الفصل الثالث عشر
… ولكن للأرض لذاتها وآلامها! … لقد هبط «آدم» الأرض فغمره نعيم وجحيم، من نوع آخر ومادة أخرى … وهكذا كان «محسن» يستيقظ بعدئذٍ كلَّ صباح على قبلات ملتهبة، فيفتح عينيه، فإذا موجة من ذهب ذلك الشعر الجميل قد غطت وجهه … وصوت عذب يقول له: أورفوار!
ثم خطى قدمين صغيرتين تخطو على خشب الحجرة، وتتجه إلى الباب، في شبه حركة راقصة، ثم صوت الباب يُفتَح ويُغلَق … ثم لا شيء … إنها ذاهبة إلى عملها!
لم يكن ﻟ «محسن» بعد ذلك من عمل إلا الاستمرار في النوم إلى الضحى؛ فلم يعد به حاجة إلى التبكير، ولم يعد صوت غنائها هو الذي يوقظه، إلى أن يكل من النوم، فينهض في تراخٍ، ويرتدي ثيابه على مهل، ثم يخرج إلى مطعم «الأوديون» بجوار المسرح ينتظرها فيه لتناول الغداء، ثم يبقى معها حتى موعد فتح شباك التذاكر في منتصف الثالثة، فيتركها ليعود إلى ساعة العشاء في ذلك المطعم، ثم يذهبان وقد فرغت من عملها إلى «سينما» الحي، فيجلسان متلاصقين، يتبادلان القبلات في الظلام؛ كما يفعل من بجوارهم من عمال وعاملات! … وتذكر «محسن» ذات مرة ملاحظته الأولى، يوم رأى فتًى فرنسيًّا يعانق فتاة في الطريق. لقد حسب يومئذٍ أن في ذلك امتهانًا لقداسة الحب.
أتراه يقول ذلك الساعة؟ … لا، ما الذي تغير؟ … لا شيء … إنه يحب دائمًا، ولكن طعم الحب هو الذي تغير … التفاحة هي التفاحة؛ ولكن التفاحة أرض جديدة! … تفاحة «الأرض» … حلوة لكن داخلها الدود! … ولم يكن «محسن» يطيق إبطاء «سوزي» خمس دقائق عن موعدها، ولم يكن يحتمل رؤيتها تبتسم لأحد معارفها، وهي تحني رأسها بالتحية، ولم يعد يرى صورتها في أحلامه ممتزجة بأنغام «الأنترمتزو» و«رقصة الفرايدول» ولكنه يراها في نومه، تعانق رئيسها «هنري» الذي عرف منها بعض أخباره، أو يراها تقبل شابًّا زنجيًّا تلك القبلات الملتهبة؛ فينهض منزعجًا مضطربًا، يود أن يمزق جسدها بأسنانه.
•••
وجلس «محسن» ينتظرها ذات مساء في ذلك المطعم، الذي يؤمه ممثلو «الأوديون» وفنانوه، ومضت ساعة مجيئها ولم تظهر بالباب، فاختفى الابتسام من وجه الفتى، وذهبت رغبته في الطعام، وود لو ينهض ويخرج ويركض هاربًا؛ حتى تأتي ولا تجده. وخامرته الشكوك، ولم يستطع أن يقبل في أمرها عذرًا، وحكم عليها في نفسه حكمًا قاسيًا، وتمنى لو يحطم شيئًا؛ حقيبة يدها، أو طبقًا من هذه الأطباق … ولكن الباب فُتح في تلك اللحظة، وبدت «سوزي» مسرعة إليه، وكأنها قرأت في وجهه كل ما في نفسه، فبادرت تقول: أبطأت عليك قليلًا؛ أردت أن أحصل على تذكرة دعوة للحفلة الأولى من الرواية الجديدة … لأقدمها إليك.
وأخرجت من حقيبة يدها رقعة من «الكرتون» أعطته إياها، فأخذها … ولكن الهدوء لم يستقر في نفسه؛ فقال لها في صوت حار: إني أحبك إلى حد مخيف … إلى حد الرغبة في أن أنهال عليك ضربًا.
فقالت مبتسمة وهي تفحص قائمة الطعام بعينيها: هذا مخيف حقًّا! … ماذا طلبت من الأكل؟
– إني أحبك … أحبك كثيرًا!
قالها كالمخاطب نفسه، وهو يفحص بعينيه خصلات شعرها المتهدل تحت القبعة، وجاء خادم المحل يتلقى الأمر، فطلبت الفتاة ما اختارت من بين الألوان، والتفتت إلى الفتى الساهم؛ كما التفتت إلى الخادم وصاحت به: عجبًا! … ماذا تريد أن تأكل؟
فرفع الفتى بصره؛ كمن ثاب إلى رشده، وتناول بطاقة الطعام وهو يقول: ماذا آكل؟ … لست أدري! … أشيري عليَّ أنت … فإني لا أستطيع أن أعصي لك أمرًا.
فطلبت له مثل ما طلبت لنفسها، وانصرف الخادم، والتفتت هي إليه: ماذا بك؟
– لا شيء! … ما أشد الحرارة داخل هذا المكان!
إني أحس العطش.
وسكب قليلًا من الماء في كوبه، وجرع منه جرعتين، وقالت «سوزي» وهي تبحث عن كوبها الذي لم يوضع بعد على المائدة: إني أيضًا أحس العطش.
وتناولت كوب «محسن»، وشربت من الموضع الذي شرب منه الفتى، وهي تنظر إليه باسمة، ورأى الفتى ذلك منها، فقال في صوت خافت ناري متقطع؛ كأنه حميم متطاير: بي رغبة هائلة في أن أقبلك الآن.
فضحكت ضحكة رقيقة كلها دلال، ونظر خلسة إلى من حوله في المحل، ثم مضى يقول: لا أستطيع؛ فلأقنع الآن مرغمًا بالشرب من الموضع الذي مس شفتيك … كما فعلت معي.
ورفع الكوب إلى شفتيه.