لغز الثروة المفقودة
لم يخطر لي اسمُ الراحل اللورد تشيزلريج قطُّ دون أن يتداعَى إلى ذهني على الفور اسم السيد توماس ألفا إديسون. لم يسبق لي أن رأيت الراحل اللورد تشيزلريج من قبلُ، ولم ألتقِ السيد إديسون إلا مرَّتين في حياتي، غير أن الرجلين تربط بينهما صلة في ذاكرتي، وكان تعليقٌ أبداه الأخير ذات مرةٍ هو ما ساعدني إلى حدٍّ كبيرٍ في حلِّ الغموض الذي غلَّف به الأول تصرُّفاته.
ليس لديَّ مذكراتٌ لتُخبرني بالعام الذي حدث فيه هذان اللقاءان مع إديسون. كنت قد تلقَّيت رسالةً من السفير الإيطالي في باريس يطلب مني انتظاره بمقرِّ السفارة. وعلمت أن من المزمع في اليوم التالي أن ينطلقَ وفدٌ من السفارة إلى أحد الفنادق الكبرى للقاء المخترع الأمريكي الكبير، وإهدائه رسميًّا العديد من الأوسمة الرسمية المصاحبة لألقاب شرفية أنعم بها عليه ملكُ إيطاليا. ونظرًا لدعوة العديد من النبلاء الإيطاليين ذوي المقام الرفيع، ونظرًا لأن أصحاب المقام الرفيع هؤلاء لن يرتدُوا فقط الملابس المرتبطة برُتبهم، ولكنهم في حالات كثيرة سيرتدون جواهر لا تُقدَّر بثمن، كان حضوري مرغوبًا فيه اعتقادًا بأنني قد أستطيع درء أيِّ محاولة من جانب أبناء الطبقة العليا ممن يتَّسمون بخفة اليد، الذين قد يحاولون الاستيلاء على هذه الكنوز، ويمكنني أن أضيف، بشيءٍ من الرضا عن النفس، أنه لم تقع أيُّ منغِّصات غير متوقعة.
كان السيد إديسون، بالطبع، قد تلقَّى قبل وقتٍ طويلٍ إخطارًا بالساعة التي سيكون فيها الوفد المفوَّض في انتظاره، ولكن حين دخلنا قاعة الاستقبال الكبيرة المُخصَّصة للمخترع، صار واضحًا لي من نظرة عين خاطفة أن هذا الرجل الذائع الصيت قد نسي كلَّ شيءٍ بشأن المناسبة؛ فقد وقف بجوار طاولةِ جرداء نُزع عنها المفرش وطُرح جانبًا في أحد الأركان، وعلى هذه الطاولة وُضِعت قطع عديدة من آلات سوداء ومشحمة: عجلات مسنَّنة، وبكرات، ومسامير مُلولبة … إلخ. كانت هذه الأشياء، على ما يبدو، تخص العامل الفرنسي الذي كان واقفًا على الجانب الآخر من الطاولة، وفي يده المتسخة أحدُ هذه الأجزاء. لم تكن يدا إديسون نظيفتين تمامًا؛ إذ كان يفحص المادة بوضوح ويتحدَّث مع العامل الفرنسي، الذي كان يرتدي سترة العُمَّال الطويلة المعتادة لحدَّاد ولكنها ذاتُ مقاسٍ صغير. حسبته رجلًا يملك ورشةً صغيرةً خاصة به في أحد الشوارع الخلفية، يقوم بأعمال هندسية عجيبة، ربما بمساعدة مساعد ماهر أو اثنين، وبعض الصِّبية المبتدئين. نظر إديسون نظرات جادة نحو الباب مع دخول الموكب، وعلى وجهه مسحة ضيق من المقاطعة، امتزجت بلمحة من الارتباك بشأن ما يعنيه هذا العرض الرائع. يُولع الإيطاليون، شأنهم شأن الإسبان، بالرسميات حين يتعلق الأمر بمناسبة عامة؛ فكان المسئول الذي يحمل الصندوق المزخرف الذي يحوي المجوهرات ويرتكز على وسادة مخملية، يتقدَّم بخطًى وئيدة إلى الأمام، وتوقف أمام الأمريكي الحائر. بعدها تحدَّث السفيرُ بصوت جهوري ببعض الكلمات الرقيقة عن الصداقة بين الولايات المتحدة وإيطاليا، وعبَّر عن أمنيته بأن تعود المنافسة بين البلدين بمنافع ومزايا على البشرية، وضرب المثلَ بالمخترع المُكرَّم باعتباره النموذج الأبرز الذي لم يأتِ به العالَم بعدُ لرجل يغدق على جميع الأمم بالنعم في فنون السلام. واختتم السفيرُ البليغُ حديثَه بقوله إنه امتثالًا لأوامر مولاه، فإن من دواعي واجبه وسروره أن يُقدِّم … وهكذا إلى آخره.
غير أن السيد إديسون، الذي بدا واضحًا عليه القلق وعدم الارتياح، ألقى ردًّا مناسبًا بأقل الكلمات المُمكنة، ولما كان العرض قد انتهى على ذلك، فقد انسحب النبلاء ببطء يتقدَّمهم السفير، وتذَيَّلت أنا الموكب. كنت في غاية التعاطف في قَرارة نفسي مع العامل الفرنسي، الذي وجد نفسه، وعلى غير المتوقع، في مواجهة هذا القدر البالغ من الفخامة والعظمة. رمقه بنظرةٍ واحدة جافة، ولكنه رأى أن خلوته كانت ستنقطع ما لم يُزح بعضًا من هؤلاء النبلاء الرائعين. بعدئذٍ حاول أن يتقوقع على نفسه، وأخيرًا وقف بلا حول ولا قوة مثل شخص أصابه الشلل. فعلى الرغم من الأعراف والتقاليد الجمهورية، يُضمر قلبُ كلِّ رجلٍ فرنسيٍّ احترامًا وإجلالًا عميقَين للمواكب الرسمية التي يغلب عليها الترف في الملابس والتنظيم كهذا الموكب، ولكنه يحب أن ينظر إلى الأمر من بعيد، وبدعم ومساندة أقرانه، لا يندفع بقوة على نحوٍ متنافرٍ وسط هذه الأشياء، كما كان الحال مع المهندس الذي أصابه الذعر. وبينما كنت في طريقي للخروج، نظرتُ نظرةً خاطفةً من فوق كتفي إلى هذا الحِرفي الماهر المتواضع الذي قنع بربحٍ لا يتجاوز بضعة فرنكات معدودة، وإلى المخترع المليونير المقابل له، وكان وجه إديسون — الذي كان باردًا وجامدًا أثناء الخطبة، مذكِّرًا إياي بقوة ووضوحٍ بتمثالٍ نصفيٍّ لنابليون — قد صار الآن متوهجًا بالحماس وهو يلتفت إلى ضيفه المتواضع. ويصيح في بهجة قائلًا للعامل:
«دقيقة من التجريب العملي تُساوي ساعةً من الشرح والتفسير. سوف آتي إليك في متجرك غدًا، في حوالي العاشرة، وأريك كيف تجعل هذا الشيء يعمل.»
أخذت أتسكع ببطء في الرَّدهة حتى خرج الفرنسي، وبعد تقديم نفسي إليه، طلبت منه منحي شرف زيارة متجره في العاشرة من يوم غد. كان هذا متوافقًا مع الدبلوماسية التي ستجدها سائدةً بين طبقات فرنسا العاملة، وفي اليوم التالي سعدت بمقابلة السيد إديسون. وفي سياق حديثنا هنَّأته على اختراعه المصباح الكهربائي المتوهج، وكان هذا رده الذي ظلَّ عالقًا في ذاكرتي للأبد:
«لم يكن اختراعًا، وإنما اكتشاف. كنا نعرف ما نريد، نسيجٌ مُكربَن من شأنه أن يتحمل التيار الكهربائي في الفراغ، لِنَقُل لألف ساعة. لو لم يوجد مثل هذا النسيج، لما كان المصباح المتوهج، كما نعرفه، ممكنًا. بدأ المساعدون في البحث عن هذا النسيج، وقمنا ببساطةٍ بكربنة كلِّ شيءٍ استطعنا أن نضعَ أيدينا عليه، ومرَّرنا تيارًا كهربائيًّا عبره في الفراغ. وفي النهاية توصَّلنا إلى النسيج المناسب، كما كان سيحدث حتمًا إذا ثابرنا عليه لفترة طويلة بما يكفي، وإذا كان النسيج موجودًا؛ فالصبر والاجتهاد سوف يقهران أي عقبة.»
