الفصل التاسع عشر
نزل «محسن» الدرج؛ ليخرج كعادته إلى الطريق، يستنشق هواء ذلك الصباح الجميل، فرأى باب حجرة صديقه «إيفان» مفتوحًا، وسمع سعاله، فعطف عليه، وضرب الباب مستأذنًا … فأذن له ودخل الفتى، فوجد الروسي جالسًا على سريره، أصفر الوجه، بين يديه كتب ثلاثة، فقال له: كيف حالك اليوم يا مسيو «إيفانوفتش»؟
– بخير.
– إنك تجهد قواك في القراءة، وأنت لم تزل مريضًا.
– اجلس!
قالها الرجل على نحو غريب، عجب له الفتى، ونظر بطرف عينه إلى الكتب، وقرأ في دهشة: «التوراة»، «الإنجيل»، «القرآن»!
ثم التفت إلى «إيفان» وقال: عجبًا! … إنك فيما أعلم لا تؤمن بشيء.
فقال الروسي؛ كالمخاطب لنفسه: أريد أن أعرف: كيف استطاعت هذه الكتب الثلاثة أن تعطي البشرية راحة النفس، وأن تغمرها في ذاك الاطمئنان؟! … نعم! … إني لا أومن بشيء، وإني أرى أحيانًا الموت دانيًا مني، وفي يده «خرقة»؛ ليمحوني كما يُمحى رقم كُتب بالطباشير فوق لوحة سوداء! … فأحتقر نفسي، وأزدري كل حياة إنسانية … آه! … ما أسعد أولئك المؤمنين، الذين يرون الموت مرحلة إلى حياة أخرى مجيدة جميلة! … إنهم لا شك ينظرون إلى الموت؛ كأنه عربة «بولمان» في قطار سريع، يذهب بهم إلى نزهة «آخر الأسبوع» … إن مثل هؤلاء لا يمكن أن يروا الحياة الإنسانية إلا أنها شيء عظيم … لأنها تشغل الكون دائمًا، طول الخلود، إنهم لا يستطيعون أن يزدروا أنفسهم هؤلاء الناس.
– ولماذا لا تؤمن أنت أيضًا بالحياة الأخرى يا مسيو «إيفان»؟
– آه! … ثق بأني أريد، فالرغبة والإرادة لا تعوزاني … ولكن أمن الممكن لمثلي الآن أن يؤمن بالجنة والنار؛ كما كان يؤمن بها المسيحيون في عصر الشهداء؟! … إنهم كانوا يتقدمون للذبح، ويلقى بهم بين أنياب السبع وهم يبسمون، راضين مقتنعين أن أبواب الجنة مفتوحة لاستقبالهم، مصغين إلى صوت المسيح يقول لهم من علٍ: «طوبى لكم؛ إذ عيَّروكم، وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا! … وتهللوا؛ لأن أجركم عظيم في السموات.»
– ومثل إيمان المسلمين في عهد النبي فقد حدث في موقعة «بدر» التي نشبت بين المسلمين وأعدائهم من قريش، أن مسلمًا ترك القتال وانتحى يأكل بلحًا فسمع النبي يقول: «لا يقاتل اليوم رجل، فيُقتَل صابرًا محتسبًا، إلا أدخله الله الجنة.» فقذف الرجل بالبلح من يده، وقام يصيح: «أفما بيني وبين دخول الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟» ثم رمى بنفسه في أحضان الأعداء يقاتل حتى قُتل.
نعم، يخيل إليَّ أن مثل هذا الإيمان لا يمكن أن يعرفه الغرب اليوم! … إن الشرق يوم أعطى الغرب هذه الأديان، إنما أعطاها على النحو الذي ذكرنا، فتسلمها الغرب، وألبسها أردية موشاة بالذهب، ووضع على رءوسها التيجان المرصعة بالماس، وأقبضها صولجانات الجاه والسلطان والجبروت الأرضي! … إن الكنيسة في أوروبا، كانت — في يوم ما — أعظم مؤسسة مالية، وإن نظامها الرأسمالي لأدق نظام … وإن ثروتها الطائلة لتسند ظهر أقوى البيوت المالية، وتقوضها إذا شاءت في طرفة عين، فأين ذهبت كلمات المسيح؟! … «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله؛ لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله.»
