الكومة البيضاء
١
تقول دينيس: «لا أعرف أي لون طلاء كان هنا»، مجيبةً على سؤال طرحته ماجدة عليها. «لا أتذكر حقيقةً أي لون طلاء في هذا المنزل على الإطلاق.»
تقول ماجدة في تعاطف: «بالطبع لا تتذكرين … لم يكن ثمة ضوء في هذا المنزل؛ لذا لم يكن ثمة أي لون. لم يكن ثمة حتى محاولة لطلاء المنزل. كان كئيبًا جدًّا، لدرجة لا يمكن تصورها.»
فضلًا عن هدم الشرفة القاتمة، القديمة، الحاجزة للضوء في المنزل الخشبي المصنوع من جذوع الأشجار، وضعت ماجدة — التي هي متزوجة الآن من والد دينيس، لورنس — كوات في السقف، وطلت بعض الجدران باللون الأبيض، والبعض الآخر باللون الأصفر. كانت قد علقت بعض المنسوجات المجلوبة من المكسيك والمغرب، وبُسطًا من كيبيك. حلت الخزائن والموائد المصنوعة من خشب الصنوبر محل الأثاث القديم المطلي بشكل رديء. هناك جاكوزي تحيطه النوافذ والخضرة، ومطبخ رائع. لا بد أن كل هذا تكلَّف أموالًا كثيرة. لا شك في أن لورنس ثري بما يكفي الآن حتى يدفع ثمن كل هذا. يمتلك مصنعًا صغيرًا للبلاستيك، قرب أوتاوا، متخصص في صناعة ألواح النوافذ وأغطية المصابيح التي تبدو مثل الزجاج المعشق. التصميمات جميلة، الألوان غير صارخة أكثر مما ينبغي، وكانت ماجدة قد وضعت بعضها في هذا المنزل في أماكن غير ظاهرة.
ماجدة امرأة إنجليزية، ليست مجرية مثلما قد يوحي اسمها. كانت راقصة، ثم صارت مدرسة رقص. وهي امرأة قصيرة، ممتلئة الخصر، لا تزال جميلة، ذات عنق شاحب ناعم، ذات شعر جميل، منسدل ذهبي اللون يتخلله اللون الفضي. ترتدي ثوبًا رماديًّا وشالًا بألوان زهرية خافتة، يُسدل أحيانًا على الأريكة في غرفة نومها.
قالت دينيس ذات مرة لأخيها بيتر: «ماجدة صاحبة ذوق رفيع جدًّا.»
قال بيتر: «ما العيب في ذلك؟» يعمل بيتر مهندس كمبيوتر في كاليفورنيا، ويعود إلى موطنه ربما مرة سنويًّا. لا يفهم لماذا لا تزال دينيس مهتمة جدًّا بمثل هؤلاء الأشخاص.
قالت دينيس: «لا شيء … لكن عندما تذهب إلى المنزل الخشبي، لن تجد حتى كومة من أغطية المائدة ملقاة على خزانة قديمة. ثمة كومة «محسوبة». لا يوجد مضرب بيض أو سلطانية معلقة في المطبخ إلا وتكون أفضل مضارب البيض أو السلطانيات التي يمكن أن يشتريها المرء.»
نظر بيتر إليها ولم يقل شيئًا. قالت دينيس: «حسنًا.»
كانت دينيس قد قادت سيارتها آتية من تورونتو، مثلما تفعل مرة أو مرتين كل صيف، لزيارة والدها وزوجته. يقضي لورنس وماجدة الصيف كله هنا، ويتحدثان عن بيع منزلهما في أوتاوا، وعن العيش هنا طوال السنة. يجلس ثلاثتهم في الفناء المرصوف المصنوع من الطوب الذي حل محل الشرفة، في فترة ما بعد الظهيرة في يوم الأحد في نهاية أغسطس. تمتلئ الأصص البنِّية الخاصة بماجدة بزهور تتفتح في الخريف؛ لا تعرف منها دينيس إلا زهور الغرنوقي. يشربون خمرًا بالصودا؛ المشروبات الرئيسية ستقدم عندما يصل الضيوف على العشاء. حتى الآن، لا توجد مجادلات سخيفة. في طريقها إلى هنا، قررت دينيس ألا تدخل في مجادلات كهذه. في السيارة، استمعت إلى شرائط لموسيقى موتسارت لاسترجاع شعورها بالثبات ولتشجيع نفسها. اتخذت قرارات. وحتى الآن، تسير الأمور على ما يرام.
تدير دينيس مركزًا لرعاية حقوق النساء في تورونتو. تحصل للنساء اللائي يمارس ضدهن العنف على مأوى، وتبحث لهن عن أطباء ومحامين، وتسعى للحصول على دعم خاص وحكومي، وتلقي خطبًا، وتعقد اجتماعات، وتتعامل مع مشكلات حياتية مختلفة وفي بعض الأحيان تكون خطرة. تكسب مالًا أقل من بائع في متجر مشروبات كحولية حكومي.
يقول لورنس إن ابنته تعد نموذجًا للفتيات ذوات الخلفية متيسرة الحال.
يقول لورنس إن هذا المركز فكرة طيبة بالنسبة لأولئك اللائي يحتجنه بالفعل. لكنه لديه بعض التساؤلات أحيانًا.
عم يتساءل أحيانًا؟
بصراحة، يتساءل أحيانًا هل كانت بعض تلك النساء — بعضهن — لا يستحققن كل هذا الاهتمام اللائي يحصلن عليه؛ إذ تدعين أنهن جرى الاعتداء عليهن واغتصابهن، إلى آخره.
عادةً يُلقي لورنس الطُّعم، وتلتقطه دينيس. (تنأى ماجدة بنفسها عن هذه المحادثات، وتتأمل مبتسمة زهورها.)
أموال دافعي الضرائب. مساعدة أولئك الذين لا يساعدون أنفسهم. التخلُّص من الأمطار الحمضية. نفقد وظائف؛ ستحتج نقاباتك.
«ليست «نقاباتي».»
«إذا صوَّتِّ لصالح الديمقراطيين الجدد، فهي نقاباتك. من يدير الديمقراطيين الجدد؟»
لا تستطيع دينيس أن تعرف إذا كان حقًّا يصدق ما يقول، أو يصدق نصفه، أو يشعر فقط بأنه مجبر على قول أشياء محددة لها. تخرج أكثر من مرة من عنده وهي تبكي وتركب سيارتها وتعود إلى تورونتو. يقول حبيبها، وهو ماركسي مرح من جزيرة كاريبية، والذي لا تأتي به إلى منزلها، إن الرجال الشيوخ، الرجال الشيوخ الناجحين، في مجتمع صناعي رأسمالي يكونون في معظم الأحيان أشرارًا؛ لم يعد متبقيًا فيهم إلا دفاعاتهم الشرسة وجشعهم الهائل. تتجادل معه دينيس أيضًا. بادئ ذي بدء، أبوها ليس شيخًا. كما أن أبوها من داخله شخص طيب.
تقول: «سئمت من تعريفاتك الذكورية ومجادلاتك الذكورية التي لا تفسح مجالًا لأحد.» ثم تقول في إطراق: «أيضًا، سئمت من سماع نفسي أقول «ذكوري» على هذا النحو.» تفهم جيدًا أنها إذا استطاعت الصمود في الجدال، فسيمنحها أبوها شيكًا من أجل المركز.
لكن اليوم لم يلِنْ عزمها. كانت قد التقطت جزءًا يسيرًا من الطُّعم لكنها استطاعت الإفلات منه، سمكة حاذقة تبدو بريئة، تتحدث في أغلب الأحيان إلى ماجدة، معبرةً عن إعجابها بالتفاصيل المختلفة للتجديدات في المنزل. ينهض لورنس — الذي يبدو كرجل ساخر، وسيم ذي شارب ناعم رمادي بالكامل، وشعر ناعم بني مائل إلى الرمادي آخذ في النحول، رجل طويل به تدلٍّ بسيط في كتفيه وبطنه — من مكانه عدة مرات ويسير إلى البحيرة ثم يعود، ويسير إلى الطريق ثم يعود، يتنهد في عمق، مظهرًا عدم رضائه عن طريقة الحديث الأنثوية هذه.
أخيرًا، يتحدث فجأة إلى دينيس، مقاطعًا ما تقول ماجدة.
«كيف حال أمك؟»
تقول دينيس: «بخير … بقدر ما أعلم، هي بخير.»
تعيش إيزابيل بعيدًا، في وادي كومكس، في كولومبيا البريطانية.
«إذن، كيف حال تربية الماعز؟»
الرجل الذي تعيش إيزابيل معه صائد سمك تجاري كان يعمل مصورًا في التليفزيون. يعيشان في مزرعة صغيرة، ويؤجران الأرض، أو جزءًا منها، إلى رجل يربي الماعز. في وقت ما، أسرت دينيس بهذا إلى لورنس (تحرص على ألا تفضي له بأن الرجل أصغر من إيزابيل بعدة سنوات وأن العلاقة بينهما «غير مستقرة» بصورة دورية)، ويصر لورنس من حينها على أن إيزابيل وخليلها (هذه هي كلمته) يقومان بتربية الماعز. تستحضر أسئلته إلى الذهن عالمًا من المشاق الريفية؛ جهدًا جهيدًا في الطين مع حيوانات حرنة، فقرًا، نوعًا من المثالية المروعة التي عفا عليها الزمن.
تقول دينيس، مبتسمةً: «بخير.»
عادةً تجادل، تشير إلى الأخطاء، تتهمه بتشويه الحقائق، سوء النية، والأذى.
«هل لا يزال هناك معتنقون للثقافة المضادة يرغبون في شراء لبن ماعز؟»
«أعتقد ذلك.»
ترتعش شفتا لورنس تحت شاربه في نفاد صبر. تظل تنظر إليه، محافظةً على تعبير من الانشراح البريء والوقح. ثم يطلق ضحكة مفاجئة.
يقول: «لبن ماعز!»
تقول ماجدة: «هل هذه المزحة الجديدة الخاصة؟ … ماذا ينقصني هنا حتى أفهمها؟ لبن ماعز؟»
يقول لورنس: «ماجدة، هل تعلمين أن في عيد ميلادي الأربعين اصطحبتني دينيس على متن طائرة؟»
تقول دينيس: «لم أقد الطائرة في حقيقة الأمر.»
«عيد ميلادي الأربعون، عام ١٩٦٩. العام الذي جرى فيه أول هبوط على القمر. كانت لقطة الهبوط على القمر في حقيقة الأمر بعد عيد ميلادي بيومين. كانت قد سمعتني أقول كثيرًا إنني أتمنى أن أستطيع أن ألقي نظرة على هذه البلاد من مسافة قدرها ألف قدم. كان يمكن أن أستقل طائرة من أوتاوا إلى تورونتو، لكني لن أستطيع أن أرى شيئًا على الإطلاق.»
تقول دينيس: «دفعت ما يكفي حتى نستأجر الطائرة، لكن كما حدث، طرنا جميعًا معًا، في طائرة من خمسة مقاعد … بنفس السعر العادي.»
يقول لورنس: «طرنا جميعًا باستثناء إيزابيل … كان على أحدنا أن يتخلف، وهكذا فعلت.»
تقول دينيس مخاطبةً ماجدة: «جعلته يقود السيارة — جعلت أبي يقود السيارة — معصوب العينين إلى المطار … لا، لم أجعله يقود معصوب العينين» — كانوا جميعًا يضحكون — «بل جعلته يركب معصوب العينين، بحيث لا يعرف إلى أين كنا متوجهين ويكون الأمر مفاجأة بالكامل بالنسبة له.»
يقول لورنس: «قادت أمي السيارة … أظن أنني كنت سأقود السيارة معصوب العينين بصورة أفضل. لماذا قادت هي السيارة وليس إيزابيل؟»
«كان علينا الذهاب في سيارة جدتي. لم تكن سيارة البيجو تسعنا جميعًا، وكان عليَّ أن أتأكد من مراقبتنا جميعًا لك؛ لأن ذلك كان مفاجأتي الكبرى. هديتي. كنت مديرة مسرح مريعة.»
يقول لورنس: «طرنا جميعًا فوق بحيرة ريدو … أحبت أمي الطيران. أتذكران أنها مرت بتجربة سيئة ذلك الصباح، مع الهيبيز؟ لذا كان الأمر طيبًا بالنسبة إليها. كان الطيار كريمًا للغاية. بالطبع، جعل زوجته تعمل. كانت تصنع الكعكات، أليس كذلك؟»
تقول دينيس: «كانت متعهدة توريد أطعمة.»
يقول لورنس: «صنعت كعكة عيد ميلادي … يوم عيد الميلاد ذلك. اكتشفت ذلك لاحقًا.»
تقول ماجدة: «ألم تقم بذلك إيزابيل؟ … ألم تصنع إيزابيل الكعكة؟»
تقول دينيس، التي صار صوتها حذرًا وآسفًا قليلًا: «لم يكن الموقد يعمل.»
