الفصل الثاني
جلس «محسن» كعادته كل صباح إلى مائدة المطبخ، في المنزل الذي يقطنه، آمنًا شر البرد القارس في الطريق، مستعذبًا نقر المطر على زجاج النافذة؛ كأنه نقر أطفال على طبول صغيرة، وقد وضع على رأسه قلنسوة مصرية من الكستور، وفتح أمامه كتاب «الجمهورية» للفيلسوف أفلاطون، وأمسك سكينًا جعل يقشِّر بها بصلًا، وبين آن وآن يلتفت إلى طفل في الرابعة يلعب في أحد الأركان متقلدًا سيفًا زائفًا مما يلعب به الأطفال، ومصوبًا مدفعًا صغيرًا من الصفيح نحو أعداء وهميين من الألمان. وكان الطفل يثرثر ويصيح، موجهًا الكلام؛ تارة إلى أعدائه، وتارة إلى جدته العجوز الواقفة أمام النار، وتهيئ مرقًا من لحم البقر، وهي لاهية عنه وعما يقول! … وأخيرًا التفتت إليه وسألته: ألست جوعان يا «جانو»؟
– نعم … إني أحارب «البوش».
فقالت جدته في تحمُّس: نعم! … قاتل «البوش» يا «جانو»! … ولا تُبقِ منهم أحدًا على وجه الأرض.
فرفع «محسن» رأسه مستغربًا هذه الكلمة، وقال: «البوش»؟! … من هم «البوش»؟
فابتسمت العجوز وقالت: هم الألمان … نحن — عامة الفرنسيين — نطلق عليهم هذا الاسم.
وصاح «جانو»: نعم هم الألمان … جدتي! … لماذا هم يُسمَّون ﺑ «البوش»؟
فتفكَّرت المرأة قليلًا، ولم يسعفها علمها المحدود، وقالت: لست أدري.
وأسرعت فغيَّرت مجرى الحديث ناظرة إلى «محسن» مبتسمة لانهماكه في عمله: برافو يا مسيو «محسن»! … إنك لبارع حقًّا في تقشير البصل.
فقال محسن دون أن يبدو في نبراته تهكم أو تلميح: براعتك يا سيدتي في الغناء والعزف على «البيانو».
فابتسمت، ولم تدرك مراده وقالت: يا لك من فتًى متملق.
وأخفى «محسن» في نفسه ابتسامة لذكرى ذلك اليوم الذي هبط فيه هذا المنزل، فقد أرادت هذه المرأة أن تُدخل على نفسه السرور، وتملأ المنزل بهجة ومرحًا؛ فأرسلت في طلب «جرمين»، زوجة ابنها، وأجلستها إلى «البيانو» وأخذت هي في الغناء بصوت لم يعرف له «محسن» أصلًا من الأصول! وإذا الغناء ينتهي بصيحة، ظنها «محسن» داخلة في تركيب النغم! … ولكنها كانت صيحة شجار، دبَّ فجأة بين الحماة وزوجة ابنها، واستفحل أمر الخلاف بينهما إلى حد أزعج الفتى، فما راعه إلا غطاء «البيانو» يُغلَق في عنف … وزوج الابن تقوم إلى قبعتها ومعطفها، فتضعهما عليها وضعًا في غضب، وتذهب نحو الباب تريد الانصراف. وانقلب المنزل في لحظةٍ شر منقلب، وامتلأ، لا بالمرح والبهجة، ولكن بالكدر والكرب! وما من سبب ظاهر استطاع «محسن» أن يستخلصه لكل هذا … منذ ذلك اليوم و«محسن» يحسب حسابًا لعزف العجوز وغنائها … وإذا عزفت مرة أو غنت رفع عينيه إلى السماء وسأل المولى حسن الختام.
التفتت العجوز مرة أخرى إلى «محسن» وإلى البصل، ثم قالت باسمة: لا بأس! … لك عندي ثمن عملك هذا يا مسيو «محسن»! … أتدري ما هو الثمن؟ … سأعزف لك أغنية على «البيانو».
فلم يملك «محسن» نفسه وقال: أتسمين هذا ثمنًا؟!
