الظهور الأول للملاك
٣٤
عندما تحزم السيدة هامرجالو أمرًا، يجري كل شيء وفقًا لإرادتها، وبرغم امتعاض الكاهن الذي أبداه على استحياء، أنفذت إرادتها وحشدت جمهورًا، سيحضُر الملاك بكمانه في منزل سيدرمورتون قبل نهاية الأسبوع. وبحكمة واستباقٍ مضت تقول: «عبقري اكتشفه الكاهن.» لتلقي باللائمة على الكاهن إن لم تجرِ الأمور على ما يرام. أخذت تردد أن الكاهن يتحاكى ببراعة الملاك في عزف الكمان. لطالما أضمرت رغبة في لعب دور راعية المغمورين من أصحاب المواهب، إلا أن أحدًا ممن رعتهم لم يُثبت موهبةً حقيقية عند الاختبار حتى ذلك الحين.
قالت: «سيأتي ذلك عليه بفائدةٍ كبيرة، شعره طويل بالفعل، وبلونه الفريد ذاك سيبدو بمظهرٍ جميل جدًّا على المسرح، وارتداؤه لملابس الكاهن التي لا تلائم مقاسه يجعله يبدو كعازف بيانو مواكب للموضة بالفعل، كما ستكون فضيحة نسبه التي ستتناقلها الألسنة سرًّا عامل جذب إضافيًّا عندما يصل صيته إلى لندن.»
أما الكاهن، فقد اعتملت في صدره أسوأ الأحاسيس، وأخذت تتفاقم كلما اقترب اليوم المحدد. أمضى ساعات في شرح الموقف للملاك، وساعات يتخيل ما قد يظنه الناس، وساعات أثقل في تصور سلوك الملاك. لم يسبق للكاهن حتى ذلك الحين أن عزف إلا إشباعًا لهوايته، وظل الكاهن يفزعه عن العزف بين الفينة والأخرى ليخبره بما يخطر بباله من ملاحظات عن مقتضيات اللباقة، من قبيل: «المكان الذي ستضع فيه قبعتك مهم للغاية، لا تضعها على كرسي أبدًا، أمسكها حتى يصلك شايُك، ثم ضعها في مكان مناسب.» مرت الرحلة إلى منزل سيدرمورتون بلا منغصات، لكن عندما أتت لحظة التقديم داهم الكاهن تخوفٌ شديد عندما أدرك أنه نسي أن يشرح للملاك كيف يكون التقديم والتعارف، وكان الملاك مستمتعًا في سذاجةٍ ظاهرة، لكن لم يحدث أي مكروه.
قال السيد راثبون-سلايتر الشديد الاهتمام بالأزياء: «فتًى غريب الهيئة! ينقصه الهندام والتهذيب معًا، ابتسم ابتسامةً عريضة عندما رآني أصافح البعض، أعتقد أني كنت أصافح بلياقة كافية.»
وحدث أمرٌ قليل الأهمية: عندما كانت السيدة هامرجالو ترحب بالملاك نظرت إليه بنظارتها، فأفزعه حجم عينَيها كما بدا في عدستَي النظارة، ولم يحسن إخفاء مفاجأته، بل حاول أن ينظر إلى عينَيها من وراء الإطار، لكن الكاهن كان قد حذره من بوق الأذن.
أثار عدم قدرة الملاك على الجلوس على أي شيء إلا كرسي الموسيقى اهتمام السيدات، لكن لم تعلق أيٌّ منهن على ذلك، بل اعتبرنه تكلفًا من عازفٍ مبتدئ. ارتبك في حمل كوب الشاي وأسقط الكثير من الفتات أثناء تناول الكعك (إذ لم يزل حديث العهد بالأكل)، وجلس واضعًا ساقًا على ساق، وأربكته القبعة بعد أن حاولت عيناه ملاقاة عينَي الكاهن فلم يكن له ذلك. وحاولت كبرى سيدات آل بابافير التحدث معه عن المنتجعات العالمية والسجائر، فرأت محدودية ذكائه.
فوجئ الملاك عندما أُحضر حامل النوتة الموسيقية وعدة نوتات، واضطرب في أول الأمر عندما رأى السيدة هامرجالو جالسة تميل رأسها وتراقبه بعينَيها اللتين بدتا أكبر من حجمهما بفعل النظَّارة المكبِّرة ذات الإطار المكسوِّ بالذهب.