تقول ماجدة: «آه … ما المؤسف في التجربة إذن؟»
•••
عندما تصل دينيس، وبيتر، ووالدهما إلى المنزل الخشبي كل صيف من أوتاوا، تكون جدة الأطفال صوفي موجودة هناك بالفعل، قادمة من تورونتو، ويكون المنزل مفتوحًا، مهوًّى، ومنظَّفًا قدر الإمكان. كانت دينيس تجري عبر الغرف خافتة الإضاءة التي تشبه الكهوف وتحتضن الوسائد المتكتلة، صانعةً نوعًا من القصص الدرامية للتعبير عن سرورها لوجودها في المنزل. لكنه كان سرورًا حقيقيًّا. كانت تفوح من المنزل رائحة أجزاء خشب أرز موطوءة، رطوبة لم تُبدد قط، ورائحة فئران الشتاء. كان كل شيء دومًا كما هو. كانت توجد هنا لعبة الورق المملة التي كانت تستخدم في تعليم أسماء الزهور البرية الكندية، ولعبة سكرابل، ضاع منها حرفا واي ويو، كما توجد الكتب المريعة التي لا تقاوم التي تعود إلى طفولة صوفي، كتاب كرتون عن الحرب العالمية الأولى، الأطباق غير المتجانسة، صحون الفناجين المكسورة التي كانت صوفي تستخدمها كمرامد، السكاكين والشوك ذات المذاق الباهت، الغريب والرائحة التي كانت تبدو إما مثل رائحة المعدن أو مياه غسيل صحون.
كانت صوفي هي الوحيدة التي تستخدم الموقد. أعدت بطاطس مشوية غير ناضجة، وكعكات لم تنضج بعد في الجزء الأوسط منها، ودجاجًا لا تزال هناك دماء في عظامه. لم تفكر قط في استبدال الموقد. هي ابنة رجل ثري، لكنها فقيرة الآن؛ كانت أستاذًا مساعدًا متخصصة في اللغات الإسكندنافية، وخلال معظم حياتها العملية، كانت تعتقد أن معظم زملائها فقراء؛ فقد كان لديها عادات إنفاق غريبة. كانت دومًا تغلف مجموعة من الشطائر لتأكلها في رحلات القطار، ولم تكن تذهب إلى مصفف الشعر قط، لكنها لم تكن لتحلم قط بإرسال لورنس إلى مدرسة عادية. كانت تنفق المال على المنزل الخشبي على مضض، لا لأنها لم تكن تحب المنزل (كانت تحبه)، لكن لأن غريزتها أشارت عليها بأن تضع أصصًا تحت أماكن التسريب، وأن تضع شرائط لاصقة حول أطر النوافذ، وأن تعتاد على الميل في الأرضية وهو ما كان يشير إلى أن أحد دعائم الأساسات كان ينهار. ومهما احتاجت إلى المال، فلم تكن لتفكر في بيع أيٍّ من ممتلكاتها التي توجد حول المنزل، مثلما باع إخوتها منذ وقت طويل ما يملكونه على كلا الجانبين، بسعر مربح للغاية، إلى ساكني الأكواخ.
كانت أم دينيس وأبوها يطلقان على صوفي اسمًا كان بمنزلة مزحة بينهما، وسر. النوردية القديمة. يبدو أنه بعد فترة قصيرة من لقائهما، كان لورنس قد قال، واصفًا صوفي لإيزابيل: «أمي ليست أمًّا تقليدية تمامًا. تستطيع أن تقرأ اللغة النوردية القديمة. في حقيقة الأمر، تشبه قليلًا النورديين القدماء.»
في السيارة في الطريق إلى المنزل الخشبي، مستشعرين وجود صوفي في انتظارهم، كانوا قد لعبوا هذه اللعبة:
«هل يمكن إصلاح نافذة سيارة نوردية قديمة عن طريق شريط لاصق أسود؟»
«لا. إذا كُسرت نافذة سيارة نوردية قديمة، فلا يمكن إصلاحها.»
«ما البرنامج الإذاعي المفضل لدي شخص نوردي قديم؟»
«لنرَ. لنرَ. أوبرا متروبوليتان؟ كرستن فلاجستد تغني فاجنر؟»
«لا. الأمر مكشوف أكثر من اللازم. نخبوي أكثر مما ينبغي.»
«الأغاني الشعبية من بلاد كثيرة؟»
قالت دينيس من المقعد الخلفي: «ما إفطار الشخص النوردي القديم؟ … العصيدة!» كانت العصيدة أكثر الأطعمة التي تكرهها.
قال لورنس: «العصيدة مع سمك القد … لا تخبري جدتي عن هذه اللعبة أبدًا يا دينيس. أين يقضي النوردي القديم إجازة الصيف؟»
قالت إيزابيل في حدة: «لا يقضي النوردي القديم أي إجازة صيفية … يقضي النوردي القديم إجازة شتوية. ويتجه شمالًا.»
قال لورنس: «سبيتسبرجن … أراضي خليج جيمس باي المنخفضة.»
قالت إيزابيل: «رحلة بحرية … من ترومسو إلى آركانجل.»
«ألا توجد هناك ثلوج كثيرة؟»
«حسنًا، رحلة بحرية على متن كاسحة ثلوج. الجو مظلم جدًّا؛ لأن تلك الرحلات تسير فقط في شهري ديسمبر ويناير.»
قالت دينيس: «ألن تظن جدتي أن ذلك كان مضحكًا أيضًا؟» تصورت جدتها تخرج من المنزل وتسير عبر الشرفة الخارجية لتقابلهم؛ تلك المرأة العجوز المنمَّشة، القوية، العريضة، ذات الشعر الأبيض المائل إلى الاصفرار، التي تفوح من ستراتها، وبلوزاتها، وتنوراتها القديمة رائحة المنزل، والتي كانت تحيتها ودودة في هدوء، وحائرة قليلًا في آن واحد. هل تعجبت لأنهم وصلوا إلى هنا بسرعة جدًّا، أن الأطفال قد كبروا، أن لورنس صار فجأة صاخبًا جدًّا، أن إيزابيل بدت شديدة النحافة والشباب؟ هل كانت تعرف كيف كانوا يتمازحون حولها في السيارة؟
قال لورنس في نبرة غير مشجعة: «ربما.»
قالت إيزابيل: «في تلك القصائد القديمة التي تقرؤها … تعرفين تلك القصائد الأيسلندية القديمة، هناك تلك الدماء الرهيبة المراقة وتقطيع الناس إربًا؛ النساء على وجه الخصوص، تشق إحداهن رقبة أطفالها وتخلط الدماء في نبيذ زوجها. قرأت ذلك. لكن صوفي مسالمة واشتراكية، أليس الأمر غريبًا؟»
•••
قادت إيزابيل سيارتها إلى أوبريفيل في الصباح للإتيان بكعكة عيد الميلاد. ذهبت دينيس معها لحمل الكعكة طوال الطريق إلى المنزل. كانت رحلة الطائرة قد جرى ترتيبها لخمسة أشخاص فيما بعد الظهيرة. لم يكن أحد يعرف هذا سوى إيزابيل، التي كانت قد ذهبت مع دينيس إلى المطار الأسبوع السابق. كانت هذه كلها فكرة دينيس. كانت قلقة الآن بشأن السُّحُب.
قالت إيزابيل: «لا بأس من هذه السحب المتفرقة … إنها هذه السحب البيضاء الكبيرة المتجمعة التي ربما تشير إلى وجود عاصفة.»
قالت دينيس: «السحب الركامية … أعرف. هل تعتقدين أن أبي برج سرطان صرف؟ يحب البيت والطعام؟ يتعلق بالأشياء؟»
قالت إيزابيل: «أظن هذا.»
«ماذا كنت تعتقدين عندما قابلتِه للمرة الأولى؟ أعني، ماذا جذبك إليه؟ هل كنت تعرفين أن هذا هو الشخص الذي سينتهي بك المطاف لتتزوجيه؟ أعتقد أن الأمر برمته غريب جدًّا.»
كان لورنس وإيزابيل قد التقيا في كافيتريا الجامعة، حيث كانت إيزابيل تعمل صرَّافة. كانت طالبة في السنة الأولى، فتاة ذكية، فقيرة من الجانب الذي يقع المصنع فيه في البلدة، ترتدي سترة قرنفلية ضيقة كان لورنس يتذكرها دومًا.
(قالت إيزابيل: «متاجر وولوورث … لم أكن أعرف أي متاجر أفضل منها. كنت أعتقد أن عضوات أندية الطالبات كانت عتيقات في طراز ملابسهن.»)
كان أول شيء قالته للورنس: «هذا خطأ.» كانت تشير إلى اختياره، فطيرة الراعي.
كان لورنس محرجًا أو عنيدًا جدًّا بحيث لا يستطيع إرجاعها. قال: «تناولتها من قبل وكانت جيدة.» انتظر للحظة قبل أن يحصل على الباقي. «يذكرني هذا بما تصنع أمي.»
«لا بد أن أمك طاهية مريعة.»
«هي كذلك.»
هاتفها تلك الليلة، مراوغًا حتى يعرف اسمها. قال في عدم ثبات: «أنا صاحب فطيرة الراعي … هل تذهبين معي إلى السينما؟»
قالت إيزابيل، تلك الفتاة الفظة، التي ترتدي سترة ضيقة، والتي ستكون بمنزلة مفاجأة بالنسبة إلى صوفي بالتأكيد: «أنا مندهشة لأنك لا تزال حيًّا … بالتأكيد.»
كانت دينيس تحفظ هذا عن ظهر قلب. كانت تسعى إلى شيء مختلف. «لماذا خرجتِ معه؟ لماذا قلت: «بالتأكيد»؟»
قالت إيزابيل: «كان وسيمًا … بدا مثيرًا.»
«هل هذا كل ما في الأمر؟»
«حسنًا. لم يكن يتصرف كما لو كان عطية الرب إلى النساء. كانت يتورد خجلًا عندما كنت أتحدث إليه.»
قالت دينيس: «إنه يتورد خجلًا أحيانًا … وهكذا أنا. هذا أمر مريع.»
كانت تظن أن هذين الشخصين، لورنس وإيزابيل، أباها وأمَّها؛ يخفيان عنها شيئًا. شيئًا بينهما. تستطيع أن تشعر بشيء يبرز حديثًا ومعذبًا، أو كامنًا في الأسفل ومرًّا، لكنها لم تتوصل قط إلى ماهية الأمر، أو كيف كان الأمر يمضي. لم يكونا ليسمحا لها.
كانت أوبريفيل بلدة بيوتها مصنوعة من الحجر الجيري، مشيدة بحذاء النهر. كان مسبك المواقد القديم، الذي كان مصدر دخل والد صوفي، لا يزال موجودًا هناك على ضفاف النهر. كان قد تحوَّل جزئيًّا إلى مركز صناعات، حيث يصنع الناس الزجاج، وينسجون الأوشحة، ويصنعون بيوت الطيور، التي كانت تُباع في مقر المركز. كان اسم فوجلسانج — الاسم الألماني الذي كان يظهر أيضًا على المواقد وكان قد أسهم في سقوط الشركة خلال الحرب العالمية الأولى — لا يزال موجودًا، منحوتًا في الصخر، فوق الباب. تحول المنزل الجميل الذي ولدت صوفي فيه إلى دار رعاية.
كانت المتعهدة تعيش في أحد شوارع البلدة الجديدة؛ الشوارع التي كانت صوفي تكرهها. كانت الشوارع مرصوفة حديثًا، عريضة وسوداء، ذات حواف ناعمة. لم يكن ثمة أرصفة. لم يكن ثمة أشجار أيضًا، ولا وشائع أو سياجات، فقط بعض شجيرات الزينة الصغيرة تحوطها بكرات من الأسلاك لحمايتها. كانت المنازل ثلاثية المستويات التي على غرار بيوت المزارع يلي بعضها بعضًا. كانت بعض الطرق الخاصة مرصوفة بحجر مسحوق أبيض لامع يُسمى، في أوبريفيل، «رخامًا أبيض». وسط إحدى المروج، كان ثمة ثلاث غزالات بلاستيكية منقطة، وعند عتبة باب، صبي أسمر صغير يحمل مصباحًا للعربات. كان ثمة مجموعة من الصخور الضخمة الملطخة باللونين القرنفلي والرمادي تمنع الناس من عبور قطعة أرض جانبية.
قالت إيزابيل: «صخور بلاستيكية … أتساءل هل كانت ثقيلة أم أنها ملتصقة بالأرض؟»
أخرجت المتعهدة الكعكة إلى السيارة. كانت بدينة، داكنة الشعر، امرأة جميلة إلى حد ما في الأربعينيات من عمرها، ذات ظلال عينين خضراء كثيفة، وتسريحة شعر رائعة، لامعة، ومنفوشة.
قالت: «كنت أترقب مجيئك … عليَّ أن أعد بعض الفطائر من أجل رابطة المحاربين القدماء. هل تريدين أن تلقي نظرة على هذه الكعكة وترين هل كانت على ما يرام؟»
قالت إيزابيل، مخرجةً محفظتها: «أنا متأكدة أنها رائعة.» تناولت دينيس صندوق الكعكة ووضعته على حجرها. قالت المرأة: «أتمنى أن تكون لدي فتاة بهذا الحجم لمساعدتي.»
