جسي وميريبيث
في المدرسة الثانوية، كانت تجمعني علاقة صداقة رقيقة، وفية، مملة بفتاة اسمها ماريبيث كروكر. استسلمتُ تمامًا لتلك الصداقة وأخلصتُ لها جدًّا، مثلما كنت أستسلم للمياه الدافئة، الضحلة، العكرة نسبيًّا في نهر ميتلاند في الصيف، عندما كنت أرقد على ظهري، وأحرك فقط يديَّ وقدميَّ، وأدع نفسي أُحمل في التيار.
بدأت هذه الصداقة ذات يوم خلال حصة الموسيقى، عندما لم يكن ثمة كتب أغانٍ كافية وطُلب منا أن نقسم أنفسنا إلى أزواج لنتشارك الكتب المتاحة؛ بالطبع مع مراعاة أن يكون الصبية مع الصبية، والفتيات مع الفتيات. كنت أبحث حولي عن فتاة لم تكن لديها صديقة تجالسها، ووجدت ماريبيث وقد جاءت وجلست بالمقعد الذي بجانبي. كانت جديدة في المدرسة آنذاك؛ وكانت قد أتت لتعيش مع أختها بياتريس، التي كانت تعمل ممرضة في المستشفى المحلي. كانت أمهما ميتة، وكان أبوهما قد تزوج مرة أخرى.
كانت ماريبيث فتاة قصيرة، ممتلئة قليلًا لكن قوامها كان رشيقًا، ذات عينين كبيرتين يتراوح لونهما بين البندقي المخضر والبني الداكن، وبشرة داكنة قليلًا خالية تمامًا من البثور أو النمش، وفم جميل يرتسم عليه عادة تعبير حيرة واستياء، كما لو كانت تستحضر ألمًا خفيًّا. كنت أستطيع شم رائحة الصابون الزهري الذي كانت تغتسل به. كان طِيبُ الرائحة يتخلل طبقات الغبار والمطهر والعرق، وروائح المدرسة القديمة؛ الملل الحالم، والقلق الساكن. شعرت بالدهشة، بل ربما بالرعب، عندما اختارتني تلك الفتاة. لأسابيع بعدها، كنت أستيقظ في الصباح وأنا سعيدة ولا أعرف السبب. ثم كنت أتذكر هذه اللحظة.
أنا وماريبيث كنا نتحدث عادة عن الأمر. قالت إن قلبها كان يخفق بقوة عند انسلالها في خفة إلى مقعدي، لكنها حدثت نفسها بأنها إما أن تفعل ذلك في ذلك الوقت أو لا تفعل على الإطلاق.
في الكتب التي كنت قد قرأتها خلال طفولتي، كانت الفتيات يرتبط بعضهن ببعض في صداقات تتكون بسرعة، وتستمر في إخلاص رائع. كن يعدن ألا تفشي إحداهن سر الأخرى أو تخفي أي شيء عنها، أو تكوِّن صداقة عميقة ودائمة مع فتاة أخرى. لم يكن الزواج يحدث أي فارق في تلك الصداقات. كن يكبرن ويقعن في الحب ويتزوجن، لكنهن كن يظللن في قلوب بعضهن يحتللن أعلى مكانة. كن يسمين بناتهن بأسماء بعضهن، وكن على استعداد للعناية بعضهن ببعض خلال فترات الإصابة بالأمراض المعدية أو للحنث باليمين في المحاكم من أجل خاطر بعضهن. كان هذا هو الميثاق المهيب للإخلاص، العلاقة العاطفية المعلنة التي أحتاج إليها الآن، أو أظنها ملائمة، والتي فرضتها على ماريبيث. أقسمنا على إخلاص كلٍّ منا للأخرى ووعدنا بأن نفعل ذلك، وأن تكون كلٌّ منا محل ثقة الأخرى. كانت على قدر المسئولية؛ فقد كانت طبيعتها رقيقة. كانت تفضل أن تحتضنني وتشبك يدها في يدي عندما كانت تفكر في شيء حزين أو مخيف.
في ذلك الخريف الأول سرنا خارج البلدة بحذاء خطوط السكك الحديدية وأخبرت كلٌّ منا الأخرى عن جميع الأمراض أو الحوادث التي مرت بها في حياتها، وعن الأشياء التي تخاف منها، وعن الألوان، والجواهر، والزهور، ونجوم السينما، وأصناف الحلويات، والمشروبات، ونكهات الآيس كريم المفضلة لديها. حددنا عدد الأطفال الذين سننجبهم ونوعهم، وماذا ستكون أسماؤهم. تحدثنا أيضًا عن لون شعر وعيون زوجينا وماذا نحب أن يعملا. كانت ماريبيث خائفة من الأبقار في الحقول، والثعابين المختفية ربما بين خطوط السكك الحديدية. ملأنا يدينا بالحرير من أغلفة نباتات الصقلاب المفتوحة، أكثر الأشياء نعومة على الإطلاق على وجه الأرض، ثم تركناه لينسدل على الحشائش الجافة الأخرى، كقطع من الثلج أو الزهور.