كان هذا الاعتقاد بمنزلة عونٍ كبيرٍ لي في مهنتي. أعرف أن الفكرة السائدة عن عمل المحقق هي أنه يتوصل إلى حلول ألغازه بطريقة درامية، من خلال تتبُّع المفاتيح والدلائل غير الظاهرة للشخص العادي. هذا يحدث كثيرًا بلا شك، ولكن الصبر والجهد اللذين يُوصي بهما السيد إديسون، عمومًا، هما الدليل المرشد الأكثر أمنًا؛ فكثيرًا ما كان تتبُّع الأدلة الممتازة يقودني إلى كارثة، مثلما حدث مع محاولتي البائسة لحلِّ لغز الماسات الخمسمائة.
كما أسلفتُ القول، لم يسبق لي التفكير في اللورد تشيزلريج من دون أن أتذكَّر السيد إديسون في الوقت عينه، ومع ذلك فقد كان الاثنان مختلفَين تمامًا. وأرى أن اللورد تشيزلريج هو أكثر رجل عديم القيمة على مرِّ التاريخ، بينما إديسون عكسه تمامًا.
وذات يومٍ جلب لي خادمي بطاقةً كُتِب عليها اسم «اللورد تشيزلريج».
قلت: «أدخِل سيادة اللورد.» ليظهر شابٌّ في حوالي الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، أنيق الملبس، ذو أسلوب ساحر، وعلى الرغم من ذلك بدأ لقاءَه بتوجيه سؤال لم يُوجَّه إليَّ من قبلُ قط، سؤال إذا وُجِّه إلى محامٍ، أو أي شخص يعمل في مجال آخر، لأجيبَ عنه بشيءٍ من السخط. والواقع أنني أعتقد أن قَبول عرض كالذي قدَّمه لي اللورد تشيزلريج، من شأنه، حال إثباته، أن يؤدي إلى إلحاق العار والدمار بالمحامي، هو قانون مكتوبٌ أو ضمنيٌّ في مهنة المحاماة.
بدأ اللورد تشيزلريج حديثه قائلًا: «سيد فالمونت، هل سبق أن تولَّيت قضايا بنظام المضاربة؟»
«مضاربة يا سيدي؟ لا أظن أني أفهم.»
تورَّد وجهُ سيادته خجلًا كالفتيات، وتلعثم قليلًا وهو يحاول شرح الأمر.
«ما أعنيه، هل تقبل قضيةً بأتعابٍ مشروطة؟ بمعنى، حسنًا … سيدي … لكي أكون صريحًا ومباشرًا تمامًا، لن يكون لك أجرٌ إذا لم يكن هناك نتائج.»
جاء ردِّي حادًّا نوعًا ما:
«لم أتلقَّ عرضًا كهذا في حياتي من قبلُ، وأستطيع القول فورًا إنني سأكون مضطرًّا لرفضه حال واتتني الفرصة. إنني أكرس وقتي واهتمامي للقضايا التي تُقدَّم لي من أجل حلها. وأحاول أن أكون جديرًا بالنجاح، ولكنني لا أضمن هذا، وفي الوقت نفسه لا بُدَّ أن أعيش؛ لذا أُضطر على مضضٍ أن أجعل لوقتي مقابلًا، على الأقل. أعتقد أن الطبيب يُرسل فاتورته رغم وفاة المريض.»
ضحك الشاب ضحكة مضطربة، وبدا محرجًا إلى حدٍّ أعجزه عن متابعة الحديث، ولكنه في النهاية قال:
«لقد أصاب تشبيهُك كبدَ الحقيقة بدقةٍ ربما تكون قد فاقت ما تخيلتَه أنت حين نطقتَ به. لقد دفعتُ لتوِّي آخرَ بنسٍ كان معي إلى الطبيب الذي كان يُشرف على علاج عمي الراحل، اللورد تشيزلريج الذي تُوفي قبل ستة أشهر. أُدرك تمامًا أن الاقتراح الذي قدَّمتُه لك ربما يبدو إهانة لمهارتك، أو بالأحرى يُلمِح إلى وجود شكٍّ بشأنها. ولكن يُحزنني يا سيدي إذا كنتَ قد وقعتَ في مثل هذا الخطأ. كان من الممكن أن آتي إلى هنا وأُكلِّفك بإيجادِ توضيحٍ لهذا الموقف الغريب الذي أجد نفسي فيه، وليس لديَّ أدنى شكٍّ في أنك كنت ستقبل المهمة إذا كانت ارتباطاتك العديدة تسمح بذلك. وإن فشلت، فلم أكن لأستطيع أن أدفع لك؛ إذ إنني مفلس بمعنى الكلمة؛ لذلك كان كل ما أتمناه أن تكون بدايتي معك صريحة، وأن أُعلِمك بموقفي بالضبط. إذا نجحتَ، فسوف أصبحُ ثريًّا؛ وإذا لم تنجح، فسوف أكون ما أنا عليه الآن؛ مفلسًا. هل صار واضحًا لك الآن لماذا بدأتُ بسؤالٍ لديك كل الحق في الاستياء منه؟»
«واضح تمامًا سيدي اللورد، وصراحتك تستحق الاحترام.»
بهرني أسلوب الشاب المتواضع بشدة، ورغبته الواضحة في عدم قَبول أي خدمات تحت ادعاءات زائفة. وحين أنهيت حديثي، نهض النبيل اليسير الحال وانحنى لي.
«أنا مدين لك بشدةٍ للطف استقبالك لي يا سيدي، وأرجو أن تغفر لي إهدار وقتك في طلبٍ لا طائلَ منه. طاب صباحك يا سيدي.»
أجبته وأنا أشير إليه بالعودة إلى مقعده قائلًا: «لحظة واحدة سيدي اللورد. برغم عدم استعدادي لقَبول مهمة بالشروط التي تقترحها، غير أنني قد أستطيع أن أُقدِّم لك تلميحًا أو اثنين قد يصُبان في صالحك. أظن أنني أتذكر خبر وفاة اللورد تشيزلريج. لقد كان غريب الأطوار نوعًا ما، أليس كذلك؟»
قال الشاب بضحكةٍ خافتة وهو يجلس مرةً أخرى: «غريب الأطوار؟ حسنًا، نوعًا ما.»
«أذكر فيما أذكر أنه كان معروفًا بامتلاك نحو عشرين ألف فدان؟»
أجاب ضيفي: «سبعة وعشرين ألفًا في الحقيقة.»
«وهل ورثت الأرض مثلما ورثت اللقب؟»
«آه، نعم؛ فالضيعة موقوفة للورثة. لم يكن بمقدور السيد العجوز أن يحجبها عني إن فعل، ولديَّ بعضُ الشك في أن هذه الحقيقة لا بُدَّ وأنها قد سبَّبت له بعض القلق.»
«ولكن، سيدي اللورد، بالتأكيد لا يمكن لرجل يملك ما هو أقرب إلى مقاطعة في مملكة إنجلترا الثرية هذه، أن يكون مفلسًا؟»
ضحك الشاب مرة أخرى.
أجاب مقحمًا يده في جيبه مخرجًا بعض القطع المعدنية النحاسية البنية اللون، وقطعة من الفضة البيضاء: «حسنًا، أملك ما يكفي من المال لشراء بعض الطعام لليلة، ولكنه لا يكفي لتناول العشاء في فندق فخم. هكذا الحال كما ترى. إنني أنتمي إلى عائلة عريقة نوعًا ما، تجاوز العديد من أفرادها كلَّ الحدود ورهنوا أراضيهم حتى آخرها. لا أستطيع أن أجني بنسًا واحدًا من ممتلكاتي مهما حاولت؛ لأن المال في ذلك الوقت كان مُقرَضًا، وكانت الأرض أكثر قيمةً بكثير مما هي عليه الآن. والكساد الزراعي، وما شابهَ من أمور، تركني أسوأ حالًا آلاف المرات مما لو لم يكن لديَّ أيُّ أراضٍ على الإطلاق. إلى جانب هذا، تدخَّل البرلمان، أثناء حياة عمي الراحل، نيابةً عنه، مرةً أو اثنتين؛ مما أتاح له تقطيع أشجار الضيعة الثمينة في المرة الأولى، وبيع لوحات قصر تشيزلريج في صالة كريستي للمزادات بأرقام فلكية يسيل لها اللعاب.»
سألته: «وماذا كان مصير المال؟» وهنا عاود النبيل الودود الضحك مرةً قائلًا: «هذا تحديدًا هو ما جاء بي إلى هنا وجعلني أستقل المصعد لأعرف إن كان بإمكان السيد فالمونت أن يكتشفه.»
قلت: «سيدي اللورد، لقد أثرت فضولي.» وكنتُ صادقًا في ذلك للغاية، برغم ما كان يُراودني من خوفٍ مشوب بالقلق من أن أتولَّى القضية في النهاية؛ لأنني قد أُعجبت بالشاب حقًّا؛ فقد راقني افتقاده للتظاهر، وصار ذلك الشعور بالتعاطف الذي كان سائدًا إلى حدٍّ كبيرٍ بين أبناءِ بلدي يطوقه رغمًا عن إرادتي.
