اليوم الأخير في الزيارة
٤٧
في صباح اليوم التالي تناول الملاك فطوره ثم خرج قاصدًا المستنقع، وتحدثت السيدة هينيجر مع الكاهن، وليس المهم الآن أن نسرد تفاصيل ما جرى. بدا على الكاهن امتعاضٌ شديد وقال: «يجب أن يرحل، يجب أن يرحل بكل تأكيد.» ونسي الاتهام الأساسي في غمرة الاضطراب. أمضى الصباح في تأملٍ طويل لم يقطعه إلا مطالعة قائمة أسعار سكيف آند ووترلو ودليل المتاجر الطبية والبحثية والمكتبية. وبدأت ملامح قائمة مهام مكتوبة على ورقة كانت أمامه على المكتب في الظهور. قص نموذج قياسات الجسم من قسم الملابس في مجلة «ذا ستورز» وثبته على ستار في المكتب، كان يعد وثيقة محتواها كالآتي:
«معطف أسود ماركة ميلتون فروك ٣٫١ جنيهات إسترلينية.
بنطال أو اثنان.
بذلة من ماركة شيفيو تويد (اكتب الطراز والقياسات الشخصية).»
أخذ الكاهن يتأمل أشكال بعض الرجال المهندمين في المجلة لبعض الوقت، كانوا جميعًا حسني الهيئة، لكنه وجد صعوبة في تخيل مظهر الملاك إذا تغيَّر ليصبح مثل مظهرهم؛ إذ لم يحصل الملاك على أي بذلةٍ تناسبه هو رغم مرور ستة أيام. تردد الكاهن بين فكرة اصطحاب الملاك بالسيارة إلى بورتبردوك لأخذ مقاساته لتفصيل بذلة له، ورعبه الشديد مما قد يبدر من الحائك الذي استأجره، لا بد أن الحائك سيطلب تفسيرًا كاملًا لكل شيء. كما أنه لم يعرف متى سيرحل الملاك بالتحديد. مرت الأيام الستة، وبدأ الملاك يعتاد هذا العالم وغطت الملابس الجديدة التي ابتاعها الكاهن له بهاءه.
«قبعة من اللباد الطري، ز. ٧.
قبعة من الحرير ١٤، علبة لحفظ القبعة.»
قال الكاهن: «أعتقد أنه ينبغي أن تكون لديه قبعة من الحرير، فهي رائجة هنا، الشكل رقم ٣ يبدو مناسبًا له، لكن من الصعب عليَّ أن أتخيله وحيدًا في هذه المدينة الكبيرة، سيسيء الجميع فهمه، وسيسيء هو فهم الجميع. ومع ذلك لا مفر من ذلك، إلى أين وصلتُ في قائمة المستلزمات؟
فرشاة أسنان، فرشاة ومشط، موسى حلاقة.
ستة قمصان (ينبغي أخذ مقاس رقبته).
جوارب، بنطال.
منامتان (كم سعرهما؟ لنقُلْ ١٥).
درزينة من الياقات (من نوع ذا لايف جاردزمان).
دعامات (أوكسون باتنت فيرساتايل).
(قال الكاهن: «لكن كيف سيتمكن من استخدامها؟»)
طابع مطاطي باسم تي آنجيل، ولوح تحبير كامل.
(لا بد أن السيدات اللاتي يمتهنَّ غسل الملابس سيسرقن كل أغراضه.)
سكين جيب أحادي النصل مزود بفتاحة.
ملحوظة: لا تنسَ دبوس البدلة، ودبوس ياقة. (أعجب الكاهن بالعلامة التجارية، ووجد أنها ستُضفي مظهرًا عمليًّا.)
حقيبة سفر جلدية. (الأفضل مشاهدة هذه!)»
انهمك الكاهن في التبضع على مهل حتى حل موعد الغداء، وكان الأسى يعتصر قلبه في تلك الأثناء.
لم يعد الملاك لتناول الغداء، ولم يكن ذلك لافتًا للنظر؛ فقد فوَّت الغداء مرة من قبلُ. لكن بالنظر إلى قصر الوقت المتبقي لهما معًا، كان من المتوقع أن يعود. لا بد أن لديه أسبابًا وجيهة لغيابه عن الغداء. تناول الكاهن الغداء في غير اهتمام، وخلد بعد الظهر للراحة على النحو المعتاد، وأضاف إلى قائمة المستلزمات بعض البنود. ولم يبدأ القلق على الملاك يتسرب إلى نفسه حتى حان موعد تناول الشاي. انتظر لمدة نصف ساعة تقريبًا قبل تناول الشاي، ثم خاطب نفسه: «غريب!» وهو يحتسي شايه شاعرًا بالوحدة.