قصدته السيدة جيهورام قبل أن يبدأ العزف وسألته عن اسم المقطوعة الساحرة التي كان يعزفها ظهيرة ذلك اليوم، فأجابها الملاك بأن ليس لها اسم، فوافقته السيدة جيهورام في أن المقطوعات الموسيقية لا ينبغي أن تحمل أسماء أبدًا، وعندما أخبرها بأنه عزفها على السليقة، قالت إنه لا بد أن يكون عبقريًّا حقًّا، ورنَت إليه (بإعجاب وافتتان واضحَين). في هذه الأثناء كان خوري إبينج هانجر يشاهده في غيرة (وكان هو نفسه عازف بيانو معتادًا على الحديث عن الألوان والموسيقى بشيء من الاستعلاء العرقي).
وجد الكاهن نفسه مضطرًّا للجلوس بجانب السيدة هامرجالو، لكن عينَيه ظلتا معلقتَين بالملاك بينما كانت تخبره هي بتفاصيلَ من وحي خيالها عن الدخل الذي يجنيه عازفو الكمان. كانت قد انزعجت بعض الشيء مما بدر من الملاك عندما رأى عينَيها في عدستَي النظارة، لكنها اعتبرته حادثًا غريبًا لم يتجاوز فيه الملاك حدود المسموح.
(أما السيدة ميندام وابنتاها، فلم يقبلْنَ الدعوة، رغم علمهن بأن ذلك قد يثير امتعاض السيدة هامرجالو؛ فقد فكرْنَ في الأبرشية، كما فوجئت السيدة ميندام واستاءت من تشجيع السيدة هامرجالو لمثل ذلك الشخص.)
فلتتخيل المشهد؛ الصالون الأخضر في حديقة سيدرمورتون، وملاكٌ متخفٍّ في ملابسَ كهنوتية يحمل في يده كمانًا، ويقف بجوار البيانو الكبير، وحشد من المتابعين الهادئين الوقورين المهندمين في القاعة. وثرثرة في انتظار البدء، وأجزاء من محادثات متداخلة.
قالت كبرى سيدات آل بابافير للسيدة بربرايت: «إنه منتحل، أليس هذا غريبًا ومثيرًا؟! تقول جيسيكا جيهورام إنها رأتْه في فيينا، لكنها لا تتذكر اسمه، الكاهن يعرف كل شيء عنه، لكنه قريب للغاية من …»
وقالت السيدة بربرايت: «الكاهن المسكين يبدو متوترًا ومنزعجًا، كنت ألاحظ ذلك عليه من قبلُ كلما جلس بجوار السيدة هامرجالو، إنها لا تمنحه التوقير المستحق للإكليروس، بل تواصل اﻟ…»
قالت كبرى سيدات آل بابافير: «رابطة عنقه مائلة، وشعره لا يبدو أنه قد صففه اليوم.»
وقال جورج هارينجاي وهو يجلس مع صُغرى سيدات آل بربرايت: «يبدو غريبًا، متصنِّعًا، لا بأس بأن يظل في غرفة استقبال، لكني أفضِّل أن يكون مظهر الرجل ذكوريًّا، ومظهر المرأة أنثويًّا، ما رأيك؟»
ردت صُغرى سيدات آل بربرايت: «أوافقك الرأي.»
في حين كانت السيدة هامرجالو تواصل: «جنيهات فوق جنيهات، سمعت أن بعضهم يمتلكون مؤسسات فخمة، أمر لا يصدق …»
قالت السيدة جيهورام: «أحب الموسيقى يا سيد آنجيل، بل أعشقها، تُحرك بداخلي شيئًا ما، لا يمكنني وصف تأثيرها عليَّ، لا أتذكر من الذي قال تلك العبارة البليغة: الحياة بلا موسيقى وحشية، والموسيقى بلا حياة هي … لا أتذكر، أتتذكر أنت؟ الحياة بلا موسيقى هي … أكان راسكين من قال ذلك؟»
قال الملاك: «أعتذر عن جهلي بذلك؛ إذ لم أقرأ إلا القليل من الكتب.»