– وأين ذهبت كلمة النبي محمد؟ … «إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فاخترت لقاء ربي والجنة.» ثم يقول: «اللهم توفني فقيرًا، ولا توفني غنيًّا … واحشرني في زمرة المساكين.»
نعم، لا شك في أن المسئول عن انهيار مملكة السماء هم رجال الدين أنفسهم! … أولئك الذين كان ينبغي لهم أن يتجردوا من كل متاع الأرض، ويظهروا في زهدهم بمظهر المنتظر حقًّا لنعيم آخر في السماء … لكنا نراهم هم أول من ينعم بمملكة الأرض، وما فيها؛ من أكل طيب يكنزون به لحمًا، وخمرًا معتقًا ينضح على وجوههم الموردة، وتحت إمرتهم: السيارات يركبونها، والمرتبات يقبضونها! … إنهم يتكلمون عن السماء، وكل شيء فيهم يكاد ينطق بأنهم يرتابون في جنة السماء، وأنهم متكالبون على جنة الأرض. هؤلاء هم وحدهم الذين شككوا الناس في حقيقة مملكة السماء! … إن كل ما بناه الأنبياء: بزهدهم الحقيقي، وجوعهم، وعريهم، مما أقنع الناس بأن هؤلاء الرسل إنما هم حقًّا ينتظرون شيئًا في العالم الآخر؛ جاء هؤلاء فهدموه! … وكانوا هم أقوى دليل على كذب مملكة السماء، وخير دعاية لمملكة الأرض! … وأنسوا الناس بانغماسهم في هذه الحياة، أن هنالك شيئًا آخر غير هذه الحياة.
– صدقت في كل هذا يا مسيو «إيفان» … إن مسلك رجال الدين قد يشكك عامة الناس … لكن أنت … من كان مثلك على هذه الثقافة وهذا العلم … إنك تستطيع أن تقيم إيمانك على لباب الكتب السماوية وحدها، بغير حاجة إلى أحد.
– وهذا ما أردت أن أفعله أيها الصديق، منذ ليالٍ وأيام … غير أني … ينبغي أن أصارحك … لم أستطع … لم أستطع مطلقًا.
– لم تستطع ماذا؟
– آه! … لقد فسدت في رأسي كل تلك الصور الجميلة للحياة الأخرى؛ كما تفسد زجاجات الصور «الفوتوغرافية»، عندما ينفذ الضوء إلى حجرتها السوداء … لست أدري سببًا لذلك … يخيل إليَّ أنها الحضارة الأوروبية الحديثة، لا تسمح للناس بأن يعيشوا إلا في عالم واحد … إن سر عظمة الحضارات القديمة أنها جعلت الناس يعيشون في عالمين … لقد عرفت الحضارات «العلم»، و«العلم التطبيقي»؛ فالحضارة التي تشيد الأهرامات، لا يمكن أن تجهل العلوم النظرية والتطبيقية، ومع ذلك فإن ذلك العلم لم يفسد من الرءوس زجاجات الصور، التي تمثل الحياة الأخرى، تلك الحضارات أسميتها أنا «الحضارات الكاملة»، ولكن آسيا وأفريقيا ارتبطتا بالزواج، في طور من أطوار التاريخ، وأنتجتا مولودًا جديدًا: هذه الفتاة الشقراء — التي تسمى «أوروبا» — جميلة رشيقة ذكية؛ لكنها خفيفة أنانية، لا يعنيها إلا نفسها، واستعباد غيرها …
وهنا قاطعه «محسن» قائلًا كالمخاطب نفسه: نعم «أنانية» لا تعرف غير حياة الواقع ولا يهمها شقاء الغير، ولا تحب الحياة إلا في … الحياة.