نظرت إيزابيل إلى الصبيين — كانا في الثالثة والرابعة من عمرهما — كانا يقفزان إلى حوض سباحة منفوخ على المرجة وخارجه. قالت في أدب: «هل هذان الصبيان ابناك؟»
«هل تمزحين؟ هذان ابنا ابنتي تركتهما معي. لدي ابن متزوج وابنة متزوجة، وابن آخر، المرة الوحيدة التي أراه فيها يكون مرتديًا خوذة دراجته البخارية. لقد أنجبتُ مبكرًا.»
كانت إيزابيل قد بدأت في الرجوع بسيارتها إلى الخلف عندما أطلقت دينيس صيحة دهشة. «أمي! هذا هو الطيار!»
كان رجل قد خرج من الباب الجانبي وكان يتحدث إلى المتعهدة.
قالت إيزابيل: «اللعنة، دينيس، لا تخيفيني هكذا! … كنت أظن أن أحد الأطفال يجري خلف السيارة.»
«هذا هو الطيار الذي كنت أتحدث إليه في المطار!»
«لا بد أنه زوجها. حافظي على توازن الكعكة.»
«لكن أليس هذا غريبًا؟ في يوم عيد ميلاد أبي؟ المرأة التي صنعت هذه الكعكة متزوجة من الرجل الذي سيقود الطائرة التي سيستقلها. «ربما» يكون هو. لديه زوجة. يعطي هو وزوجته دروسًا في الطيران ويطيران بصائدي الحيوانات شمالًا في الخريف ويطيرون بصائدي السمك إلى البحيرات التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الطيران. أخبرني بذلك. أليس هذا غريبًا؟»
«الأمر غريب قليلًا في مكان في حجم أوبريفيل. دينيس، يجب أن تحذري عند حمل هذه الكعكة.»
تراجعت دينيس قليلًا، شاعرةً ببعض الإهانة. إذا كان أحد البالغين قد صرخ في دهشة كما فعلت، فلم تكن إيزابيل لتظهر مثل هذا الاستياء البالغ. إذا كان أحد البالغين قد علَّق على هذه المصادفة الغريبة، لكانت إيزابيل ستتفق أن الأمر غريب حقًّا. كانت دينيس تكره أن تعاملها إيزابيل مثل طفلة. مع جدتها، أو لورنس، كانت تتوقع نوعًا من الغلظة وعدم المرونة. كان هذان الاثنان لا يتغيران أبدًا. لكن إيزابيل قد تكون موضع ثقة، ودودة، متفهمة إلى أبعد الحدود، ثم تصير فجأة غير ودودة وسريعة الانفعال. في بعض الأحيان كلما أعطت، شعر المرء برضاء أقل. كانت دينيس تظن أن أباها كان يشعر بذلك تجاه إيزابيل، أيضًا.
كانت إيزابيل ترتدي اليوم تنورة طويلة ملفوفة من القطن الهندي — تنورة الهيبيز، مثلما يُطلق عليها لورنس — وقميصًا بحمالة عنق داكن الزرقة. عن بعد، كانت تبدو نحيفة وبنية البشرة — كانت بشرتها مسمرة جدًّا، بالنظر إلى حمرة شعرها — في حوالي الخامسة والعشرين من عمرها. حتى عندما يقترب المرء منها، لم تكن تبدو أكثر من التاسعة والعشرين من عمرها. هكذا كان لورنس يقول. لم يكن يدعها تقص شعرها الأحمر الداكن، وكان يتأكد من أنها تحتفظ بلون بشرة مسمر مناسب، مناديًا إياها: «إلى أين أنت ذاهبة؟» بصوت محذر، منزعج، عندما كانت تحاول الانتقال إلى الظل أو الصعود إلى المنزل قليلًا.
«إذا تركتها، ستتسلل إيزابيل بعيدًا عن الشمس في كل مرة أدير فيها ظهري.» كان هذا ما قاله لورنس للزائرين، وسمعت دينيس إيزابيل تضحك.
«هذا صحيح. عليَّ أن أشكر لورنس. لم أكن لأستطيع وحدي الحصول على بشرة مسمرة. أشعر وكأن مخي يُحمَّر.»
قال لورنس، بطريقة استعلائية، هازلة، مربتًا على البطن الناعمة التي يكشف عنها بكيني إيزابيل: «من يأبه بالمخ المحمر إذا كان لديك جسد بني رائع؟»
جعلت هذه التربيتات الإيقاعية الصغيرة معدة دينيس تضطرب. كانت الطريقة الوحيدة التي كانت تستطيع من خلالها منع نفسها من الصياح قائلةً «توقف!» هي القفز، والهروع إلى البحيرة فاتحةً ذراعيها، ومطلقةً أصوات صياح سخيفة من فمها.
•••
عندما رأت دينيس المتعهدة مرة أخرى، كان قد مر أكثر من عام. كان ذلك تقريبًا في نهاية أغسطس، يوم غائم، دافئ، قليل الهواء، قرب نهاية إقامتهما الصيفية في المنزل الخشبي. كانت إيزابيل قد ذهبت إلى البلدة في واحدة من الزيارات الصيفية المعتادة إلى طبيب الأسنان. كان ثمة علاج أكثر تعقيدًا في أوبريفيل؛ لأنها كانت تحب طبيب الأسنان بها أكثر من طبيب الأسنان في أوتاوا. لم تكن صوفي قد مكثت في المنزل الخشبي منذ بداية الصيف. كانت في مستشفى ويلسلي، في تورونتو، تُجري بعض الفحوصات.
كانت دينيس وبيتر وأبوهما في المطبخ يصنعون شطائر لحم خنزير مقدد بالطماطم للغداء. هناك بضعة أكلات يعتقد لورنس أنه يستطيع طهيها أفضل من أي شخص آخر، وكانت إحداها لحم الخنزير المقدد. كانت دينيس تقطِّع الطماطم، وكان من المفترض أن يضع بيتر الزبد على الخبز المحمص، لكنه كان يقرأ كتابًا. كان الراديو مفتوحًا، يقدم نشرة أخبار الظهيرة. كان لورنس يحب سماع الأخبار عدة مرات يوميًّا.
ذهبت دينيس لترى مَن على الباب الأمامي. لم تتعرف في الحال على المتعهدة، التي كانت ترتدي ثوبًا أكثر شبابًا هذه المرة — ثوبًا فضفاضًا بألوان متموجة من اللون الأحمر، والأزرق، والأرجواني — ولم تكن تبدو جميلة مثلما كانت. كان شعرها مسدلًا على كتفيها.
قالت هذه المرأة: «هل أمك في المنزل؟»
قالت دينيس، في أدب جم كانت تعلم أنه جارح قليلًا: «آسفة، إنها ليست هنا الآن.» كانت تظن أن المرأة تبيع شيئًا ما.
قالت المرأة: «ليست هنا.» «لا. ليست هنا.» كان وجهها منتفخًا وغير مبتسم، وكان أحمر الشفاه الذي تضعه ثقيلًا على نحو مبهرج، وكان مكياج عينيها غير تام. كان صوتها غليظًا ينطوي على بعض التلميحات لم تتمكن دينيس من إدراكها تمامًا. لم تكن لتتكلم على هذا النحو إذا كانت تحاول أن تبيع شيئًا. هل يمكن أن يكونوا مدينين لها بالمال؟ هل تعدى بيتر على ملكيتها الخاصة أو أزعج كلبها؟
قالت دينيس في شيء من الأسف: «أبي هنا … هل ترغبين في التحدث إليه؟»
قالت المرأة، مطوحةً حقيبة يدها الكبيرة، الحمراء اللامعة تحت إبطها: «أبوك، نعم، سأتحدث إليه … لماذا لا تذهبين وتأتين به إذن؟»
أدركت دينيس أن هذا هو الصوت نفسه الذي كان قد قال: «أتمنى أن تكون لدي فتاة بهذا الحجم لمساعدتي.»
قالت لأبيها: «السيدة التي تتولى خدمات التعهيد على الباب.»
كرر قائلًا، في صوت غير مسرور، غير مصدق، كما لو كانت قد ادعت وجود هذه السيدة فقط لمقاطعته: «السيدة التي تتولى خدمات توريد الأطعمة؟»
لكنه مسح يديه ومضى إلى الردهة. سمعته يقول في خفوت: «نعم، حقًّا، ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك؟»
وبدلًا من العودة في دقائق قليلة، اصطحب المرأة إلى غرفة الطعام، وأغلق الباب. لماذا ذهب إلى غرفة الطعام؟ كان الزائرون يُصحبون إلى غرفة المعيشة. كان لحم الخنزير المقدد، الذي كان موضوعًا على منشفة ورقية، يبرد.
كان ثمة نافذة صغيرة مرتفعة في الباب بين المطبخ وغرفة الطعام. عندما كانت صوفي فتاة صغيرة، كان ثمة طاهية في المطبخ. كانت الطاهية تراقب تناول الغداء من خلال هذه النافذة حتى تعرف متى تغيِّر الأطباق وترفعها.
نهضت دينيس على أطراف أصابعها.
قال بيتر، دون أن يرفع عينيه من الكتاب: «جاسوسة.» كان كتاب خيال علمي يُسمى «عالم الشيطان».
قالت دينيس: «أريد فقط أن أعرف ماذا أصنع بالشطائر.»
رأت أن ثمة سببًا في الذهاب إلى غرفة الطعام. كان أبوها يجلس في مكانه المعتاد، عند رأس المائدة. كانت المرأة تجلس في مكان بيتر المعتاد، أقرب ما يكون إلى باب الردهة. وضعت محفظتها على المائدة، وكانت يداها متشابكتين أعلاها. أيًّا ما كان ما يتحدثان بشأنه كان يتطلب طاولة ومقاعد مستقيمة الظهر، ووضعَ جلوس جادًّا مستقيمًا. كان اللقاء مثل مقابلة. تُعطى المعلومات، وتُسأل الأسئلة، ويجري طرح مسألة ما.
حسنًا، حسنًا، حدَّثت دينيس نفسها. كانا يتحدثان عن مسألة ما. كانا سيفرغان من الحديث عنها، وسيسويانها، وسيجري تخطي الأمر. كان أبوها سيخبر العائلة بشأنها، أو لا يخبرهم على الإطلاق. سينتهي الأمر.
أغلقت الراديو. صنعت الشطائر. تناول بيتر نصيبه. انتظرت فترة، ثم تناولت نصيبها. شربا كوكاكولا، التي كان والدها يسمح لهما بها على الغداء. تناولت دينيس شطائرها وشربت مشروبها سريعًا. جلست على المائدة في هدوء تتجشأ وتعيد تذوق لحم الخنزير المقدد، وسمعت صوتًا رهيبًا لغريب يبكي في منزلهم.
من على متن الطائرة في عيد ميلاد أبيها، كانوا قد رأوا بعض السحب المتراكمة، الشفافة تقريبًا، الرقيقة في الناحية الغربية من السماء، وكانت دينيس قد قالت: «سحب ركامية.»
قال الطيَّار: «هذا صحيح … لكنها بعيدة تمامًا.»
قال لورنس: «لا بد أن الطيران عبر عاصفة رعدية أمر في غاية الإثارة.»
قال الطيار: «ذات مرة، نظرت إلى الخارج ورأيت حلقات زرقاء من النار حول مراوح الطائرة … حول المراوح وأطراف الأجنحة. ثم رأيت الشيء نفسه حول مقدمة الطائرة. مددت يدي للمس الزجاج — هذا الزجاج، الذي من نوعية بلكسيجلاس — وبمجرد أن اقتربت من لمس الزجاج، تصاعدت ألسنة لهب من أصابعي. لا أعرف هل كنت لمست الزجاج أم لا. لم أشعر بأي شيء. ألسنة لهب زرقاء صغيرة، ذات مرة أثناء عاصفة رعدية. هذا ما يطلقون عليه «نار القديس إلمو».»
قال بيتر من المقعد الخلفي: «ينشأ هذا جراء تفريغ كهربائي في الغلاف الجوي.»
أجاب الطيار قائلًا: «أنت على حق.»
قال لورنس: «هذا غريب.»
«جعلني ذلك أجفل.»
كان لدى دينيس صورة في عقلها للطيار تنطلق ألسنة اللهب الباردة من أطراف أصابعه، وهو ما بدا لها علامة على الألم، على الرغم من أنه قال إنه لم يشعر بأي شيء. تذكرت المرة التي لمست فيها السياج الكهربي. جعلتها الأصوات الصادرة عن غرفة الطعام تتذكر. واصل بيتر القراءة، ولم يقولا أي شيء، على الرغم من أنها كانت تعرف أنه كان يسمع الأصوات أيضًا.
•••
ماجدة في المطبخ تعد السلاطة. تدندن بنغمات أوبرالية. «نعود إلى جبالنا». دينيس في غرفة الطعام ترتب المائدة. تسمع أباها يضحك في الشرفة الخارجية. وصل الضيوف؛ زوجان ثريان، حسنا المظهر، ليسا من سكان الأكواخ. جاء أحد الأزواج من بوسطن، والزوج الآخر من مونتريال. يمتلكان منزلًا صيفيًّا في ويستفيلد.
تسمع دينيس أباها يقول: «الحزن من التفكير في شرور العالم.» يقولها كما لو كانت اقتباسًا. لا بد أنه يشير إلى شيء ما يعرفونه جميعًا، من مجلة يقرءونها جميعًا.