ثم استدرك، وقال سريعًا: أية أغنية؟ … ينبغي أن نتفق على الأغنية أولًا.
فقالت المرأة: الأغنية التي تحبها، تلك التي قلت إنك سمعتها في دار «الأوبرا».
فاهتزَّ «محسن» في كرسيه، وأنشد على الفور مطلع أغنية «سان ساينس»: «قلبي يتفتح لصوتك كما تتفتح الأزهار لقبلات الصباح!»
فنظرت إليه المرأة في عجب: ما أشد حبك للموسيقى.
– إنها في دمي.
قالها «محسن» في بساطة تنم عن حقيقة عميقة، وفي لهجة تشير — عن غير قصد — إلى ماضيه بأكمله! … ثم تناول السكين، واستأنف تقشير البصل، وهو يصغي في أعماق نفسه إلى أنغام تلك الأغنية ليلة أنشدتها «تينون فالان» الشهيرة، في أوبرا باريس منذ شهرين … ليلة جميلة عجيبة لا ينساها «محسن»، فقد رأى فيها ما لم يرَ من قبل، وسمع ما لم يسمع! ولقد أراد في تلك الليلة أن يتشبَّه — لأول مرة — بالموسرين، فاستأجر مقعدًا في صفهم، وهو لا يعلم أن ذلك يستلزم لبس ثياب السهرة الرسمية، ونبهته العجوز، فحار في شأنه؛ إذ ليس لديه هذا اللباس. ورأى آخر الأمر أن يلجأ إلى الحيلة؛ فاشترى صدر قميص أبيض منشِّي، وربطه على صدره ربطًا وثيقًا، بخيوط «الدوبارة»، ثم أتى بأكمام منشَّاة ربطها كذلك حول معصميه … وارتدى ملابسه العادية السوداء فوق هذا كله والعجوز تنظر إليه وتقول: «لو أنه حدث الليلة حادث استدعى خلع ملابسك لوجدوا فيك عجبًا؛ إنسانًا مربطًا بالخيوط من الداخل «كطرد» البريد!» وحان الوقت، ودخل «محسن» «الأوبرا»، فما تمالك أن وقف مشدوهًا؛ أية عظمة وأي ثراء يُشعران بالدوار؟! … وأي أنوار؟!
عندئذٍ أدرك من فوره معنًى مجسمًا لكلمة «الحضارة الغربية الكبرى» التي بسطت جناحيها على العالم.
نعم، ما كل هذا البذخ والإغراق في الترف، إلى حد الكفر والفجور والاستهتار؟! لكأنما جاء القوم — وأغلبهم من سراة الأمريكان — إلى هذا المكان يتساجلون الغنى والسعة وكبرياء المال، أكثر مما جاءوا يلتمسون لذة التطهر والخضوع في حضرة الفن، أو لذة العودة إلى الإنسانية والروح على يد الموسيقى! … وصعد «محسن» سُلَّم «الأوبرا» المشهور، وهو يتصبَّب خجلًا بين الصاعدين من أصحاب «الفراء» الثمين، والقبعة العالية، والقميص المنشِّي «الحقيقي»، والسيدات الأنيقات في أثواب الليل البراقة، والحلي المتألقة؛ كأنهن الشموس في عالم الماس … وخيِّل إلى «محسن» أنه قد دخل بين هؤلاء القوم بالغش والتدليس، وأن هذا السلم الشهير يأنف من حمله وقد مرَّت عليه السنون، وهو يحمل الجاه والمال في العالم قاطبة. ولعله المكان الوحيد الذي لا شك قد وطئَتْه أقدام جميع الملوك، فليس ببعيد أن يغضب السلم في هذه اللحظة ويزلزل ﺑ «محسن» صائحًا: «لم يبقَ على آخر الزمان إلا أن يطأني، بنعله القديم، مثل هذا الصعلوك القادم من الشرق!» وتصوَّر «محسن» أن خيوطه قد تُحل لسبب من الأسباب، فيسقط الصدر المنشِّي على الرخام، وسط أولئك القوم المترفين فتكون الفضيحة.