قالت السيدة جيهورام: «يا للطفك! ليتني لا أقرأ، أتفهم موقفك تمامًا، لو كنتُ مكانك لما قرأتُ كثيرًا، فقط نحن النساء المسكينات من ﻧ… أعتقد أننا نفتقر إلى الإبداع، والمرء في هذه الأرجاء يضطر إلى أغرب الأشياء …»
قال جورج هارينجاي: «إنه وسيم للغاية حقًّا، لكن القوة هي المقياس الحقيقي للرجولة، أليس كذلك؟»
قالت صُغرى سيدات آل بربرايت: «أوافقك الرأي.»
قال جورج: «الرجل المخنث هو من يجعل المرأة ذكورية، إذا كان شعر الرجل مصدر فخره فما المتوقع من المرأة؟ عندما يختال الرجال بجمالهم …»
قالت الآنسة بيربرايت الصغرى: «أوه جورج! أنت انتقاديٌّ على نحوٍ مريع اليوم. إنني على يقين من أن هذا ليس احتيالًا.»
قال الكاهن: «أنا حقًّا لست وصيًّا عليه يا سيدة هامرجالو، لطفٌ منكِ بالتأكيد أن تولي اهتمامكِ …»
وقالت السيدة جيهورام باستمتاع: «هل سترتجل حقًّا؟»
قال خوري إبينج هانجر: «صه!»
بدأ الملاك العزف، موجهًا نظره إلى الأمام مباشرة، وأخذ يتخيل ما في أرض الملائكة من أشياءَ رائعة، ثم طغى الحزن الذي كان قد بدأ يشعر به عليه بدلًا من روائع أرض الملائكة، فانعكس التحول في عزفه. كان ينسي من كانوا يحيطون به تارة فيصير عزفه فريدًا ورائقًا، ويتذكرهم تارة فيُسمع في موسيقاه نشازًا غريبًا. بدا على السيدة جيهورام اندماج كامل مع ما كانت تسمع (رغم غرابة الموسيقى في بعض الأحيان)، وحاولت أن تلتقي عيناها بعينيه. كان وجهه يفصح عن مشاعره بوضوح، وتعبيراته في غاية الرقة، وكانت السيدة جيهورام تجيد الحكم على الأمور، وفي هذه الأثناء بدا على جورج هارينجاي الملل، حتى خلعت السيدة بربرايت الصغرى التي كانت تعشقه حذاءها الصغير لتلمس حذاءه بقدمها، فالتفت إليها ونظر إلى عينَيها الرقيقتَين اللتين تنضحان غنجًا وأنوثة، فذهب عنه الملل. وجلست كُبرى سيدات آل بابافير والسيدة بربرابت ساكنتَين رزينتَين لما يقرب من أربع دقائق.
ثم همست كبرى سيدات آل بابافير: «تمتعني موسيقى الكمان بشدة دائمًا.» وأجابتها السيدة بربرايت: «لا يوجد لدينا من الموسيقى الجميلة هنا إلا القليل.» قالت السيدة بابافير: «عزفه جميل جدًّا.» ثم قالت السيدة بربرايت: «لمساته للأوتار رقيقة!» ثم قالت السيدة بابافير: «هل يهتم ويلي بدروسه؟» واستفاضتا في الحديث همسًا.
جلس خوري إبينج هانجر في مرمى نظر الجميع (شعر بذلك)، وطوَّق إحدى أذنَيه بيده، في حين كانت عيناه معلقتَين بقاعدة تقوم عليها مزهرية من نوع سيرفيز. وظل يحرك فمه بإشارات نقديةٍ سخية لكل من أراد الاستفادة برأيه. كانت ملامحه تشي بانهماكه في التقييم والحُكم، وظلت تتغير لتبدي استياءً تارة وتقديرًا متحفظًا تارةً أخرى. في حين تراجع الكاهن في كرسيِّه وحدق في وجه الملاك، وسرعان ما هام في حلمٍ جميل. أما السيدة هامرجالو، فظلت تُحدِث حركاتٍ سريعةً مفاجأة برأسها واهتزازاتٍ طفيفةً مستمرة وهي تنصت إلى عزف الملاك وتحاول تقييمه. وحدق السيد راثبون سلايتر في قبعته ساكنًا وبدا عليه كربٌ شديد، أما قرينته فقد انشغلت بالسيدة جيهورام. وامتلأ الجو بالموسيقى ليستمتع بها كل من كانت له أذنان.