تحدث نفسها، يجب أن أكون مثل بيتر. يجب أن أتوقف عن القدوم إلى هنا.
لكن ربما يكون كل شيء على ما يرام، وهذه هي السعادة، وهي عنيدة وطفولية أكثر مما ينبغي، سياسية على نحو مقبض — منغمسة حتى النخاع في ماضٍ هجره الجميع — بحيث لا يمكن أن تقبلها.
كان قد تم توسيع غرفة الطعام لتضم المساحة التي كان يشغلها جزء من الشرفة الخارجية، الامتداد كان من الزجاج؛ جدران وسقف مائل، كله من الزجاج. ترى نفسها في الزجاج الآخذ في الإظلام؛ امرأة حذرة، طويلة ذات جديلة طويلة، ترتدي ملابس لا توجد بها أي تطريزات أو زخارف، تجلس إلى المائدة الطويلة التي من خشب الصنوبر، بين السلطانيات الممتلئة عن آخرها في بهاء بنبات أبو خنجر، والأطباق الزجاجية الزرقاء الصغيرة الممتلئة بالملح. مناشف كتانية باللونين الأحمر والبرتقالي، شموع صفراء مثل أكوام مدورة من الزبد، وأطباق ريفية بيضاء سميكة ذات زخارف من الكرم حول الحواف. طبقات من الطعام والخمر الجاهز، والحديث الذي يقطع هواء الحياة؛ طبقات من التناغم والرضاء.
تتوقف ماجدة، التي تحمل السلاطة، عن الدندنة.
«أمك، هل هي سعيدة، في كولومبيا البريطانية؟»
تحدث دينيس نفسها بأن هذا هو خطؤها. خطأ إيزابيل.
يمكن أن ترد إلى ذهنها الآن فِكَر غير منصفة، غير مرحَّب بها، تتردد في عنف، بلا هدف.
تقول: «نعم … نعم. أعتقد هذا.» وهو ما تعني به أن إيزابيل، على الأقل، لا تأسف على شيء.
٢
جعل وقع أقدام صوفي الألواح الخشبية في الأرضية تهتز. كانت حافية القدمين، عارية تحت ثوب الاستحمام المخطط الوبري، في الصباح الباكر. كانت تسبح في البحيرة عاريةً منذ أن كانت طفلة وكان هذا الشاطئ كله ملكًا لأبيها، حتى مزرعة برايس. إذا أرادت أن تسبح هكذا الآن، فكان عليها أن تستيقظ باكرًا في الصباح. كان لا بأس في ذلك. كانت تستيقظ باكرًا. كان كبار السن يفعلون ذلك.
بعد أن تسبح، كانت تحب أن تجلس على الصخور وتدخن سيجارتها الأولى. كان هذا هو ما تبحث عنه الآن؛ لا سجائرها بل ولاعتها. نظرت إلى الرف فوق الحوض، في درج سكاكين المائدة — غير قاصدة أن تصدر أصوات صلصلة كهذه — وفي خزانة غرفة الطعام. ثم تذكرت أنها كانت جالسة في غرفة المعيشة الليلة الماضية، تشاهد مسلسل «ديفيد كوبرفيلد» في التليفزيون. وها هي، ولاعتها، على الذراع القذر للمقعد المكسو بقماش قطني مزخرف.
كان لورنس قد استأجر تليفزيونًا حتى يروا صورة الهبوط الأول على القمر. كانت قد اتفقت على أن هذه مناسبة يجب ألا تفوت الأطفال — يجب ألا تفوت أحدًا منهم، قال لورنس في حدة — لكنها كانت تفترض أن ذلك يعني استئجار التليفزيون مدة أربع وعشرين ساعة، ووجود التليفزيون في المنزل حتى صباح اليوم التالي. أشار لورنس إلى خطئها. سيجري تصوير مشهد القمر يوم الأربعاء، بعد غد، وسيكون الهبوط، إذا سار كل شيء على ما يرام، يوم الأحد. هل كانت تظن أن الرحلة لن تستغرق سوى ساعات؟ وقال لورنس إنه لا أمل في استئجار تليفزيون جيد إذا انتظروا حتى اللحظة الأخيرة. كان سكان الأكواخ جميعهم سيستأجرون التليفزيونات الجيدة. لذا، استأجروا تليفزيونًا قبل الموعد المحدد بعشرة أيام، ومنذ أن جاء التليفزيون إلى المنزل ظل لورنس يحاول حث صوفي على أن تشاهد عملية الهبوط. كان محظوظًا، اكتشف إعادة حلقات «ناشونال جيوجرافيك» الخاصة بالشتاء الماضي، حلقة عن جزر جلاباجوس، التي كانت صوفي تشاهدها دون اعتراض، وحلقة عن متنزهات أمريكا العامة، التي قالت إنها كانت جيدة ولم يفسدها إلا روح التباهي الأمريكية. ثم كان هناك مسلسل «ديفيد كوبرفيلد»، مسلسل تليفزيوني بريطاني يُعرض كل ليلة أحد في حلقات تمتد ساعة كاملة.
قال لورنس لصوفي: «أرأيت ماذا كان يفوتك؟» كانت قد رفضت أن يكون لديها تليفزيون كل هذه السنوات، ليس فقط في المنزل الخشبي، بل في شقتها في تورونتو.
قالت إيزابيل: «أوه، لورنس. لا تكرر الحديث عن هذا الموضوع.» كانت نبرة صوتها ودودة لكن ضجرة. كانت صوفي، التي لم تقل شيئًا، منزعجة بسبب إيزابيل أكثر من لورنس. كم كانت هذه الفتاة قليلة المعرفة بزوجها إذا كانت تتوقع منه أن يأخذ أي انتصار يحققه على محمل متحفظ! وكم كانت قليلة المعرفة بصوفي إذا كانت تتوقع أن حث لورنس إياها يزعجها! كان هذا هو أسلوبه، أسلوبهما. كان يضغط ويضغط على صوفي، ومهما كان ما يأخذه منها لم يكن كافيًا قط. اتضح أن استسلام صوفي لوجود تليفزيون لم يكن كافيًا؛ لم تكن تعبأ بما يكفي، وكان هذا هو ما يعرفه لورنس.
كان الأمر نفسه ينطبق على درجات السلم. (كانت صوفي تمضي في طريقها الآن نزولًا من الضفة إلى البحيرة، شاقةً طريقها بصعوبة عبر الهياكل الخشبية.) لم تكن صوفي تريد درجات سلم أسمنتية، مفضلةً قطعًا خشبية توضع في الضفة، لكنها استسلمت، أخيرًا، إلى شكاوى لورنس من تعفن القطع الخشبية والمجهود الذي كان يبذله في استبدالها. الآن كان يناديها يوميًّا ليريها التقدم الذي كان يحرزه.
قال معلنًا، في إيماءة تنم عن الجلالة: «أَصنع هذا من أجل الأجيال القادمة.» كان قد صنع درجة سلم تذكارية لكلٍّ منهم: صورة مطبوعة براحة اليد، الأحرف الأولى، التاريخ؛ يوليو، ١٩٦٩.
انسلت صوفي من الصخور إلى الماء، وسبحت نحو وسط البحيرة، في ضوء الشمس. ثم استدارت خلفها. على الرغم من وجود أكواخ بطول الشاطئ، كان معظم الناس لطفاء للغاية بحيث لم يقطع أحد الأشجار. يمكنها أن ترقد هنا في الماء وتتطلع إلى الضفة المرتفعة التي تتناثر عليها أشجار الصنوبر، والأرز، والحور، والقيقب الرخو، والبتولا البيضاء والذهبية. لم يكن ثمة رياح، ولا وجود لموجات في البحيرة اللهم إلا ما كانت تصنعها صوفي، غير أن أوراق البتولا والقيقب كانت تتحرك عفويًّا، تلمع مثل العملات المعدنية في الشمس.
كان ثمة حركة، ليس فقط في الأوراق. رأت صوفي أشكالًا بشرية. كانوا يأتون إلى الضفة، خارجين من بين الأشجار القريبة من الصخور حيث كانت قد تركت ثوب استحمامها. أنزلت جسدها في الماء، بحيث لم تعد طافيةً وإنما تخوض في الماء، تراقب الأشكال البشرية.
صبيَّان وفتاة. كان جميعهم يملكون شعرًا طويلًا، يصل إلى الخصر أو ما يقرب من ذلك، وإن كان أحد الصبيين قد عقص شعره في صورة ذيل حصان. كان للصبي صاحب ذيل الحصان لحية، ويضع نظارة سوداء، وسترة بذلة دون قميص تحتها. كان الصبي الآخر يرتدي بنطال جينز فقط. كان ثمة سلاسل أو قلائد، ربما ريش، يتدلى من صدره البني النحيف. كانت الفتاة بدينة وغجرية، ترتدي تنورة حمراء طويلة، ورابطة رأس معقودة حول جبهتها. كانت قد ربطت تنورتها في صورة عقدة مرنة في الأمام، بحيث تستطيع النزول إلى الضفة بسهولة.
لم يكن الأطفال — الشباب — الذين كانوا يبدون على هذا النحو يبدون غرباء بالنسبة إلى صوفي. يرى المرء الكثير منهم حول البحيرة في عطلات نهاية الأسبوع؛ أبناء من يعيشون في الأكواخ، يأتون زائرين ومصطحبين أصدقاءهم. في بعض الأحيان، كانوا يحتلون الأكواخ، في غياب الآباء، ويقيمون حفلات طوال عطلة نهاية الأسبوع. كانت نشرة أصحاب الأملاك قد اقترحت فرض حظر على الشعر الطويل و«أشكال الملابس الغريبة»، وأن يجري الإشراف على ذلك طوعًا من جانب كل مالك على أملاكه. كان قد جرى دعوة الناس إلى كتابة خطابات تدعم أو تعارض هذا الحظر، وكانت صوفي قد كتبت خطابًا تعارضه. كانت قد قالت في خطابها إن هذا الجانب بأكمله من البحيرة كان ملكًا لفوجلسانج، وأن أوجستوس فوجلسانج كان قد ترك الراحة النسبية في ألمانيا في عصر بسمارك للبحث عن الحرية في العالم الجديد، الذي كان جميع الأفراد فيه يقررون ماذا يرتدون، ويقولون، ويعبدون، إلى آخره.
لكنها لم تكن تظن أن أيًّا من هؤلاء الثلاثة كان يعيش في أيٍّ من هذه الأكواخ. كانوا لا شك معتدين على ملكية الآخرين، رحَّالة. لماذا كانت تعتقد ذلك؟ هناك شيء مراوغ حيالهم؛ لكنه أيضًا جريء، يدعو إلى الازدراء. لم تعتقد، مع ذلك، أنهم قد يتسببون في أي أذًى. كانوا كممثلين متجولين، مستغرقين في حياتهم، لكنهم ليسوا لصوصًا حقيقيين.
كانوا قد رأوا ثوب استحمامها. كانوا ينظرون إليها، عبر الماء.
لوَّحت لهم صوفي. نادت: «صباح الخير»، في نبرة مرحة، محيية، لتشير إلى أن الأمر يقتصر على التحية، ولا يوجد ما هو أكثر من ذلك تتوقعه منهم.
لم يلوِّح أيٌّ منهم أو يجيب. جلست الفتاة.
تناول الصبي عاري الصدر ثوب استحمام صوفي وارتداه. وجد السجائر والولاعة في جيب الثوب، وألقاهما إلى الفتاة، التي تناولت سيجارة وأشعلتها. جلس الصبي الآخر وخلع حذاءه طويل العنق ووضع قدميه في الماء.
تراقص الصبي الذي ارتدى ثوب الاستحمام قليلًا. كان شعره أسود، يلمع في بهاء، يرفرف على كتفيه. كان يقلد امرأة، على الرغم من أنه لم يكن يقلد صوفي بالتأكيد. (ورد إلى خاطرها الآن أنهم ربما كانوا يرقُبونها، ربما رأوها تخلع ثوب الاستحمام، وتنزل إلى الماء.)
نادت صوفي: «هل يمكن أن تخلع هذا من فضلك؟ … لا مشكلة في تناول سيجارة، لكن رجاءً أعد العلبة إلى الجيب!»
تراقص الصبي مرة أخرى، هذه المرة موليًا ظهره إياها. ضحك الصبي الآخر. كانت الفتاة تدخن، ولم يبدُ أنها تعير ما يحدث أدنى اهتمام.
«اخلع ثوب استحمامي وأعد سجائري!»
بدأت صوفي في السباحة نحو الشاطئ، جاعلةً رأسها أعلى الماء. خلع الصبي ثوب الاستحمام، وأمسكه، ومزقه نصفين. تمزق قماش الثوب البالي بسهولة. كوَّم أحد النصفين وألقاه في الماء.
صرخت صوفي: «أيها الحثالة الصغير!»
ألقى النصف الآخر.
كان الصبي صاحب ذيل الحصان يرتدي حذاءه طويل العنق.
مد الصبي ذو الشعر الأسود يديه إلى الفتاة. هزت رأسها. أدخل رأسه في ثنيات تنورتها، لكن صرخت معترضة. ألقى شيئًا آخر في الماء، بعد قطع ثوب الاستحمام.