ومر الوقت ثقيلًا حتى حان موعد العشاء ولم يظهر الملاك، فبدأ الكاهن يتخيل احتمالاتٍ مزعجة، خاطب نفسه وهو يعبث بذقنه: «لا بد أنه سيأتي لتناول العشاء.» وبدأ يتجول في المنزل ويقوم ببعض المهام التافهة في اضطراب، كما كانت عادته عند حدوث أي تغيير في روتينه المعتاد. غابت الشمس في مشهدٍ مهيب بين كتل متراكبة من السحاب القرمزي. بهت اللون الذهبي والأحمر تدريجيًّا ليحل الغسق محلهما في أديم السماء، ثم لملمت الشمس أهداب ثوبها إلى الأفق الغربي البعيد. قطع طائر مرعة الغيط صمت المساء بشدوه، وبدا الاضطراب على وجه الكاهن، خرج مرتَين ينظر إلى جانب التل إذ يسدل الظلام أستاره عليه شيئًا فشيئًا، وفي المرتَين عاد إلى المنزل قلقًا. قدمت السيدة هينيجر العشاء وقالت للمرة الثانية بنبرة تأنيب: «العشاء جاهز.» فرد الكاهن: «حسنًا، حسنًا.» وصعد إلى الطابق العلوي.
هبط إلى مكتبه وأشعل فتيل مصباح القراءة بعود ثقاب ثم ألقى عود الثقاب في سلة المهملات بدون أن ينتظر ليتأكد من انطفائه. ثم عاد إلى غرفة العشاء وبدأ يتناول طعام العشاء في ارتباك.
(عزيزي القارئ، اقترب أوان وداعنا للكاهن العزيز.)
٤٨
كان السيد جون جوتش يركب حصانه في أحد الطرق المعشوشبة الفاصلة بين محميات سيدر (ولم تكن ثائرته قد هدأت بعدُ على ما لحق بالسلك الشائك)، وبينما كان في طريقه رأى الشخص الوحيد الذي لم يرغب في رؤيته، يتهادى وراء الشجيرات.
صاح السيد جون جوتش باحتداد: «يا للعجب! هذا أكثر مما يُطاق.»
وقف على رِكاب السرج ونادى: «يا رجل، أنت يا من تمشي هناك!»
التفت الملاك مبتسمًا.
قال السيد جون جوتش: «اخرج من الغابة!»
رد الملاك: «لماذا؟»
فتش السيد جون جوتش في معجمه من البذاءات فلم يسعفه، فقال: «تبًّا! اخرج من هذه الغابة!»
اختفت ابتسامة الملاك ووقف بلا حراك وسأل: «لماذا عليَّ الخروج منها؟»
وقف الاثنان لا ينبسان لنصف دقيقةٍ تقريبًا، ثم نزل السيد جون جوتش عن السرج ووقف على الأرض بجوار حصانه.
(تفاديًا للإساءة للملائكة، على القارئ الكريم أن يتذكر هنا أن ملاكنا هذا كان قد أمضى أسبوعًا يستنشق هواءنا المحمَّل بسُم النضال من أجل البقاء، ولم يقتصر تأثير ذلك على جناحَيه والنور المنبعث من وجهه؛ فقد كان قد أكل الطعام ونام واستيقظ وتعلم معنى الألم، وقطع شوطًا ليس بالهيِّن في طريق الإنسانية. ظلت قسوة هذا العالم وصراعاته تنصبُّ عليه صبًّا طوال زيارته، فنسي سمو جوهره تدريجيًّا.)
قال جوتش: «ترفض الانصراف إذن؟!» ثم بدأ يسحب حصانه بين الشجيرات في اتجاه الملاك. وقف الملاك وقد تقلَّصت كل عضلاته واضطربت أعصابه حتى ارتعش وهو يشاهد عدوه القادم نحوه.
قال جوتش: «اخرج من هذه الغابة!» وتوقف على بعد ثلاث ياردات منه، في حين بدا على وجهه غضبٌ شديدٌ وهو يمسك بزمام الحصان بيد والسوط بالأخرى.
اكتسح الملاك طوفان من المشاعر، وسأل الرجل بصوتٍ خفيضٍ مرتعش: «من أنت؟ من أنت لتأمرني بمغادرة هذا المكان؟ ماذا حل بالعالم وجعل رجلًا مثلك ﻳ…»
قاطعه جوتش بلهجة تهديد: «أنت ذلك الأبله الذي قطع سلكي الشائك، إذا كنت مصرًّا على أن تعرف من أنا!»