همست السيدة هامرجالو بصوتٍ أجشَّ: «مؤثر إلى حدٍّ ما.» ووكزت الكاهن فجأة بين ضلوعه فأفزعته من أحلامه فجأة؛ فأجفل وأطلق صيحة استفهام، فقال خوري إبينج هانجر: «صه!» ونظر الجميع إلى الكاهن هيليار مستغربًا تصرُّفه غير اللائق. قالت كُبرى سيدات آل بابافير: «غريب أن يصدر ذلك من الكاهن، لم أتصور أن يفعل ذلك!» وواصل الملاك العزف.
أخذ خوري إبينج هانجر يصدر حركاتٍ لا إرادية بسبابته، ومع استمرار العزف استغرق السيد راثبون سلايتر فيه حتى شعر بخدرٍ في كل جسمه من فرط الاستمتاع، ثم عدَّل قبعته وغير اتجاه نظره في سكون، وعاد الكاهن إلى الهيام في أرض الأحلام مجددًا بعد الفاصل المؤقت من الاضطراب، في حين تململت السيدة هامرجالو كثيرًا حتى أحدث مقعدها أزيزًا توقف بعد فترة، ثم صاحت: «رائع!» على الرغم من أنها لم تكن قد سمعت لحنًا منتظمًا من قبلُ، وطفقت تصفِّق بيدَيها، فانتشرَت عدوى التصفيق بين الجميع عدا السيد راثبون سلايتر الذي أخذ ينقر على حافة قبعته بدلًا من التصفيق. وصفق خوري إبينج هانجر معلنًا حكمه على ما سمع.
كانت السيدة بربرايت تُحدِّث كبرى سيدات آل بابافير في موضوعٍ آخر (وهي تصفِّق بحرارة)، قالت: «قلت لها: إن لم تطهي الطعام على طريقتي فلا حاجة لنا بك … (هذه الموسيقى ممتعة ومبهجة.)»
قالت كبرى سيدات آل بابافير: «(حقًّا، تمتعني الموسيقى بشدة دائمًا) … وهل تحسنت بعد ذلك؟»
قالت السيدة بربرايت: «لم تتحسن على الإطلاق.»
أفاق الكاهن من أحلامه مرةً أخرى ونظر حوله في الصالون يتحقق مما إذا كان الآخرون أيضًا قد رأوا تلك الخيالات التي تمثَّلت له، لا بد أنهم جميعًا رأوها ولكنهم أظهروا سيطرةً بالغة على مشاعرهم، ليس من المعقول ألا تؤثر موسيقى كهذه عليهم. قالت السيدة هامرجالو للكاهن فجأة: «تنقصه بعض الكياسة، لا ينحني لتحية الجمهور ولا يبتسم، ينبغي أن يتعلم هذه الأمور الصغيرة، كل مؤدٍّ ناجح لديه قدر من الكياسة، ولو اختلف هذا القدر.»
حدقت السيدة جيهورام فيه بعينَين ملؤهما الافتتان: «هل ارتجلتَ هذا اللحن بنفسك حقًّا؟ لقد كان بالغ الروعة! وهذا أقل ما يُقال عنه.»
قال خوري إبينج هانجر للسيد راثبون سلايتر: «به بعض الشبه بعزف الهواة، موهبةٌ فذة بلا شك، لكن ينقصها التدريب المستمر. لاحظت هنة أو هنتَين، أودُّ محادثته بشأنهما.»
قال السيد راثبون سلايتر: «بنطاله يبدو كالأكورديون، ينبغي أن يعلم ذلك؛ فمظهره ليس ملائمًا بما يكفي.»
قالت السيدة هامرجالو: «هل يمكنك تقليد الأصوات يا سيد آنجيل؟»
فأيدتها السيدة جيهورام: «نعم، فلتقلد بعض الأصوات، أحب التقليد كثيرًا.»
تحدث خوري إبينج هانجر وهو يحرك يدَيه الموسيقيتَين الطويلتَين مخاطبًا كاهن سيدرمورتون: «كان عزفه ساحرًا، أظنني سمعته من قبلُ، لا أتذكر أين، لا شك في عبقريته الموسيقية، لكنه ينشز أحيانًا، يعوزه بعض الإتقان وسنوات من التدريب.»