ولاعة صوفي.
سمعت صوفي الفتاة تقول شيئًا — بدا شيئًا مثل «أيتها الحثالة اللعينة» — ثم بدأ الثلاثة في تسلق الضفة دون إلقاء نظرة أخرى نحو البحيرة. كان الصبي ذو الشعر الأسود يقفز في رشاقة، وكان الصبي الآخر يتبعه بسرعة وإن كان في ارتباك أكثر، وكانت الفتاة تتسلق في مشقة رافعةً تنورتها. غابوا جميعًا عن الأنظار عندما خرجت صوفي من الماء ورفعت نفسها فوق الصخور.
لم تكن سيجارة الفتاة — سيجارة صوفي — قد أُطفئت جيدًا بل أُلقي بها في صدع صغير مليء بالقاذورات، قاذورات وأحجار متكسرة بين الصخور.
جلست صوفي على الصخور، تأخذ أنفاسًا عميقة، متقطعة. لم تكن ترتجف؛ كان جسمها ساخنًا بسبب الغضب الشديد النَّكِد الذي لا طائل من ورائه والذي كانت تشعر به. كانت في حاجة إلى تمالك نفسها.
كانت لديها صورة ذهنية عن قارب التجديف الذي كان مربوطًا هنا عندما كانت طفلة. مركب قديم آمن شبيه بقارب التجديف، يتأرجح في الماء في مرسى القوارب. في كل مساء، بعد العشاء، كانت صوفي — أو صوفي وأحد إخوتها (هم أموات كلهم الآن)، لكن عادةً ما تكون صوفي وحدها — تجدِّف عبر البحيرة حتى مزرعة برايس للحصول على اللبن. كانت تأخذ صفيحة ذات غطاء، تُنظف وتطهر جيدًا من قبل طاهية آل فوجلسانج؛ حيث لم يكن يمكن الوثوق في أي وعاء من مزرعة برايس. لم يكن لدى آل برايس مرسى قوارب. كان ظهر منزلهم وفناؤهم ناحية البحيرة، وكانا يطلان على الطريق. كان على صوفي أن تسير بالقارب عبر الجريد، وأن تلقي بالحبل إلى أبناء برايس الذين كانوا يأتون للقائها. كانوا يخطون بأقدامهم في الطين، ويجذبون الحبل، ويصعدون إلى القارب بينما كانت تعطي صوفي تعليماتها المعتادة.
«لا ترفعوا المجداف من الماء! لا تغرسوه في الطين! لا تصعدوا جميعًا في جانب واحد!»
حافية القدمين، مثلما كانوا، كانت تقفز خارج القارب وتعدو إلى مصنع الألبان الحجري. (كان المصنع لا يزال هناك، وأصبح الآن، مثلما عرفت صوفي، معملًا لتحميض أفلام الكاميرات الفوتوغرافية لأحد سكان الأكواخ.) كان السيد أو السيدة برايس تصب اللبن المُزبد الدافئ في الصفيحة.
بعض أطفال آل برايس كان في عمر صوفي، وبعضهم كان أكبر سنًّا، لكنهم كانوا جميعًا أصغر حجمًا. كم كان عددهم؟ ماذا كانت أسماؤهم؟ تستطيع صوفي أن تتذكر ريتا، شيلدون أو سيلون، جورج، آني. كانوا دومًا أطفالًا شاحبين، على الرغم من شمس الصيف، وكانت أجسادهم تمتلئ بالعضات، والخدوش، وقشور الجروح، وعضات البعوض، وعضات بعوض القِرس، وعضات البراغيث، دامية ومتقيحة. كان ذلك لأنهم كانوا أطفالًا فقراء. بسبب فقرهم، كانت ريتا — أو آني — حولاء، وأحد الصبية كان لديه كتفان غير مستويتين على نحو غريب، كما أنهم كانوا يتحدثون على نحو غير صحيح مما جعل صوفي تجد صعوبة في فهم كلامهم. لم يكن أحد منهم يعرف كيف يسبح. كانوا يتعاملون مع القارب كما لو كان قطعة أثاث غريبة؛ شيئًا يجري تسلقه، والدخول فيه. لم يكن لديهم أدنى فكرة عن التجديف.
كانت صوفي تحب أن تذهب لكي تحضر اللبن بنفسها، ليس مع أحد إخوتها، بحيث تستطيع أن تتأخر وتتحدث إلى أطفال برايس، وتوجه إليهم أسئلة، وتخبرهم عن أشياء؛ وهو ما لم يكن إخوتها يفكرون في القيام به. أين كانت مدارسهم؟ ما الهدايا التي كانوا يتلقونها في الكريسماس؟ هل يحفظون أي أغانٍ؟ عندما اعتادوا عليها، بدءوا في إخبارها ببعض الأشياء. أخبروها عن المرة التي تحرر فيها الثور من قيده واقترب من الباب الأمامي، وعن المرة التي رأوا فيها كرةً من البرق ترقص عبر أرضية غرفة النوم، وعن الدمل الكبير في عنق سيلون وما كان يسيل منه.
كانت صوفي تريد أن تدعوهم إلى المنزل الخشبي. كانت تحلم بتحميمهم، وغسل ملابسهم، ووضع مراهم على العضات في أجسادهم، وتعليمهم كيفية الحديث بصورة صحيحة. في بعض الأحيان، أخذت تحلم حلمَ يقظةٍ معقدًا طويلًا كان كله يدور حول الكريسماس في عائلة برايس. كان الحلم يشمل إعادة تزيين وطلاء منزلهم، فضلًا عن تنظيف شامل لفنائهم. ظهرت نظارات سحرية، لعلاج العيون الحولاء. كان ثمة كتب مصورة، وقطارات كهربية، ودمى ترتدي أثوابًا من التفتة، وجيوش من الجنود اللعبة، وأكوام من حلوى المرزبان التي على شكل فواكه وحيوانات. (كانت المرزبان حلوى صوفي المفضلة. كشفت محادثة مع عائلة برايس عن الحلوى أنهم لم يكونوا يعرفون ما هي.)
ذات مرة، حصلت على إذن أمها لدعوة أحدهم إلى المنزل. كانت الفتاة التي دعتها للحضور إلى المنزل — ريتا أو آني — قد تراجعت في اللحظة الأخيرة، نظرًا لخجلها الشديد، فجاءت الأخرى بدلًا منها. كانت آني أو ريتا هذه ترتدي أحد أثواب استحمام صوفي، الذي كان فضفاضًا عليها بصورة مثيرة للسخرية. وظهر أنه من الصعب تسليتها. فلم تبدِ تفضيلًا لأي شيء. فلم تشر إلى أي نوع من الشطائر أو الحلوى أو الشراب كانت تريد، ولم تشر إلى أنها تريد اللعب بالأرجوحة، أو بجوار الماء أو بالدمى. كان يبدو أن ثمة شيئًا راقيًا في عدم إبداء اهتمامها بأي شيء، كما لو كانت تلتزم بقواعد سلوكية معينة لم تستطع صوفي أن تعرف عنها شيئًا. قبلت الحلوى التي أُعطيت إياها، وسمحت لصوفي بدفعها في الأرجوحة، في ظل غياب كامل للحماس. أخيرًا، أنزلتها صوفي إلى الماء وبدأت في إمساك الضفادع. كانت صوفي تريد نقل مستعمرة من الضفادع بالكامل من الخليج الصغير المغطى بالجريد من أحد جانبي مرسى القوارب، إلى رف وكهف جميل في الصخور على الجانب الآخر. كانت الضفادع تنتقل من جانب إلى آخر عبر الماء. أمسكت صوفي وابنة برايس بالضفادع، ووضعتها في أنبوب داخلي، ودفعتا بها حول مرسى القوارب — كانت المياه ضحلة، لذا استطاعت ابنة برايس أن تخوض فيها — إلى موطنها الجديد. في نهاية اليوم، كان قد جرى نقل الضفادع كلها.
كانت هذه الفتاة التي من عائلة برايس قد ماتت في حريق بالمنزل، مع بعض الأطفال الصغار، بعد ذلك بسنوات. أو ربما كانت هذه هي الفتاة الأخرى، التي تراجعت عن المجيء. باع الأخ الذي ورث المزرعة إياها إلى مطور عقاري، قيل إنه خدعه في ثمنها. لكن هذا الأخ اشترى سيارة كبيرة — ربما سيارة كاديلاك؟ — وكانت صوفي تراه في أوبريفيل في الصيف. كان ينظر إليها نظرة كان مفادها أنه لن يتحدث إليها إلا إذا تحدثت هي.
تذكرت صوفي أنها حكت قصة نقل الضفادع إلى والد لورنس؛ الذي كان مدرس لغة ألمانية، والذي جذبت انتباهه في البداية من خلال جدلها الشديد، في الصف، حول نطق إحدى الكلمات الألمانية. وبحلول الوقت الذي صارت فيه طالبة دراسات عليا، كانت مغرمة به جدًّا. وأصبحت حبلى منه، لكن كان كبرياؤها يمنعها من أن تطلب منه أن يتخلى عن كل شيء، أن يترك زوجته، أن يتبعها إلى المنزل الخشبي، حيث كانت تنتظر أن يولد لورنس، لكنها كانت تعتقد أنه كان عليه فعل ذلك. جاء إلى هنا، لكن مرتين فقط، في زيارة. جلسا عند مرسى القوارب، وتحدثت معه عن الضفادع وابنة برايس.
قالت: «بالطبع، عادوا جميعًا إلى منطقة الجريد في اليوم التالي.»
ضحك، وعلى نحو ما يفعل الرفاق ربت على ركبتها. «أوه، صوفي. ترين الوضع.»
كان اليوم هو عيد ميلاد لورنس الأربعين. ولد ابنها في يوم الاحتفال بذكرى اقتحام سجن الباستيل. أرسلت بطاقة بريدية لوالد لورنس قالت فيها: «سجين ذكر أُطلق سراحه في الرابع عشر من يوليو، زنة ثمانية أرطال وتسع أوقيات.» ماذا كانت زوجته تظن؟ لم تكن لتعرف. تحملت عائلة فوجلسانج الأمر برمته في كبرياء، وانتقلت صوفي إلى جامعة أخرى حتى تتأهل لمسارها الأكاديمي. لم تكذب قط وتقول إنها تزوجت. لكن لورنس، في المدرسة، كان قد اختار أبًا له، ابن عم أمه (ومن ثم اشتراكهما في الاسم)، الذي غرق في رحلة بقارب كنو. قالت صوفي إنها كانت متفهمة للوضع، لكنها كانت تشعر بخيبة أمل فيه.
•••
في وقت لاحق من الظهيرة، وجدت صوفي نفسها في طائرة. كانت قد ركبت الطائرة مرتين من قبل؛ كلتا المرتين في طائرتين كبيرتين. لم تعتقد أنها كانت ستخاف. جلست في المقعد الخلفي بين حفيديها اللذين كانا يشعران بالإثارة، دينيس وبيتر — كان لورنس في المقدمة، مع الطيار — وفي حقيقة الأمر لم تستطع أن تقول إذا كان ما تشعر به خوفًا أو لا.
بدت الطائرة الصغيرة، وكأنها لا تتحرك على الإطلاق، على الرغم من أن محركها لم يتوقف أبدًا؛ كان يصدر ضجيجًا هائلًا. طاروا في الهواء، على ارتفاع ألف قدم أو نحو ذلك من الأرض. في الأسفل كانت شجيرات العرعر منتشرة مثل وسادة دبابيس في الحقول، وأشجار الأرز معروضة على نحو ساحر مثل أشجار الكريسماس اللعبة. كان ثمة موجات صغيرة لامعة في المياه الداكنة. كان مظهر الألعاب، والصغر المتناهي في كل شيء له تأثير مميز ومؤلم على صوفي. كانت تشعر كما لو كانت هي، لا الأشياء على الأرض، التي تضاءلت، لا تزال تتضاءل؛ أو أنها والأشياء كانت تتضاءل جميعًا. كان هذا الشعور في غاية القوة، حتى إنه تسبب في وخز خفيف في يديها وقدميها الضئيلة، التي تشبه الكابوريا الآن؛ وخزة ضآلة مدهشة، وعي بضآلة مدهشة. تقلصت معدتها؛ كانت رئتاها أشبه بجوالي بذور فارغين، وكان قلبها مثل قلب حشرة.
قال لورنس مخاطبًا الطفلين: «سرعان ما سنطير فوق البحيرة … أترون كيف أن الحقول تغطي جانبًا وتغطي الأشجار الجانب الآخر؟ مثلما ترون، في أحد الجوانب توجد تربة فوق حجر جيري، وفي الجانب الآخر الدرع الكندي الذي يعود إلى فترة ما قبل العصر الكامبري. جانب مغطًّى بالصخور والجانب الآخر بالجريد. هذا ما يطلق عليه البحيرة المتلألئة.» (كان لورنس قد درس الجيولوجيا وكان يحبها، وقد كانت تأمل صوفي في أن يصير جيولوجيًّا بدلًا من رجل أعمال.)
