوز وحفيدها، حتى فوجئت المرأة بأن المرض — دون أن تدري — قد تسلل إلى بيتها، وأن المريض هو صغيرها الحبيب بالذات.

وحالًا، تقرر المرأة ألا يطَّلع مخلوق على مرض الطفل، حتى تنقضي الأيام الستة، فيبرأ من مرضه، ويعود إلى عالم الأصحاء.

ولأن رجال الإسعاف كانوا يطوفون على الأحياء الفقيرة، بحثًا عن الحالات المشتبَه فيها، والمرضى، فقد حملت العجوز حفيدها، وبدأت رحلة شاقة مضنية، بعيدًا عن رجال الإسعاف، ونظرات الناس، وفضولهم، وشكوكهم، حتى تنقضي الأيام الستة.

•••

وإذا كان المثل يؤكد أن الأوبئة يستفيد منها اللحادون وحدهم، فإن الكوليرا قد تحوَّلت إلى مصدر كسب لدى جماعات أخرى، جعلت همَّها الطواف على البيوت والحواري والأزقة، والتسمع والتشمم وإلقاء الأسئلة،٣٧ بحثًا عن المرضى — أو الموتى — الذين أخفاهم ذووهم، وتبليغ الحكومة، لقاء مبلغ عن كل حالة. وكان القرداتي «أوكازيون» أحد هؤلاء المستفيدين، فإنه ما كاد يبلِّغ عن إحدى الحالات، ويتقاضى مقابلًا للتبليغ عشرة جنيهات كاملة، بل ويبلِّغه الموظف — بالنيابة عن وزير الصحة — تقديره لعمله الإنساني النبيل، حتى صارح نفسه وقرده متأسفًا: لقد أدركت بعد فوات الأوان أين تكمن مصلحتنا، يا لَلخسارة، إن الوباء يقترب من نهايته، لو كنا عرفنا ذلك منذ فترة، لكنا قد أصبحنا من أصحاب الملايين، وملكنا قصرًا يرتفع حتى السماء، ولما رقصنا إلا عندما يحلو لنا … ولكن، من يدري يا مونجا (اسم القرد) ربما كان الخطر لا يزال ينظر إلينا، ولن نلبث أن نعثر على حالات أخرى، نخبر عنها.٣٨

•••

ويجد محمد صدقي في الوباء مناسبة لمناقشة قضية الملكية الزراعية، فالشيخ طاهر الحمصاني عمدة قرية كفر أبو سالم — برغم الحصار الذي فرضه على الناس والأشياء من حوله — يبتلعه الوباء ضمن العشرات من أبناء القرية، ووسط ركام المأساة يحاول أحد المعدَمين أن ينتزع نتيجة إيجابية «ما حدش عارف الخير فين والشر فين، يمكن مرض «الفوريره» ده هو اللي حا يوزع الميَّة وخمسين فدان بتوع العمدة على أولاده الخمسة … وبدال ما يبقى واحد بس عنده ميَّة وخمسين فدان، والباقيين كلنا حواليه جعانين … لأ … يبقى كل واحد من أولاده عنده عشر فدادين بس.»

لكن العمدة يتنبه — حتى وهو يعانق الموت — إلى قضية العمدية من بعده، ويكتب بيده وصية يخص فيها أكبر أبنائه علوان بمائة وعشرين فدانًا، بينما لم يحصل الأبناء الثلاثة الباقون إلا على ثلاثين فدانًا فقط، وكان تقدير الرجل أنه لا بد من وجود واحد من أبنائه غنيًّا في القرية، ليحكمها، ويحصل على العمودية من بعده، وحتى لا يستذل عمدة آخر أبناءه من بعده كما كان هو يفعل مع الناس.٣٩

إن الكوليرا وباء عارض، أما الوباء المقيم فهو العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، بين الذين يملكون والذين لا يملكون، من هنا كان تجاوز الفلاحين للمشكلة التي يحيَون في إسارها قبل أن يفِد الوباء إلى القرية، وبعد أن يرحل عنها، حتى ابتلع الوباء هؤلاء الذين ناقشوا المشكلة.