قلت لماريبيث: «هذا ما تُصنع منه المظلات في الحرب.» لم يكن هذا صحيحًا، لكنني كنت أعتقد هذا.
في بعض الأحيان، كنا نذهب إلى المنزل حيث كانت ماريبيث تعيش في حجرة مشتركة مع بياتريس. كنا نجلس في الشرفة الخارجية نحيك أو نصعد إلى غرفتهما. كان المنزل كبيرًا، بسيطًا، مطليًّا باللون الأصفر، وكانت تبدو علامات الإهمال عليه. كان يقع في شارع متفرع من الشارع الرئيسي. كان مالكا المنزل رجلًا كفيفًا وزوجته، وكانت لديهما حجرتان في الجزء الخلفي من المنزل. كان الرجل الكفيف يجلس ويقشِّر البطاطس لزوجته، أو كان يحيك بعض مناديل المائدة ومفارش التسريحات التي كانت تذهب بها إلى المتاجر في البلدة وتحاول أن تبيعها.
ربما تتحدى الفتيات في المنزل بعضهن في النزول إلى الأسفل والتحدث إلى الرجل الكفيف عندما تكون زوجته في الخارج. كن يتحدين بعضهن في أن ينزلن إلى أسفل مرتديات حمالات الصدر والسراويل الداخلية فقط، أو لا شيء على الإطلاق. كان يبدو أنه يعرف أي نوع من الألعاب كن يمارسن. كان يقول: «هيا تعالي هنا … اقتربي، لا أستطيع سماعك.» أو كان يقول: «هيا تعالي ودعيني ألمس ثوبك. دعيني أرَ هل كنت أستطيع معرفة لونه.»
لم تكن ماريبيث لتلعب تلك اللعبة؛ كانت تكره حتى أن تسمع بها. كانت تعتقد أن بعض الفتيات كن مثيرات للغثيان.
كانت الفتيات اللائي يعشن معها في حالة شجار دائم. كن يتشاجرن، ويشكِّلن تحالفات، ويمْررن بنوبات لا يتبادلن الحديث فيها مع بعضهن البعض. ذات مرة، انتزعت فتاة كتلة من الشعر من رأس فتاة أخرى لاختلافهن حول طلاء أظافر.
«يجب أن تجف السترات في غرفة صاحبتها؛ نظرًا للرائحة العفنة التي تفوح منها مع جفاف الصوف. عناية، إيه إم وإس دي.»
«إلى من يهمه الأمر، شممت رائحة عطري «إيفينينج إن باريس» تفوح منك، وأنا لا أشعر بالرضا عن ذلك. يمكنك أن تشتري زجاجة خاصة بك. تحياتي، بي بي.»
كانت الأشياء تغسل دومًا: الجوارب، وحمالات الصدر، وأربطة الجوارب الطويلة، والسترات، وبالطبع، الشعر. لا يمكن أن يتحرك المرء في الحمام دون أن يضرب وجهه شيء.
كان الطهو يجري على موقد تسخين. كانت الفتيات اللائي يدخرن المال لشراء أشياء لجهاز زواجهن، أو للانتقال إلى المدينة، يطهون وجبات كرافت سريعة التحضير. كانت فتيات أخريات يشترين أطعمة جاهزة رائحتها شهية من المطعم الموجود على الناصية؛ بطاطس مقلية، شطائر هامبورجر، شطائر هوت دوج ضخمة، كعكًا محلى. كانت الفتيات اللائي يتبعن نظامًا غذائيًّا يلقين بالسباب ويغلقن أبوابهن بعنف عند صعود هذه الروائح إلى أعلى.
من وقت إلى آخر كانت بياتريس، أخت ماريبيث، تتبع نظامًا غذائيًّا. كانت تشرب الخل حتى تفقد شهيتها. كانت تشرب الجليسرين لتقوية أظافرها.
قالت ماريبيث: «تريد أن يكون لها صديق؛ يشعرني هذا بالغثيان.»
عندما كانت ماريبيث وبياتريس صديقتين، كانت كلٌّ منهما تقترض ملابس الأخرى دون استئذان، كانتا تتحاضنان في الفراش، وكانت كل واحدة منهما تخبر الأخرى كيف كان شعرها يبدو من الخلف. عندما تخاصمتا، توقفتا عن الحديث فيما بينهما. في ذلك الوقت كانت ماريبيث تطهو حلوى عبارة عن خليط من السكر البني، والزبد، وجوز الهند، على موقد التسخين، وتلوِّح بالقدر النافذ الرائحة تحت أنف بياتريس قبل أن نبدأ أنا وهي في تناوله بالملاعق. أو كانت تذهب إلى المتجر وتشتري كيسًا من حلوى المارشملو، التي كانت تزعم أنها حلوى بياتريس المفضلة. كان الهدف أن تأكل هذه الأشياء أمامها. لم أكن أحب أن أتناول حلوى المارشملو دون تجهيز — كان قوامها المنتفخ الهش يثير اشمئزازي قليلًا — لكن كانت ماريبيث تقذف بقطعة منها في فمها وتحتفظ بها هناك مثل قطعة فلين، مادَّةً وجهَهَا أمام وجه بياتريس لإغاظتها. لا أعرف تمامًا كيف أتصرف في تلك الأوقات؛ لذلك، كنت أقلِّب في الأشياء في خزانة الملابس.