فمضى الروسي يقول، دون أن يفهم ما جال في خاطر الفتى: نعم، نعم! … هي كذلك حقيقة … إن هذه الفتاة ترى المجد كله في شيء واحد: أن تضع الأصفاد في أرجل البشر، وبدأت أول ما بدأت بأبويها: أفريقيا وآسيا … أنكرتهما، وحبستهما … وانطلقت في الحياة، لا يحدها حد، ولا يقوم لها شيء … إلى أن انتهى بها المطاف في بيت من بيوت الليل؛ تديره، وتشاهد فيه شجار السكارى، يحطمون الكراسي والكئوس! … إني أخشى أن تكون أوروبا موشكة على دفع الإنسانية إلى هوة … إنها لتثوب أحيانًا إلى رشدها، وترى مصيرها؛ فتقع في أزمة من أزمات الضمير: إنها لتستيقظ فيها الروح أحيانًا فتشك في نفسها، ويخيل إليها أن مدنيتها الخلابة ليست إلا بهرجًا، وأن علمها الحديث كله، وهو وحده الذي تتيه به على البشرية، في مختلف تاريخها، ليس — من حيث القيمة العملية — غير «لعب» من صفيح وزجاج ومعدن؛ قدمت للناس بعض الراحة في أمور معاشهم، ولكنها أخرت البشرية، وسلبتها طبيعتها الحقيقية، وشاعريتها، وصفاء روحها! … إن السكك الحديدية والطيارات قد أعطتنا السرعة وتوفير الوقت، ولكن ما فائدة ذلك؟ … ولماذا السرعة؟ … ولماذا توفير الوقت؟! … كأنما قد هبطت علينا شياطين تلهب ظهورنا بالسياط! … ما نحن إلا قطرات ماء في نهر الحياة … ما حظنا من سرعة التيار، واندفاعه إلى البحر؟! … إنما حظنا الأكبر: في التمهل حول الأعشاب الناتئة، والسكون عند شواطئ الجزر، يداعبنا النسيم! … من الذي استفاد من هذه السرعة الملعونة غير قبضة من النهمين جمعوا في أيديهم الثروات، وسموا بالرأسماليين! … أما أنا وأنت وبقية الآدميين الوادعين، فقد خسرنا تلك الرحلات الطويلة، على ظهور الجياد أو الإبل؛ ننزل في كل مرحلة، ننعم بالطبيعة في أشكالها المختلفة، وفي أوقاتها المختلفة! … نعم، كسبنا السرعة، ولكن خسرنا ثروة النفس التي تنمو باتصالها المباشر بالطبيعة، إنما اليوم نفرح بكلمة السرعة، وننسى أنها ليست سوى إغفاءة، نقضيها في عربة قطار، يمرق بنا في نفق مظلم، ويوصلنا في وقت قليل إلى حيث أردنا. ولكنا لا نعرف بعد ذلك ماذا نصنع بالوقت الباقي؛ فننفقه في الحمق والسخف … إن الطبيعة لتنتقم، وإن كل وقت يُسرق منها لا نجد له سوقًا ننفقه فيه، غير سوق النخاسة الخلقية، والانحطاط الآدمي! … كذلك «السينما» — كما يقول «دوهاميل» — لا تعطينا غير الطبيعة محفوظة في العلب، أو قصصًا سخيفة، تؤثر في أعصابنا تأثير الأفيون، «والراديو» وما يقدمه من قشور المعلومات ورديء الموسيقى … كل شيء في هذه المدنية الحاضرة يتآمر على قتل الفضائل الإنسانية العليا، وصفاتها الآدمية السامية، وقواها الطبيعية الكامنة؛ بتعويدها التراخي والكسل، باسم «الراحة الحديثة»؛ حتى نامت كما ترى النفوس والأرواح، وأصبحنا أمام ناس مصنوعين من «الألومنيوم»، مصيبة المدنية الأوروبية نزلت منذ استقرار الصناعة الكبرى! … هذه الصناعة التي شطرت المجتمع الأوروبي إلى شطرين: فئة قليلة كل همها جمع المال، وفئة كبيرة كل همها أن تقدم هذا المال في مقابل لقمة! … الفئة الأولى لا دين لها