قال الملاك: «سلكك الشائك؟! أكنت أنت من وضعه؟ بأي حق تفعل ذلك؟»
قال جوتش لاهثًا: «دعك من هذا الهراء الاشتراكي، هذه الغابة ملكي، ومن حقي حمايتها بكل الطرق، أعرف أمثالك من الحثالة الذين يسيئون الحديث ويثيرون سخط الناس، وإذا لم تنصرف من هنا على الفور …»
قال الملاك والتحفز ينضح منه: «ماذا إذن؟»
قال جوتش: «اخرج من الغابة اللعينة!» قالها وهو ينظر منبهرًا بالنور المنبعث من وجه الملاك.
خطا جوتش خطوةً واحدة باتجاهه رافعًا السوط، ثم حدث شيء لم يفهمه هو ولا الملاك جيدًا؛ بدا أن الملاك قفز إلى الهواء، ولوَّح بجناحَين رماديَّين نحو الإقطاعي جوتش. رأى الإقطاعي وجهًا ينضح بجمالٍ شديد يعكره غضبٌ عارم يرمقه من علٍ، وانتُزع سوطه من يده، وتراجع حصانه من خلفه وجذبه حتى انفك زمامه من يده وفرَّ الحصان هاربًا.
نزل السوط على وجهه وهو يسقط على الأرض، ونزلت جَلدةٌ أخرى على وجهه وهو يعتدل في جلسته على الأرض. رأى الملاك تتفجر منه براكين الغضب ويوشك على توجيه ضربةٍ جديدة، فرفع يدَيه يحتمي بهما، واندفع إلى الأمام لتفادي ضربة كادت تصيب عينَيه، وتدحرج على الأرض في حين انهالت عليه الضربات في ثورةٍ عارمة.
صاح الملاك: «أيها الهمجي!» وهو يضرب بلا هوادة على أي جزء يطاله السوط، وقال: «أيها الكائن الوحشي المتعالي الكذوب! لقد طمست أرواح بشرٍ آخرين، أيها الأبله الضحل التفكير المتباهي بخيلك وكلابك! إياك أن تؤذي كائنًا حيًّا مرةً أخرى! تعلَّمْ! تعلَّم! تعلَّم!»
أطلق جوتش صيحات استغاثة، وحاول القيام على قدمَيه مرتَين، لكنه كان لا يكاد ينهض على ركبتَيه حتى ينهال عليه غضب الملاك فيسقط مجددًا، وبعد لحظات أصدر من حلقه صوتًا غريبًا، وتوقف عن التلوِّي تحت ضربات السوط.
وفجأة استعاد الملاك وعيه بعد أن هدأت ثورته، فوجد نفسه يقف لاهثًا مرتعشًا، واضعًا إحدى قدميه على جسد لا يتحرك في الغابة المترعة بنور الشمس.
نظر حوله، ثم إلى قدمَيه، فوجد بين أوراق الشجر الذابلة شعرًا مضرجًا بالدماء. سقط السوط من يدَيه، واختفت من وجهه ثورة الغضب.
قال الملاك: «الألم! لكن … لماذا يستلقي هكذا بلا حراك؟»
رفع قدمه عن كتف جوتش، وانحنى نحوه، ووقف ينصت، ثم جثا وهزَّه وقال: «استيقظ!» ثم كررها بصوت أرق: «استيقظ!»
ظل كما هو لعدة دقائق يحاول أن يسمع أي صوت، ثم هبَّ واقفًا ونظر إلى الأشجار الساكنة من حوله. دهمه شعور بالخوف الشديد، طوَّقه وسيطر على كيانه كله، فهمس مخاطبًا نفسه في رعب: «ماذا جرى لي؟»
نظر إلى الجسم الساكن وقال فجأة: «الموت!» ثم التفت مذعورًا وفرَّ من بين أشجار الغابة.
٤٩
ظن الملاك أن جوتش قد مات، فمضى بين أشجار الغابة وشجيراتها الكثيفة بطول المستنقع يكابد ندمًا وخوفًا عظيمَين. روَّعه ذلك الدليل الحاسم الأخير على إنسانيته الطاغية إلى حد يفوق التخيل. حشدت الحياة كل ما فيها من ظلام وغضب وألم ضده في جيشٍ واحدٍ جرَّارٍ داهمه حتى زلزل كيانه وقيده إلى كل ما كان يراه منذ أسبوع غرائب جديرة بالرثاء تصم نفوس البشر.
