تدخُّل السيدة هينجير
٤٤
فاجأت السيدة هينيجر الكاهن بأن طرقت على باب مكتبه بعد تناول الشاي وقالت: «أستميحك عذرًا سيدي، لكن هل لي أن أتحدث معك لدقائق؟»
رد الكاهن متوقعًا خبرًا سيئًا آخر: «بالتأكيد يا سيدة هينيجر.» وكان عندئذٍ يحمل في يده خطابًا غريبًا ولاذعًا من الأسقف، أزعجه الخطاب وأصابه بالغم؛ إذ أخذ عليه الأسقف سوء اختياره لمن يستضيف في منزله. ما كان لأسقف أن يكتب خطابًا كهذا إلا إذا كان يحظى بشعبية تبثُّ في نفسه شيئًا من الغوغائية ويعيش في كنف حكمٍ ديمقراطي.
سعلت السيدة هينيجر في يدها وحاولت ضبط أنفاسها المضطربة، في حين تخوَّف الكاهن مما في جعبتها على عادته في معظم الأحاديث التي تجمعهما؛ إذ لا ينتهي أحدها إلا ويترك في نفسه قلقًا جديدًا.
قال الكاهن مستحثًّا إياها: «كلي آذانٌ مُصْغية.»
قالت وهي تسعل مجددًا: «هل لي أن أسأل عن موعد رحيل السيد آنجيل؟» (تسعُل.)
رد الكاهن ببطء مكررًا سؤالها لكسب الوقت: «موعد رحيل السيد آنجيل؟ أنتِ أيضًا تسألين!»
قالت: «عذرًا سيدي، لكني اعتدت على خدمة أفاضل الناس، أما خدمة شخص مثله فلا يمكنك تخيل صعوبتها.»
قال الكاهن: «شخصٌ مثله؟! هل أفهم من ذلك يا سيدة هينيجر أن السيد آنجيل لا يروقك؟»
ردت: «الأمر يا سيدي أني قبل انتقالي إلى خدمتك كنت أعمل في منزل السيد داندولر لسبعة عشر عامًا، وأنت نفسك يا سيدي رجلٌ فاضل من أهل الكنيسة، أما …»
قاطعها الكاهن: «مهلًا عزيزتي! ألا تعتبرين السيد آنجيل رجلًا فاضلًا؟»
ردت: «يؤسفني أن أضطر لقول ذلك سيدي، ولكن …»
قال: «ولكن ماذا؟ يا للعجب!»
واصلت: «يؤسفني أن أقول ذلك سيدي، لكن عندما يقرر ضيفٌ فجأة ألا يأكل إلا النباتات فيُقدم على إطفاء كل نيران الطهي، وعندما لا تكون لديه أمتعةٌ شخصية فيسعى إلى استعارة القمصان والجوارب من مضيفه، وعندما لا يجيد تناول الطعام فيحاول قطع حبات البازلاء بسكينه (كما رأيتُ بعينيَّ)، ثم يطوي منديله بعد تناول الطعام، ويدب أصابعه في اللحم المفروم، وعندما يعزف الكمان في منتصف الليل فلا يترك أحدًا ينام، وعندما يحدق بابتسامةٍ غريبة في وجه من يكبرونه وهم يصعدون الدرج، وعندما يسيء التصرف بوجهٍ عام بطُرق لا يسعني ذكرها كلها لك، عندئذٍ لا يسع المرء إلا أن يُكوِّن رأيًا عن ذلك الشخص. حرية الفكر مكفولة يا سيدي، ولا يسع المرء إلا التوصُّل إلى استنتاجات بعينها. وعلاوة على ذلك، يدور في كل أرجاء القرية حديثٌ كثير عنه. يمكنني تمييز الرجل الفاضل عندما أراه، ويمكنني تمييز من هو ليس كذلك. تحدثت أنا وسوزان وجورج في الأمر مطولًا، بوصفنا كبار الخدم وأكثرهم خبرة. فضلًا عن أمر تلك الفتاة ديليا، أتمنى ألَّا يتسبب في إلحاق أي ضرر بها، صدقني يا سيدي، السيد آنجيل ليس كما تظنُّه، يُستحسن أن يترك هذا المنزل في أقرب وقتٍ ممكن.»
توقفت السيدة هينيجر عن الحديث فجأة ووقفت تتردد أنفاسها بعنف ويبدو على وجهها التجهُّم وعيناها لا تفارقان وجه الكاهن.
قال الكاهن: «حقًّا يا سيدة هينيجر؟! يا إلهي!»
ثم وقف وقلبه يتضرع آملًا في تغيير مصير بدا له محتومًا وقال: «ماذا فعلتُ؟ ماذا فعلتُ؟»
قالت السيدة هينيجر: «لا يمكننا أن نجزم بشيء، لكن هناك الكثير من الأقاويل في القرية.»
قال الكاهن: «تبًّا!» ثم توجه إلى النافذة وأطلَّ منها، ثم التفت وقال: «اسمعي يا سيدة هينيجر، السيد آنجيل سيغادر هذا المنزل في غضون أسبوع، أهذا كافٍ؟»
ردت: «كافٍ تمامًا سيدي، أنا متأكدة من ذلك.»
وعندئذٍ وقعت عينا الكاهن على الباب وتعلقتا به على نحوٍ غير معهود.