الملاك في مأزق
٤٥
قال الكاهن: «الحقيقة أن لا وجود لعالم الملائكة.»
لم تكن الستائر قد أُسدلت بعدُ، فظهر اللون الرمادي البارد الذي صبغ به الغسق أديم السماء. جلس الملاك إلى الطاولة في وجوم. كان قد علم بحتمية رحيله بعد أن أدرك أن وجوده آذى الناس وجلب على الكاهن النقمة، وأدرك كذلك مسوغات القرار، بيد أنه لم يعرف ماذا عساه أن يفعل بعد خروجه من المنزل لمواجهة العالم وحده. موقفٌ صعب لا شك.
قال الكاهن: «لديك الكمان، لكن بعد التجربة التي مررنا بها أ…»
ثم واصل بعد انقطاع: «عليَّ أن أجهز لك ملابس أو زيًّا ترتديه، يا إلهي! أنت لا تفهم نظام السفر بالسكك الحديدية، ولا العملات المعدنية، ولا كيفية الحصول على مسكن، ولا المطاعم. لا بد أن أساعدك إلى حين استقرار أمورك، وأن أدبِّر لك عملًا تقتات منه، لكن … ملاك في لندن؟ ويعمل لكسب العيش؟ بين الدهماء؟ ماذا قد يحل بك؟ ليت لي في هذا العالم صديقًا واحدًا أثق في أنه سيصدقني!
كان عليَّ ألَّا أطلب منك الرحيل.»
قال الملاك: «لا تقلق بشأني يا صديقي، على الأقل حياتكم هذه تنتهي، وتحدث فيها أمور، هناك أشياء في حياتكم هذه، لقد توليتني بالرعاية، وكنت أظن أن حياتكم ليس فيها أي جمال.»
قال الكاهن وقد دهمه ندمٌ مفاجئ: «لكني خنتك! لماذا لم أواجههم جميعًا، أليس هذا مما تحلو به الحياة؟ ما أهمية شئون الحياة اليومية؟»
وبعد توقفٍ مفاجئ كرر: «ما أهميتها؟»
قال الملاك: «لم أجلب إلى حياتك إلا المتاعب.»
قال الكاهن: «لا تقل ذلك، بل جئت لتوقظني، لقد كنت منغمسًا في حلمٍ طويل. كنت أحلم بأن كل ما يحدث في هذه الحياة ضروري وأن هذا السجن الضيق هو العالم كله، ولا يزال الحلم محيطًا بي ويقضُّ مضجعي. هذا كل ما هنالك، حتى رحيلك، أليست ضرورة رحيلك مجرد حلمٍ يراودني؟»
وعندما خلد الكاهن للنوم في تلك الليلة تجلى له الطابع الغرائبي لكل ما حدث، استلقى على سريره مسهَّدًا وراوحته رؤًى فظيعة عما قد يحل بزائره الطيب الرقيق في تجواله بهذا العالم الذي لا يرحم، وما قد يصادفه من عاديات الدهر. كان ضيفه ملاكًا بلا شك. حاول أن يجترَّ ما حدث في الأيام الثمانية الماضية مجددًا. تذكر الظهيرة القائظة، والنار التي أدت به المفاجأة إلى إطلاقها، ورفرفة الجناحَين ذوَي الألوان العديدة، وذلك الكائن الجميل المكسوَّ برداء بلون الزعفران وهو طريح على الأرض، وانبهاره بروعة المشهد كله! ثم تذكر ما سمعه عن العالم الآخر، وشرد عقله إلى الأحلام التي سحبه إليها عزفه على الكمان، والمدن الرائعة الغامضة التي تظهر وتختفي في أرض الملائكة. حاول أن يتذكر التضاريس والمباني، وأشكال الثمرات التي تدلَّت من الشجر، والكائنات المجنَّحة التي انتشرت بين هذا كله. ثم تحوَّل كل ذلك من ذكريات إلى واقعٍ فعلي أخذ يتجلَّى له شيئًا فشيئًا في حين ظلت متاعبه تتضاءل شيئًا فشيئًا، وهكذا وبنعومة ويسر، انسلَّ الكاهن من بين متاعبه ومؤرقاته وانغمس في أرض الأحلام.