كانت ليلة أحس فيها الحرج والمذلة، وعلم أن ثمرات الفن إنما هي أيضًا حق ووقف على طبقة الأغنياء، وأن الطريق إلى الاستمتاع الروحي ينبغي أيضًا أن يُفرَش بالذهب. وتمثَّلت له تلك الجمهورية الجميلة التي تخيَّلها الشعراء والفلاسفة في كل زمان؛ جمهورية لا تعرف الفقر ولا تعرف الغنى لأنها لا تعرف الذهب، وتعرف السلام لأنها لا تعرف الجشع … الكل فيها مثل فرد واحد … الكل فيها يعمل، والكل يأكل، والكل يقرأ وينعم، والكل يلعب ويمرح … أما الذهب، فإنما يصنعون منه مصابيح الطرقات وحوافر الجياد … يا للسماء! … أوَمُستطاع لمثل هذ الحلم الجميل أن يتحقق يومًا، على هذه الأرض؟!
وتنبه «محسن» قليلًا، وترك تأملاته، ورفع رأسه؛ فألفى السكون قد هبط على هذا المنزل الريفي الصغير، ولم يسمع إلا صوت لغط الدجاج في الحديقة، وصياح الديكة وهرج الإوز، ثم ثرثرة «جانو» مخاطبًا لعبه بين آن وآن … وكأنما سئم «جانو» اللعب آخر الأمر، فنهض ودنا من المرأة صائحًا في لهجته الصبيانية: جدتي! … الدجاجة الحمراء تبيض اليوم.
فأجابت جدته في تقطيب: «جانو»! … إني لا آذن لك في الذهاب إلى الدجاج بمفردك.
– سأذهب مع مسيو «محسن».
– لن تذهب اليوم! … إن المطر ينهمر في الخارج والبرد شديد.
– وماذا أصنع الآن؟
– حارب «البوش».
– حاربتهم.
– قص على مسيو «محسن» كيف أراد الألمان أن يدمروا باريس! … ألا تذكر ما قلته لك عن هذا؟
– نعم … إني أريد أن أعود إلى منزلنا.
– منزلكم خاوٍ الآن، وليس به أحد … أنت تعلم أن أباك وأمك لا يرجعان من المصنع قبل الغروب.
ودمدم الطفل وتبرَّم في صوت كالبكاء، ثم مشى في بطء إلى حيث يجلس «محسن»، وجعل ينظر إليه ثم مد يده الصغيرة إلى الكتاب المفتوح فوق المائدة، وطفق يقلب صفحاته باحثًا عن صورة فيه. ولم يتحرك «محسن»، فقد كان عقله مشغولًا، ونظراته جامدة، لا تتَّجه إلى شيء بعينه؛ إنما كان يتساءل في أعماق نفسه: أليس في كل فرنسا أمهات يلقِّن أطفالهن كراهية الألمان؟ … ومن يدري؟ … لعل كل نساء الألمان يعلمن أطفالهن كذلك بغض الفرنسيين! … ولتكن الأسباب ما تكون … بأي حق تستطيع أم أن تنشئ ولدها على العداوة والبغضاء؟
ولكنه هو أيضًا نُشِّئَ على الكراهية … كراهية الإنجليز … إنه لن ينسى قط صورة أبيه الشاحبة حين دخل البيت — ذات مساء — مضطربًا، متأثرًا.
كان «محسن» يسمع المستشار من فتحة الباب يخاطب زوجه، ويقول: إما التخلِّي عن الوظيفة … وإما التخلِّي عن ضميري كقاضٍ … إن أكل العيش أصبح مهددًا.
كانت أم «محسن» عملية، متيقظة، فأحسَّت بانتفاضة … كانت طبيعتها متغيِّرة، متناقضة … فهي شجاعة، ومع ذلك تراها خائفة … وهي رحيمة وقاسية … قوية وضعيفة … وهي تحب العظمة إلى أبعد الحدود، ولكن العظمة التي لا تكلف صاحبها شيئًا كبيرًا، والتي لا تتطلب التضحية، والتي لا تهدد الحياة، ولا حتى الأرزاق.
