ديليا
٤٠
كانت ديليا على بعد أربع أو خمس ياردات فقط عن الملاك وهو يعزف في العلية الغربية، وكانت النافذة ذات الحواجز المعينة الشكل لحجرتها البيضاء الصغيرة مفتوحةً. جثت على صندوق من الصفيح المطلي بدهانٍ أسود، وأسندت ذقنها إلى يدَيها، وكوعَيها إلى النافذة. أطلَّ القمر من فوق أشجار الصنوبر، فنشر نوره الناعم البارد الشفاف على القرية الناعسة الساكنة، وعلى وجهها الأبيض الجميل، فكشف عن عمقٍ جديد في عينَيها الحالمتَين، وتباعدت شفتاها الناعمتان فكشفتا عن أسنانٍ بيضاءَ صغيرة.
كانت ديليا مستغرقة في تفكيرٍ عميق، تجول بخاطرها أفكارٌ عن المعجزات كتلك التي تغازل خيال الفتيات. بل لم يشغلها حينئذٍ الفكر بقدر ما اعتملت في وجدانها المشاعر، جالت في سماء خيالها سحبٌ شفافة من مشاعرَ رقيقة، وأخذت السحب تأتلف في أشكال لا تكاد تتكون حتى تختفي. كانت رقيقة المشاعر، تراوحها رغبةٌ غريبة في التضحية بنفسها، وتسيطر تلك الرغبة على قلبها كما تزور قلوب الفتيات دونما استئذان، حتى تطردها متاعب الحياة اليومية وهمومها شر طردة، ثم تعود مرةً أخرى مندفعةً طاغية، كاندفاع نبتة البرسيم تحت أسنان المحراث إذ يقتلعه المزارع من أرضه. كانت تتأمل ضوء القمر الهادئ من قبل أن يبدأ الملاك في العزف بوقتٍ طويل، وتنتظر، حتى انبعثت في الصورة الجميلة التي رسمتها الظلال والضوء الفضي الرقراق تلك الموسيقى الحالمة.
لم تندَّ عنها حركة سوى انطباق شفتَيها وزيادة الْتماع عينَيها. كانت قد فكرت من قبلُ في البهاء الذي أحاط بذلك الأحدب وهو يحدثها مع غروب شمس ذلك اليوم، كما كانت تفكر في الكثير والكثير من النظرات واللفتات الأخرى ولمسة اليد الوحيدة تلك، وفي عصر ذلك اليوم الآخر حين سألها تلك الأسئلة الغريبة. أما الآن فقد كانت الموسيقى ترسم وجهه أمامها، فتتخيل نظرة الفضول والانشغال تلك تخترق روحها حتى الأعماق. بدا كأنه يحادثها مباشرة، ويخبرها عن وحدته والمتاعب التي تؤرقه. ليس الندم بهين، وليس الشوق بزائل، وليست ورطته باليسيرة. كيف لخادمة أن تساعد ذلك اللبق الذرب اللسان اللطيف المعاملة الذي يعزف بهذا الجمال؟ كانت الموسيقى ناعمةً ومسترسلة، ولمست شغاف قلبها فاشتدت قبضة إحدى يدَيها على الأخرى، وانسالت الدموع على وجهها الجميل.
قد يقول كرامب إن هذا لا يحدث للشخص إلا لعلة في جهازه العصبي؛ فالحب من منظور العلم علة.
أعلم أن هذا الجزء من القصة قد يثير حفيظة البعض، حتى إنني حاولت أن ألتفَّ على الحقيقة مرضاة لسيدات المجتمع القارئات، لكني لم أستطع؛ فقد فرضت الحقيقة إرادتها على قصتي، فإذا بي أكتبها بعينَين مفتوحتَين على اتساعهما. لا بد أن تظل ديليا خادمةً كما هي. وأعلم أن منح خادمةٍ بسيطة — خاصة لو كانت إنجليزية — مشاعرَ إنسانيةً سامية، وجعلها تتحدث بأي شيء غير لهاثها المضطرب، يقصيني من مصافِّ الكتَّاب المرموقين؛ فالتعاطف مع الخدم (ولو بالفكر فقط) أمرٌ خطير هذه الأيام. لا يمكنني أن أدافع عن نفسي (ولو كان دفاعًا واهنًا) إلا بالقول إن ديليا كانت خادمةً استثنائية. ربما يتبين بالبحث أن والديها ينتميان إلى أعلى فئات الطبقة المتوسطة، وأنها من طينة هذه الطبقة. كما أنني أتعهد (وربما عاد هذا التعهد على قضيتي بفائدةٍ أكبر) أني سأعدل كفة الميزان في أحد أعمالي القادمة، سأرسم للقارئ الصبور الصورة التي ينتظرها لأمثالها؛ قدمَين ويدَين كبيرتَين، وطريقة الكلام التي يتحدثن بها (والصفات الشكلية التي يتسمن بها)، والاستعداد التام للتنازل عن احترامهن مقابل عملةٍ معدنيةٍ صغيرة. هذه هي الصورة المقبولة للخادمة الإنجليزية، بل وللمرأة الإنجليزية العادية (إذا لم تكن ذات مال أو إنجازات)، هكذا يجري تصويرها في أعمال الكتاب المعاصرين، لكن ديليا كانت تختلف عن ذلك نوعًا ما، ولم يسعني إلقاء اللوم إلا على الظروف؛ فقد تجاوز الأمر حدود قدرتي.