تابع اللورد تشيزلريج: «كان عمي حالةً شاذةً في عائلتنا. لا بُد أنه كان انعكاسًا لنمطٍ سلوكي قديم في العائلة، نمطٍ لم نعهده ولا نعرف عنه شيئًا؛ فقد كان بخيلًا بِقدْر ما كان أجداده مُبذِّرين. وحين آل إليه اللقب والضيعة قَبْل نحو عشرين عامًا، طرد طاقمَ الخدم بأكمله، وكان الطرف المُدَّعى عليه في العديد من القضايا؛ حيث رفع خدم عائلتنا قضايا ضده لطردهم دون وجه حق، أو لطردهم دون الحصول على أيِّ أموال كتعويض عن عدم الالتزام بمهلة الإخطار. ويُسعدني أن أقول إنه قد خسر جميع القضايا، وحين برَّر ذلك بفقرِه، حصل على إذنٍ ببيع عددٍ معينٍ من الممتلكات الموروثة؛ مما مكَّنه من دفع التعويضات، ومنحه شيئًا ليعيش منه. وقد بيعت تلك الممتلكات التي طُرحت في المزاد بمقابلٍ جيد على غير المتوقع، حتى إن عمي قد راق له ما حدث بشكلٍ ما. دائمًا ما كان يستطيع إثبات إن الإيجار يذهب إلى الرهون، وأنه لا يملك ما يُعينه على المعيشة، ومِن ثَمَّ تمكَّن في مرات عديدة من الحصول على إذنٍ من المحاكم بقطع الأشجار وبيع اللوحات، حتى جرَّد الضيعة وأحال القصر القديم الملحق بها إلى حظيرة جرداء. كان يعيش كأيِّ عاملٍ كادح؛ فكان يعمل في النجارة تارة، وفي الحدادة تارة، حتى إنه حوَّل المكتبة إلى ورشة حدادة، تلك المكتبة التي كانت واحدة من أفخم المكتبات في بريطانيا تحوي آلاف الكتب القَيِّمة، حاول مراتٍ ومراتٍ أن يتقدَّم بطلبات للسماح له ببيعها، ولكنَّه لم يُمنح هذا الامتياز قط. وعند دخولي إلى المكان وجدت أن عمي كان دائمًا ما يتحايل على القانون، واستنزف هذه المجموعة الرائعة، كتابًا تلو الآخر، خُفية من خلال تُجَّار لندن. كان من شأن ذلك بالطبع أن يُعرضه لأزمة لو اكتشف الأمر قبل وفاته، ولكن الآن ذهبت الكتب الثمينة سدًى، دون مجال لاستعادتها. لا شكَّ أن الكثير منها في أمريكا، أو في متاحف ومجموعات أوروبا.»
قاطعته قائلًا: «ربما تريد مني تتبُّعها؟»
«كلَّا؛ فلا أمل في عودتها. لقد جنى العجوز عشرات الآلاف من بيع خشب الأشجار، وآلافًا أخرى بالتصرف في اللوحات. وجُرِّد المنزل من أثاثه القديم الأنيق، الذي لم يكن يُقدر بثمن، ومن المؤكد، كما أخبرتك، أن الكتب قد جلبت له دخلًا يكفيه ليحيا حياة الملوك، إن كان قد باعها بقيمتها، ولعلك على يقينٍ من أنه كان ماكرًا كفاية ليعرف قيمتها. ومنذ آخر مرة رفضتْ فيها المحكمة مَنحَه هذه النجدة، كما كان يُطلق عليها، وكان هذا قبل نحو سبع سنوات، أخذ يتخلص من الكتب والأثاث، كما هو واضح تمامًا، من خلال البيع الاتفاقي متحديًا القانون. في ذلك الوقت كنت دون السن القانونية، ولكن الأوصياء عليَّ عارضوا الالتماس الذي تقدَّم به إلى المحكمة، وطالبوا بكشفٍ بالأموال التي تحت يديه. أيَّد القضاة معارضة الأوصياء، ورفضوا السماح له بمزيد من السلب للضيعة، ولكنهم لم يُسلموا الأوصياء تقرير الحسابات الذي طلبوه؛ لأن عائدات عمليات البيع السابقة كانت تحت تصرُّف عمي بالكامل، ومُجازة قانونًا كي تُتيح له العيش بما يتناسب مع مكانته الاجتماعية. أما عن عيشه معيشةً ضنكًا بدلًا من أن يحيا حياةً رغدة، كما ادَّعى أوصيائي، فهذا شأنه الخاص، حسب قول القضاة، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
عزيزي توم
سوف تجد ثروتك بين ورقتين في المكتبة.
قلت: «أشكُّ في كونها وصيةً قانونية.»
أجاب الشاب مبتسمًا: «لا داعيَ لأن تكون قانونية؛ فأنا أقرب الأقرباء، والوريث لكلِّ شيء يملكه، وإن كان بالطبع سيمنح أمواله لأي جهة أخرى لو شاء ذلك. لا أعلم لماذا لم يهَبها لإحدى المؤسسات؛ فلم يكن يعرف أحدًا على المستوى الشخصي إلا خَدَمَه، الذين كان يُسيء معاملتهم ويُجوعهم، ولكنه، كما أخبرهم، كان يُسيء معاملة نفسه ويُجوعها؛ ومِن ثَمَّ ليس لديهم مبرر للتذمر. كان يقول إنه يعاملهم كأفراد العائلة. أظن أن الأمر سيتسبب لي في مزيدٍ من القلق والاضطراب لو أنه أخفى الأموال وضلَّلني ووضعني على الطريق الخطأ، وهو ما أنا مقتنع بأنه قد فعله، مما لو تركها مفتوحة لأي شخص أو للمؤسسات الخيرية.»
«أظنني لستُ بحاجة لأن أسألك إن كنت قد بحثت في المكتبة؟»
«بحثت؟ لا أظن أن أحدًا قد أجرى قدر ما أجريته من بحث منذ بدء الخليقة.»
«ربما تكون قد خوَّلت المهمة لأشخاص غير أكفاء؟»
«إنك تُلمح إلى أنني أشركت آخرين حتى نفدت أموالي ثم جئتك بعرض مضاربة يا سيد فالمونت. دعني أطمئنك أن الأمر ليس كذلك؛ فقد عشت على مدار الأشهر الستة الماضية مثلما عاش عمي فعليًّا. لقد فتشت تلك المكتبة من الأرض إلى السقف. كانت في حالة مريعة، مُغطاة بالصحف القديمة، وكشوف الحسابات والفواتير، وأشياء أخرى. وبالطبع كانت توجد الكتب المتبقية في المكتبة، ولكنها مجموعة رائعة.»
«هل كان عمك رجلًا مُتدينًا؟»
«لا أستطيع الجزم بذلك. أظن لا. لم أكن أعرفه جيدًا، ولم أرَه قط حتى وفاته. أعتقد أنه لم يكن متدينًا، وإلا لما تصرَّف بهذا الشكل. بل إنه أثبت أنه رجل ذو عقلية ملتوية ترى كلَّ شيءٍ ممكنًا.»
«أعرف حالةً كان فيها أحد الورثة يتوقع الحصول على مبلغٍ ضخمٍ من المال، فإذا به يَرِث الكتاب المقدس الخاص بالعائلة، فألقى به في النار، ليعرف بعد ذلك أنه كان يحوي عدة آلاف من الجنيهات في صورة أوراق نقدية صادرة من بنك أوف إنجلاند، حيث كان هدف المُورِّث صاحب الوصية حثَّ الورثة على قراءة هذا الكتاب الكريم أو المعاناة جرَّاء إهماله.»
قال الإيرل الشاب ضاحكًا: «لقد بحثتُ جيدًا في الكتب المقدسة، ولكن المنفعة كانت معنوية أكثر منها مادية.»
هل ثمة أي احتمال أن يكون عمك قد أودع ثروتَه في أحد البنوك، وكتب شيكًا بالمبلغ تاركًا إياه بين صفحتين من صفحات أحد الكتب؟»
«كل شيءٍ محتمل يا سيدي، ولكن أظن أن هذا الأمر مُستبعد إلى حدٍّ كبير؛ فقد تفحَّصت كل مجلد، صفحة بصفحة، وحسب ظني فإن قلة قليلة من الكتب قد فُتحت خلال العشرين سنة الماضية.»