وهكذا، كانوا بالكاد يتحركون. كانوا يطيرون فوق البحيرة. رأت صوفي جهة اليمين مدينة أوبريفيل بالكامل، والشق الأبيض الكبير لمحجر السيليكا. لم تخف وطأة شعورها بارتكاب خطأ، بوجود مشكلة ما غريبة جدًّا ولا يمكن التعبير عنها. لم يكن الأسلوب الذي تعاملت به مع الأمر، بل ما بعد الكارثة هو ما كانت تحس بوطأته، في هذا الهواء الذهبي؛ تشعر كما لو كان جرى كنسهم وإلغاؤهم، وطيهم في صورة نقاط، وتحولوا إلى ذرات، لكن دون أن يعرفوا.
قال لورنس: «لنرَ ما إذا كنا سنستطيع أن نرى سطح منزلنا الخشبي.» ثم قال مخاطبًا الطيار: «كان جدي ألمانيًّا؛ شيَّد المنزل وسط الأشجار، مثل كوخ صيد.»
قال الطيار، الذي كان يعرف على الأقل ذلك عن عائلة فوجلسانج: «هل كان الأمر كذلك؟»
هذا الشعور — كانت صوفي تدرك ذلك — لم يكن جديدًا بالنسبة لها. كان يراودها وهي طفلة. شعور حقيقي بالضآلة، شعور ضمن جعبة مشاعر من الخوف والدهشة، أو حالات تنتاب المرء عندما يكون صغيرًا جدًّا. مثل الشعور بالتعلق في وضع مقلوب، بالسير على السقف، بالسير على عتبات باب مرتفعة. سرور رهيب كانت تشعر به آنذاك، لذا لماذا لا تشعر بهذا الآن؟
لأن الأمر لم يكن باختيارها، الآن. كان لديها شعور أكيد بتغيرات في الأفق، لم تكن من اختيارها.
أشار لورنس إلى السطح، سطح المنزل الخشبي. تعجبت في رضى.
لا تزال تنكمش، تنطوي على نفسها في صورة تلك النقطة المثيرة للغثيان، لكنها لا تختفي، تماسكت هنا. تماسكت هنا، مستخدمةً كل ما تملك من قدرة، وقالت لحفيديها: انظرا هنا، انظرا هناك، أترون الأشكال على الأرض، أترون الظلال والضوء الغاطس في الماء؟
٣
«إن جلوس زوجتي بمفردها متعتها الكبرى.»
جلست إيزابيل على الحشائش قرب السيارة، في ظل بعض أشجار الحور العجفاء، وكانت تعتقد أن هذا اليوم، يوم عائلي سار، كان مليئًا بالصعوبات، التي كانت قد تخطتها حتى الآن. عندما استيقظت هذا الصباح، كان لورنس يريد أن يضاجعها. كانت تعلم أن الأطفال سيكونون مستيقظين، مشغولين في غرفة دينيس في الردهة في الأسفل، يُعدون المفاجأة الأولى في اليوم؛ مُلصَقًا عليه قصيدة، قصيدة عيد ميلاد، ومجموعة ملصقات من الصور لأبيهم. إذا قوطع لورنس أثناء العلاقة أثناء تدفقهم إلى الغرفة بهذه الأشياء — أو قرعهم بعنف على الباب، مفترضين أنها أغلقته بالترباس — كان سيصبح في مزاج سيئ جدًّا. وكانت دينيس ستصاب بخيبة أمل، في حقيقة الأمر، ستصاب بحزن بالغ. كانت ستكون بداية سيئة لليوم. لكن هذا لن يكفي حتى يردع لورنس، عندما تفسِّر له سلوك الأطفال. سيجري النظر إلى ذلك باعتباره مثالًا على أنها تعتبر الأطفال أهم منه، وأنها تضع مشاعرهم قبل مشاعره. بدا أفضل شيء يمكن عمله هو أن تستعجله، وفعلت هذا، مشجعةً إياه كي يفعل ذلك حتى عندما شتت انتباهه صوت وقع أقدام صوفي الثقيل للحظات، التي كانت تجوس في الطابق السفلي، وتفتح أحد أدراج المطبخ بصوت مرتفع.
همس في أذن إيزابيل: «ماذا دهاها بحق الرب؟» لكنها مررت يدها عليه كما لو كانت تطلب منه تحركًا أكبر وأسرع. نجح الأمر. سرعان ما سار كل شيء على ما يرام. كان يرقد على ظهره حاملًا يدها أثناء سماعهما الطفلين آتيين عبر الردهة صانعين ضوضاء مثل صوت الأبواق، جلبة مختلطة. دفعا باب غرفة أبويهما ودخلا، حاملين أمامهما الملصق الكبير المكتوب عليه قصيدة عيد الميلاد، بألوان كثيرة منمقة.
قالا معًا: «مرحبًا!» ثم انحنيا، خافضين الملصق. كانت دينيس ترتدي ملاءة، وكانت تحمل عصا ملفوفة في ورق ألومنيوم ملتصق بها في أحد طرفيها نجمة ورقية فضية، وكانت معظم قلادات، وسلاسل، وأساور، وأقراط إيزابيل معلقة أو ملتصقة بها على نحو ما. أما بيتر فكان مرتديًا بيجامته وحسب.
بدءا في إلقاء القصيدة. كان صوت دينيس مرتفعًا ودراميًّا على نحو كبير، وإن كان يشي بالسخرية من الذات. كان صوت بيتر يتقفى أثر صوتها قليلًا، بطيئًا، ومطيعًا، وساخرًا على نحو غير مؤكد:
قال بيتر مرددًا وراءها: «وها هي، ملكة الجن، تظهر.» ثم في نهاية القصيدة قالت دينيس: «حقيقةً، أنا الأم الروحية للجن لكن هذه الكلمة تشتمل على مقاطع كثيرة جدًّا.» ظلت هي وبيتر ينحنيان.
ضحك لورنس وإيزابيل وصفقا، وطلبا أن يريا ملصق عيد الميلاد من مسافة أقرب. كان ملصقًا حول القصيدة في كل موضع أشكال ومشاهد وكلمات مقصوصة بالكامل من المجلات. كان كل ذلك يُظهر أحداث العام الفائت في حياة لورنس بيتر فوجلسانج العظيم. جرت الإشارة إلى رحلة العمل إلى أستراليا من خلال كانجارو يقفز فوق صخرة آيرس، وعلبة طارد حشرات.
«بين الرحلات المثيرة»، والتعليق، «وجد لورنس بيتر العظيم وقتًا لممارسة اهتماماته الخاصة» (ظهرت في الملصق نادلة بلاي بوي بذيلها المنفوش، وكانت تقدِّم زجاجة شامبانيا كبيرة في حجمها)، «ووقتًا للاسترخاء مع عائلته الحبيبة» (كانت هناك فتاة حولاء تخرج لسانها، وكان ثمة ربة منزل تلوِّح مهددة بممسحة، وطفل صغير مغطًّى بالطين واقف على رأسه). «كان يفكر أيضًا في امتهان مهنة أخرى» (كانت تظهر في إحدى الصور خلاطة أسمنت، يقف فوقها رجل شيخ غريب الأطوار إلى حد ما). قال عدد من الحيوانات في فناء المزرعة، مرتدياتٍ قبعاتِ حفلاتٍ وممسكاتٍ ببالونات: «عيد ميلاد سعيد يا لورنس بيتر العظيم»، «من معجباتك المخلصات الكثيرة.»
قال لورنس: «هذا رائع … أرى أنكم بذلتم جهدًا كبيرًا في ذلك. أحب على وجه الخصوص ذلك الجزء المتعلق بالاهتمامات الخاصة.»
قالت دينيس: «والعائلة الحبيبة … ألم تحبهم أيضًا؟»
قال لورنس: «والعائلة الحبيبة.»
قالت دينيس: «الآن … الأم الروحية للجن مستعدة لأن تلبي لك ثلاث أمنيات.»
قال بيتر: «لن تحتاج إلى أكثر من أمنية واحدة … ليس على المرء إلا تمني أن تتحقق جميع الأمنيات الأخرى.»
قالت دينيس: «غير مسموح بهذه الأمنية … لديك ثلاث أمنيات، لكنها يجب أن تكون لثلاثة أشياء محددة. لا يمكن تمني أن تكون سعيدًا دومًا، ولا يمكن أن تتمنى أن تُلبى جميع أمنياتك.»
قال لورنس: «هذه أم روحية للجن ديكتاتورية جدًّا.» ثم تمنى أن يكون اليوم يومًا مشمسًا.
قال بيتر في اشمئزاز: «اليوم مشمس بالفعل.»
قال لورنس: «حسنًا، أتمنى أن يظل مشمسًا.» ثم تمنى أن يُكمل ست درجات سلالم أخرى، وأن يكون هناك طماطم وسجق مشوي وبيض مقلي على الإفطار.
قالت إيزابيل: «أنت محظوظ أنك تمنيت شيئًا مشويًّا … لا يزال الجزء العلوي من الموقد يعمل. أعتقد أنه سيكون كثيرًا أن نطلب من الأم الروحية للجن أن تجلب لصوفي موقدًا جديدًا.»
•••
لا بد أن الضوضاء التي صنعوها جميعًا في المطبخ أثناء تناول الإفطار جعلتهم لم يسمعوا صوت صوفي يرتفع، عند البحيرة. كانوا سيتناولون الإفطار في الشرفة الخارجية. كانت دينيس قد بسطت مفرشًا على مائدة الحديقة. جاءوا في شكل موكب، كانت دينيس تحمل صينية القهوة، وكانت إيزابيل تحمل طبق تقديم الطعام الساخن، والبيض، والسجق، والطماطم، وكان بيتر يحمل إفطاره، الذي كان عبارة عن حبوب جافة مخلوطة بالعسل. لم يكن من المفترض أن يحمل لورنس أي شيء، لكنه كان قد تناول حامل الخبز المغطى بالزبد، معتقدًا أنه إذا لم يفعل كان سيُنسى.
بمجرد خروجهم إلى الشرفة الخارجية، ظهرت صوفي أعلى الضفة، عارية. سارت مباشرةً تجاههم عبر الحشائش المجزوزة.
قالت: «حلت بي كارثة صغيرة جدًّا … عيد ميلاد سعيد، لورنس!»
كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها إيزابيل امرأة عجوزًا عارية. أدهشتها عدة أشياء. نعومة الجلد مقارنةً بحالة التغضن في وجه صوفي، وعنقها، وذراعيها، ويديها. صغر حجم الثديين. (عندما كانت ترى صوفي مرتديةً ملابسها، كانت ترى دومًا أن الثديين في نفس الحجم الكبير مثل باقي جسدها.) كانا متهدلين إلى أسفل كصرتين صغيرتين، صرتين متأرجحتين، من الصدر العريض، المنمَّش. كانت ندرة شعر العانة، ولونه، أمرًا غير متوقع أيضًا؛ لم يتحول لونه إلى الأبيض، بل ظل بنيًّا لامعًا مائلًا إلى اللون الذهبي، وكان رقيقًا جدًّا مثلما لدى فتاة صغيرة جدًّا.
كل هذه البشرة البيضاء، الممتلئة في رخاوة، جعلت إيزابيل تتذكر الماشية الفرنسية، الماشية البيضاء الملطخة بالروث، التي يراها المرء أحيانًا حاليًّا في حقول المزارعين. من نوع شاروليه.
لم تحاول صوفي بالطبع أن تخفي ثدييها بإحدى ذراعيها أو تضع إحدى يديها على عورتها. لم تمر مسرعةً أمام عائلتها. وقفت في ضوء الشمس، إحدى قدميها على درجة السلم السفلية للشرفة الخارجية — مما أوضح قليلًا هيئة جسمها العاري أمام الجميع — وقالت في هدوء: «هناك، جرى الاستيلاء على ثوب استحمامي. أيضًا سجائري وولاعتي. غاصت ولاعتي إلى قاع البحيرة.»
قال لورنس: «يا إلهي، يا أمي!»
كان قد وضع حامل الخبز المحمص بسرعة كبيرة حتى إنه سقط. نحَّى الأطباق جانبًا ليمسك بالمفرش.
قال، ملقيًا إياه إليها: «أمسكي هذا!»
لم تلتقطه صوفي. سقط فوق قدميها.
«لورنس، هذا مفرش!»
قال لورنس: «لا بأس … فقط ضعيه عليك!»
انحنت صوفي وتناولت المفرش ونظرت إليه كما لو كانت تتفحص الأشكال الموجودة عليه. ثم لفت نفسها به، ليس بدرجة متقنة ولا بسرعة كبيرة.
قالت: «شكرًا يا لورنس.» كانت قد استطاعت أن تضبط المفرش على جسدها حتى صار مفتوحًا عند أسوأ مكان ممكن. ناظرة إلى أسفل، قالت: «آمل أن يجعلك هذا أكثر سعادة.» بدأت مرة أخرى في ذكر ما حدث.
لا، حدثت إيزابيل نفسها، لا يمكن أن تكون غير واعية بما تفعل. لا بد أنها تقصد ذلك؛ لا بد أن هذه لعبة. براءة مصطنعة. تظاهر مسرحي قديم. تستعرض نقاءها، سمو أفكارها، بساطتها. العجوز المنحرفة المخادعة.