لكن وضع المشكلة في ذلك الإطار، لم يجاوز — في أذهان الفلاحين — حد الخاطر والأمنية، أما العمدة فلم تعوزه المبادرة، حتى في لحظات الموت، استطاع أن يحتفظ بأغلب الأرض لأكبر أبنائه، والاحتفاظ من ثَم بالعمودية، وبالسلطة الإدارية على أبناء القرية. كان «التصور» هو الاحتمال الوحيد المطروح أمام أبناء قرية «كفر أبو سالم»، في مقابل امتلاك العمدة ﻟ «الفعل» يحتفظ من خلاله بملامح الصورة، أو يبدِّل فيها على النحو الذي يريد.

•••

لقد تباينت المواقف بين الفِرار من الوباء، إلى حد الإعداد لمغادرة البلاد، والإسهام في مكافحته بتكوين فرق النظافة وحقن الأمصال.

كان الشعور بالفزع هو الذي أملى على الكثيرين تصرفاتهم، مدام جوجيادس مثلًا — في رواية «حديقة زهران» — التي بدأت في إعداد حقائبها للسفر إلى بلدها هربًا من الوباء، وحمدي بك عارف الذي حوَّل الفيلا إلى معسكر حصَّنه بكل التدابير الوقائية ضد المرض، حتى بكر ابن الجنايني طرده لما عاد إلى الفيلا — ذات ليلة — متأخرًا، وإنجي هانم٤٠ التي منعت أولادها الثلاثة من الذهاب إلى المدرسة حتى تختفي الكوليرا، خوفًا عليهم من العدوى في المدرسة، أو في الطريق، وحين يريد زوجها عزيز بيه أن يحتج، تأمره هو أيضًا ألا يخرج من المنزل الذي لم يعُد يأكل فيه أي طعام إلا مغليًّا، أو مخلوطًا بعصير الليمون.٤١

وكان الشعور بالفزع هو سِمة تصرفات العديد من الشخصيات التي تمثِّل — في واقعها الحقيقي، والروائي — حتى من قبل أن يأتي الوباء — نباتات شيطانية في تربة الحياة المصرية، لكن الموقف المقابل نجده في الطلائع الشابة، متمثلة في تنظيمات الطلاب والعمال، وفي التنظيمات السياسية المتطرفة، كان همها الأول فضح تلك النباتات الشيطانية، واجتثاثها — إن أمكن — من تربة الواقع المصري، وكان بذل كل الجهود — طيلة فترة الوباء — في عمليات الوقاية والتطعيم.

ومع أن الوباء أفلح في تأجيل الانفجار لبضعة أشهر، أو لبضع سنوات [ثمة روايات أن الإنجليز تسللوا بالوباء إلى داخل البلاد، للقضاء على المد الشعبي المتزايد الذي كان ينادي بالتخلص من الاستعمار وأعوانه في آن] فإن ذلك التأجيل كان أشبه بجذب السهم، لينطلق — من بعد — من قوسه إلى الهدف. أسهمت الكوليرا في تهيئة المناخ الذي تتفجر فيه الثورة، وكانت عاملًا إيجابيًّا حاسمًا في تحويل حلم الثالث والعشرين من يوليو ١٩٥٢م إلى حقيقة متفجرة.

اكتسح الوباء الطبقات الشعبية والفقيرة، ولعله من هنا جاءت تسميته مرض الأيدي القذرة … «هكذا يسمون الكوليرا، أما هم، فلا يخشون شيئًا، فأيديهم نظيفة.»٤٢ بينما نال الطبقة الوسطى، وما فوقها، رذاذٌ قليل، أو أنها لم تتأثر بصورة مباشرة بويلاته. وقد نشرت جريدة «المصري»٤٣ — على سبيل المثال — أنه «لم تقع حتى الآن أية إصابة في القاهرة بين أفراد الطبقتين العالية والمتوسطة، وكل ما وقع من الإصابات حتى الآن كان بين أفراد الطبقات الفقيرة»، وكتب خالد محمد خالد: «لقد وزعت وزارة الأوقاف على أئمة المساجد خُطبة، ألزمتهم جميعًا بإلقائها في الجمعة الماضية، والذين سمعوا خُطبة الكوليرا هذه، سمعوا كل شيء يليق بوزارة الأوقاف أن تقوله، بيد أنهم — للأسف — لم يسمعوا أهم شيء كان يجب أن يسمعوه، وهو السبب الحقيقي الذي مكَّن للأوبئة كافة أن تتخذ من شعوبنا مزارًا، أو مطافًا، ونعني به — طبعًا – الجوع.»٤٤
أما مصطفى سويف فقد أشار بإصبع الاتهام إلى نظام الحكم كله «فاللاعبون جميعًا على المسرح المكشوف، والمحركون من وراء الكواليس، والمخرجون والملقِّنون مشغولون بتسخير كل شيء لأغراض اللحظة، ولا أحد يهتم بخطط البناء طويلة الأجل.»٤٥

ودلالة الكلمات تجاوز الوباء إلى الانفجار المرتقب، القريب.