«في تقديرك كم يبلغ ما جمعه من مال؟»
«لا شكَّ أنه قد حصل على أكثر من مائة ألف جنيه، أما بالنسبة لإيداع الأموال بالبنك، فأود أن أخبرك أن عمي كان يُظهر ارتيابًا عميقًا تجاه البنوك، ولم يُحرر شيكًا في حياته حسب علمي. كانت كل الحسابات تُسدَّد بالعملات الذهبية بواسطة الخادم العجوز، الذي كان يُحضر الفاتورة المستلمة إلى عمي أولًا، ثم يتسلَّم منه المبلغ دون زيادة أو نقصان، بعد أن يكون قد غادر الغرفة ويظل بالانتظار حتى يدق له جرس الاستدعاء، حتى لا يعلم بمكان المستودع الذي يسحب منه عمي المال. أعتقد أنَّ المال إنْ وجد، فسوف يكون على هيئةِ ذَهَبٍ، وأنا واثق تمامًا أن هذه الوصية، إن جاز لنا أن نُسميَها وصية، قد حُررت لتُضلِّلنا وتضعنا على المسار الخاطئ.»
«هل أقدَمْت على إخلاء المكتبة وترتيبها؟»
«كلا، إنها على حالها مثلما تركها عمي؛ فقد فكرت أنه حال اضطراري لطلب المساعدة من أحد، سيكون من الأفضل أن يجدها الوافد الجديد كما هي.»
«لقد كنت محقًّا في ذلك تمامًا يا سيدي اللورد. تقول إنك قد فحصت كل الأوراق، أليس كذلك؟»
«بلى، لقد تم تفتيش الغرفة على نحوٍ وافٍ تمامًا، ولكن لا شيء مما كان موجودًا بها يوم وفاة عمي أُزيح من موضعه، حتى سَنْدَانه.»
«سَنْدانه؟»
«أجل؛ لقد أخبرتك أنه حوَّل المكتبة إلى ورشة حدادة، وغرفة نوم أيضًا. إنها حجرة ضخمة، بها مدفأة كبيرة في أحد أطرافها كانت تصلح كيرًا رائعًا. وقام بمعاونة الخادم ببناء الكِير في المدفأة الشرقية من الطوب والطين، بأيديهما، ونصبا هناك منفاخ حداد مستعملًا.»
«ما نوع العمل الذي كان يقوم به في الكِير الخاص به؟»
«أوه، أي شيءٍ كان مطلوبًا في المكان. يبدو أنه كان محنكًا للغاية؛ فلم يكن يشتري أيَّ أداة جديدة للحديقة أو المنزل ما دام بإمكانه الحصول على واحدة مستعملة، ولم يكن يشتري أيَّ شيءٍ مستعملٍ ما دام يستطيع إصلاح الأداة القديمة في ورشته. كان لديه فرسٌ قويٌّ، كان يمتطيه للتجول عبر المتنزه، وكان دائمًا ما يثبِّت الحَدوة في أرجل هذا الفرس بنفسه، كما أخبرني الخادم، ومِن ثَمَّ لا بُدَّ أنه كان يجيد استخدام أدوات الحدادة. كذلك حوَّل غرفة الطعام إلى ورشة نجارة ونصب نضدًا هناك. أظن أننا قد خسرنا ميكانيكيًّا نافعًا للغاية حين أصبح عمي إيرلًا.»
«هل تعيش في القصر منذ وفاة عمك؟»
«إن كنت تُسميها معيشة، فنعم. لقد كان الخادم العجوز وزوجته يعتنيان بي، مثلما كانا يعتنيان بعمي، وبما أنهما يريانِني، يومًا يعد يومٍ، دون معطفي، ومغطًّى بالغبار، أعتقد أنهما يظنان أنني نسخة ثانية من العجوز الراحل.»
«هل يعلم الخادم أن المال مفقود؟»
«كلا؛ لا أحد يعلم بهذا الأمر سواي؛ فقد تُركَت تلك الوصية على السَّنْدان في مظروفٍ موجَّه إليَّ.»
«إن روايتك واضحة تمامًا أيها اللورد تشيزلريج، ولكن أعترف أنني لا أرى فيها أيَّ بصيصِ أمل. هل توجد منطقة ريفية جذَّابة حول قصر تشيزلريج؟»
«جذابة للغاية؛ لا سيما في هذا الوقت من العام. إن المنزل لا يتعرض لتيارات الهواء إلا قليلًا في الخريف والشتاء. إنه يحتاج إلى عدة آلاف من الجنيهات من أجل إصلاحه.»
«تيارات الهواء لا تهم في الصيف. لقد عشت طويلًا في إنجلترا بما يجعلني لا أشارك بني جلدتي خوفهم من الرياح. هل يوجد سرير احتياطي في قصر الضيعة، أم سيكون عليَّ أن أُحضِر سريرًا نقَّالًا معي، أو لنَقُل أرجوحة شبكية؟»
تلعثم الإيرل وتورَّد وجهه خجلًا مرة أخرى وقال: «لا بُدَّ أنك لا تظن أنني حدثتك عن الظروف بكل تفاصيلها من أجل التأثير عليك لتولِّي ما قد تكون قضية ميئوسًا منها. بالطبع أنا مهتم بالأمر أشد الاهتمام؛ ولذلك مُعرَّض لأن يأخذني الحماس عندما أبدأ في سرد طباع عمي الشاذة. إذا أذنت لي، فسوف أعاود زيارتك في غضون شهر أو اثنين. أَصدقك القول، لقد اقترضت بعض المال من الخادم العجوز، وجئت إلى لندن لمقابلة مستشاري القانوني، على أمل أن أحصل على إذنٍ ببيع شيءٍ يقيني من الموت جوعًا في ظل هذه الظروف. حين تحدثت عن تجريد المنزل من مقتنياته، كنت أعني أنه قد جُرِّد نسبيًّا بالطبع؛ فلا يزال يوجد قدر لا بأسَ به من التُّحف، لا شكَّ أنها ستُدِرُّ عليَّ مبلغًا وفيرًا من المال. لقد كان لديَّ إيمانٌ وثقةٌ بأنني سأجد ذهب عمي حتمًا. ولكن مؤخرًا اجتاحني شكٌّ في أن السيد العجوز اعتقد أن المكتبة هي الأصل الوحيد القيِّم الذي لا يزال متبقيًا؛ ولهذا السبب كتب رسالته تلك، ظنًّا منه أنني سأخشى بيع أي شيء من تلك الغرفة. لا بُدَّ أن الوغد العجوز قد صنع من تلك الأَرْفُف جرَّة من المال. فالكتالوج يُوضح وجود نسخة من أول كتاب طُبِع في إنجلترا بواسطة كاكستون، والعديد من أعمال شكسبير التي لا تُقدَّر بثمن، إلى جانب العديد من الكتب الأخرى التي سيكون أيُّ جامعٍ للكتب النادرة على استعداد لدفع ثروة صغيرة نظير اقتنائها. كل هذه الكتب ذهبت سدًى. أعتقد أنني حين أعرض الأمر على هذا النحو، لا يمكن للسُّلطات أن تُنكر حقي في بيع شيء، وإذا حصلت على هذا الإذن، فسوف أحضر إليك في الحال.»
«هذا هُراء أيها اللورد تشيزلريج. فلتُفعِّل طلبك إذا شئت. في الوقت نفسه أرجو منك أن تنظر إليَّ كمصرفيٍّ أكثر سخاءً من خادمك العجوز. دعنا نستمتع بعشاءٍ طيبٍ معًا في فندق سيسيل الليلة، إذا منحتني شرف أن تكون ضيفي. وغدًا سنُغادر إلى قصر تشيزلريج. كم يبعد؟»
أجاب الشاب وقد غمرته حُمرة الخجل كقصر الملكة آن بطوبه الأحمر: «حوالي ثلاث ساعات. إنك حقًّا تغمرني بكرمك يا سيد فالمونت، ولكنني أقبل عرضك الكريم.»
«إذن اتفقنا. ما اسم خادمك العجوز؟»
«هيجنز.»
«هل أنت على يقينٍ من أنه لا يعلم أي شيء عن مكان اختفاء هذا الكنز؟»
«على يقين تام. لم يكن عمي بالرجل الذي يأتمن أيَّ أحد، خاصة إذا كان عجوزًا ثرثارًا مثل هيجنز.»
«حسنًا، أود أن تُعرفني بهيجنز بصفتي غريبًا جاهلًا. فهذا سيجعله يحتقرني ويعاملني كطفل.»
قال الإيرل معترضًا: «أوه، أظنك قد عشت طويلًا في إنجلترا بما يكفي لتنبذ فكرة أننا لا نقدِّر الغرباء. في الواقع نحن الدولة الوحيدة في العالم التي تُرحِّب بهم أيما ترحيب سواء أكان فقيرًا أم غنيًّا.»