قالت إيزابيل: «دينيس، هيا أسرعي واجلبي مفرشًا آخر … هل سندع هذا الطعام يبرد؟»
كان القصد من وراء ذلك — كان قصد صوفي دومًا — أن تجعل ابنها يبدو أحمق. تجعل منه أحمق أمام زوجته وطفليه. وهو ما بدا عليه، بوقوفه في موضع أعلى من صوفي في الشرفة الخارجية، وكانت دماء الخجل تتصاعد في حرارة في عنقه، صابغةً أذنيه بلون أحمر من الخجل، وخفض صوته على نحو مصطنع ليصبح صوت تأنيب ذكوري، وإن كان صوتًا مرتعشًا. هذا ما كانت صوفي تستطيع فعله، ما ستفعله، في كل مرة تواتيها الفرصة.
قالت إيزابيل، في رد فعلها على القصة: «يا لهم من أشقياء متكبرين! … كنت أعتقد أنهم جميعًا لطفاء، وسعداء، ومستنيرون، وما إلى ذلك.»
قال لورنس: «لم يكن هذا ليحدث لو أنها ارتدت ثوب استحمام عند ذهابها للسباحة.»
•••
ثم كانت رحلة الذهاب لإحضار الكعكة، والقلق حيال إحضارها إلى المنزل دون أن تفسد، والحاجة إلى الإلحاح على دينيس حتى تحافظ عليها في وضع متزن. زيارة أخرى، منفردة، إلى متجر هاي-واي ماركت، لشراء الطماطم الناضجة التي كان لورنس يفضلها على أي شيء آخر يشتريه المرء في المتجر. كان على إيزابيل أن تُعد طعامًا يمكن طهيه على السطح العلوي من الموقد. لا بد أن يكون شيئًا يمكن طهيه أو تسخينه بسرعة عندما يعود الجميع إلى المنزل جائعين من المطار. ويجب أن يكون هذا شيئًا يحبه لورنس على وجه الخصوص، شيئًا لا تجده صوفي مبالغًا فيه أكثر مما ينبغي، شيئًا يستطيع بيتر أكله. قررت أن تطهو دجاجًا بالخمر، على الرغم من أنها لم تكن متأكدة تمامًا من أن صوفي، أو بيتر سيتناولانه. على الرغم من كل شيء، كان هذا هو يوم لورنس. قضت طوال فترة ما بعد الظهيرة تطهو، وتراقب الوقت حتى يكونوا جميعًا مستعدين للذهاب إلى المطار مبكرًا بما يكفي بحيث لا تتعرض دينيس لنوبة قلق شديدة.
حتى مع مراقبتها الوقت، تأخروا قليلًا. رد لورنس، عندما نودي عليه من أعلى درجات السلم، لكنه لم يظهر. كانت إيزابيل قد ذهبت إليه، وأخبرته أن الأمر عاجل، وأن ثمة مفاجأة لها علاقة بعيد ميلاده، وسيفسد كل شيء إذا لم يسرع، كانت هذه مفاجأة دينيس الخاصة، بالإضافة إلى ذلك، وكان قد بدأت تنتابها إحدى الحالات النفسية. حتى بعد ذلك، بدا أن لورنس لم يسرع عن عمد، واستغرق وقتًا أكثر من المعتاد في الاغتسال وتبديل ملابسه. لم يوافق على بذل جهد أكبر للحيلولة دون إصابة دينيس بإحدى الحالات التي تنتابها.
لكنهم كانوا قد جاءوا هنا، وصعدوا جميعًا، باستثناء إيزابيل، إلى الطائرة. لم تكن هذه هي الخطة. كانت الخطة أن يذهبوا جميعًا إلى المطار، ويشاهدوا لورنس أثناء نزع عصابة عينيه ودهشته، ومشاهدته يركب الطائرة في يوم عيد ميلاده، وتحيته عندما يعود هابطًا من الطائرة.
لكن الطيار قال، بعد أن خرج من المنزل الصغير الذي كان بمنزلة مكتبه، ورآهم جميعًا موجودين: «ما رأيكم في اصطحاب العائلة كلها في الطائرة؟ سنركب الطائرة ذات المقاعد الخمسة؛ ستكون رحلة أفضل.» ابتسم لدينيس. «لن أطلب منك دفع أموال إضافية. نحن في نهاية اليوم.»
قالت دينيس على الفور: «هذا لطف بالغ منك.»
قال الطيار، متطلعًا إليهم: «إذن … سيركب الجميع باستثناء شخص واحد.»
قالت إيزابيل: «من الممكن أن يكون أنا.»
قال الطيار، محولًا بصره إليها: «آمل أنك لا تخافين … لا يوجد ما يدعوك إلى ذلك.»
كان رجلًا في الأربعينيات من عمره — ربما كان في الخمسين — ذا موجات من الشعر الأشقر أو الأبيض، ربما شعر أشقر حائل إلى الأبيض، ممشط في استقامة إلى الوراء من عند الجبهة. لم يكن طويلًا، مثل لورنس، لكن كانت له كتفان ثقيلتان، وصدر وخصر ممتلئان، وكان هناك امتلاء بسيط صلب في بطنه، لم يكن متدليًا، فوق حزامه. كان يملك جبهة منحنية، مرتفعة، وعينين زرقاوين براقتين بهما حول عادي، ونظرة مهنية هادئة، وحس دعابة. تلك الصفة نفسها في صوته؛ الصوت الفكه، المتمهل، الريفي الساذج قليلًا. كانت تعرف ما سيقوله لورنس عن هذا الرجل؛ إنه شخص عالي القيمة. غير منتبه إلى أي شيء آخر؛ شيء حذر تحت السطح، شيء غير مكترث أو حتى مزدرٍ لهم، شديد الثقة في ذاته.
قال الطيار مخاطبًا صوفي: «لست خائفة، أليس كذلك، سيدتي؟»
قالت صوفي: «لم أستقل قط طائرة صغيرة … لكنني لا أظن أنني خائفة، لا.»
قال لورنس: «لم يستقل أيٌّ منا طائرة صغيرة. سيكون في ذلك متعة عظيمة … شكرًا.»
قالت إيزابيل: «سأجلس هنا وحدي، إذن»، وضحك لورنس.
«إن جلوس زوجتي بمفردها متعتها الكبرى.»
إذا كان الأمر كذلك — وربما يكون كذلك حقيقةً؛ لأنها لم تكن خائفة، أو ربما كانت خائفة على نحو غامض، لكنها كانت مستمتعة جدًّا بفكرة تركها وحدها — لما كان هذا بالتأكيد في صالحها. جلست هنا ورأت يومها في صورة صعوبات جرى تخطيها؛ الدجاج بالخمر معد خلف الموقد، والكعكة التي وصلت المنزل بسلام، والخمر والطماطم اللذان جرى شراؤهما، وعيد الميلاد الذي يسير حتى الآن دون أي أخطاء حقيقية أو صدامات أو إحباطات. لم يتبقَّ سوى العودة إلى المنزل، العشاء. ثم غدًا سيذهب لورنس إلى أوتاوا ويظل هناك طوال اليوم، ثم يعود في المساء. كان من المفترض أن يكون موجودًا معهم يوم الأربعاء لمشاهدة لحظات أول هبوط على القمر.
ليس في صالحها كثيرًا أن تمضي في حياتها تفكر؛ حسنًا، جميل، انتهى الأمر الآن، انتهى ذلك. إلام كانت تتطلع؟ وأي مكافأة كانت تأمل في أن تحصل عليها، عندما ينتهي هذا، وهذا، وهذا؟
الحرية؛ أو ليست حتى الحرية. الفراغ، انقضاء الانتباه. بدا طول الوقت أن عليها أن تقدم أكثر قليلًا — من ناحية الانتباه والحماس واليقظة — مما كانت تشعر أنها تستطيع. كانت تجاهد، آملةً ألا يكتشف أحد طبيعتها. يكتشف أنها باردة وقاسية القلب مثل تلك النوردية القديمة، صوفي.
في بعض الأحيان كانت تعتقد أنه أُتي بها إلى المنزل، في المقام الأول، كنوع من التحدي المعقد لصوفي. كان لورنس يحبها منذ البداية، لكن حبه كان له علاقة بالتحدي. كانت ثمة أشياء متناقضة جدًّا بها؛ مظهرها اللافت غير المحتشم، وأسلوبها الفظ غير المهذب (لم تكن تمتلك أدنى فكرة في ذلك الوقت إلى أي درجة هي لافتة للانتباه وغير محتشمة، ويتسم سلوكها بالفظاظة وعدم التهذيب)، درجاتها المرتفعة واعتمادها الساذج عليها باعتبارها دليلًا على الذكاء؛ كل هذه الدلائل على كونها أذكى طالبة من مدرسة ثانوية لأبناء الطبقة العاملة، فخر عائلة غير طموحة.
قال لورنس مخاطبًا صوفي في وجود إيزابيل: «ليست هذه الكلية المفضلة لديك، أليس كذلك يا أمي؟» قُيد في الكلية الوحيدة بالجامعة التي كانت صوفي تكرهها، وهي كلية إدارة الأعمال.
لم تقل صوفي شيئًا، لكنها ابتسمت مباشرةً في وجه إيزابيل. لم تكن الابتسامة غير ودودة، ولم تكن باعثة على الازدراء من لورنس — بدت صبورة — لكنها كانت تشي في وضوح قائلةً: «هل أنت مستعد، هل مستعد للاستمرار في هذا؟» فهمت إيزابيل، التي كانت تصب تركيزها آنذاك على إعجابها بمظهر لورنس الطيب وذكائه وعقله وخبرته المأمولة في الحياة، ما كان يعنيه هذا. كان هذا يعني أن لورنس الذي كانت قد كرست نفسها لحبه (إذ إنها، على الرغم من مظهرها وأسلوبها، كانت فتاة جادة، لا تجربة لها، تعتقد في الحب الذي يدوم مدى الحياة ولم تستطع أن تتصور أن تدخل في علاقة على أي أساس آخر) يجب دعمه، ودفعه للأمام، من خلال الجهود المبذولة المستمرة والحاذقة من جانبها، من خلال إعادة الثقة والإدارة الجيدة؛ كان يعتمد عليها في أن تجعل منه رجلًا. لم يعجبها أن تلفت صوفي انتباهها لهذا، ولم تدع ذلك يؤثر بأي حال من الأحوال على قرارها. هذا هو ما كان طبيعة الحب، أو ما كانت طبيعة الحياة، وكانت تريد أن تشرع في هذا. كانت وحيدة، على الرغم من أنها كانت تظن نفسها منعزلة. كانت الطفلة الوحيدة في زواج أمها الثاني؛ كانت أمها ميتة، وكان إخوتها وأخواتها غير الأشقاء أكبر كثيرًا منها، ومتزوجين. كانت سمعة تحوطها في العائلة ظانين أنها مميزة. لا تزال لها هذه السمعة، ومنذ زواجها بلورنس نادرًا ما كانت ترى أقاربها.
قرأت كثيرًا، وكانت تخضع لنظم غذائية وتمارس تمارين رياضية في جدية شديدة، وصارت طاهية ماهرة. في الحفلات، كانت تداعب الرجال الذين لم يكونوا يطاردونها في إصرار. (لاحظت أن لورنس كان يشعر بالإحباط إذا لم تثر زوبعة بسيطة.) في بعض الأحيان، كانت تتخيل نفسها مُسيطَرًا عليها من قبل هؤلاء الرجال أو آخرين، طرفًا في علاقات غاية في الاندفاع، والابتكار، والحيوية. في بعض الأحيان كانت تتذكر طفولتها في توق بدا شاذًّا، وكان يجب الإبقاء على ذلك سرًّا. ربما تذكرها مظلة مرتخية أمام متجر على ناصية شارع، رائحة وجبات الغذاء الثقيلة على المعدة التي يجري طهيها في فترة ما بعد الظهيرة، القمامة المتناثرة والأرض العارية حول جذور شجرة ظل كبيرة في المدينة.
•••
عندما هبطت الطائرة، نهضت وذهبت للقائهم، وقبلت لورنس كما لو كان قد عاد من سفر. بدا سعيدًا. حدثت نفسها بأنها نادرًا ما كانت تشغل بالها بسعادة لورنس. كانت تريد أن يكون في مزاج طيب، بحيث تسير الأمور في سلاسة، لكن ذلك لم يكن الأمر نفسه.
قال لورنس: «كانت تجربة رائعة … كان يمكن رؤية تغير المناظر الطبيعية في وضوح بالغ.» بدأ يحكي لها عن البحيرة المتلألئة.
قالت صوفي: «كان الأمر في غاية المتعة.»
قالت دينيس: «كان المرء يستطيع النظر إلى أعماق المياه. كان المرء يستطيع رؤية الصخور وقد تضاءل حجمها. كان بالإمكان حتى رؤية الرمال.»
قال بيتر: «كان بالإمكان تحديد نوع القوارب.»
«أعني ذلك يا أمي. كان بالإمكان رؤية الصخور وهي تتضاءل، أكثر فأكثر، ثم الرمال.»
قالت إيزابيل: «هل رأيتم أي أسماك؟»
ضحك الطيار، على الرغم من أنه ربما سمع ذلك كثيرًا من قبل.
قال لورنس: «إنه لأمر سيئ للغاية حقًّا أنك لم تطيري معنا.»