لم يكن والد ماريبيث يرغب في أن تعيش معه، إلا أنه كان يعطيها أموالًا كثيرة لشراء الملابس. كان لديها معطف شتوي داكن الزرقة ذو ياقة من الفرو كنت أظنه معطفًا فاخرًا. كانت لديها العديد من البلوزات ذات الأربطة، التي كانت موضة تلك الأيام؛ بألوان: قرنفلي، وأصفر، وموف، وأزرق سماوي، وليموني. ومجموعة من الأساور الفضية الرائعة. أتذكر تنورتين مكشكشتين، إحداهما باللونين الأزرق الداكن والأبيض، والأخرى باللونين الفيروزي والأحمر الكرزي. كنت أنظر إلى جميع هذه الأشياء بعين الإعجاب أكثر من عين الحسد. كنت أدلي الأساور الثقيلة بين أصابعي، وأتفحص علب البودرة الفاخرة وملاقط الحواجب. لم يكن مسموحًا لي أن أنتزع الشعر من حاجبيَّ، وكان عليَّ أن أضع المكياج في الحمام في مقر مجلس البلدة في الطريق إلى المدرسة. خلال العام الدراسي، كنت أعيش في البلدة مع عمتي إنا، التي كانت متشددة. كل ما كان لدي كبودرة تجميل هو إسفنجة من الفلانيلة، مظهرها غاية في البؤس. إلى جانب ماريبيث، كنت أشعر، كما لو كنت قطعة عمل خام، برجليَّ القويتين وصدري الضخم؛ خام، ومتعرقة، ولا أرتدي ملابس جيدة، لا أثير الانتباه، ممتنة. وفي الوقت نفسه، على نحو طبيعي، وغير منطوق، وعفوي — لم أكن أستطيع التحدث أو التفكير في الأمر — كنت أرقى منها.
بعد إجازات الصيف، التي كانت تقضيها مع أبيها وزوجة أبيها في تورونتو، قالت ماريبيث إننا يجب ألا نسير مرة أخرى على قضبان السكة الحديدية؛ إذ إن ذلك قد يجلب لنا سمعة سيئة. قالت إن الموضة الجديدة ارتداء وشاح فوق الرأس، حتى في الأيام المشمسة، وجلبت عدة قطع قماش شفافة لهذا الغرض. أشارت عليَّ أن أختار من بينها، فاخترت القطعة القرنفلية المائلة إلى الاحمرار، فصاحت في إعجاب: «أوه، هذه هي أجملها!» لذا، حاولت أن أعيدها إليها. تبادلنا حديثًا مجاملًا، ثم انتهى بي المطاف بالاحتفاظ بالقطعة التي اخترتها.
أخبرتني عن الأشياء المعروضة في متجرَي إيتونز وسيمبسونز، وكيف أن كعب حذائها كاد يعلق في أحد المصاعد، وعن بعض الأشياء غير اللطيفة التي قالتها لها زوجة أبيها، وقصص الأفلام التي شاهدتها. كانت قد تجولت كثيرًا في المعرض الوطني الكندي ما جعلها تشعر بالغثيان، واقترب منها رجل في عربة ترام، كان يرتدي حُلة رمادية وقبعة رمادية، وعرض عليها أن يصطحبها إلى حديقة حيوان ريفرديل.
في بعض الأحيان الآن، أشعر أن نفسي كانت تنسل مني حين كانت ماريبيث تتحدث. أشعر بأن أفكاري تشرد مني مثلما كان يحدث في المدرسة أثناء شرح مسألة رياضية، أو عند بداية الصلاة الطويلة قبل الموعظة في الكنيسة. لم يكن الأمر أنني كنت أريد أن أكون في مكان آخر، أو حتى أبقى وحدي. كنت أفهم أن الصداقة هكذا تكون.
كنا قد قررنا تغيير هجاء اسمينا. أصبح هجاء اسمي جسي بدلًا من جيسي، واسمها ميريبيث بدلًا من ماريبيث. وقعنا باستخدام هذه الأسماء على أوراق الاختبار في المدرسة.