«بالتأكيد سيدي اللورد، سوف أُصاب بخيبة أمل عميقة إذا لم تُوفِّني قدري، ولكن ليس لديَّ أدنى شكٍّ فيما يتعلق بالازدراء الذي سيعاملني به هيجنز. سوف ينظر إليَّ كساذجٍ أبله لم يُنعم الله عليه بأن جعل إنجلترا موطنه. وهكذا سوف ينقاد هيجنز حتمًا إلى الاعتقاد بأنني من طبقته؛ أي خادم لك. سوف نُثرثر أنا وهيجنز معًا على ضوء النار، في تلك الليالي الربيعية التي سيُغلِّفها البرد، وقبل مرور أسبوعين أو ثلاثة سأكون قد عرفت منه عن عمك ما لم تكن تحلم به. سوف يتسنَّى لهيجنز التحدُّث مع خادم مثله بحُرية أكثر مما لو تحدَّث مع سيده، مهما بلغ قدر احترامه لذلك السيد، ومِن ثَمَّ، وبصفتي غريبًا، سوف يُفضي إليَّ بالمعلومات وفقًا لمستوى إدراكي، وسوف أحصل على التفاصيل التي لن يُفكر مطلقًا في منحِها لقرويٍّ مثله.»
•••
تركني تواضُع الإيرل الشاب في الوصف الذي أدلى إليَّ به لمنزله غير مهيأ تمامًا لفخامة وعظمة القصر الذي كان يسكن أحد أركانه. إنه مكان كالذي تقرأ عنه في رومانسيات العصور الوسطى؛ ليس قصرًا فرنسيًّا ذا قمة أو أبراج كقصور تلك الفترة، بل قصرٌ حجريٌّ جميلٌ وكبيرٌ في مزرعة له لونٌ ضارب إلى الحمرة، بدا تدرُّجه اللوني الدافئ يُضفي نعومة إلى حدَّة طرازه المعماري. شُيد المنزل حول باحة داخلية وخارجية ويمكنه أن يَسَع ألفَ شخص، وليس المائة الذين تحدَّث عنهم مالكه. يوجد العديد من النوافذ ذات القضبان الحجرية، وعند طرف المكتبة توجد نافذة كان من الممكن أن تُزيِّن كاتدرائية. يشغل هذا المنزل الفخم منتصف أحد المنتزهات ذات الأشجار الكثيفة، وقد قُدنا لما لا يقل عن ميل ونصف الميل من بيت الحرس الكائن عند البوابات تحت أكبر طريقٍ مُشجَّر بأشجار البلوط القديم رأيته في حياتي. بدا غير معقول أن يكون مالك كل هذا لا يملك المال السائل لدفع أجرة السفر إلى البلدة!
استقبلَنا هيجنز العجوز في المحطة بعربة متداعية نوعًا ما، ربط بها ذلك الفرس العجوز الذي اعتاد الإيرل الراحل أن يُلبسه الحَدوة. دخلنا إلى بهوٍ مهيب، ربما يكون قد بدا أكبر من حجمه بسبب الغياب التام لأيِّ نوعٍ من الأثاث، عدا طاقمَين كاملَين من دروعٍ مهيبةٍ وقفا إلى اليمين واليسار يمكن اعتبارهما أثاثًا. علا صوتي بالضحك حين أُغلق الباب، مُصدِرًا صوتًا دوَّى كصوت صخَب أشباحٍ قادم من السقف المُعتِم المصنوع من الخشب.
تساءل الإيرل: «علامَ تضحك؟»
«أضحك لرؤيتِك تَضَعُ قبعتَك الطويلة العصرية على تلك الخوذة المنتمية إلى العصور الوسطى.»
«آه، هكذا! حسنًا، فلتضع قبعتك على الأخرى. لا أقصد إبداء أي ازدراء للأسلاف الذين كانوا يرتدون هذه الدروع، ولكن لدينا نقصًا في شماعات القبعات الضرورية التي لا تحمل أيَّ ضرر؛ لذا أضع قبعتي على الخوذة القديمة، وأُدخل المظلة (إن كان لديَّ واحدة) هنا بالخلف، أسفل إحدى ساقَي الدرع. منذ أن آل إليَّ القصر، زارني تاجر من لندن يبدو عليه المكر والخداع، وحاول أن يدفعني إلى التفكير في بيع هذه الدروع. اعتقدت أنه سيمنحني مبلغًا من المال يكفي لشراء حُلَّاتٍ جديدة، صُنع لندن، لما تبقَّى من حياتي، ولكن حين راوغت من أجل معرفة إن كان له معاملات تجارية مع عمي بعيد النظر، خاف وفرَّ هاربًا. أعتقد أنني لو كنت أمتلك ما يكفي من سرعة البديهة والحضور الذهني لاستدراجه إلى أحد أقبيتنا البغيضة، لاستطعت أن أعرف أين ذهب بعض من كنوز عائلتي. لنصعد هذا السلَّم يا سيد فالمونت؛ لأريك غرفتك.»
كنا قد تناولنا الغداء في القطار، وهو ما دفعني إلى البدء في معاينة المكتبة فور انتهائي من الاغتسال. كانت بالفعل غرفة في غاية الفخامة، واستُغِلَّت استغلالًا شائنًا من قِبَل ساكنِها الراحل، ذلك العجوز المقيت. كان بها مدفأتان ضخمتان، واحدة في منتصف الجدار الشمالي والأخرى في الطرف الشرقي، الذي نُصب عنده كيرٌ بسيط من الطوب، وبجوار الكِير تدلَّى منفاخ أسود كبير، يكسوه سواد الدخان من أثر الاستخدام. وعلى لوحٍ خشبيٍّ استقرَّ السَّنْدان، يرتكز حوله مطارق عديدة صدئة، تباينت أحجامها ما بين كبير وصغير. عند الطرف الغربي كانت توجد نافذة مهيبة ذات زجاج قديم ملون مُعشَّق، كان من الممكن أن تُزيِّن كاتدرائية كما ذكرت من قبلُ. كان الحجم الهائل للغرفة، التي اتسمت بالاتساع شأنها شأن مجموعة الكتب التي كانت تأويها بين جنباتها، هو ما جعل من الضروري أن يكون الجدار الخارجي فقط هو ما يجب أن يُغطَّى بخِزانات الكتب، وحتى هذه الخِزانات كان يفصلها النوافذ الطويلة. أما الجدار المقابل، فكان خاويًا من أيِّ شيء، إلا من صورة هنا وأخرى هناك، وكانت هذه الصور سُبَّة في جبين الغرفة؛ إذ كانت عبارة عن مطبوعات رخيصة، كان أغلبها مطبوعات حجرية مُلوَّنة ظهرت في عددٍ من صحف لندن الأسبوعية، تُحيطها أُطر بائسة، تتدلَّى من مسامير ثُبِّتت في الجدار أعلاها بقسوة. كانت الأرض مغطاة ببقايا الأوراق، بلغت الركبتَين في بعض الأماكن، وفي أبعد الأركان من الكِير ظل السرير، الذي شهد آخر لحظات العجوز البخيل، موجودًا في مكانه.
قال الإيرل بعد أن انتهيت من المعاينة معقِّبًا: «تبدو كإسطبل، أليس كذلك؟ أنا واثق من أن العجوز قد ملأها بهذه القمامة ليعوقني عن تفتيشها. فقد أخبرني هيجنز أن الغرفة كانت خاليةً نوعًا ما من كلِّ هذه القمامة قبل شهر من وفاته. لا بُدَّ أنها كانت كذلك بالطبع، وإلا لالتهمت النار المكان من الشرر المُتطاير من الكِير. لقد أخذ العجوز هيجنز يجمع كلَّ ما يستطيع إيجاده من أوراق في المكان، من كشوف حسابات قديمة، وصُحف، وأشياء أخرى، وحتى ورق التغليف البُني الذي كانت الطرود تأتي فيه، وأمره بأن يُغطِّي الأرض بهذه النفايات؛ لأن حذاء هيجنز الطويل على الألواح الخشبية للأرض يُصدِر أصواتًا مُزعجة للغاية، حسب شكواه، ورأى هيجنز، الذي لا يملك أدنى قدرٍ من الفضول وحب الاستطلاع، هذا التفسير كافيًا ووافيًا.»
تبيَّن لي أن هيجنز عجوز ثرثار، ليس بحاجة إلى إلحاح كي يتحدَّث عن الإيرل الراحل؛ بل كان تحويل دفة الحديث إلى أيِّ اتجاهٍ آخر أمرًا شبه مستحيل. وطمست الألفةُ التي جمعت بينه وبين النبيل الغريب الأطوار على مدار عشرين عامًا ذلك الاحترام الذي عادةً ما يتعامل به خادم إنجليزي مع سيدِهِ إلى حدٍّ كبير. كانت فكرة أي تابعٍ أو مرءوسٍ إنجليزي عن النبالة هي الرجل الذي لا يمكن بأيِّ حالٍ أن يعمل بيديه. ولم يكن من شأن حقيقة أن اللورد تشيزلريج كان يكدح على نضد النجار، ويمزج الأسمنت في غرفة الرسم، ويطرق على السَّنْدان حتى منتصف الليل، أن تثير في ذهن هيجنز أيَّ إعجاب. بالإضافة إلى هذا، كان النبيل العجوز صارمًا إلى حد التقتير في فحص كشوف حساباته؛ إذ كان يُدقق إلى أقصى حدٍّ في كلِّ بنسٍ ينفقه؛ ومِن ثَمَّ كان الخادم المتواضع يُكِن ازدراءً شديدًا لذكراه. أدركت قبل انتهاء الرحلة من محطة القطار إلى قصر تشيزلريج أن تقديمي إلى هيجنز كأجنبي وخادم مثله لن يُجدي كثيرًا؛ فقد وجدت نفسي عاجزًا تمامًا عن فهم ما يقوله العجوز؛ فكانت درايتي بلكنته كدرايتي بلغة التشوكتاو، وكان الإيرل الشاب يُضطر لتقمُّص دور المترجم في أوقات دوران ماكينة الحديث الثرثارة تلك.