إلا الذهب، والفئة الثانية لا دين لها إطلاقًا ولا شخصية ولا نفس؛ لأنها آلات صماء … إن نظام تقسيم العمل قد أدى إلى أن صنع الدبوس الواحد أصبح محتاجًا إلى ثماني عشرة عملية مختلفة؛ كما يقول «آدم سميث»، وأن العامل الواحد قد يقضي حياته كلها في صنع رأس الدبوس فقط، وآخر في صنع جزء آخر منه؛ كذلك الحال في صناعة الأحذية؛ فهي في بعض المعامل الأمريكية تقسم إلى أكثر من مائتي عملية، يخص العامل الواحد منها جزء واحد من عشرة أجزاء: كعب الحذاء مثلًا … معنى هذا أن العامل لم تبقَ له حتى تلك اللذة الفنية القديمة، التي كان يحسها ويرتاح إليها، وهو يصنع بيديه حذاءً كاملًا في حانوته الصغير … نعم! … حتى متعة الخلق الكامل، التي كانت تشعره بآدميته قد ذهبت؛ وأصبح الآن شأنه شأن المخرطة أو المطرقة أو المنشار؛ يخرط، أو يطرق، أو ينشر، جزءًا صغيرًا معينًا بالذات من هذا الدبوس أو ذاك الحذاء، وهو يكرر هذه العملية التافهة كل حياته! … ما الفرق بينه إذن وبين الآلة! … لا فرق؛ إن الرجل الشرقي ما زال يحس آدميته بالنسبة للشيء الذي يصنعه، ويخلقه بيديه؛ آنية من الفخار كان، أو حذاءً، أو رداءً منسوجًا على نول، أو قطعة أرض يزرعها، ويجني ثمارها! … إنه لم ينقلب بعد — لحسن حظه — منشارًا آدميًّا، أو مخرطة بشرية! … استمع إلى الكاتب الإنجليزي «ألدس هكسلي» يصف أوروبا الحديثة: «إن أسلوب الحياة في العصر الحاضر ليدعو إلى الاشمئزاز؛ ذلك أن تطور النظام الصناعي قد أدى إلى نمو فجائي لتعداد أوروبا. ففي نحو قرن واحد تضاعف سكانها، ثم جاء بعد ذلك التعليم الابتدائي للجميع، فنتج عنه ظهور جمهور هائل من القراء، ونشط لهذا الجمهور أصحاب الأعمال، فأنشئوا صناعة جديدة: هي صناعة مادة القراءة! … هذه «المادة المقروءة» لم تكن — ولا يمكن أن تكون مطلقًا — غير بضاعة من النوع الرديء جدًّا! … لماذا؟ … تلك مسألة حسابية: إن عدد الكُتَّاب، أصحاب الموهبة الفنية، قليل دائمًا … ومن هنا نرى أن الجانب الأكبر للأدب المعاصر هو دائمًا غاية في الرداءة. ولما كان الأوروبيون قد اتخذوا عادة القراءة طول الوقت — وتلك رذيلة — كعادة تدخين «السجاير»، بل ربما كتدخين «الأفيون» أو تعاطي «الكوكايين» فإن أوروبا اليوم تتغذى بأدب من الطبقة العاشرة … وهذا كله حدث جديد؛ إذ في الماضي لم يكن الناس يعرفون غير قليل من الكتب حقيقة، لكنها كانت من أجود نوع. ولأضربن مثلًا بالإنجليز؛ فلقد كانوا إلى عصور قريبة يشبُّون على «الكتاب المقدس» وعلى «رحلة الحاج» ﻟ «جون بانيان»! … كتابان لا نظير لهما في نبل المعنى وصفاء الأسلوب! … أما اليوم فإنهم يشبون على «الديلي إكسبريس» وعلى المجلات والقصص «البوليسية». فالتعليم العام كان له هذه النتيجة السيئة: فهو بدلًا من أن يجعل الناس يقرءُون قليلًا الآثار الخالدة قد جعلهم يقرءُون دائمًا حماقات مخجلة! … إن الفن القديم قد يقصر أحيانًا عن الإجادة؛ لأنه ساذج أو ناقص، ولكنه لم يكن يومًا قط مبتذلًا … لماذا؟ … لأن الأقدمين لم تهيأ لهم الأسباب أن يكونوا مبتذلين.