وقال جورج هارينجاي: «لا تعجبني هذه المقطوعات الموسيقية المعقدة، يؤسفني أن ذوقي أبسط من ذلك، أشعر أنها تفتقد الاتساق في اللحن، لا يوجد ما هو أفضل من الموسيقى البسيطة. اللحن المتسق والبساطة هما المطلوبان في عصرنا هذا. هناك مبالغة في التعقيد وميل إلى اللامألوف. أما أنا فأُفضِّل الأفكار البسيطة، ما رأيك؟»
قالت صُغرى سيدات آل بربرايت: «حقًّا، أوافقك الرأي.»
وفي الطرف الآخر من القاعة قالت السيدة بربرايت: «أخبريني يا إيمي، هل تتحدثين مع جورج كعادتكما؟»
فقالت السيدة بربرايت الصغرى: «كالمعتاد يا أمي!» والتفتت تفتش عن السيدة بابافير مبتسمة، ثم التفتت مجددًا حتى لا يفوتها ما يقول جورج.
قالت السيدة هامرجالو لخوري إبينج هانجر الذي بدت عليه كآبةٌ شديدة: «أتساءل إن كان من الممكن أن تؤدي أنت والسيد آنجيل معزوفةً مشتركة.»
انفرجت أسارير خوري إبينج هانجر وقال: «يسعدني ذلك بكل تأكيد.»
وقال الملاك: «معزوفةٌ مشتركة؟! نحن الاثنان؟ إذن فهو أيضًا يعزف، فهمت ذلك، الكاهن أخبرني.»
قاطعه الكاهن: «السيد ويلمردينجز عازف بيانو ذائع الصيت.»
كانت السيدة جيهورام تمقت ويلمردينجز، فقالت: «ماذا عن التقليد؟»
قال الملاك: «تقليد؟!»
قال السيد راثبون سلايتر: «نعم، كخنخنة الخنزير وصياح الديك وما إلى ذلك.» وأضاف بصوتٍ خفيض: «هذا هو أكثر ما يمكن أن يصدر عن الكمان في رأيي.»
قال الملاك: «لم أفهم حقًّا، صياح الخنزير؟!»
قالت السيدة جيهورام: «أنت لا تهوى التقليد، ولا أنا، أتفهم رفضك، أعتقد أن التقليد يحطُّ من قدر …»
قالت السيدة هامرجالو: «قد يغير السيد آنجيل رأيه فيما بعدُ.» وكانت قبل قولها ذلك قد سمعت من السيدة بربرايت تفسيرًا ما إن سمعته حتى ارتابت في بوق الأذن الذي تسمع به؛ إذ لم تعتد أن تطلب شيئًا من قبيل التقليد فلا تُلبَّى رغبتها.
جلس السيد ويلمردينجز إلى البيانو، وكان في الاستراحة قد طالع بعض النوتات الموسيقية، التفت إلى الملاك وقال: «ما رأيك في معزوفة سبور؟ أنت تعرفها لا شك، صحيح؟» فبدت الحيرة على الملاك.
ففتح النوتة يعرضها عليه.
قال الملاك: «يا لغرابة هذا الكتاب! ماذا تعني كل هذه النقاط العجيبة؟» (فسرى في عروق الكاهن قلقٌ شديد.)
قال الخوري: «أي نقاط؟»
فأشار الملاك إلى النوتة وقال: «هذه النقاط!» مثبتًا جهله بماهية النوتة.
قال الخوري: «يا للعجب!»
وعم صوتٌ مفاجئٌ مؤقت يعني الكثير في مثل هذه الفعاليات الاجتماعية.
التفتت كبرى سيدات آل بابافير إلى الكاهن وقالت: «ألا يعزف السيد آنجيل من النوتة الموسيقية العادية؟»
تمالك الكاهن نفسه بعد القلق الذي داهمه وقال: «لم أسمع … حقًّا لم أرَ قط …»
شعر الملاك باحتقان الموقف، ولكنه لم يفهم السبب، لاحظ نظرات الريبة والاستهجان على الوجوه التي تنظر إليه، وسمع السيدة بربرايت تقول: «مستحيل! بعد هذه الموسيقى الساحرة.» وتوجهت كبرى سيدات آل بابافير إلى السيدة هامرجالو على الفور وبدأت تشرح لها في بوق الأذن كيف رفض السيد آنجيل العزف مع السيد ويلمردينجز متعللًا بجهله بالنوتة الموسيقية.
