الفصل العشرون
اعتكف «محسن» بضعة أيام، علم خلالها أن صحة «إيفانوفتش» غاية في السوء، وجاء صاحب النزل ذات صباح يطرق عليه بابه … ففتح منفزعًا: ما الخبر؟
– صديقك الروسي …
– مات؟
– لما يمت بعد، ولكنه يسأل عنك اليوم منذ طلعت الشمس.
– وكيف حاله؟
– لست أدري، هو يزعم أنه اليوم بخير، ولكنه مريض بذات الرئة؛ كما تعلم، داء لا يرحم … أتذكر ذلك اليوم عندما صحت مستنجدًا؟ … لقد أغمي عليه أيضًا في المساء، وكان في حالة احتضار حقيقية، فاستدعينا له القسيس، ولكنه ما فتح عينيه قليلًا وأبصره حتى صاح فيه وفينا بصوت خائر لكنه ثائر: «أبعدوا عني هذا السكير بوجناته الموردة.»
وتصور عندئذٍ أي حرج وقعنا كلنا فيه.
– على أي حال، قد بلغتك يا مسيو «محسن»، ولك أن تذهب إليه إذا شئت، أو لا تذهب.
وخرج صاحب النزل، تاركًا الفتى في مكانه مطرقًا مفكرًا … ولم يجد «محسن» بدًّا من الذهاب إلى «إيفان» على الفور، فقام ومضى إلى حجرته، فوجده في فراشه، يتأمل أشعة الشمس الداخلة من النافذة، وتنبه الروسي لحركة دخول «محسن» فوجَّه بصره إليه، وأشار له بعين باسمة إلى شعاع ذهبي انعكس على الفراش: ما أجمل الشمس اليوم!
– نعم.
قالها الفتى في غير اكتراث، وهو يتأمل وجه الرجل الشاحب، وفرحه الذي يشبه فرح الأطفال السذَّج بهذا الشعاع فوق سريره، وساد الصمت، قطعه المريض بشبه همس: آه! … النور … النور يشرق من بلاد الشمس «ليغرب» في بلاد الغرب.
ثم التفت إلى «محسن» وقال له في صوت متداعٍ:
– اقترب يا صديقي، وأنهضني قليلًا … فإني سئمت طول الرقاد.
فتردد الفتى خوفًا عليه: إني أخشى …
– لا تخشَ شيئًا، ضعني بجوار النافذة، أعنِّي على الجلوس، حيث يغمرني نور الشمس.
فلم يرَ «محسن» بدًّا من تلبية رغبته … فساعده على القيام، ومشى به إلى ظهر صندوقه الخشبي، حيث وضعه عليه وضعًا، فقال الروسي وهو يستنشق الهواء بما بقي له من رئتين: شكرًا لك … أيها … الصديق.
ثم أمسك بيد «محسن» بين يديه، ونظر إليه طويلًا وقال: أتعاهدني؟
– على ماذا؟
– أن نذهب معًا إلى … الشرق؟
فتردد الفتى قليلًا، ثم نظر إلى كيان الرجل الواهي: نعم، عندما تسترد كل صحتك.
– إني أشعر اليوم أني قد شُفيت، إن صحتي اليوم تسمح لي بأن أسافر، اليوم بالذات! … اسمع: إن لديَّ في هذا الصندوق مبلغًا من المال ادخرته يكفي نفقات السفر! … وسأخرج اليوم أبحث عن مشترٍ لهذه الكتب وهذه الأمتعة … لست في حاجة إلى كتب بعد اليوم، إنما أنا في حاجة إلى هواء … وفضاء … وصفاء.
وخشي «محسن» أن تنمو الفكرة في رأس هذا المريض، فيرتكب حماقة تسيء إلى صحته … فلم يبدِ تحمسًا لما قال … ثم أراد أن يثنيه عن عزمه، فقال: أرى أنك تقسو في الحكم على الغرب يا مسيو «إيفان». مهما يكن من أمر، فإن أوروبا قد وصلت بالعلم البشري إلى قمم لم يصل إليها …
فلفظ الرجل ضحكة سخرية، وقال: من قال لك ذلك؟! … أتعرف ما هو العلم أيها الفتى؟ … إن العلم «علمان»: العلم «الظاهر» والعلم «الخفي». وإن أوروبا حتى اليوم طفلة، تعبث تحت أقدام ذلك «العلم الخفي»، الذي كانت حضارات أفريقيا وآسيا قد وصلت به حقيقة إلى قمم المعرفة البشرية … أما العلم «الظاهر» وحده فهو كل ميدانها، إلا أن طاقة الآلة المفكرة محدودة، وأن كل وسائل العلم الظاهر هي أعضاؤنا وحواسنا الظاهرة، وتلك ليس لها من الدقة ما يقتنص، غير الظواهر التافهة؛ من ظواهر الطبيعة والكون، مهما تعاونها الآلات والعدسات … كل هذا العلم الحديث الذي يبهرك، ليس في حقيقته غير «طريقة» و«أسلوب»! … نعم، إن الجديد حقًّا في العلم الأوروبي الحديث هو «أسلوب» التفكير المنتظم و«طرائق» البحث العقلي المرتب، أما أكثر من ذلك فلا … وأما أن نسمي مجرد استكشاف بعض خواص الطبيعة بحواسنا، وصولًا إلى قمم المعرفة البشرية، فتلك هي السخرية الكبرى! … إن قمم المعرفة البشرية هي في مجاهل ذلك «العلم الخفي»، الذي لم يدخل فقط عقل أوروبا؛ لأن وسائلها كما قلت لك لا تهيئها إلا لفهم مظاهر الحياة السطحية، ولا أقسو عليها إذا استعملت كلمة «السطحية» لأنها هي الحقيقة … إن عين العلم الأوروبي لا تقع دائمًا إلا على سطح الأشياء؛ ككل عين … إنها مدنية لا تدرك ولا تعترف إلا بما يقع تحت لمسها وبصرها ومنطق عقلها، ولا تقوم إلا على عالم المحسوس. وإني أصر على أن هذه المدنية الكبيرة إن هي إلا «مدنية ناقصة»؛ لأنها لا تعرف الحياة إلا في «عالم واحد»! … أريد أن أهرب إلى البلاد التي تعيش في «عالمين»، تلك البلاد التي ارتفعت فيها المعرفة البشرية إلى قمم «العلمين».
وسكت الرجل قليلًا، ولمح «محسن» التعب على وجهه فقال له: لا تتكلم كثيرًا! … أرجو منك ذلك … حسبنا ما حصل في المرة السابقة.
– لن أتكلم، كفى كلامًا … ولكني سأفعل! … إلى العمل.
ثم تحامل ونهض قليلًا مستندًا إلى الحائط فأسرع إليه «محسن»: إلى أين؟
– أرتدي ثيابي؛ لأخرج فأبيع هذه الكتب … وأتهيأ للسفر.
– ليس الآن، ليس الآن … إنك متعب.
– دعني، أيها الشاب، سنذهب إلى الشرق، أريد أن أرى جبل الزيتون، وأن أشرب من ماء النيل وماء الفرات وماء زمزم وماء …
– ونترك هذه البلاد … وهذه الحضارة … ونترك «بتهوفن»؟ … آه يا مسيو «إيفان»! … إنك تستطيع أن تقول كل شيء عن الغرب فأسمع لك، ولكن «بتهوفن» ها هو ذا نبي حقيقي! … ها هو ذا رسول للمحبة والسلام، خليق بأن يرفع مجد الغرب أبد الآبدين … وأن يطهر الإنسانية وأن ينير القلوب.
فالتفت الروسي إلى «محسن» قائلًا في قوة: «بتهوفن»! … «بتهوفن»! … نعم «بتهوفن»، و«هاندل»، و«موزار»، و«هايدن»، و«جان سباستيان باخ»، و«ميكل آنج» و«رفاييل» و«رمبرانت»، و«باسكال»، و«سان توماس»، و«كوبرنيك»، و«جاليليه»، و«دانتي» … إلخ … إلخ … كل أولئك إن هم إلا زهرات يانعات في حديقة المسيحية الغناء.
ثم وضع يده على كتف «محسن» المطرق الساهم: هلم إلى المنبع! … إلى المنبع؟ … إلى هناك … إلى هناك.