٤٦
جلست ديليا أمام نافذتها المفتوحة تُمنِّي النفس بسماع عزف الملاك، لكنه لم يعزف تلك الليلة. كثرت في السماء الغيوم لكنها لم تكفِ لإخفاء القمر تمامًا. كان ستارٌ من الغيوم يسير في جو السماء فيختفي القمر وراءه حينًا فلا يظهر منه إلا بقعةٌ مبعثرة من الضوء، ثم تخبو بقعة الضوء حينًا، ثم تمر غلالةٌ خفيفة من الغيوم فتفسح المجال لضوء القمر فيظهر ساطعًا بهيًّا وسط زرقة الليل. تناهى إلى سمعها صوت فتح باب الحديقة، ثم رأت شخصًا يخرج منه تحت ضوء القمر المتردد.
لم يكن ذلك الشخص سوى الملاك، لكنه استعاض عن المعطف الذي لم يكن يناسبه بردائه الزعفراني الذي جاء به. لم يبدُ من الرداء تحت ضوء القمر الخافت إلا بريقٌ لا لون محددًا له، وبدا جناحاه من خلفه بلونٍ رماديٍّ كئيب. بدأ يجري لمسافاتٍ قصيرة ويرفرف بجناحَيه ويقفز ثم يعود إلى نقطة البداية ويكرر ذلك مجددًا تحت ضوء القمر وظلال الأشجار، في حين جلست ديليا تراقبه في ذهول. أطلق صرخة يأس وقفز لارتفاع أعلى، فأصدر جناحاه المهترئان وميضًا ثم سقطا، ومرت غيمة أكثر كثافة أمام القمر فحجبت نوره وأضفت على المشهد مزيدًا من الغموض. بدا أنه حاول القفز لارتفاع خمسة أو ستة أقدام ثم سقط مضطربًا. رأته على الضوء الخافت يقع على الأرض ثم ينتحب.
زمَّت ديليا شفتَيها وحدقت وقالت: «لقد أصيب؛ عليَّ مساعدته.»
ترددت ثم وقفت واندفعت نحو الباب بسرعة، وهبطت الدرج وخرجت إلى نور القمر، فوجدت الملاك مستلقيًا على أرض الحديقة كما هو، ينتحب على بؤسه الشديد.
جثت ديليا أمامه ولمست رأسه مترددة وقالت: «ما الخطب؟»
كفكف الملاك دموعه واعتدل في جلسته وحدق فيها فرأى وجهها في ضوء القمر وقد بدا عليه الحنو والإشفاق، كررت هامسة: «ما الخطب؟ هل تعرضت لإصابة؟»
حدق الملاك حوله ثم استقرت عيناه على وجهها، فقال: «ديليا!»
وكررت مجددًا: «هل تعرضت لإصابة؟»
قال: «جناحاي … لا يمكنني استخدامهما!»
لم تفهمه ديليا، لكنها أدركت أن الخطب جلل، واصل الملاك: «الظلام في كل مكان، والطقس بارد، ولا يمكنني استخدام جناحيَّ.»
أشفقت عليه بشدة عندما رأت الدموع تنسال على وجهه، ولم تعرف ما عليها أن تفعل.
مد الملاك ذراعيه فجأة نحوها وقال: «أشفقي عليَّ يا ديليا، أشفقي عليَّ.»
جثت بلا تفكير وطوقت وجهه بيديها وقالت: «لا أعلم ما الأمر، لكني أُشفق عليك، أشفق عليك من كل قلبي.»
لم ينبس الملاك بكلمة، بل ظل يتأمل وجهها الصغير في ضوء القمر، وبدا في عينَيه الانبهار والتعجب وقال: «يا لغرابة هذا العالم!»
سحبت يديها فجأة، ومرت غيمةٌ جديدة أمام القمر، وقالت ديليا: «ماذا يمكنني أن أفعل لمساعدتك؟ سأفعل أي شيء لمساعدتك.»
ظل ممسكًا بها بذراعَيه، وحلَّ الارتباك على وجهه محل البؤس، وكرر: «يا لغرابة هذا العالم!»
كانت جاثية على ركبتَيها وهو جالس، في حين سقط عليهما ضوء القمر المتراقص يتحدى ظلام الحديقة.
وفجأة جاء نداء السيدة هينيجر من نافذتها: «ديليا! أهذه أنت؟»
نظرا إلى النافذة في تخوف.
قالت السيدة هينيجر: «تعالي إلى هنا فورًا يا ديليا! إذا كان السيد آنجيل هذا رجلًا (وهو لم يكن كذلك في واقع الأمر) مهذبًا لشعر بالخزي من نفسه، فأنتِ يتيمة فوق كل شيء!»