لوَّحت المُدرسة بورقتي في الهواء. قالت: «لا أستطيع أن أمنح درجة لهذا الشخص؛ لأنني لا أعرف من هو. من هذا الذي يدُعى جسي؟» تهجت الاسم بصوت مرتفع. «هذا اسم صبي. هل يعرف أحد هنا صبيًّا اسمه جسي؟»
لم تقل كلمة واحدة عن اسم ميريبيث. والأسباب واضحة؛ كانت ماريبيث مفضلة لدى الجميع، بالنظر إلى مظهرها، وملابسها، ووضعها الغريب، فضلًا عن صوتها الناعم، الجذاب، وأسلوبها المهذب. كانت الفتيات الفظَّات والمدرسات الناقدات يحبونها. كان الصبية أيضًا، بالطبع، منبهرين بها، لكنها قالت إن أختها لن تسمح لها بالخروج معهم. لم أكن أعرف قط إن كان هذا صحيحًا أم لا. كانت ماريبيث بارعة في ابتداع الأكاذيب الصغيرة، وفي رفض عروض الآخرين بأدب.
تخلت عن هجاء اسمها بالطريقة الجديدة، حيث إنني لم يكن مسموحًا لي بتغيير هجاء اسمي. لكننا واصلنا استخدام الهجاء الجديد عندما كنا نوقِّع ملحوظاتنا التي ترسلها إحدانا للأخرى، أو نتبادل الرسائل في الصيف.
•••
عندما كنت في منتصف العام الدراسي في السنة الثالثة في المدرسة الثانوية، جلبت لي عمتي إنا وظيفة. كنت سأعمل لدى الزوجين كرايدرمان، يومين في الأسبوع، بعد المدرسة. كانت العمة إنا تعرف الزوجين كرايدرمان؛ لأنها كانت المسئولة عن التنظيف لديهما. كنت سأقوم ببعض أعمال الكي والترتيب، وكنت سأعد الخضراوات للعشاء.
قالت العمة إنا: «هذا هو الغداء بالنسبة إليهما.» في نبرة رتيبة لا يستطيع المرء من خلالها تحديد ما إذا كانت تنتقد الزوجين كرايدرمان لتصنُّعهما، أم كانت تقر بعلو مكانتهما ما منحهما الحق في اختيار ما يريدانه من ألفاظ، أم أنها أرادت ببساطة أن تشير إلى أن أيًّا ما كانا يقولانه أو يفعلانه كان يقع تمامًا خارج نطاق فهمها ويجب أن يكون خارج نطاق فهمي.
كانت العمة إنا عمة أبي، وكانت طاعنة في السن. كانت معروفة في البلدة بأنها مسئولة النظافة، مثلما هو الحال بالنسبة لطبيب أو مدرس موسيقى المدينة. كانت محل احترام الجميع. لم تكن تقبل بقايا الطعام، مهما كان شهيًّا، ولم تكن تأخذ إلى المنزل الملابس القديمة، مهما كانت حالتها جيدة. كان كثير من النساء اللائي كانت تعمل لديهن يشعرن بالتزامهن بالقيام ببعض أعمال التنظيف السريعة قبل وصولها، وكن يلقين زجاجات الشراب الفارغة في القمامة. لم يكن ذلك يخدع العمة إنا.
كانت هي وابنتها فلوريس، وابنها جورج، يعيشون في منزل ضيق منظَّم يقع في شارع منحدر، تلتصق المنازل فيه بشدة وتكون قريبة جدًّا من الشارع حتى إن المرء يكاد يلمس درابزين الشرفة الخارجية من الرصيف. كانت غرفتي خلف المطبخ؛ حجرة تخزين سابقًا، ذات جدران مصنوعة من ألواح معشَّقة بلون أخضر فاتح. حاولت أن أعد الألواح الخشبية أثناء رقودي في الفراش، لكنني كنت أستسلم دومًا. في وقت الشتاء، كنت آخذ جميع ملابسي إلى الفراش في الصباح وكنت أرتدي ملابسي تحت الأغطية. فلم تكن ثمة وسيلة للتدفئة في غرفة التخزين.
عادت العمة إنا إلى المنزل منهكة تمامًا جراء ممارسة سلطتها في جميع أنحاء البلدة. لكنها تحاملت على نفسها، ومارست هذه السلطة علينا أيضًا. جعلتنا نفهم — أنا وفلوريس وجورج — أننا جميعًا أشخاص راقون على الرغم من فقرنا النسبي، أو ربما بسببه. جعلتنا نفهم أننا يجب أن نؤكد على هذه المسألة كل يوم في حياتنا من خلال تنظيف أحذيتنا والتأكد من أن جميع أزرار ملابسنا مكتملة ومربوطة، ومن خلال عدم استخدام اللغة الفظة، من خلال عدم التدخين (في حالة النساء)، من خلال الحصول على درجات مرتفعة (في حالتي أنا)، ومن خلال عدم الاقتراب من المشروبات الكحولية أبدًا (بالنسبة للجميع). لا يوصي أحد اليوم باتباع مثل هذا التشدد، والحرص الشديد، والأدب القديم. وأنا بالطبع كذلك، لكنني لا أعتقد أنني كنت أعاني كثيرًا من ذلك. تعلمت كيف أتهرب من بعض تلك القواعد وأتعايش مع أخرى، وعلى وجه العموم كنت أعتقد أن رقيًّا يعتمد على أفكار متشددة كهذه أفضل حالًا من عدم وجود رقي على الإطلاق. ولكنني لم أكن أخطط للاستمرار في العيش هناك، مثل جورج وفلوريس.