فأطرق «محسن» قليلًا ثم قال: نعم، ربما كان هذا صحيحًا! … إن الأعرابية في خيمتها، تلك التي كانت لا تعرف ما هي القراءة والكتابة، كانت تتذوق الجيد من شعر جرير، والأخطل، والفرزدق، وتتغنَّى بأحسن أغاني مصعب، ونصيب، وإسحاق الموصلي، وتطرب للفجر الجميل، وتهتز نفسها لنسيم الأصيل، وتفضل الصحراء — بفتنتها الطبيعية — على سحر القصور الزائف! … إن مستوى الذوق العام — وبالأحرى مستوى الثقافة الحقيقة — لا شأن له بكتابة أو قراءة.
فقال الروسي بقوة: على النقيض؛ إن فكرة التعليم العام للقراءة والكتابة كغيرها من بقية الأفكار الأوروبية الخاطئة التي روجتها أوروبا، وجعلتها بمثابة المبادئ الثابتة ثبوت العقائد، قد انقلبت فتاكة لجوهر الطبيعة البشرية؛ فالدهماء التي تعلمت الرموز السخيفة، ماذا اكتسبت؟ … لقد حشيت أدمغتها بسخف وقاذورات، كما يقول «هكسلي»، وهبط مستوى ذوقها، ومع ذلك لم تتكوَّن لها شخصية ولا إرادة؛ فها أنت ذا تراها تنقاد كالخراف إلى كل من يقوم فيها ناعقًا أمام «ميكروفون»؛ فالدهماء هي الدهماء، ولا أصلح لقلبها وعقلها من وسائل الشرق الطبيعية في التهذيب: تعمير قلبها بالدين وعقلها بالكتب السماوية النبيلة الفصيحة، وتركها تتصل بالطبيعة لا «محفوظة في علب»: الراديو والسينما والكتب. ولكن الطبيعة الحقيقية، أمنا الرءوم؛ تكشف لهم عن جمالها وأسرارها مباشرة، بغير وسيط من الرأسماليين المغامرين. وأصحاب الأعمال الأفَّاكين! … تلك هي نتائج العلم التطبيقي عندما تُرك في أيدي الأوروبيين، وذاك أثره في النفس الإنسانية. انظر بعد ذلك أثره في جسم البشرية، تجد أنه استحال إلى قنابل وغازات خانقة وطوربيد وغواصات ودبابات، إلى آخر ذلك الإبداع والتفنن في وسائل الفتك بأجسام البشر؛ فالعلم التطبيقي في الغرب كل محوره تحطيم البشرية روحًا وجسمًا! … إن العلم، تلك «الماسة» العظيمة المتألقة؛ لم تضعها أوروبا في قمة عمامتها، لتشع نورًا وجمالًا، ولكنها وضعتها في سن مخرطة بخارية، لتقطع بها زجاج ذلك الكأس العظيم: كأس البشرية الممتلئ بماء روحها، ومادة جسدها! … أما العلم الصرف، البعيد عن ضوضاء «الآلة»، ومطامع أصحاب المنافع، فإن الشرق هو الذي عرفه لذاته، كمظهر من مظاهر العبقرية الآدمية المفكرة، في تعطشها لمعرفة الحقيقة العليا! … وهنا كل نبل العلم، وسمو غايته … هذا العلم الخالص أورثته أفريقيا وآسيا فتاتهما الشقراء أوروبا، سبائك ذهبية وأحجارًا كريمة من الزمرد والفيروز والياقوت، فاحتفظت الفتاة ببعضه، وجعلته حليًّا لبهرجها، وهنا كل جمال أوروبا الفكري الباقي، أما بقية الكنوز فصهرتها وصكتها نقودًا تضعها في المصارف، وصنعت منها