هوامش

(١) محمد صدقي، شرخ في جدار الخوف، ٧٨.
(٢) محمد روميش، الليل الرحم، روايات الهلال، ديسمبر ١٩٨٦م.
(٣) المصدر السابق.
(٤) عبد الحكيم قاسم، أيام الإنسان السبعة، ١٤.
(٥) السماء السوداء، ٥٩.
(٦) المصدر السابق، ٥٩–٦١.
(٧) الليل الرحم.
(٨) ضياء الشرقاوي، فوق باب البيت الصغير، الزهور، نوفمبر ١٩٧٤م.
(٩) مصطفى محمود، شمعة تحترق، قصص مصطفى محمود، روز اليوسف.
(١٠) محمد صدقي، حجر على سطح بحيرة، شرخ في جدار الخوف، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
(١١) يوسف الشاروني، الوباء، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(١٢) محمد الراوي، الزهرة الصخرية، هيئة قصور الثقافة.
(١٣) محمد الراوي، الزهرة الصخرية.
(١٤) المصدر السابق، ٨٦.
(١٥) الوباء.
(١٦) المصدر السابق.
(١٧) المصدر السابق.
(١٨) حديث الصباح والمساء، ١٢٧.
(١٩) المرايا، ١٥-١٦.
(٢٠) صلاح عيسى، بيان مشترك ضد الزمن، الثقافة العراقية، إبريل ١٩٧٥م.
(٢١) الوباء.
(٢٢) محمود السعدني، ما دام هناك نساء، السماء السوداء.
(٢٣) مصدر المعلومات: الطبيب سامي لبيب أول من اكتشف ظهور الكوليرا في بلدة القرين، مجلة «الصحة»، يوليو ١٩٧٣م.
(٢٤) صوت الأمة، ١٥/ ١٠/ ١٩٤٧م.
(٢٥) أديبة لبنانية الأصل، وُلدَت في مصر، وعاشت الجزء الأكبر من حياتها فيها.
(٢٦) أندريه شديد، اليوم السادس، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٨٦م، ٣٠.
(٢٧) المصدر السابق، ١٤.
(٢٨) المصدر السابق، ١٤.
(٢٩) المصدر السابق، ١٥.
(٣٠) المصدر السابق، ١٧.
(٣١) المصدر السابق، ٢١.
(٣٢) المصدر السابق، ١٩.
(٣٣) علاء الديب، زهر الليمون، ٦ روايات قصيرة، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٣م، ١٥٣.
(٣٤) اليوم السادس، ٢٠.
(٣٥) الراوي في «شمس الخريف» يشير إلى أسطورة قديمة، تفسر ذلك الخوف الذي كان يدفع الناس إلى عناق الموت، أسطورة تعيش، وتتجدد، في كل قرية مع كل موسم أوبئة، ملخصها أن الذئاب تسطو على «المعزل» فتجر منه جثث الموتى من بين أحياء، بعضهم يهذي، وبعضهم نائم (شمس الخريف، محمد عبد الحليم عبد الله، ٧٩).
(٣٦) اليوم السادس، ٤٠.
(٣٧) تحفل صحف تلك الفترة بتحقيقاتٍ مطولة عن التأثيرات السلبية للوباء على المجتمع المصري.
(٣٨) اليوم السادس، ٨٤.
(٣٩) صوت الأمة، ١٥/ ١٠/ ١٩٤٧م.
(٤٠) محمد صدقي، حجر على سطح بحيرة.
(٤١) شرخ في جدار الخوف، ٨٥.
(٤٢) اليوم السادس، ٨٩.
(٤٣) ١١/ ١٠/ ١٩٤٧م.
(٤٤) الجماهير، ٥/ ١٠/ ١٩٤٧م.
(٤٥) مصطفى سويف، مسيرتي ومصر في القرن العشرين، كتاب الهلال، ٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