الفصل الرابع عشر
عاش «محسن» حياة «الواقع»؛ يأكل ويشرب وينام في «الحقيقة»، ولم يفطن إلى كتبه المغلقة منذ تلك الليلة، ولم يرَ فوق أكدائها غير بضعة دبابيس للسيدت، وعلبة «بودرة» قد تناثر منها مسحوقها الخمري النحاسي؛ في لون الأجسام الرخامية التي عانقتها الشمس على شاطئ البحر … ذلك اللون المحبوب من الباريسيات في ذلك الوقت! … نعم، لم يعد البياض الناصع؛ لون السحب، هو المثل الأعلى! … إنما هي الحمرة الحارة، لون الصلصال المحترق.
وتلاقى «محسن» و«سوزي» على مائدة المطعم هذا المساء مبكرين؛ فالليلة الحفلة الأولى للرواية الجديدة، وقد جاء للتمثيل فيها الممثل الشهير «دي فيرودي».
وكان الفتى باسم الثغر، منشرح الصدر، يلتهم طبق «البفتيك» في نشاط ظاهر، ولحظته الفتاة قليلًا وابتسمت قائلة: أرى أن لك اليوم شهية للطعام.
– إن البفتيك لذيذ، ولكني — مع ذلك — مسرور لسبب آخر.
– ما هو؟
– إني مدعو إلى الحفلة الأولى في ثاني مسرح بباريس! … إنها المرة الأولى التي يقع لي فيها ذلك … وهذا بفضلك … إني فخور بك!
– هذا شيء لا يدعو إلى الفخر.
– لا … إنك …
– لا تقل شيئًا! … كل بغير أن تتكلم، يا ببغائي الكبير.
– آه! … ببغاؤك الكبير! … كم أغبط ذلك الآخر الصغير! … إنه في قفصه، فوق نافذتك، أكثر حرية مني بين يديك.
– قلت لك لا تتكلم حتى تفرغ من طبقك … إني أعلم أن لا شيء يذهب شهيتك دائمًا مثل الكلام على المائدة! … استمع أنت، وأنا أتكلم.
– نعم تكلمي أنت.
وعكف «محسن» على طعامه، وأرادت «سوزي» أن تفتح فمها بالحديث، ولكن الباب فُتح، وظهر شيخان جليلان ابتسما للفتاة في تحية من رأسيهما، وجلسا إلى إحدى الموائد، وقد هرع إليهما مدير المحل وغلمانه، ورأت الفتاة علامة الاستفهام على وجه الفتى؛ فأسرعت تقول له هامسة: أتدري من هذا الشيخ القصير؟
– من هو؟
– مسيو «دي فيرودي» نفسه.
فرفع «محسن» رأسه ينظر إليه في عجب وإعجاب … ثم قال هامسًا: هذا «دي فيرودي»؟!
– إنه مثال الوداعة وطيب الخلق.
– ومن هذا الشيخ الضخم الذي معه؟
– عجبًا، ألم ترَه من قبل؟ … هذا مسيو «سيلفان».
– «سيلفان» العظيم؟!
ونظرت «سوزي» إلى طبق «محسن»، ثم قالت في الحال بلهجة الآمر: والآن، الكلام ممنوع يا ببغائي العزيز.
– نعم! … تكلمي أنت.
وعاد الفتى إلى الأكل، وجعلت «سوزي» تتحدث: أتعرف أن زوجة مسيو «سيلفان» تجيد طهي «البويابيس»؟ … وأن مسيو «هريو» وزير المعارف وهو الصديق الحميم للممثل «سيلفان» لا يستمرئ أكل «البويابيس» إلا من صنع «مدام سيلفان» العجوز؟! … اسمع هذا: في الشهر الماضي …
ولم تتم؛ فقد فُتح الباب، وظهر شاب فرنسي جميل الطلة، ما كاد يقع بصره على «سوزي» إلى جانب «محسن» حتى تغير وجهه، وما كادت الفتاة تراه على هذه الحال حتى تغير وجهها، وانقلب كل شيء فيها رأسًا على عقب. وشعر «محسن» في تلك اللحظة أن مصيبة نزلت به، لا يدري بعد ما هي. وجلس ذلك الشاب إلى خوان قريب، ووجهه في وجه الفتاة … لكنه أطرق وجعل كأنه لا ينظر إليها، ووضع عينيه في «قائمة» الطعام.