أغلالًا تستعبد بها العالم! … ومع ذلك فهي لم تعرف التحلي بالعلم لذاته إلا منذ عهود قريبة! … لا تنسَ أن أوروبا هي الوحيدة التي أعدمت في يوم كل علمائها حرقًا، واتهمتهم بالسحر والجنون، وخنقت حرية الرأي حتى في شئون الأدب والفن … وجعلت من المسيحية، التي تبشر بالمحبة والسلام … سلاحًا للفتك أمام محاكم التفتيش … ولكن أوروبا اليوم أبرع قليلًا من ذي قبل، فهي تجيد إخفاء حيوانيتها، تحت ريش صناعي يمثل أجنحة ملَك سماوي … إن أووربا اليوم في أزمة شديدة … لا شك في أنها أخطر أزمة مرت بها؛ ذلك أنها قد تنبهت إلى أن ما زعمته مدنية عظيمة قد أفلس، وظهرت من تحت الريش أنياب الخنازير البرية! … وقد فهم الشرق أن فتاته ليست إلا غانية خليعة، لا قلب لها ولا ضمير، وليست لها قيمة روحية ولا خلقية، وأن مآلها السقوط، ممزقة الجسد، تحت موائد المعربدين، في ذلك الحان الذي تشرف نوافذه من جهة، على المحيط الأطلنطي، ومن الجهة الأخرى على البحر الأسود! … أيها الصديق! … إلى الشرق! … إلى الشرق! … فلنرحل معًا إلى الشرق … إن أجمل ما بقي لأوروبا إنما أخذته عن الشرق! … لم تعد حياتي هنا! … ماذا نصنع الآن ها هنا؟! … حتى راحة النفس لا نجدها هنا … إن العودة إلى الهدوء والصفاء هي في عودتنا إلى فضاء الصحراء، هناك نستنشق بملء رئتينا، لا دخان المداخن، ولكن رائحة السماء، هناك لا نجد تلك السحب الكثيفة، التي تحول بيننا وبين الله! … هلم بنا؛ لقد يئست … إن قليلًا من الأمل كان قد داعب قلبي؛ إذ تذكرت منذ أيام حكاية عودة الشاعر الفرنسي «كوكتو» إلى حظيرة الكنيسة، وأنت لا شك تعرف حكاية هذا الشاعر القلق! … لقد استنفد كل حياة الفكر والفن، وعرف المجد الأدبي، وانغمس في نهر الحياة اللاهية، وبلغ كل ما يستطيع أن يبلغه الفكر الشارد وحده بعيدًا عن الإيمان! … فماذا حدث؟ … تملكه السأم من الحياة، وشعر بالنقص في كيانه، وبالفراغ في قلبه؛ فضاق ذرعًا بأيامه، فألقى بنفسه القلقة في أحضان «الأفيون»، لعله يجد فيه الشفاء والراحة … استمع إليه يقول في خطابه، إلى صديقه الفيلسوف «جاك ماريتان»: إن الأفيون ليحملنا إلى نهر الموتى، إنه ينسخنا، أو يحولنا إلى شبه مرج من المروج اللطيفة، ويجعل من جسدنا ليلًا، تتزاحم فيه النجوم، كأنها النمل، ولكن سعادتنا هي سعادة في مرآة نغدو فيها من رءوسنا إلى أقدامنا محض أكذوبة وإذا نحن كالمومياء تقف آلة الأجسام وتأبى الأعضاء أن تطيع، لا تؤثر فينا تقلبات الطقس، وما نعود نشعر ببرودة أو حرارة! … لقد كان مصورو «نابلي» يزينون حيطان المساكن، بما يسمونه «خدعة العين» … إن «الأفيون» ليس إلا مصورًا طريقته «خدعة الروح»، إنه يزين