خاطب نفسه: «هذا العالم لا يصلح للملائكة حقًّا! إنه عالمٌ من الحرب والألم والموت، يتملَّك الغضب فيه المرء … ها أنا أقف ويداي ملوثتان بالدماء وأنا من لم يعرف الألم والغضب من قبلُ. لقد سقطتُ، سقطت في هذا العالم، حيث الجوع والعطش والرغبات الكثيرة المعذِّبة. لا بد للمرء من القتال للحصول على موطئ قدم، لا بد من الغضب وإنزال الضربات.»
رفع يدَيه إلى السماء، وارتسمت على وجهه أقصى درجات الندم وانعدام الحيلة، ثم هوت يداه مجددًا إلى قاعٍ سحيق من اليأس. شعر أن أسوار السجن الضيق الذي يسمونه الحياة تزحف نحوه من كل جانب بوتيرةٍ ثابتة لتسحقه تمامًا في النهاية. شعر بما يشعر به كل الفانين البائسين عاجلًا أو آجلًا؛ سطوة الأمور الحتمية التي لا ترحم، تارة تداهمنا من خارجنا، وتارة تنبع من داخلنا (حيث تكمن المؤرقات الكبرى)، وبالعذاب الذي تصبُّه علينا مُثلنا العليا فلا نستطيع منه فكاكًا عندما تُرغمنا الحياة على تناسي أفضل صورة من صور ذواتنا. بيد أن ذلك الانهيار يحدث لنا، معشر البشر، شيئًا فشيئًا، نهبط إلى الحضيض درجةً تلو الأخرى بمرور السنين الطوال بدون أن ننتبه، أما هو فقد اختصر طريق الانهيار في أسبوعٍ واحدٍ قصير. شعر بأن هذه الحياة أعاقته وطمست كيانه وأعمت بصره وبصيرته بأمرها النافذ. شعر بغصة المسموم بسمٍّ زعاف، وبامتداد الدمار إلى كل ركن في كيانه.
لم يلقِ بالًا للجوع أو التعب ولم يشعر بمرور الوقت، بل ظل يهيم على وجهه شارد الذهن، يتجنَّب المنازل والطرقات، ويبتعد كلما رأى شخصًا أو سمع صوت بشر من بعيد، مضى يجادل قدره جدالًا محتدمًا ولو لم ينبس فيه بكلمة. لم تتدفق في عقله الأفكار بل سكنت وتجمدت احتجاجًا على ما حلَّ به من انحطاط. وجهت الصدفة خطاه نحو المنزل حتى انتهى به المطاف بعد حلول الليل عند المستنقع خلف سيدرمورتون وقد خارت قواه وتعثرت خطاه وتجسد فيه البؤس. سمع صوت الفئران العابثة بين نباتات الخلنج، وفجأة ظهر في الظلام طائرٌ ساكنٌ ضخم، مرَّ سريعًا ثم اختفى. ورأى الملاك أمامه في السماء وميضًا أحمر قاتمًا لم يعره انتباهًا.
٥٠
عندما وصل إلى المستنقع، ظهر أمامه ضوءٌ ساطع يصعب تجاهله. فهبط التل ولم يلبث أن رأى مصدر الضوء بوضوح أكبر؛ ألسنة لهبٍ ذهبية وحمراء تتطاير وتندفع من نوافذ منزل الكاهن ومن كوة في سقفه. ورأى على خلفية النار المستعرة رءوسًا سوداء كثيرة للأهالي المحتشدين، كل أهل القرية تقريبًا احتشدوا عند المنزل، أما فرقة الإطفاء فكان أفرادها عند منزل إيلمر يحاولون العثور على مفتاح آلة الإطفاء. تداخل صوت لظى النار مع همهمات الناس، ثم قطعت هذه الأصوات كلها صرخةٌ مريرة، وصاح شخص ما: «لا! لا! عودي!» وسُمع هدير لم يتضح مصدره.
ركض الملاك نحو المنزل المستعر، وتعثر وكاد يسقط، لكنه واصل طريقه. وجد حوله أشخاصًا لم يتبيَّنهم يهرعون. وظلت ألسنة اللهب تتطاير في كل اتجاه، وأزكمت رائحة الحريق أنفه.
قال شخص: «لقد دخلت، دخلت.»
رد آخر: «مجنونة!»
وصاح آخرون: «تراجعوا! تراجعوا!»
وجد نفسه يشق طريقه بصعوبة بين حشد متزاحم مضطرب من الأهالي الذين تعلقت عيونهم بألسنة اللهب فانعكست على حدقاتهم حُمرتها.
قال أحد العمال وهو يمسك به: «تراجعوا!»