قال الطيار: «أوه، ستفعل، يومًا ما … يمكن أن تأتي إلى هنا غدًا.»
ضحكوا جميعًا على إغاظته. التقت عيناه الجريئتان بعيني إيزابيل، وبدتا على الرغم من جرأتهما في منتهى البراءة، والود، واللطف. لم يكن الاحترام غائبًا. كان رجلًا لم يكن يقصد أي أذى بالتأكيد، لا يقصد أي حماقة. لذا، كان من المستبعد أنه كان يدعوها حقًّا للذهاب إلى هناك في اليوم التالي.
ودَّعهم آنذاك، جميعًا، وشكروه مرة أخرى. كانت إيزابيل تظن أنها كانت تعلم ماذا شتت انتباهها. كانت قصة صوفي. كانت فكرة خروجها هي، لا صوفي، عارية من الماء تجاه هذين الصبيين المتراقصين. (في عقلها، كانت قد استبعدت بالفعل الفتاة.) جعلها هذا تتشوق وتتخيل بعض الاندفاع، ودعوات فجة. كانت قد شعرت بالإثارة جراء ذلك.
عندما كانوا يسيرون تجاه السيارة، كان عليها أن تبذل جهدًا حتى لا تستدير. تصورت أنهما استدارا في الوقت نفسه، ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر، مثلما في الأفلام الرومانسية، قصة أوبرالية، قصة خيالية لمن هم في المدرسة الثانوية. استدارا في الوقت نفسه، ونظر كل منهما إلى الآخر، وتبادلا وعدًا باللقاء لم يكن أقل واقعية على الرغم من أنهما قد لا يلتقيان أبدًا مرة أخرى. صدمها الوعد مثل البرق، قصمها مثل البرق، على الرغم من أنها تحركت في خفة، في سلام تام.
أوه، بالتأكيد. كل ذلك.
لكن، الأمر لا يشبه البرق، لا يشبه الأمر عاصفة من الخارج. نحن نتظاهر فقط أن الأمر كذلك.
قالت صوفي: «هل يمانع أحدكم في القيادة؟ … أنا متعبة.»
•••
في ذلك المساء، كانت إيزابيل معتنية بسخاء بلورنس، بأطفالها، بصوفي، التي لم تكن في حاجة إلى ذلك على الإطلاق. شعروا جميعًا بسعادتها. شعروا كما لو أن حائلًا غير مرئي، معتادًا قد زال، كما لو أن ستارة شفافة قد نحيت جانبًا. أو ربما أنهم تصوروا وجودها طوال الوقت. نسي لورنس أن يتذاكى على دينيس، أو أن يعاملها كغريم. لم يهتم حتى بالصراع مع صوفي. لم يجر ذكر التليفزيون.
قال لإيزابيل على العشاء: «رأينا محجر السيليكا من الهواء … كان يشبه حقلًا ثلجيًّا.»
قالت صوفي، مقتبسة: «رخام أبيض … أشياء غير حقيقية. وضعوها في جميع ممرات متنزه أوبريفيل، أفسدوا المتنزه. إنها تلمع.»
قالت إيزابيل: «هل تعرفين أننا كانت لدينا «الكومة البيضاء»؟ كانت المدرسة التي كنت أذهب إليها خلف مصنع البسكويت، وكان ملعب المدرسة في ظهر أرض المصنع. من حين لآخر، كانوا يجمعون بقايا مواد تزيين الحلوى المصنوعة من الفانيليا، والجوز، وكرات المارشملو المتصلبة، وكانوا يأتون بها في براميل، ويلقون بها هناك، وكانت تلمع. كانت تلمع مثل جبل أبيض صافٍ. في المدرسة، كان أحدهم يراه ويصيح قائلًا: «الكومة البيضاء!» وبعد المدرسة كنا نتسلق السور أو نجري حوله. كنا نذهب جميعًا إلى هناك، نفتش في تلك الكومة الهائلة من الحلوى البيضاء.»
قال بيتر: «هل كانوا يكنسون تلك النفايات من الأرضية؟» كان يبدو متحمسًا جدًّا للفكرة. «هل كنتم تأكلون ذلك؟»
قالت دينيس: «بالطبع كانوا يفعلون … كان هذا هو ما كان متاحًا لهم. كانوا أطفالًا فقراء.»
قالت إيزابيل: «لا، لا، لا … كنا فقراء لكن كانت لدينا حلوى بالتأكيد. كنا نحصل على نكلة من حين إلى آخر لنشتري حلوى من المتجر. لم يكن الأمر هكذا. كان ثمة شيء حيال الكومة البيضاء؛ كانت كبيرة، وكانت في غاية البياض واللمعان. كانت مثل حلم طفل؛ الشيء الأكثر وعدًا مما يمكن أن يراه المرء.»
قال لورنس: «كانت أمي والاشتراكيون سيتخلصون من هذا كله في ظلمة الليل … ويعطونكم برتقالًا بدلًا منه.»
قالت صوفي: «إذا كنا نتحدث عن حلوى المرزبان، فسأفهم الأمر … على الرغم من أنك يجب أن تقري أن تلك الأشياء لم تكن صحية تمامًا.»
قالت إيزابيل: «لا بد أن الأمر كان مريعًا … بالنسبة إلى أسناننا، وكل شيء. لكننا لم نتناول ما يكفي حتى نمرض؛ لأننا كنا كثيرين جدًّا، وكان علينا أن نفتش في كومة النفايات بشدة حتى نحصل على ما نريد. بدا الأمر أكثر الأشياء روعة.»
قال لورنس: «الكومة البيضاء!» لورنس الذي، في وقت آخر، ربما كان سيقول شيئًا من قبيل: «متع الفقراء البسيطة!» قال، بمزيج من السرور والسخرية، في تقدير طبيعي بدا ما كانت تريده إيزابيل تمامًا: «الكومة البيضاء.»
كان يجب ألا تندهش. كانت تعلم رقة ولطف لورنس، فضلًا عن تنمره وخداعه. كانت تعرف تقلبات عقله، تحولات قلبه، التغيرات وأصوات الضوضاء البسيطة في جسده. كانا متقاربين. كانا قد اكتشف كل واحد منهما الكثير عن الآخر حتى إن شيئًا كان يجبُّه شيء آخر. لهذا السبب كان الجنس بينهما يبدو خجولًا، شهوانيًّا محضًا، وكأنه جنس محرم بين شقيقين. يستطيع الحب تخطي ذلك؛ وقد تخطاه بالفعل. انظر كيف كانت تحبه في هذه اللحظة. شعرت إيزابيل بنفسها واسعة الحيلة على نحو جديد، وغير محدود.
•••
لو كانت زوجته هناك، لو كان هو وزوجته موجودين معًا، كانت ربما ستقول: «أعتقد أننا نسينا شيئًا أمس هنا. تعتقد حماتي أن علبة نظارتها قد سقطت منها هنا. لم تسقط نظارتها، فقط العلبة. الأمر لا يهم. كنت سأتأكد فقط.»
لو كان وحده وجاء نحوها ترتسم في عينيه نظرة سارة عادية متسائلة، فربما كانت ستحتاج إلى سبب أقل تفاهة.
«كنت أريد فقط أن أسأل عن دروس الطيران. كان زوجي يريدني أن أسأل عن ذلك.»
لو كان هناك وحده ولم تكن ترتسم نظرة عادية كهذه — لكن كان لا يزال ضروريًّا أن يُقال شيء — فربما كانت ستقول: «كان في غاية اللطف منك اصطحاب الجميع في الطائرة أمس واستمتعوا بذلك كثيرًا. مررت عليك فقط لأشكرك.»
لم تستطع تصديق ذلك؛ لم تكن تستطيع تصديق أن ذلك سيحدث. على الرغم من قراءاتها، وخيالاتها، وأسرار بعض الأصدقاء، لم تكن تستطيع تصديق أن الناس يرسلون ويتلقون مثل هذه الرسائل يوميًّا، وكانوا يتصرفون بناءً عليها، واضعين خططهم المحفوفة بالمخاطر، ومنتقلين إلى منطقة محظورة (التي سيتضح على نحو صادم أنها تشبه، وفي الوقت ذاته لا تشبه، منزل الشخص).
في السنوات التالية، ستتعلم قراءة الإشارات، في بداية ونهاية أي علاقة حب. لن تندهش كثيرًا عندما تنكشف خفايا اللحظة الراهنة. لكنها ستندهش كثيرًا إذا قالت ذات يوم لابنتها البالغة دينيس، أثناء تناولهما الخمر وحديثهما عن هذه الأشياء: «أعتقد أن الجزء الأفضل يكون في البداية دومًا. في البداية. هذا هو الجزء الوحيد الخالص … ربما حتى قبل البداية. ربما عندما يلوح في الخلد ما هو ممكن. ربما يكون هذا هو أفضل جزء.»
«وعلاقة الحب الأولى؟ أعني علاقة الحب الأولى الإضافية؟» (كانت ستقول دينيس ذلك متجاوزةً كل الحدود.) «هل هي الأفضل أيضًا؟»
«بالنسبة إليَّ، الأكثر عاطفة، وأيضًا الأكثر دناءة.»
(مشيرةً إلى أن عمل الطيار كان في طريقه إلى الانهيار، إلى أن الطيار طلب، وتلقى، بعض المال منها، وأيضًا إلى المشاهد المحزنة لبوحها بالأمر لزوجها الذي وضع نهايةً للعلاقة ولزواجها، على الرغم من أن ذلك لم يؤدِّ إلى تدمير زواج الطيار. ومشيرةً، أيضًا، إلى مشاهد لذة الانفصال والاندماج التي كانت تفضي إلى انهيار كلا الطرفين، وفي بعض الحالات، ذرف الدموع. وإلى هذا المشهد الأول تحديدًا، الذي كانت تستطيع استحضاره في عقلها في أي وقت، مسترجعةً مشاعر مختلطة على نحو مدهش من الذعر والسكينة.
المطار في حوالي الساعة التاسعة صباحًا تقريبًا، الصمت، ضوء الشمس، الأشجار القصية المتربة. المنزل الأبيض الصغير الذي من الواضح أنه جرى نقله إلى هنا من مكان ما ليصبح مكتبًا. لا توجد ستائر أو حواجز على نوافذه. فقط سياج خشبي، تحديدًا بوابة. خرج وفتح البوابة لها. كان يرتدي الملابس نفسها التي كان يرتديها في اليوم السابق، بنطال عمل فاتح اللون، وقميص عمل ذا أكمام مشمرة. كانت ترتدي الملابس نفسها التي كانت ترتديها. لم يسمع كلاهما ما قاله الآخر، ولم يستطيعا الرد على نحو منطقي.
كان وجود أي علامة على الاعتياد أكثر مما ينبغي من جانبه، أو أي علامة على الحذر — بل والأسوأ من ذلك، على الانتصار — كان سيجعلها تبتعد عنه. لكنه لم يرتكب خطأ كهذا، ربما لم يغتر بعمل ذلك. لا يُعد الرجال الذين يقيمون علاقات ناجحة مع النساء — وقد كان بارعًا في ذلك حيث اكتشفت أنه نجح بضع مرات في إقامة علاقات مع نساء من قبل، في ظروف مشابهة جدًّا — لا يُعد الرجال الموهوبون على هذا النحو مستهترين حيال هذا الأمر مثلما يُعتقد أنهم كذلك، وليسوا قاسين. كان عازمًا لكنه بدا رصينًا، أو حتى آسفًا، عندما لمسها للمرة الأولى؛ لمسة مهدئة، مقدَّرة — مجاهرة متزايدة ببطء — فوق عنقها وكتفيها العاريتين، وظهرها وذراعيها العاريتين، ثدييها وردفيها المغطاة بملابس خفيفة. تحدث إليها — ثرثرة حميمة، جادة — بينما كانت تتمايل إلى الخلف والأمام في استجابة جعلتها هذه اللمسة أمرًا محتملًا.
شعرت بأنها أُنقذت، رُفعت، أُحيط بها، وصارت آمنة.)
•••
بعد العشاء، لعبوا لعبة تخمين الكلمات. كان بيتر يمثل شخصية كوكبة الجوزاء. مثَّل المقطع الثاني عن طريق تناول شراب من كأس خيالية، ثم ترنح وسقط. لم يُستبعد من اللعبة، على الرغم من أن الاتفاق جرى على أن كوكبة الجوزاء اسم علم وليس كلمة عادية.
قالت دينيس: «الفضاء هو عالم بيتر.» ضحك لورنس وإيزابيل. كانت هذه الملاحظة تذكر من حين إلى آخر في المنزل.
•••
سرعان ما تخلت صوفي، التي لم تفهم قط قواعد لعبة تخمين الكلمات — أو، على الأقل، لم تستطع الالتزام بها — عن دورها في اللعبة، وبدأت في القراءة. كان الكتاب الذي تقرأ فيه يحمل عنوان «مجموعة إيدا الشعرية»، الذي كانت تقرؤه كل صيف، لكنها كانت قد أهملته بسبب برامج التليفزيون الكثيرة التي كانت تتابعها. عندما توجهت إلى الفراش، تركته على ذراع مقعدها.
قرأت إيزابيل، التي تناولت الكتاب قبل أن تطفئ النور، هذا البيت: