الفصل الرابع
لم يمكث «محسن» طويلًا غارقًا في تأملاته؛ فقد ضُرب عليه الباب، فانتبه، وإذا صديقه «أندريه» وزوجته «جرمين» يصيحان به: عصفور الشرق وحيد في القفص.
فقال «محسن» كالمخاطب نفسه: إني دائمًا في قفص.
فقال «أندريه» في ابتسامة خبث: في قفص الحب سجين أيها المسكين.
– نعم سجين.
– أتعترف بهذه السهولة؟
– وما فائدة الإنكار؟
– ولماذا لا تنطلق حرًّا مغردًا في فضاء الحب؟
فأسرع «أندريه» قائلًا: إنك تطلبين المستحيل … إنه سيظل دائمًا هكذا … إنه حتى الآن لم ينجح حتى في الوصول إلى معرفة اسمها.
فقالت «جرمين» في ضحكة خفيفة: لم يعرف بعد اسمها؟! حقًّا إنه لمحب خائب.
فاتخذ وجه «محسن» لون الجد الصارم، وقال في هدوء وموافقة واقتناع: أما إني محب خائب؛ فهذا صحيح، ولا محل للجدل فيه، وقد أعيتني هذه الخيبة في كل زمان ومكان.
فقال «أندريه» سائلًا: ألم ترَها اليوم؟
– لم أرَها منذ أسبوع، ولم أنصرف إلى غير مطالعتي … إن الكتب تستطيع أن تشغل رأسي حقيقة، لكن هل الرأس هو كل شيء في حياة الإنسان؟ … آه! … إن أجمل لحظاتي ساعة أقف أمامها أنتظر، وأنا أعلم أنها لن تلقي إليَّ بكلمة تسر خاطري … مرة واحدة نبذت إليَّ عفوًا بنظرة، وقالت لي: «أما تزال واقفًا ها هنا؟! … أي مخلوق أنت؟!»
– وما قصدها من هذا؟
– لست أدري! … فسِّر هذه الجملة كما تشاء … أما أنا فقد فسرتها طبعًا لمصلحتي … إني أحب هذه العبارات المبهمة التي أتخيل معناها كما أشاء.
– إنك رجل خيالي، وهذه مصيبتك.
قالها «أندريه» وهو ينظر إلى «جرمين»، فأمَّنت على قوله برأسها وأضافت: من غير شك، لا سبب عندي لفشل «محسن» غير أنه خيالي أكثر مما ينبغي؛ والمرأة لا تقنع بالخيال، بل بالحقيقة.
فلم يعترض محسن وقال في إذعان: وأين هذه الحقيقة؟ … دلاني على هذه الحقيقة التي أكسب بها عطف المرأة.
فقالت «جرمين»: أتريد أن تعلم أين تجد هذه الحقيقة؟
– نعم أخبريني أين هي، وأنا لا أنسى لك أبدًا هذا الجميل.
– إنها تشترى بالثمن!
– كم الثمن؟ … كل حياتي فيما أعتقد.
– بل عشرون فرنكًا فقط.
– أتمزحين؟!
– بل أقول جدًّا … عشرون فرنكًا فقط، تشتري بها من حانوت شارع «هوسمان» زجاجة عطر «هوبيجان» صغيرة، وتقدمها إلى صاحبتك في الصباح … هذه هي كل الحقيقة … فهمت؟
فحلَّق «محسن» في الفضاء؛ كأنما قد كُشف عنه حجاب، ثم التفت إلى «جرمين» وقال: أحقًّا ما تقولين؟
فابتسمت «جرمين»، وقالت في صوت المتعجب: يدهشني أن فتًى ذكيًّا مثلك يجهل هذا.
– قارورة «هوبيجان» فقط! … ثمنها عشرون فرنكًا! … إنك تبالغين يا سيدتي! … إنها لجديرة بأن أضع تحت شباكها قلبي كله.
– شباكها؟!
– لن أقدم إليها شيئًا زهيدًا من هذه الأشياء.
– أين صاحبتك يا «محسن»؟
فأجاب «أندريه» في الحال عن صديقه باسمًا: قلت لك يا «جرمين» إنه لا يعرف من هي، ولا يدري عنها شيئًا.
فقال «محسن»، دون أن يخرج عن هدوئه: هذا صحيح.
وازداد عجب «جرمين» فقالت تسأل الفتى: ياللغرابة! … وأين تراها إذن؟!
فأجاب «محسن»: أراها في شباكها، تشرف على الناس بعينين من فيروز، وهم يمرون أمامها الواحد تلو الآخر، من كل جنس ومن كل طبقة، فيهم الفقير مثلي، وفيهم الموسر مثل ملك من الملوك … فيهم الجميل والقبيح، وفيهم العجوز والشاب، وفيهم السعداء والتعساء، وفيهم الأخيار والأشرار، وفيهم الشجعان والجبناء، وفيهم الجريء والخجول … نعم! … يمر بين يديها كل يوم هذا الموكب، وهي تبسم من شباكها بين آن وآن دون أن يعرف أحد سر قلبها.
فنظرت «جرمين» إلى «محسن» مليًّا، ثم قالت: أهذه المرأة في باريس؟ … أم في كتاب ألف ليلة وليلة؟!
وقال «أندريه» ضاحكًا: وهذا الشباك أين هو؟ … في أي قصر سحري؟!
وأردفت «جرمين» ضاحكة: وهل توجد حقًّا في باريس تلك المرأة التي يمر بين يديها الناس وهي في الشباك؟!
فأجاب «محسن» في هدوء: في شباك التذاكر.
فصاحت «جرمين» وقد فهمت مراده: آه! … هي عاملة في شباك تذاكر.
– «تياترو» الأوديون.
قالها «محسن» كالحالم، وضحكت «جرمين»، وضحك «أندريه» ثم قال: أتسمع نصيحتي يا «محسن»؟ … اذهب غدًا وقدِّم إليها طاقة من الزهر، ثم ادعُها إلى العشاء في مطعم من المطاعم.
فتفكر «محسن» قليلًا، ثم قال: وإذا لم تقبل مني طاقة الزهر؟!
فقالت «جرمين» من فورها: لا يوجد امرأة في باريس ترفض طاقة من الزهر.