ثم ترك الفتى في إطراقه، وتحامل متكئًا على الحائط، يبحث عن حذائه وسترته … ومرت في رأس «محسن» خواطر، وبدت له صور من الشرق اليوم، فرفع رأسه وقال لصاحبه الروسي: ألم ترَ الشرق قط من قبل؟
فأجاب الرجل، وهو يضع حذاءه في إحدى قدميه: لم أرَه قط إلا في أحلامي … ولكني لن أموت قبل أن أراه! … فأطرق «محسن» مرة أخرى وهمَّ أخيرًا أن يرفع رأسه ليقول ﻟ «إيفان»: مهلًا، مهلًا أيها الصديق! … إن ذلك المنبع الذي تريد أن تراه، وتلك الأنهار التي تريد أن تشرب منها؛ قد تسممت كلها! … إن «الفتاة الشقراء» يوم حقنت فخذها ﺑ «المورفين» السام لم تترك أبويها سالمين؛ لقد قضي الأمر، ولم يعد هنالك نبع صافٍ؛ فإن الزهد قد ذهب كذلك من الشرق! … وإن رجال الدين هناك يعرف بعضهم اليوم كذلك اقتناء السيارات، وقبض المرتبات، وتورد الوجنات من النعيم والمتع، وإن ثياب الشرق الجميلة النبيلة هي اليوم خليط عجيب من الثياب الأوروبية، يثير منظره الضحك؛ كما يثيره منظر قردة اختطفت ملابس سائحين من مختلفي الأجناس، وصعدت بها فوق شجرة ترتديها، وتقلد حركات أصحابها! … وإن التعليم العام للقراءة والكتابة، وحق التصويت والبرلمان، وكل هذه الأفكار الأوروبية قد أصبحت في الشرق اليوم مبادئ ثابتة، يؤمن بها الشرقيون إيمانهم — بل أكثر من إيمانهم — بمبادئ الأديان! … وإنه لمن السهل أن تقنع شرقيًّا اليوم بأن دينه فاسد، ولكن ليس من السهل أن تقنعه بأن «الصناعة الكبرى» هي عجلة «إبليس» التي يقود بها الإنسانية إلى الدمار … أو أن التعليم العام لرموز الكتابة نوع من الهراء. وإنك قد تستطيع اليوم أن تقتلع من رأس الشرقي عظمة السماء … ولا تستطيع مطلقًا أن تقتلع منه عظمة «العلم الأوروبي الحديث». وإنه لمن اليسير أن تسفه عند الشرقي الآن «رسالة» الأنبياء ولا يمكن أن تسفه لديه «رسالة» القوة المادية الحديثة! … بل من العجيب أن هذه الأفكار والمبادئ التي تعتبر في الشرق اليوم ثابتة ثبوت الآيات المنزلة، قد يناقشها الأوروبيون أنفسهم وينقضونها، وهي لا تزال حافظة عندنا كل قوتها! … وإن المدفع قد ينطلق في أوروبا ضد بعض هذه الأفكار، ونرى ضوء لهبه، ولكن الصوت لا يصل إلى آذاننا … لا لبُعد المسافة؛ بل لأن آذاننا لا تسمع، وقلوبنا لا تعي! … لقد كانت «الحقنة» شديدة الفعل والأثر … نعم، ولا أحد يدري هل أوروبا حقنت الشرق بأفيون خالص أو بأفيون ممزوج بسم ناقع، سرى — وما زال يسري — في شرايينه يقتل كل بذور المثل العليا الشرقية في النفوس؛ فشبان الشرق اليوم — عندما أرادوا أن يتخذوا لهم مثالًا للرجولة والبطولة — لم يتجهوا شطر «غاندي» ولكنهم اتجهوا بعيون؛ كأنها منومة تنويم المغناطيس شطر «موسوليني». ويوم أرادوا أن يجعلوا للتقشف والجلد والخشونة لباسًا، لم يضعوا على أبدانهم العارية القوية رداءً بسيطًا من القطن، يصنعونه بأيديهم؛ لكنهم ارتدوا القمصان الأوروبية ذات الألوان! … إذن حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين.
نعم، اليوم لا يوجد شرق! … إنما هي غابة على أشجارها قردة، تلبس زي الغرب، على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك.
لم يجرؤ «محسن» على أن يقول مثل هذا الكلام لصاحبه الروسي؛ فقد أدرك أن هذا الرجل، الذي لم يستطع شيء في الغرب أن يشفي نفسه القلقة الحائرة؛ قد وضع كل أمله في الشرق، وقد صنع للشرق في رأسه صورًا عظيمة هي كل أمله الباقي، وإن كشْف الحقيقة لعينه الآن أفظع طعنة يقتل بها هذا المسكين، فتركه في خيالاته، ورفع الفتى رأسه أخيرًا ليرى ماذا يصنع صاحبه، فألفاه ملقًى على ظهر الصندوق ورأسه إلى الحائط وفي إحدى قدميه الحذاء، فأخذه روع لمرآه وأسرع إليه: ماذا بك؟ … مسيو «إيفان»! … ماذا بك؟!
فقال الرجل في صوت كالحشرجة: فات الأوان.
– أي أوان؟
– اذهب أنت وحدك … إلى … هناك.
– أأستدعي لك الطبيب، يا مسيو «إيفان»؟ … أأطلب لك …
– لا … لا تفعل شيئًا … إني … أعرف نفسي.
ومال رأسه، وانطفأ النور الباقي من عينيه، لكنه تحامل وقال في صوت لا يكاد يسمع: اذهب أنت يا صديقي … إلى هناك … إلى النبع … واحمل ذكراي وحدها معك … وداعًا.