كانت فلوريس قد تزوجت مرة لفترة قصيرة، لكن لم يبدُ أنها اكتسبت أي ميزة من هذا الزواج. كانت تعمل في متجر الأحذية، وكانت تتدرب على الإنشاد الكنسي، وكانت مدمنة لعب أحجيات الصور المقطعة، خاصة النوع الذي كان يستحوذ على مساحة كبيرة من منضدة اللعب. على الرغم من أنني كنت ألح عليها في ذلك، فلم تكن تخبرني كثيرًا بما يرضيني عن علاقتها الحميمية أو زواجها أو موت زوجها الشاب جراء تسمم الدم؛ وهي قصة كنت أحب أن أرويها، لتقابل قصة ماريبيث المأساوية حقًّا حول وفاة أمها. كانت فلوريس تمتلك عينين كبيرتين زرقاوين مائلتين إلى الرمادي، كانتا على مسافتين كبيرتين إحداهما من الأخرى حتى ليظن المرء أنهما كانتا تنظران في اتجاهين مختلفين. كان ثمة تعبير بالاغتراب وقلة الحيلة فيهما.
لم يجتز جورج الصف الرابع في دراسته. كان يعمل في مصنع البيانو، حيث كان يرد دون إبداء أي تذمر أو حرج على من يناديه بالغبي. كان غاية في الخجل والهدوء بحيث تبدو فلوريس، التي كانت تتذمر في وهن، أكثر جرأة مقارنة به. كان يقطع الصور من المجلات ويثبتها بدبابيس في كل مكان في غرفته؛ ليست صور فتيات جميلات عاريات لكنها صور أشياء كان يحب شكلها: طائرات، كعك شوكولاتة، البقرة إلسي التي هي شعار منتجات ألبان بوردن. كان يستطيع ممارسة لعبة الداما الصينية، وفي بعض الأحيان كان يدعوني لمشاركته اللعب. عادة، كنت أخبره بأنني مشغولة جدًّا.
عندما دعوت ماريبيث إلى منزلي لتناول العشاء، انتقدت العمة إنا الضوضاء التي كانت الأساور التي ترتديها تتسبب فيها عند ارتطامها بالمنضدة، وكانت تتعجب من كيف أن فتاة في عمرها كان مسموحًا لها أن تهذب شعر حاجبيها. قالت أيضًا — في نطاق سمع جورج — إن صديقتي فيما يبدو لا تتمتع بذكاء كبير. لم أندهش. ولم نكن ننتظر أنا أو ماريبيث أي شيء إلا اتصالًا مع عالم البالغين غاية في الاصطناع، والألم، والرسمية.
•••
كان منزل الزوجين كرايدرمان لا يزال يسمى منزل ستيور. وحتى وقت قريب، كانت السيدة كرايدرمان تُسمى إيفانجلين ستيور. كان قد شيَّد المنزل دكتور ستيور، أبوها. تم تشيده متراجعًا عن حدود الشارع على مصطبة ممهدة، مشيَّدة، ولم يكن كأي منزل في البلدة. في حقيقة الأمر، لم يكن كأي منزل رأيته من قبل على الإطلاق، وكان يبدو لي دائمًا كمصرف أو مبنًى حكومي مهم. كان مكونًا من طابق واحد، مستوي السطح، ذي نوافذ فرنسية خفيضة، أعمدة كلاسيكية، وسور حول السطح يوجد وعاء ديكوري في كل ركن من أركانه. كانت الأوعية توجد على جانبي السلالم الأمامية أيضًا. كانت الأوعية، والسور، والأعمدة جميعها مطلية بلون أبيض كريمي، وكان المنزل نفسه مغطًّى بجص بلون قرنفلي فاتح. بحلول هذا الوقت، كان الطلاء والجص قد بدآ يتقشران ويتغير لونهما.
بدأتُ في الذهاب إلى هناك في فبراير. كانت الأوعية ملآنة حتى آخرها بالثلج مثل أطباق ملآنة بالآيس كريم، وكانت الأجمات المختلفة في الفناء تبدو كما لو أن بُسطًا من جلد دببة قطبية أُلقيت فوقها. كان ثمة ممر صغير ملتف إلى الباب الأمامي، بدلًا من الممر العريض النظيف الذي كان الناس يزيحون الثلج عنه.
قالت السيدة كرايدرمان: «لا يزيح السيد كرايدرمان الثلج؛ لأنه يعتقد أن هذا أمر عابر … يعتقد أنه سيستيقظ ذات صباح وسيكون الثلج قد اختفى، مثل الضباب. إنه ليس مستعدًّا للقيام بهذا!»