كانت تفهم معنى الكلمات الرنانة مثل: الضمير، الحكمة، الشجاعة …
وحالما علمت أن ضمير زوجها القاضي، كان ألعوبة، لم تتردد أن ترتفع بأفكارها … ناسية في هذه اللحظة ما يترتب على فقدان المركز، فأعلنت رأيها لزوجها قائلة: إن ضمير القاضي وشرفه قبل كل شيء.
لقد كانت تعلم كل ما يدور حول هذا الموضوع … والناس يتكلمون عن قضية في الاستئناف … والهمس يدور في كل مكان … «إن القضية مؤامرة من مؤامرات الإنجليز ضد مدير أحد أقاليم الدلتا الذي اتهموه بالكبرياء.
وكان المدير ابنًا لإحدى الأُسَر الغنية في الوجه القبلي، تلقَّى علومه في «أكسفورد»، وعاش مدة كبيرة في إنجلترا، وكان يحبها مثل ما يحب بلاده، بل كان يحب كل ما هو إنجليزي.
وجاء إلى بلده، فكان يرسل ملابسه مرتين في الشهر إلى إنجلترا لغسلها وكيِّها … ثم عُيِّن يومًا مديرًا لإحدى محافظات الوجه البحري، وهناك اكتشف لأول مرة وجه الإنجليز الحقيقي.
لم يكن ذلك «الجنتلمان» الذي عرفه في إنجلترا «رجلًا محبوبًا وشريفًا». لقد أصبح كائنًا آخر، ذا خُلق يتعارض مع مثيله الإنجليزي في بلاده … إنه الحاكم الذي يفرض سلطانه، ويصدر أوامره على أكبر الشخصيات المصرية … إنه لأمر عادي أن يستقبل المدير — وهو موظف كبير — أي موظف إنجليزي يمر بالمحافظة.
وكان هذا المدير — صديق الإنجليز — غير جاهل هذا التقليد المهين، ولكن الشيء الذي كان يجهله أن ذاك الإنجليزي المحتل لا يقرُّ صداقته للمصري … إن قاموسه لا يحوي غير كلمتي «سيد وعبد».
إن المدير، كان قد قرر الاستقالة، ولمَّا علم الإنجليزي بذلك لفَّقوا له تهمة … فاتهموه ظلمًا بأنه عذَّب بعض المتهمين في قضية للحصول على اعترافات منهم، وهذا عمل غير مشروع في قوانين الإنسانية، والقوانين المدنية.
لقد كانت عملية ظاهرها الرحمة، وباطنها الانتقام من شخص أرادوا إذلاله … فباسم الإنسانية يهاجمون أعداءهم ويحاكمونهم … هذه كانت طريقة الإنجليز التي يتقنونها.
وكان — في الحقيقة — مديرنا يجهل كل هذا التدبير … إن الجناة يبرَّءون، والأبرياء يصبحون جناة، وهم في كل ذلك لا يعدمون الوسائل.
وكان أبو «محسن» مكلفًا بالنطق بالحكم في هذه القضية. وبعد أن حقَّق القضية جيدًا، ورأى الجروح المفتعلة في أجسام المصابين، وعلم حقيقتها … خافوا ألَّا تكون هذه أدلة قاطعة، فجاءوا إليه بمن يُسِرُّ في أذنه ويقول له: «يجب أن يكون حكمك مدينًا للمدير، وإلا …»
وكان القاضي يعلم يقينًا ببراءة المدير، كما كان الرأي العام يعرف ذلك.
وجاءت الوعود بعد التهديد لعلها تفيد … فقد لمَّحوا له بالإنعام عليه بالرتب والنياشين في غداة الحكم.
فماذا عساه يفعل؟
لذلك، كانت أم «محسن» تتغلب على نزعتها، وطبيعتها وتقول لزوجها: احكم بحسب ضميرك يا عزيزي، وليكن ما يكون.
وحكم القاضي بالبراءة … ولكن هذا لم يمنع المعتدين أن يجدوا نصًّا قانونيًّا عاونهم على تحويل القضية إلى قاضٍ آخر يتعاون معهم على إدانة المدير، والذي أصبح بعد تلك القضية زعيمًا من زعماء الثورة المصرية.