قالت السيدة هامرجالو في صدمةٍ شديدة: «لا يمكنه العزف من النوتة الموسيقية؟! هذا محض هراء!»
قال الملاك في ارتباك: «نوتة؟! أهذه هي النوتة الموسيقية؟»
قال السيد راثبون سلايتر لجورج هارينجاي: «إنه يتمادى في الهزل، كل ذلك ليتجنَّب العزف مع ويلمردينجز.»
عمَّ الصمت والترقب، وأدرك الملاك أنه من المفترض في هذا الموقف أن يخجل من نفسه، بل شعر بالفعل بخجل من نفسه.
تقدمت السيدة هامرجالو ورأسها مرفوع في خيلاء وتحدثت بسخط تعمدت إظهاره بوضوح قائلة: «إن لم تستطع العزف مع السيد ويلمردينجز، فلن أطلبك للعزف مرةً أخرى.» قالت ذلك بلهجة إنذار، وارتعشت نظارتها في يدها، وكان الملاك قد فهم ما يكفي عن عالم البشر ليدرك أنه في ورطة.
نادت لوسي راتشاك الصغيرة من الركن البعيد: «ما الخطب؟»
رد تومي راثبون سلايتر: «رفض أن يعزف مع ويلمردينجز العجوز، يا للعجب! لقد احمر وجه العجوز غضبًا، فهي توقِّر ويلمردينجز كثيرًا.»
قالت السيدة هامرجالو: «هلا أمتعتنا بمعزوفة شوبان البولندية الجميلة يا سيد ويلمردينجز؟» فصمت الجميع؛ إذ كان لغضبة السيدة هامرجالو مهابةٌ تدفع الجميع إلى الصمت والترقُّب كما لو أن زلزالًا أوشك أن يهزَّ الأرض، أو كسوفًا أوشك أن يحجبَ الشمس. ورأى السيد ويلمردينجز أنه لو بدأ العزف على الفور لكان ذلك معروفًا (يسديه للجميع، ويزيد من موثوقيته لديهم)، وفعل ذلك بالفعل.
قال جورج هارينجاي: «إذا ادعى رجلٌ أنه ممارس لأحد الفنون، فأضعف الإيمان أن يدرس أسسه، ما رأيك؟»
قالت صغرى آل بربرايت: «صحيح، هذا ما أراه.»
شعر الكاهن أن السماء قد انهارت فوق رأسه، فجلس في كرسيه مخذولًا محطَّمًا، وجلست السيدة هامرجالو بجواره وهي لا تكاد تراه. كانت أنفاسها تتسابق رغم الهدوء الذي بدا على وجهها. جلس الجميع. هل كان الملاك بالغ الجهل أم بالغ الوقاحة؟ لم يكن لدى الملاك درايةٌ كافية بجريمته النكراء، لكنه أدرك أنه لم يعد محط الاهتمام وسط الجمع. رأى في عين الكاهن توبيخًا يخالطه اليأس. انسلَّ إلى النافذة في فترة الاستراحة وجلس على الكرسي الثُّماني الموريِّ الطراز بجوار السيدة جيهورام. وعندئذٍ قدَّر عاليًا قيمة الابتسامة الحانية التي ارتسمت على وجه السيدة جيهورام، ووضع الكمان على إفريز النافذة.
٣٥
جلست السيدة جيهورام والملاك (مكانهما) عند النافذة، وأخذ السيد ويلمردينجز يعزف.
قالت السيدة جيهورام: «كنت أود منذ وقتٍ طويل أن أحادثك في هدوء، لأخبرك بمدى انبهاري بعزفك الجميل.»
رد الملاك: «يسعدني أنه أسعدك.»
قالت السيدة جيهورام: «لم يسعدني فحسب، بل هزني حتى الأعماق، الآخرون لم يفهموا، وسعدت بأنك لم تعزف معه.»