كانت السيدة كرايدرمان تتحدث بنبرة تأكيدية، كما لو كان كل شيء تقوله مهمًّا جدًّا، وفي الوقت نفسه جعلت كل شيء يبدو كمزحة. كانت هذه الطريقة في الحديث جديدة جدًّا بالنسبة لي.
بمجرد الدخول إلى المنزل، ما من سبيل لرؤية ما يحدث في الخارج، اللهم إلا من خلال نافذة المطبخ فوق الحوض. كانت السيدة كرايدرمان تقضي معظم وقتها في غرفة المعيشة، راقدة على الأريكة، تحيطها المرامد، والأقداح، والأكواب، والمجلات والوسائد من كل مكان. كانت ترتدي روبًا صينيًّا، أو روبًا طويلًا أخضر داكنًا من الصوف المزغب، أو سترة من الساتان الأسود المبطن — سريعًا ما تُلطَّخ بالرماد — وبنطال حَمْل. كانت السترة تنفتح وتكشف عن جانب من بطنها المنتفخ بصورة غريبة. كانت قد أوقدت المصابيح وكانت الستائر خمرية اللون مسدلة على النوافذ، وفي بعض الأحيان كانت تحرق مخروطًا صغيرًا من البخور في طبق نحاسي. كنت أحب هذه المخاريط، ذات اللون القرنفلي الباهت، التي كانت توجد محفوظة مثل طلقات رصاص في علبتها الجميلة، محتفظة بشكلها على نحو سحري أثناء تحولها إلى رماد. كانت الحجرة ممتلئة بأشياء عجيبة؛ أثاث صيني من الخشب الأسود المنقوش، زهريات بها ريش طاووس وعيدان البامبس، مراوح مفرودة عبر الجدران الحمراء الباهتة، وأكوام من الوسائد المخملية، والوسائد الساتان ذات الشُّرَّابَات الذهبية.
كان الشيء الأول الذي كان عليَّ أن أفعله هو أن أرتِّب المكان. تناولت الجرائد المحلية المتناثرة على الأرض، ووضعت الوسائد في مكانها على المقاعد والأرائك، وجمعت الأكواب التي تحتوي على شاي أو قهوة باردة، والأطباق التي تحتوي على بقايا طعام متصلبة، والأكواب الزجاجية التي كانت لا تزال تحتوي ربما على شرائح من الفاكهة الطرية، وبقايا خمر؛ خليط مسكر، خفيف، لكن لا يزال له مذاق كحولي. في المطبخ، شربت كل ما كان فائضًا ومصصت الفاكهة للحصول على المذاق الغريب للكحول.
كان من المنتظر أن تلد السيدة كرايدرمان في أواخر يونيو أو أوائل يوليو. كان عدم وضوح التاريخ على وجه التحديد يرجع إلى عدم انتظام دورتها الشهرية. (كانت هذه هي المرة الأولى التي سمعت بها على الإطلاق أحدًا يقول «دورة شهرية». كنا نقول «الحيض» أو «العادة» أو كنا نستخدم تعبيرات غير مباشرة.) كانت هي نفسها متأكدة أنها حبلت في ليلة عيد ميلاد السيد كرايدرمان عندما كانت ثملة من احتساء الشامبانيا. التاسع والعشرين من سبتمبر. كان عيد الميلاد الثالث والثلاثين للسيد كرايدرمان. كانت السيدة كرايدرمان تبلغ أربعين عامًا. قالت إنها تعترف بخطئها بزواجها من رجل أصغر منها. وكانت تدفع الثمن. كان عمر الأربعين أكبر مما ينبغي لحمل طفل. كان عمرًا أكبر مما ينبغي لولادة الطفل الأول. كان خطأ.
أشارت لعواقب ذلك. أولًا: البقع البنية الفاتحة الموجودة في وجهها ورقبتها، التي قالت إنها تغطي جسمها بالكامل. كانت تذكرني بثمرة الكمثرى الآخذة في التعفن؛ ذلك التحول الطفيف في اللون، التجعدات العميقة المحبطة. ثانيًا: كشفت عن إصابتها بالدوالي في ساقيها، وهو ما كان يجعلها ترقد على الأريكة. كان الأمر أشبه بعناكب بلون التوت البري، كتل خضراء تغطي ساقيها بالكامل. كان كل ذلك يتحول إلى اللون الأسود عندما كانت تقف. وقبل أن تضع قدميها على الأرض، كان عليها أن تلف ساقيها في ضمادات مطاطية طويلة، ومشدودة.
قالت: «اتبعي نصيحتي وأنجبي أطفالًا وأنت صغيرة في السن … هيا اخرجي وكوني حبلى على الفور، إذا كان هذا ممكنًا. كنت أعتقد أنني لن أمر بأيٍّ من ذلك. ها-ها!» كانت تمتلك بعض الفطنة؛ لأنها قالت لي: «لا تخبري عمتك أبدًا عن الأشياء التي أتحدث معك بشأنها!»