وأطرقت «سوزي» كذلك … وكانت قد فرغت من الأكل، فلم تدرِ ماذا تصنع، وقلق «محسن» فسألها: ماذا دهاك؟
فلم تجبه، ولم تلتفت إليه، وأومأت إلى غلام المطعم فاقترب منها فقالت له: مجلة «الإلستراسيون» من فضلك.
فأسرع الخادم وأحضر إليها الصحيفة المصورة التي طلبتها، فتناولتها ونشرتها بين يديها، وجعلت تتأمل صورها في صمت كأنها غير حافلة بوجود «محسن» إلى جوارها. وأحس الفتى منها ذلك، فغلى الدم في رأسه، وقال لها بصوت هامس يقطر مرارة: أهذا هو صاحبك «هنري»؟
فلم تجب، فمضى يقول: لماذا تسكتين الآن عن الحديث معي؟
فلم تجب، فقال: أريد أن أعرف معنى اهتمامك الآن فجأة بهذه المجلة وهذه الصور؟!
فلم تجب، فقال: تريدين أن تفهميه في بساطة أني إنسان لا خطر له عندك، وأنك تتناولين معي العشاء عن غير رغبة أو سرور؟!
فلم تجب، فقال ذاهب الصبر: وبعد؟ … ألا تقولين كلمة؟ … لقد قضي الأمر إذن، ولم أعد ببغاءك العزيز؟ … وأنت ما عدت تحرصين على شهيتي للطعام أو الشراب، والإقبال عليَّ تحدثينني كما كنت الآن تفعلين؟!
فلم تجب، ولم ترفع رأسها، ومضت تقلب الصور، فقال في غضب مكتوم ساخر: ثقي بأن خليلك قد اقتنع الآن كل الاقتناع أنك تفضلين قتل الوقت بمطالعة المجلة، على الحديث مع مثلي! … نعم، لقد فهم الآن أني لا أساوي شيئًا في نظرك!
فلم تقل شيئًا، فقال: لعلك تريدين أن يفهم أكثر من ذلك؛ فيرى أني لست أكثر من معجب مفتون، من أولئك المغفلين الأجانب، الذين ينفقون على الغانيات ويتقبلون في رضا إعراضهن وإهمالهن وازدراءهن!
فلم تجب ولم تتحرك، فقال: إنك تحملينني من الإذلال ما لا أطيق! … نعم، ينبغي أن أقول لك: إن ما تصنعين بي الآن لكثير. وليس الذي يعنيني من الأمر هذا الحب الهائل، الذي ظهر فجأة الساعة فسحرك، وجعل منك تمثالًا من الشمع، فأنت حرة في شئون عواطفك، ولا يدفعني إلى هذا الكلام ألم أو غيرة … حقيقة أن حالي الآن لا تدعو إلى الاغتباط والارتياح، ولكني أنا أيضًا حرٌّ في شئون عواطفي! … ما أسألك عنه الساعة هو أن تفكري قليلًا في أمر موقفي، وأن تنقذي على الأقل المظاهر، وأن تعامليني في شيء من البر والكرم، وألا تجعليني ذليلًا أمام حبيبك أو خليلك؛ إلا إذا كنت تقصدين ذلك؛ وكان هذا هو السبيل الذي ترتفعين به في نظره، وتصلين به إلى عنايته وحسن التفاته! … وبعد؟ … ألا تقولين شيئًا؟ … أمصرة أنت على هذا الصمت المهين؟ … إذن … ليس في وسعي الآن مع الأسف العميق إلا أن …
وأومأ إلى الخادم فجأة ودفع إليه سريعًا قيمة «الحساب» كله، ثم نهض قائلًا: وداعًا … سيدتي!
ومضى على عجل دون أن ينظر إليها، وخرج من المطعم خروج آدم من الجنة!