•••
وتنبه «محسن» من تأملاته وذكرياته … فقد انتشرت في المكان رائحة شواء شهي، فرفع بصره، فألفى المرأة تخرج من الفرن فخذًا من لحم البقر، أخذت تدهنه بالزبد وهي تقول: سيحضرون هذا المساء في الساعة السابعة للعشاء …
فقاطعها «جانو» صائحًا في فرح: وهل «جيزيل» ستحضر أيضًا يا جدتي؟
فابتسمت المرأة والتفتت إلى «محسن» غامزة بعينها: بالطبع، ستحضر «جيزيل» مع والديها.
فتهلَّل وجه الطفل، وطفق يثرثر كالببغاء، وابتسم «محسن» متذكِّرًا أيام الطفولة الأولى.
•••
دقت الساعة الواحدة في مصانع «كوربفوا» القريبة، فأسرعت المرأة إلى قاعة الأكل وجعلت تهيئ مائدة الغداء، وسُمع صرير مفتاح في الباب الخارجي، ثم بدا في الدار شيخ، ما كاد «جانو» يسمع صوت نعله وسعاله حتى انطلق نحوه يجري ويصيح: «جدي حضر! … جدي حضر!»
ودخل الرجل المطبخ، ونشر مظلَّة في يده بللها ماء المطر، ومد يديه إلى النار، وهو يحادث زوجه في شئون المعاش بعبارات يقطعها سعال عنيف … وأصغت إليه المرأة حتى فرغ من حديثه، فقالت له في صوت اليائس: صفوة القول، ليس لنا أن نأمل في عمل بأحد المصانع؛ أليس الأمر كذلك؟
– الوقت عسير يا عزيزتي، والمصانع لا تريد أن تمنح أمثالنا القوت؛ لأن لديها حاجتها من العمال … من أولئك العمال المساكين، الذين تسخرهم طول اليوم من أجل لقمة كالعبيد.
– وماذا نصنع نحن إذن؟ … ينبغي أن تذكر أن ولديك «أندريه» و«مارسيل» لن يستطيعا بعد اليوم إمدادنا بالمال؛ فلقد عزم «أندريه» إلحاق «جانو» بمدرسة داخلية، وفي هذا باب جديد للنفقات سيتكلفه المسكين، كذلك «مارسيل» يتكلف الباهظ من المال منذ عام في الإنفاق على تعليم «جيزيل».
فأطرق الرجل مليًّا … ثم قال: صدقت! … ليس لنا إذن من مورد إلا …
والتفت يمنة ويسرة باحثًا عن «محسن» بعينين خابيتين تحت المنظار … وأدركت المرأة مراده، والتفتت إلى مكان «محسن» من مائدة المطبخ فوجدته خاليًا فقالت: «عصفور الشرق» صعد إلى حجرته من غير شك؛ كي يضع كتابه ويتهيأ للغداء … نعم ليس لنا من مورد إلا ما يدفعه هذا الشاب.
صمت الرجل لحظة متفكِّرًا، ثم قال: أترى تطول إقامته بيننا؟
– من يدري؟ … لقد قال لي ذات يوم إنه سيمكث عامين أو ثلاثة … آمل ألا يسأم حياة الريف، ويفر إلى باريس.
فظهر القلق على وجه الشيخ، ثم نظر مفكِّرًا إلى النار المتأججة في الوجاق، وقال كمن يُدخل على نفسه الاطمئنان: كلا؛ إنه، فيما يبدو لي، شاب لا يميل إلى اللهو كسائر الشبان.
– حقيقة، إنه لا يحب سوى المطالعة والتأمُّل والموسيقى، لكن من يدري إن كان يلبث فينا كل مدته؟ … ليس لنا إلا أن نأمل.
هز الرجل رأسه وأطرق صامتًا، ثم دسَّ يده في جيبه، وأخرج لفافة تبغ، وجاء «جانو» يجري وقفز إلى ساق جده فامتطاها، كما يمتطي الحصان، وطفق يحدثه بمجيء «جيزيل» المنتظر.