عندما كانت السيدة كرايدرمان تُدعى إيفانجلين ستيور، لم تكن تعيش في هذا المنزل، بل كانت تزوره من حين إلى آخر، عادة بصحبة أصدقاء لها. كان ظهورها في البلدة قصيرًا وملحوظًا. كنت قد رأيتها تقود سيارتها خافضة سقف السيارة، وكان ثمة وشاح برتقالي فوق شعرها القصير الداكن. كما رأيتها في الصيدلية، ترتدي سروالًا قصيرًا وقميصًا بحمالة عنق، وكانت ساقاها وبطنها نحيلة ومسمرة كما لو كانت ملفوفة في حرير بني. كانت تضحك آنذاك، وبصوت مرتفع، معترفة بمعاناتها من صداع في رأسها بسبب الإسراف في الشراب. كنت قد رأيتها في الكنيسة ترتدي قبعة سوداء شفافة مزدانة بالورود الحريرية القرنفلية، قبعة حفلات. لم يكن هنا مكانها، كانت تنتمي إلى العالم الذي كنا نراه في المجلات والأفلام؛ عالم التفاهة البراقة، الممثلين الكوميديين الوقحين الساخرين، الموسيقى في قاعات الرقص العامة، كئوس الكوكتيل في ضوء النيون القرنفلي التي تُقدَّم عند أبواب البارات. كانت هي حلقة الوصل بيننا وبين هذا العالم، دليلنا على أن ذلك العالم موجود، وعلى أننا موجودون معه، وعلى أن شروره القاصمة وروعته القاسية غير منفصلة عنا تمامًا. على الرغم من أنها كانت تقيم هناك، فإن زياراتها الخاطفة إلى هنا جعلت الناس تغفر لها، وربما جعلتها مثار إعجاب من بعيد. حتى عمتي إنا، التي كان عليها جمع زجاج الأكواب المكسورة من المدفأة، وإزالة بقايا الدجاج المشوي الذي جرى هرسه في البساط، وأخذ ورنيش الأحذية الموضوع على حافة حوض الاستحمام ووضعه في مكانه؛ منحت إيفانجلين ستيور امتيازًا غير مقدس، على الرغم من أن الامتياز لم يكن إلا امتياز كونها نموذجًا على كيف جعلها المال لا تخجل من أي شيء، وجعلها الفراغ إنسانة عديمة الفائدة، وينذر انغماسها في ملذاتها بتعرضها لكارثة مفجعة.
لكن ماذا فعلت إيفانجلين ستيور بعد ذلك؟ صارت زوجة، مثل الجميع. كانت قد اشترت الجريدة المحلية حتى يديرها زوجها. كانت تنتظر مولودًا. كانت قد فقدت وظيفتها، وكانت تخلط بين الأشياء. فهناك فرق بين أن تكون فتاة عزباء فاتنة، مدخنة، شاربة للخمر، غير ورعة، وأن تكون أمًّا فاتنة تنتظر طفلًا، مدخنة، شاربة للخمر، غير ورعة.
«لا تركزي معي كثيرًا جيسي. لم يكن عليَّ أن أرقد هكذا قط من قبل. كنت في قلب الأحداث دومًا. كل ما يفعله هذا الطبيب المتوحش هو أنه يقول لي المشاكل التي سأتعرض لها قبل أن تتحسن حالتي. «أي شيء يدخل لا بد أن يخرج إلى النور. خمس دقائق متعة، تسعة أشهر من المعاناة.» سألته: «ماذا تعني ﺑ «خمس» دقائق؟»»
ركزت معها كثيرًا. إذ لم أسمع ولم أرَ أشياء على هذا النحو من قبل قط. أخبرت ماريبيث بكل شيء. وصفت لها غرفة المعيشة، ملابس السيدة كرايدرمان، الزجاجات الموجودة في خزانة أدوات المائدة ذات المحتويات الذهبية، والخضراء، والحمراء الداكنة، علب مأكولات غير مألوفة في خزائن المطبخ؛ محار مدخن، أنشوجة، كستناء مهروس، خرشوف، هذا فضلًا عن علب كبيرة من لحم الخنزير وبودنج الفواكه. أخبرتها عن الدوالي، والضمادات، والبقع — جاعلة هذه الأشياء تبدو أسوأ مما هي عليه حقيقة — وعن مكالمات السيدة كرايدرمان مع أصدقائها الذين يعيشون بعيدًا. كانت أسماء أصدقائها بونت، وبوكي، وباج، وسبيتي؛ لذا لم يكن بالإمكان تخمين ما إذا كانوا رجالًا أم نساءً. كان اسمها، كما هو معروف بينهم، جيلي. بعد فراغها من الحديث إليهم عبر الهاتف، كانت تخبرني عن المال الذي خسروه أو الحوادث التي وقعت لهم أو المقالب التي كانوا يقومون بها، أو العلاقات الغرامية المعقدة جدًّا وغير المعتادة التي دخلوها.