أعلن الإيرل الشاب، بحماس الصِّبية، نفسَه تلميذًا ومساعدًا لي، وكان يقول إنه سيفعل أيَّ شيءٍ يُؤمر به. كان بحثه الدقيق والعقيم في المكتبة قد أقنعه بأن العجوز كان يمازحه فقط، حسب تعبيره، بتركه خطابًا كذلك الذي كتبه. كان فخامته واثقًا من أن الأموال مخبَّأة في مكان ما؛ ربما كانت مدفونة تحت واحدة من أشجار المتنزه. كان هذا محتملًا بالطبع، وكان بمنزلة الطريقة المألوفة التي يتبعها الأغبياء لإخفاء كنز، ولكنني لم أكن أظن ذلك احتمالًا واردًا؛ فقد تبيَّن لي من كلِّ أحاديثي مع هيجنز أن الإيرل العجوز كان رجلًا نزَّاعًا للشك إلى أبعد الحدود؛ فكان يتشكك في البنوك، ويتشكك حتى في الأوراق النقدية الصادرة من بنك أوف إنجلاند، فكان يتشكَّك في الجميع، ولم يكن هيجنز استثناءً؛ لذلك، كما أخبرت ابن أخيه، لم يكن العجوز البخيل سيسمح للثروة أن تبعد عن مرآه ومتناوله مباشرة.
منذ الوهلة الأولى بدا لي وضع كير الحدادة والسَّنْدان في غرفة النوم أمرًا غاية في الغرابة، وقلت للشاب:
«سوف أجازف بسُمعتي وأجزم أن السر في الكِير أو السَّنْدان، أو كليهما معًا. لقد كان السيد العجوز، كما ترى، يعمل أحيانًا حتى منتصف الليل؛ بالنظر إلى أن هيجنز كان يسمع صوتَ المطرقة وهو يطرق بها. لو أنه كان يستخدم الفحم الصلب في الكِير، لظلت النيران مُشتعلة على مدار الليل، وبالنظر إلى رعبِه الدائم من اللصوص، كما يقول هيجنز، وغلقه القصر كلَّ مساء قبل حلول الظلام بالمتاريس كما لو كان حصنًا، فلا بُدَّ أنه كان يضع الكنز في أكثر مكان يستبعد أن يستطيع أيُّ لصٍّ الوصول إليه. ولما كان الدخان المتصاعد من حرق الفحم مستمرًّا طوال الليل، وإذا كان الذهب في الكِير أسفل جذوة النيران، سيكون الوصول إليه بالغ الصعوبة. وأي لص يبحث في الظلام ستحترق أصابعه لا محالة. ولمَّا كان فخامته يحتفظ بما لا يقل عن أربعة مسدسات محشوة بالطلقات أسفل وسادته، فقد كان كلُّ ما عليه، إذا دخل لصٌّ إلى غرفته، هو أن يدعه يواصل البحث حتى يبدأ في تفتيش الكِير، حينئذٍ، وبلا شك، وبما أنه كان يعرف نطاق التصويب بدقة معقولة ليلًا أو نهارًا، يمكنه أن يجلس في السرير ويمطره برصاص مسدس تلو الآخر. كان من الممكن إطلاق ثمان وعشرين رصاصة في ثوانٍ معدودة، ومِن ثَمَّ لم يكن لدى اللص فرصة كبيرة للنجاة في مواجهة مثل هذا الوابل من الطلقات النارية. أظن أن علينا تفكيك الكِير.»
انبهر اللورد تشيزلريج كثيرًا بتفكيري، وفي وقت مبكر من صباح أحد الأيام، قطعنا المنافيخ الكبيرة ومزقناها، فوجدناها خاوية، ثم نزعنا طوبةً تلو الأخرى من الكِير بواسطة عتلة؛ إذ كان العجوز يُحسِن البناء بالأسمنت البورتلاندي. بل إننا حين أزلنا النفايات ما بين قوالب الطوب وقلب الأتون، عثرنا على قالب من الأسمنت في صلابة الجرانيت. وبمساعدة هيجنز، ومجموعة من البكرات والروافع، تمكنَّا من إخراج هذا القالب إلى المتنزَّه، وحاولنا تحطيمه بواسطة المطارق الثقيلة التي كانت موجودة في الكِير، وهو ما فشلنا فيه تمامًا. وكلَّما ازدادت مقاومته لمحاولاتنا لتحطيمه، ازددنا يقينًا بأن العملات الذهبية موجودة بداخله. ولأنه لن يكون كنزًا دفينًا، بما يعني أن الحكومة قد تطالب بحقها فيه، لم يكن هناك ضرورة خاصة للسرية؛ ومِن ثَمَّ استدعينا رجلًا يعمل بالمناجم القريبة بالمثاقيب والديناميت، وسرعان ما حطم القالب إلى مليون قطعة. لكن يا للأسف! لم يكن ثمة أثر في حطامه لأيِّ شيءٍ ذي قيمة. وبينما كان خبير الديناميت موجودًا في المكان، دعوناه إلى تحطيم السَّنْدان مثلما فعل مع قالب الأسمنت، وحينئذٍ حمل العامل أدواته على كتفه وعاد إلى منجمه، وهو يعتقد بلا شك أن الإيرل الجديد مختلٌّ كعمه العجوز.
عاد الإيرل إلى رأيه السابق بأن الذهب مُخبأ في المتنزَّه، بينما ازددت تشبثًا باعتقادي بأن الثروة راقدة في المكتبة.
قلت له: «من البديهي أنه إذا كان الكنز مدفونًا بالخارج، فلا بُدَّ أن أحدًا قد حفر الحفرة التي دُفن فيها. ولم يكن لرجلٍ جبان وكتومٍ للغاية مثل عمك أن يسمح لأحد سواه أن يقوم بذلك. كما أن هيجنز أكَّد منذُ بضعة أيام أنه كان يخزِّن جميع المعاول والمجارف بأمان كل ليلة في مخزن الأدوات. والقصر نفسه كان مُحصَّنًا بعناية فائقة إلى حدٍّ جعل خروج عمك نفسه منه أمرًا صعبًا حتى لو أراد ذلك. إذن فإن رجلًا بمواصفات عمك سيرغب دائمًا في وجود دليلٍ مرئيٍّ على أن مدخراته في أمانٍ ولم تُمَس، وهو ما يستحيل عمليًّا لو كان الذهب مدفونًا في المتنزَّه. أظن أن علينا الآن التخلي عن العنف والديناميت، ونمضي في بحثٍ عقلاني في المكتبة.»
رد الإيرل الشاب: «هذا جيد للغاية، ولكن بما أنني قد فتشت المكتبة بدقة شديدة، فإن استخدامك لكلمة «عقلاني» يا سيد فالمونت لا يتفق مع ما عُرِف عنك من أدبٍ ودماثة. ولكنني معك. لك الأمر، وعليَّ الطاعة.»
قلت: «معذرةً سيدي اللورد. لقد استخدمت كلمة «عقلاني» كتمييز بالتضاد لكلمة «ديناميت»، ولا تحمل أي إشارة إلى بحثك السابق. إنني فقط أرى أن نتخلَّى الآن عن استخدام التفاعل الكيميائي ونتحوَّل إلى قوة النشاط العقلي التي تفوقه كثيرًا. هل لاحظت أي كتابة على هوامش الصحف التي تفحَّصتها؟»
«كلا، لم ألاحظ.»
«هل من الممكن أن تُكتَب رسالة من نوعٍ ما على الحافة البيضاء لأي صحيفة؟»
«ممكن بالطبع.»
«إذن هل ستتولَّى مهمة الفحص السريع لهامش كل صحيفة، على أن تكدِّسها في غرفة أخرى بعد الانتهاء من الفحص؟ لا تُتلف أي شيء، ولكن لا بُدَّ أن نُخْلي المكتبة تمامًا. أنا مهتم بكشوف الحسابات، وسوف أتولى فحصها.»