سأل الملاك: «ما الخطب؟ ماذا يعني هذا؟»
قال العامل: «هناك فتاة في المنزل، ولا يمكنها الخروج!»
قال أحد المحتشدين: «دخلت لتأخذ آلة كمان.»
وقال آخر: «لا جدوى من ذلك.»
قال ثالث: «كنت أقف بالقرب منها، سمعتها تقول: «يمكنني إنقاذ كمانه.» سمعتها، قالت: «يمكنني إنقاذ كمانه».»
وقف الملاك يحدق للحظة، ثم تراءى له كل شيء فجأة؛ رأى هذا العالم الصغير الكئيب الذي لا يعرف إلا القسوة والقتال وقد تحول فجأة فاكتسى روعةً تفوق روعة أرض الملائكة، وامتلأ عظمةً ونورًا مصدرهما الحب والفداء. أطلق صيحةً غريبة، ثم ركض نحو المنزل المشتعل ولم يتمكن أحد من إيقافه. سُمع أحد يصيح: «الأحدب! الغريب!»
كان أحد المحتشدين يضمد يد الكاهن بعد أن طالها الحريق، وبينما كان الكاهن منشغلًا بإصابة يده التفت فرأى الملاك، ورآه كرامب كذلك، لم يبدُ منه إلا لون أسود يخوض بين النيران المستعرة الحمراء في المدخل. حدث الأمر في جزء من الثانية، بيد أن الرجلَين لم يكن لهما أن يتذكرا المشهد نفسه بالتفاصيل نفسها لو كان صورة عكفا على دراستها معًا لساعات. وفجأة اختفى الملاك وراء شيءٍ ساطعٍ ضخم (لم يتبيَّنه أحد) سقط في المدخل.
سُمعت صرخةٌ واحدة باسم: «ديليا»، ثم انفجرت من النار فجأة ألسنة عملاقة متطاولة من اللهب أعمت العيون، وصدر وهجٌ شديد يتخلَّلُه الكثير من الأشعة المتطايرة كالتماع أنصال سيوف مُسلَّطة. وانطلق شررٌ مضيء متعدد الألوان إلى السماء ثم اختفى. وعندئذٍ حدث شيءٌ غريب؛ تداخل مع صوت استعار النار نغمٌ موسيقيٌّ غريب يصدُر من آلة الأورغن.
سمع كل أهل القرية المحتشدين الموسيقى عدا الأصم جافر سيدونز، كان نغمًا غريبًا وجميلًا، ظهر ثم لم يلبث أن اختفى. قال لامبي دورجان، أبله سيدرفورد، إن الصوت ظهر واختفى كصوت فتح باب ثم غلقه.
أما هيتي بنزانس الصغيرة، فقد صور لها خيالها مشهدًا جميلًا فيه كائنان مجنحان ومضا بين ألسنة اللهب ثم اختفيا.
(وظلت فيما بعدُ تتوق إلى الخيالات التي حلمت بها، وولعت بالأفكار المجردة الغريبة حتى رثت أمها لحالها. وهزلت الصغيرة حتى بدا أنها توشك على الاختفاء من هذا العالم، وبدت في عينَيها نظرة إلى الأفق البعيد. وظلت تتحدث عن الملائكة وألوان قوس قزح والأجنحة الذهبية، وتدندن بأنغامٍ غريبة لم يعرفها أحد، حتى عالجها كرامب بأن وصف لها نظامًا غذائيًّا يقيم أودها، وشرابًا من مركبات الفوسفات وزيت كبد الحوت.)
٥١
بعد أن اختفى صوت خطوات الملاك بدقائق، نهض جوتش مستندًا إلى يده. وقال: «يا إلهي! كرامب محقٌّ!
وجرح في رأسي أيضًا!»
وضع يده على وجهه وتحسس كدمتَين كبيرتَين وساخنتَين فيه. خاطب نفسه: «سأفكر مليًّا قبل أن أرفع يدي على مجنون مرةً أخرى.
ربما كان معتل العقل، لكن أقسم أن ذراعه قوية. يا للعجب، لقد جرح طرف أذني بذلك السوط اللعين حتى انفصل تمامًا.
سيركض ذلك الحصان اللعين إلى المنزل ويدخله في مشهدٍ دراميٍّ حافل، ستفقد زوجتي صوابها من الذعر، ستُمطرني بالأسئلة وسيكون عليَّ أن أشرح كيف حدث ذلك كله.
لا بد أن أتزود ببعض الأسلحة وأن أثبت بعض الأفخاخ في هذه المحمية، وليذهب القانون إلى الجحيم!»