نظر الملاك إلى ويلمردنجز وهو يعزف على نحوٍ ميكانيكي، وشعر هو أيضًا بالسعادة لكن لم يقل الملاك شيئًا (المعزوفات المشتركة لدى الملائكة شبيهة بالمحادثة بين كمانَين).
قالت السيدة جيهورام: «أهيم عشقًا بالموسيقى، لا أعرف شيئًا عن آلية عزفها، لكنها تبثُّ في النفس شيئًا أشبه بالشوق أو التمني.»
حدَّق الملاك في وجهها، وتلاقت العيون.
قالت: «أرى أنك تفهم ذلك.» كان فتًى لطيفًا، عواطفه جياشة ربما، وعيناه جميلتان.
انقطع الحديث، وانصرف الانتباه لوهلة لمعزوفة شوبان رقم ٤٠ التي كانت تُعزَف بتمكُّنٍ بالغ.
لم يزل وجه السيدة جيهورام جميلًا حتى عندما غطَّى الظل أجزاءً منه وطوَّق النور شعرها الذهبي، عندئذٍ خطرت ببال الملاك فكرةٌ غريبة. أيد مظهرها حينئذٍ ما كان يدور بخلده، تخيل شيئًا ديدنه البريق الدائم الجميل وقع في الأسر، ولُوِّثت طبيعته، وأُكسب شيئًا من الغلظة، ثم ووري بمظهرٍ خارجي مخالف لأصله.
قال الملاك بصوتٍ خفيض: «هل … هل انفصلتِ عن عالمك؟»
ردت: «وأنت أيضًا؟»
قال الملاك يقصد عالم البشر كله: «هذا كله باردٌ جدًّا، وقاسٍ جدًّا!»
فردت تقصد منزل سيدرمورتون: «أنا أيضًا أشعر بذلك.»
وتوقفت للحظة مُظهرةً التعاطف ثم واصلت: «هناك أشخاص لا يمكنهم العيش بدون تعاطف، وأوقات يشعر فيها المرء بالوحدة في هذا العالم، يشعر بأنه في معركة يحارب فيها كل شيء، ومع ذلك يضحك، ويغازل ويخفي كل هذا الألم.»
أكمل الملاك جملتها وهو يرمقها بنظرةٍ حانية: «ويتمنى.»
شعرت السيدة جيهورام (التي تتفهم عبارات الغزل وتقدرها) أن جوهر الملاك لا يناقض مظهره وأنه يهيم بحبها (بلا شك)، قالت: «هل تبحث عن التعاطف؟ أم وجدته بالفعل؟»
رد الملاك بهدوءٍ شديد وهو يميل إلى الأمام: «أعتقد أني وجدته بالفعل.»
استمرت معزوفة شوبان رقم ٤٠، وتواصل تهامس السيدة بابافير والسيدة بربرايت، ووقفت السيدة هامرجالو (رافعة كأسها) ترمق الملاك بنظراتٍ عدائية، في حين تبادلت السيدة جيهورام مع الملاك نظراتٍ عميقة ذات معنًى.
قال الملاك: «اسمها ديليا، إنها …» (وندت عن السيدة جيهورام حركة.)
قالت السيدة جيهورام بحدة وقد أدركت أن هناك لبسًا مؤسفًا: «ديليا! اسمٌ رائع، أليست هي العاملة في منزل الكاهن؟»
انتهت المعزوفة بنغمةٍ مؤثرة، وفوجئ الملاك بتغير ملامح السيدة جيهورام.
قالت مستدركة: «أما أنا فلم أجده بعد!»
وخاطبت نفسها: «أتستأمنني أنا على سر هيامك بالخادمة؟ حقًّا يا سيد آنجيل؟ يبدو أن جعبتك لا تعدم الجديد.»
ثم انقطع حديثهما فجأة.
٣٦
هذا القسم أقصر أقسام الكتاب (إن لم تخني الذاكرة).
ولكن فداحة محتواه تستلزم فصله عن باقي الأقسام.
لا بد للقارئ من أن يفهم أن الكاهن قد بذل قصارى جهده لإكساب الملاك الصفات المميزة للرجل اللبق، فكان يقول له: «لا تسمح لسيدة بأن تحمل شيئًا، بل استأذنها واحمله أنت عنها، وقفْ لأي سيدة احترامًا لها، وافتح لها الباب.» وما إلى ذلك (كل الرجال الذين لهم أخوات يكبرْنهم يعرفون هذه القواعد).