كان عملًا مضجِرًا إلى حدٍّ مثير للسخط، ولكن بعد عدة أيام، أبلغني مساعدي أن فحص كل الهوامش لم يُسفِر عن أي نتيجة، بينما جمعت أنا كل فاتورة ومذكِّرة، مصنِّفًا إياها وفقًا للتاريخ. لم أستطع التخلص من هاجس أن هذا الوغد العجوز العنيد قد كتب تعليمات بشأن كيفية الوصول إلى الكنز على ظهر إحدى الفواتير، أو على الورقة البيضاء الأمامية لأحد الكتب، وبينما كنت أتفحَّص آلاف الكتب المتبقية في المكتبة، هالني التفكير في كمِّ البحث الدقيق والدءوب الذي ينتظرني. ولكنني تذكرت كلمات إديسون عن أن الشيء إذا كان موجودًا، فإن البحث الدقيق بما يكفي كفيلٌ بأن يجده. اخترت عدة أوراقٍ من كمِّ كشوف الحسابات والفواتير المكدسة أمامي، ووضعت ما تبقَّى في غرفة أخرى، مع كومة الصحف الخاصة بالإيرل.
قلت لمساعدي: «والآن، إذا سمحت لي، سوف نستدعي هيجنز؛ لأنني أريد إيضاحًا لهذه الكشوف.»
قال فخامة اللورد وهو يجذب كرسيًّا مقابلًا للطاولة التي نُثرت عليها الأوراق: «ربما يمكنني مساعدتك. لقد عشت هنا ستة أشهر، وأعرف أشياء كثيرة مثل هيجنز. إن إيقافه أمرٌ غاية في الصعوبة ما إن يبدأ الحديث. ما أول كشف تودُّ إلقاء مزيد من الضوء عليه؟»
«بالعودة ثلاثة عشر عامًا إلى الوراء، أجد أن عمك قد اشترى خزينةً مستعملة في شيفيلد. ها هي الفاتورة. أرى أن من الضروري العثور على تلك الخزينة.»
صاح الشاب وهو يقفز ويضحك: «أرجو أن تغفر لي يا سيد فالمونت. إن شيئًا ثقيلًا وضخمًا كالخزينة لا يُفترض أن يسقط بسهولة من ذاكرة أي إنسان، ولكنه سقط من ذاكرتي. إن الخزينة خاوية، ولم أعبأ بالتفكير فيها كثيرًا.»
ثم اتجه الإيرل نحو إحدى خزانات الكتب المستندة على الحائط، وجذبها كأنما يجذب بابًا، فتحركت بكلِّ ما فيها من كتب، وكشفت عن الجانب الأمامي لخزينة حديدية، فتح بابها هي الأخرى، كاشفًا عن الجزء الداخلي الفارغ المألوف لوعاء كهذا.
قال: «لقد عثرت على هذه حين أنزلت جميع هذه الكتب. يبدو أنه في وقتٍ ما كان ثمة بابٌ سِريٌّ يؤدي من المكتبة إلى غرفة خارجية، اختفت منذ زمن طويل؛ إن الجدران سميكة للغاية. لا شكَّ أن عمي هو من أزال مفصلات هذا الباب، ووضع الخزينة في الفتحة، ثم سدَّ ما تبقَّى منها بالطوب.»
قلت محاولًا إخفاء ما بي من إحباط: «حسنًا. بما أن هذا الصندوق القوي قد اشتُريَ مستعملًا ولم يُصنع خصوصًا، أعتقد أنه لا يمكن أن يكون به أي فتحات سِرِّية؟»
قال مساعدي: «تبدو أشبه بخزينة عادية، ولكننا سنُخرجها حال طلبت ذلك.»
أجبت قائلًا: «ليس الآن. لقد فجَّرنا من الديناميت ما يكفي لنشعر وكأننا لصوص منازل.»
«أوافقك الرأي. ما البند التالي في البرنامج؟»
«إن هوس عمك بشراء الأشياء المستعملة تعطَّل في ثلاثة مواقف مثلما تسنَّى لي أن أعرف من التدقيق في هذه الحسابات. منذ نحو أربع سنوات اشترى كتابًا جديدًا من ديني آند كو، المكتبة الشهيرة في شارع ستراند. إن ديني آند كو لا تتعامل إلَّا في الكتب الجديدة. هل يوجد أي كتابٍ جديدٍ نسبيًّا في المكتبة؟»
«لا يوجد.»
«أأنت واثق من ذلك؟»
«واثق تمامًا؛ لقد بحثت في كل المطبوعات الأدبية في المنزل. ما اسم الكتاب الذي اشتراه؟»
قال الإيرل: «لا أعرف شيئًا عنه.»
«الفاتورة الثالثة لورق حائط، سبع وعشرون أسطوانة من ورق حائط باهظ الثمن، وسبع وعشرون أسطوانة من ورق رخيص، والأخير نصف ثمن الأول. يبدو أن ورق الحائط هذا مُورَّد من تاجر في طريق المحطة في قرية تشيزلريج.»
صاح الشاب مشيرًا بيده: «ها هو الورق؛ لقد أخبرني هيجنز أنه كان بصدد تغطية المنزل كله بورق الحائط، ولكنه أُرهِق بعد أن انتهى من تغطية المكتبة، التي استغرقت منه حوالي عام؛ إذ كان يعمل على نحوٍ متقطعٍ للغاية؛ فكان يمزج معجون اللصق في البهو الصغير، بمعدَّل دلو في المرة الواحدة حسب احتياجه. لقد كان أمرًا شائنًا؛ إذ يُخفي الورق أسفله ألواحًا من خشب البلوط قبيحة للغاية، ولكنها ذات لونٍ غني.»
نهضت وأخذت أتفحَّص الورق الملصق على الحائط. كان بنيًّا داكنًا، ومطابقًا للوصف المسجَّل في الفاتورة للورق الباهظ الثمن.
«وماذا حدث للورق الرخيص؟»
«لا أعلم.»
قلت: «أظن أننا في طريقنا لحلِّ اللغز. أعتقد أن هذا الورق يُغطي لوحًا خشبيًّا جرارًا أو يُخفي بابًا.»
أجاب الإيرل: «أمر وارد تمامًا. لقد كنت أعتزم إزالة الورق، ولكن لم يكن لديَّ أموال لكي أدفع لعامل، ولست مُكدًّا مثل عمي. ما الفاتورة المتبقية لديك؟»
«الفاتورة الأخيرة تتعلق أيضًا بالورق، ولكنها صادرة من شركة في بادج رو، بشرق وسط لندن. يبدو أنه كان لديه ألف لوحٍ منه، ويبدو أنه كان باهظًا إلى حدٍّ مخيف. هذه الفاتورة غير واضحة أيضًا، ولكن أحسب أن ما وُرِّدَ بالفعل كان ألف لوح، على الرغم من أنه بالطبع قد يكون ألف رزمة من ٢٥ لوحًا، وفي هذه الحالة ستكون الكمية أكثر ملاءَمةً بالنسبة للسعر المحدد، أو ألف رزمة من ٥٠٠ لوح، وهو ما يجعل السعر زهيدًا للغاية.»
«لا أعلم أي شأن عن ذلك. لنستعِن بهيجنز.»
لم يكن هيجنز أيضًا يعلم أيَّ شيءٍ بشأن هذه الطلبية الأخيرة من ورق الحائط. ولكنه كشف لغز ورق الحائط في الحال. يبدو أن الإيرل العجوز قد اكتشف بالتجربة أن ورق الحائط السميك الباهظ الثمن لن يلتصق بالألواح الخشبية المصقولة؛ لذا اشترى ورقًا أرخص، وألصقه أولًا. قال هيجنز إنه قد ألصق على الألواح الخشبية التي تكسو الجدران ورقًا أبيض ضاربًا إلى الصفرة، وبعد أن جفَّ، لصق فوقه الورق الأغلى.
اعترضت قائلًا: «ولكن كلا النوعين من الورق قد تم شراؤه وتسليمه في الوقت نفسه؛ ومن ثم لا يمكن أن يكون قد اكتشف بالتجربة أن الورق السميك لن يلتصق.»
قال الإيرل معقِّبًا: «لا أظن أننا سنستفيد كثيرًا من ذلك. ربما تم شراء الورق السميك أولًا، ووجد أنه غير مناسب، ثم اشترى الورق الرخيص المتين بعد ذلك. إن الفاتورة توضح فقط أن كشف الحساب قد أُرسل في ذلك التاريخ، ولما كانت قرية تشيزلريج لا تبعد إلا بضعة أميال فقط، فقد كان من الممكن تمامًا أن يكون عمي قد اشترى الورق السميك في الصباح، وجرَّبه، وبعد الظهر أرسل في شراء النوع الأرخص؛ ولكن على أيِّ حال لم تكن الفاتورة لتأتي إلا بعد شهور من الطلب، ومِن ثَمَّ أُدمِجت الصفقتان معًا.»