حيطان الحجرة التي أدخن فيها بتصاوير تلذ لي وتريح نفسي، إن الأفيون هو طارد الحيرة والقلق … إن الأفيون ليشبه «الدين» بالقدر الذي يشبه فيه «المشعوذُ» «المسيحَ»! … إلخ … إلخ. وأشرف «كوكتو» أخيرًا على الدمار، إلى أن ألقى بنفسه في أحضان الدين، هنا كان أملي الأخير أنا أيضًا؛ إذ اعتقدت أن الأوروبي المفكر، الذي شب على هذه المدنية، يستطيع أن يعود إلى الإيمان الحقيقي في الوقت المناسب، إلى أن قرأت هذه الرسالة المتبادلة بين «كوكتو» ومارتان فخامرني الشك … إنها رسائل على غاية ما تكون من البراعة في الأسلوب، واتقاد الذكاء، ولكنها ليست أكثر من «قطع أدبية»! … آه، إنهم يكتبون «أدبًا»، هؤلاء الناس — حتى اليوم — يوهموننا أن المسألة مسألة حياة أو موت، إن الفرق بين عبقرية الغرب الروحية وبين عبقرية الشرق الروحية؛ كالفرق بين «المشعوذ» و«المسيح»! … خذ هذين الكتابين: اقرأهما، وأخبرني هل تصدق أن هذين الرجلين يعتقدان حقًّا بالسماء وما فيها؛ من جنة ونار، اعتقاد ذلك المسلم الذي قلت لي الآن: إنه ألقى البلح من يده، وجرى يعرِّض نفسه للقتل؛ واعتقاد أولئك الشهداء من المسيحيين الغابرين! … إني أفهم أن يتكلم هؤلاء الشعراء الأوروبيون عن الدين والمسيح كلامًا كله إعجاب خالص! … إني أيضًا أعجب الإعجاب الخالص بالأديان، ولكن الذي أريد ليس مجرد الإعجاب، كما نفعل أمام قطعة فنية، من عمل عظماء الفن أو الأدب أو الفكر! … لست أريد الإعجاب الناشئ عن آلاتنا المفكرة، وما فيها من بضاعة ثقافية مكتسبة أو موروثة؛ إنما أريد الإيمان؛ إيمان القلب، الإيمان الأعمى بأن المسيح في السماء، وأن الله هو الله كما يتصوره البسطاء، وأن الجنة هي الجنة كما يتخيلها أولئك الذين قال فيهم المسيح «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات! … طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله!» آه يا صديقي، يا أخي! … إن أوروبا كلها الآن ليست إلا رجلًا مفكرًا قلقًا حائرًا يتعاطى الأفيون … إن «جان كوكتو» هو كل «أوروبا» في أزمتها الحاضرة! … انتهت أوروبا «ولا شيء من داخلها يستطيع إنقاذها؛ لأن كل شيء يصل إلى «عقليتها» هذه، تحوِّله إلى أدب وأسلوب وزيف وكذب! … إنما الإنقاذ من الخارج، إنما النجاة من الفضاء. إلى هناك … إلى الشرق … قم معي … إلى الشرق! … افتح هذه النافذة … دع الهواء يدخل، اخلع عني هذه الأردية الثقيلة، هذه السحب الكثيفة تحجب عني.
وامتلأ فم الروسي برغوة وزبَد، ووضع يده على عنقه يمزق قميصه كأنما هو يختنق، واصفرَّ وجه «محسن»، ولم يبدِ حراكًا … ثم تنبه قليلًا من ذهوله، فصاح صيحة مدوية، وأسرع إلى الباب يطلب النجدة.