كان الملاك (الذي أخذ عن السيدة هامرجالو قدح الشاي) هبَّ فجأةً (تاركًا السيدة جيهورام عند إفريز النافذة) بعد أن قال لها باقتضاب: «معذرةً!» وتقدَّم ببراعةٍ لافتة فأخذ عن خادمة السيدة هامرجالو الجميلة صينية الشاي وأسرع أمامها بإصرارٍ مُفرِط، فقام الكاهن وصاح بكلامٍ لم يُسمَع جيدًا.
٣٧
قطع السيد راثبون سلايتر صمتًا مطبقًا بقوله: «إنه ثمل! لا بد أن هذا ما دهاه.»
وانفجرت السيدة جيهورام بضحكٍ هستيري.
ووقف الكاهن يحدِّق فيه بلا حراك، وخاطب نفسه قائلًا نادمًا: «يا للهول! نسيت أن أشرح له الخدم ووظيفتهم! ظننته يفهم ذلك.»
قالت السيدة هامرجالو وقد بدا عليها كبح غضبٍ عظيم وترددت أنفاسها بسرعة: «حقًّا يا سيد هيليار؟! حقًّا؟ العبقري الذي جلبته شديد التبجُّح، لا يسعني الآن إلا أن أطلب منك اصطحابه والعودة إلى المنزل.»
حال لون وجه الكاهن من الحرج، وملأ اليأس عينَيه، واستقرت رابطة عنقه تحت أذنه اليسرى، خرج إلى الرواق وقاطع الحوار الذي دار فيه بين الخادمة المضطربة والملاك الحسن النية السيئ التصرف.
وقال وهو يغالب طوفانًا من المشاعر يعتمل في داخله: «تعال، لنذهب، لقد لحق بي عارٌ لن يزول أبدًا.»
حدق فيه الملاك لثانية ثم فعل ما أمر صاغرًا يشعر أن قوًى يجهل كنهها ويشعر بفظاعتها تحيط به.
وهكذا لم تكد سيرته تبدأ حتى انطوت.
وفي حوار (يتطاير حوله شرر الغضب) تلا ذلك وتولت فيه السيدة هامرجالو دور القيادة قالت: «أشعر بالإهانة، لقد أكد لي الكاهن أنه عازفٌ بارع، لم أكن أتخيل أن …»
قال السيد راثبون سلايتر: «كان ثملًا، بدا ذلك جليًّا فيه ارتباكه وهو يحتسي شايه.»
قالت السيدة ميرجل: «مهزلة!»
كررت السيدة هامرجالو: «أكد لي الكاهن، قال لي: «الرجل الذي يقيم معي هو عبقريةٌ موسيقية.» هذه كلماته بالضبط.»
قال تومي راثبون سلايتر: «على أي حال، لا بد أنه يدرك هذا السخط العارم عليه الآن.»
قالت السيدة جيهورام: «كنت أحاول تهدئته وملاطفته، هل تعلمون ما قال لي هناك؟»
قال السيد ويلمردنجز: «المقطوعة التي عزفها، أعترف أني لم أرد مواجهته، لكن في الحقيقة كانت تتواصل فحسب بلا تأثير.»
قال جورج هارينجاي: «كان يعبث بالكمان فحسب، صحيح؟ اعتقدت أني أنا فقط من لم يتذوَّقْها؛ فالكثير من موسيقاك الراقية هي بالنسبة إليَّ …»
قالت صغرى آل بربرايت: «جورج!»
قال السيد راثبون سلايتر: «كان الكاهن مضطربًا قليلًا كذلك، كما بدا من رابطة عنقه، أرأيتم كيف كانت؟ وكيف أثار ضجة حول ذلك الفذ الذي أتى به؟»
قالت كبرى آل بابافير: «الحذر والاحتياط واجبان.»
قالت السيدة جيهورام: «قال لي إنه يهيم حبًّا بخادمة الكاهن! كدت أضحك أمامه مباشرة.»
قالت السيدة راثبون سلايتر في حزم: «كان على الكاهن ألَّا يُحضره إلى هنا أبدًا.»