اضطُررت للاعتراف بأن هذا التفسير يبدو منطقيًّا.
والآن نأتي إلى الكتاب الذي طُلب من مكتبة ديني. هل كان هيجنز يذكر أيَّ شيءٍ بشأنه؟ فقد جاء منذ أربعة أعوام.
آه، نعم، كان هيجنز يتذكره. بل كان يتذكره تمامًا؛ ففي صباح أحد الأيام دخل ومعه الشاي الخاص بالإيرل، وكان العجوز جالسًا في فراشه يقرأ كتابه باهتمامٍ شديدٍ حتى إنه لم ينتبه لطَرْقِ هيجنز على الباب، ولما كان هيجنز نفسه يُعاني بعض الصعوبة في السمع، فقد سلَّم بأنه قد أمره بالدخول. دسَّ الإيرل الكتاب تحت الوسادة، مع المسدسات، في عجالة، ووبَّخ هيجنز أشد توبيخٍ لدخوله الغرفة قبل الحصول على إذنٍ بالدخول. لم يكن قد رأى الإيرل غاضبًا إلى هذا الحد من قبلُ، وعزا الأمر كله إلى الكتاب. وبعد وصول الكتاب شُيد الكِير وتم شراء السَّنْدان. ولم تقع عينا هيجنز على الكتاب بعد ذلك قط، ولكن في صباح أحد الأيام، وقبل ستة أشهر من وفاة الإيرل، وبينما كان هيجنز يجمع جمر الفحم في الكِير، وجد ما اعتقد أنه جزء من غلاف الكتاب، وظنَّ أن سيده قد أحرق الكتاب.
بعد صرف هيجنز، قلت للإيرل:
«أول شيءٍ يجب أن نفعلَه هو إرسال هذه الفاتورة إلى مكتبة ديني آند كو، بشارع ستراند. أخبرهم أنك قد فقدت الكتاب، واطلب منهم إرسال آخر. من المحتمل أن يكون بالمتجر شخص يستطيع فك شفرة الكتابة غير الواضحة. أنا واثق من أن الكتاب سيمنحنا مفتاحًا لحلِّ اللغز. والآن سوف أكتب إلى براون آند سانز، بشركة بادج رو. من الواضح أنها شركة فرنسية؛ بل إن الاسم يتردَّد في عقلي كون الشركة مرتبطة بصناعة الورق، وإن كنت لا أستطيع في الوقت الحالي تمييزها. سوف أسألهم عن استخدامات هذا الورق الذي ورَّدوه إلى الإيرل الراحل.»
تمَّ ذلك كما ينبغي، وبعدها جلسنا، كما توقعنا، بلا عمل في انتظار الردود. ولكن في صباح اليوم التالي، يسرني أن أقول إنني حللت اللغز قبل وصول الردود من لندن، وهو الأمر الذي طالما هنَّأت نفسي عليه وكان مبعثَ فخرٍ لي. بالطبع كان كلٌّ من الكتاب والرد الذي تلقيته من وكلاء شركة الورق سيمنحانِنا مفتاح اللغز، من خلال الربط بين الاثنين.
بعد تناول الإفطار، أخذت أتجول بلا هدف نوعًا ما داخل المكتبة، التي خلت أرضيتها الآن إلا من بعض ورق التغليف البُني، وبعض الخيوط، وأشياء من هذا القبيل. وبينما كنت أُزيح هذه الأشياء جانبًا بقدمي، كمن يُزيح أوراق الخريف الميتة في طريق بالغابة، إذا بي أنتبه فجأةً إلى وجود عدة ألواح مربعة من الورق، غير مجعدة، ولم تُستخدم قط في تغطية الجدران. بدت هذه الألواح مألوفة لي على نحوٍ غريب. التقطت أحدها، وفي الحال اتضح لي مغزى اسم براون آند صَنز. إنها شركة لتصنيع الورق في فرنسا، تُنتج ورقًا ناعمًا متينًا للغاية، وهو على غلوِّ ثمنه، ثبت أنه رخيص للغاية مقارنة بالورق الرَّقِّيِّ الرقيق الذي كانت تعرضه في فرعٍ مُعيَّن من فروع الصناعة. في باريس، وقبل سنوات، تمكنت من خلال هذه الألواح من معرفة كيف تصرفت إحدى العصابات في الذهب الذي استولت عليه دون صَهره. كان هذا الورق يُستخدم بدلًا من الورق الرَّقِّيِّ في عمليات تصنيع رقاقات الذهب؛ فهو يتحمَّل الطَّرْق المستمر للمطرقة بنفس قدر الورق الرَّقِّيِّ تقريبًا، وهنا تبين لي في الحال سرُّ ما كان يفعله العجوز بالسَّنْدان في منتصف الليل. لقد كان يُحوِّل ذهبَه إلى رقاقات ذهب، وقد كانت بالتأكيد من نوع سميك وبسيط؛ لأن إنتاج رقاقات ذهب تجارية كان يستلزم منه استخدام الورق الرَّقِّيِّ، علاوة على «مقبض» وآلات أخرى لم نعثر لها على أثر.
ناديت على مساعدي، الذي كان في الطرف الآخر من الغرفة: «سيدي اللورد، أريد أن أختبر نظريةً ما على سَنْدَان فطرتك السليمة النقية.»
أجاب الإيرل وهو يقترب نحوي بتعبير وجهه البشوش الخفيف الظل: «فلتطرق كما تشاء.»
«لقد استبعدتُ الخزينة من تحقيقاتنا؛ لأنها اشتُريت منذ ثلاثة عشر عامًا، أما شراء الكتاب، وورق الحائط، وهذا الورق الغليظ من فرنسا، فكل هذه الأحداث وقعت متواترة في الشهر نفسه الذي تمَّ فيه شراء السَّنْدان وبناء الكِير؛ لذا أعتقد أنها جميعًا مترابطة. هذه بعضٌ من ألواح الورق الذي اشتراه من بادج رو. هل سبق أن رأيت شيئًا يُشبهه من قبلُ؟ حاولْ أن تُمزِّق هذه العينة.»
أقرَّ فخامتُه وهو يحاول عبثًا تمزيقه: «إنه متين للغاية.»
قال الإيرل: «إنني أصدِّقك، ولكن لا أرى أن هذا الاكتشاف يُقربنا من الثروة بأي حال. نحن الآن نبحث عن رقاقات ذهب بدلًا من الذهب.»
قلت: «لنفحص ورق الحائط هذا.»
وضعت سكِّيني تحت أحد أركانه قرب الأرض، وتمكَّنت بسهولة من قطع جزءٍ كبيرٍ منه. لقد كان الورق البني، كما قال هيجنز، على السطح بينما كان الورق الغليظ ذو اللون الفاتح أسفله. ولكن حتى هذا الورق انفصل بسهولة عن ألواح خشب البلوط التي تكسو الجدران، وكأنه ملتصقٌ بها بحكم العادة، وليس بفعل معجون اللصق.
صحت مناولًا إيَّاه لوح الورق الذي أزلته عن الجدار: «استشعر وزن ذلك.»
قال الإيرل بصوتٍ طغت عليه نبرة هلع: «يا إلهي!»
أخذته منه، وبسطته على الطاولة الخشبية واضعًا وجهه لأسفل. ونثرت قليلًا من الماء على الظهر، وبواسطة سكين أخذت أكشط طبقة الورق الأبيض المسامية. وفي الحال لاح أمامنا بريقُ صُفرة الذهب. هززت كتفيَّ وبسطت يديَّ. وضحك إيرل تشيزلريج بصوتٍ عالٍ وحماسٍ شديد.
صحتُ قائلًا: «أرأيت كيف سار الأمر. لقد غطَّى العجوز الجدار بأكمله بهذا الورق الضارب إلى البياض أولًا، ثم سخَّن ذهبه في الكِير وطرَقه على السَّنْدان، ثم أكمل العملية على نحوٍ بسيطٍ بين ألواح هذا الورق القادم من فرنسا. ربما كان يُلصِق الذهب على الجدار بمجرد أن يغلق على نفسه غرفته عند حلول الليل، ويُغطيه بالورق الأغلى ثمنًا قبل دخول هيجنز في الصباح.»
غير أننا وجدنا بعد ذلك أنه قد ثبَّت ألواح الذهب السميكة على الجدار بواسطة مسامير تثبيت السجاد.
كان صافي ما ربِحه فخامة اللورد من وراء اكتشافي هذا يزيد على مائة وثلاثة وعشرين ألف جنيه، ويُسعدني أن أُعبِّر عن تقديري وامتناني لسخاء اللورد الشاب بالقول إن تسويته التطوعية قد جعلت حسابي البنكي يتضخم ليُعادل حساب عضو بالمجلس التشريعي للمدينة.