لاحظت العمة إنا أنني لم أكن أنجز الكثير من أعمال الكي. قلت إن هذا ليس خطئي؛ كانت السيدة كرايدرمان تبقيني في غرفة المعيشة، كي تتحدث إلي. قالت العمة إنا إنه ليس ثمة ما يمنع من وضع طاولة الكي في غرفة المعيشة إذا كانت السيدة كرايدرمان تصر على الحديث معي.
قالت العمة إنا: «دعيها تتحدث إليك … وأنت تكوين. هذا هو ما تتقاضين مالًا مقابل عمله.»
قالت السيدة كرايدرمان: «لا أمانع في أن تكوي هنا، لكن عليك أن تخرجي على الفور بمجرد وصول السيد كرايدرمان إلى المنزل … فهو يكره ذلك؛ فهو يكره القيام بأي أعمال منزلية أثناء وجوده.»
أخبرتني أن السيد كرايدرمان كان قد ولد وكبر في مدينة بريزبن، بأستراليا، في منزل كبير تحيطه أشجار الموز من كل مكان، وأن أمه كان لديها خادمات زنجيات. كنت أعتقد أن الأمر بدا مشوشًا قليلًا، كما لو أن فيلم «ذهب مع الريح» انتقل إلى أستراليا، لكنني ظننت أن الأمر ربما كان صحيحًا. قالت إن السيد كرايدرمان كان قد رحل عن أستراليا وصار صحفيًّا في سنغافورة، ثم عمل مع الجيش البريطاني في بورما عندما هزم على يد اليابانيين. رحل السيد كرايدرمان من بورما إلى الهند سيرًا على الأقدام.
«مع مجموعة صغيرة من الجنود البريطانيين وبعض الأمريكيين وفتيات محليات؛ ممرضات. لم تكن هناك علاقات جنسية مشبوهة. كل ما كانت تفعله هذه الفتيات هو غناء الترانيم. جميعهن تحوَّلن إلى المسيحية. «إلى الأمام أيها الجنود المسيحيون!» على أي حال، لم يكونوا في حالة تسمح لهم بإقامة علاقات جنسية. فقد كانوا مرضى وجرحى، يسيرون يومًا بعد يوم في ظل الحرارة الشديدة. يتعرضون لهجوم من أفيال برية. سيكتب كتابًا عن هذه التجربة. سيفعل السيد كرايدرمان هذا. كان عليهم أن يصنعوا أطوافًا وأن يبحروا مع التيار. أصيبوا بالملاريا. تخطوا جبال الهيمالايا. كانوا أبطالًا ولم يسمع أحد عن ذلك قط.»
ظننتُ أن الأمر بدا مريبًا أيضًا. حرارة هائلة في الهيمالايا، التي كان معروفًا عنها أنها مغطاة بالثلوج دومًا.
«قلت لبونت: «حارب إريك مع البريطانيين في بورما»، ورد بونت: «لم يحارب البريطانيون في بورما؛ ألحق اليابانيون هزيمة مُذلة بالبريطانيين في بورما.» لا يعرف الناس أي شيء. إن بونت هذا لا يستطيع السير حتى إلى آخر شارع يونج.»
بعدها بسنوات، ربما بربع قرن، قرأت عن المسيرة التي قادها الجنرال ستيلويل من بورما إلى الهند، عبر الممر فوق تامو وعبر نهر تشيندوين. كان بصحبته بعض القادة البريطانيين، الذين كانوا قذرين وجوعى. ربما كان إريك كرايدرمان من بينهم.
حدث التعارف بين السيد كرايدرمان والسيدة كرايدرمان عندما جاء ذات يوم كي يستأجر من الباطن شقتها في تورونتو. كان يخطط للعمل كصحفي في كندا. كانت تخطط للسفر إلى المكسيك مع أصدقائها. لم تفعل ذلك من قبل قط. بمجرد أن رأت السيد كرايدرمان، كان ما كان من الأمر. قال لها أصدقاؤها جميعًا ألا تتزوجه. فهو أصغر منها بسبع سنوات، مطلق — له زوجة وطفل في مكان ما في أستراليا — ولا يملك مالًا. قال الجميع إنه مغامر. لكنها لم ترتدع. تزوجته في غضون ستة أسابيع ولم تدعُ أيًّا من أصدقائها إلى حفل الزفاف.
كنت أعتقد أنني يجب أن أسهم في الحديث؛ لذا قلت: «هل كانوا يعارضونه فقط لأنه كان مغامرًا؟»
قالت السيدة كرايدرمان: «ها-ها! … لم يكن هذا ما يقصدونه. كانوا يشيرون إلى أنه كان يسعى وراء مالي. لكني لا أستطيع حتى أن أقنعه بأن يعتمد على مالي بينما يكتب كتابًا حول تجاربه. هو يرى أن عليه أن يكون مستقلًّا ماليًّا. عليه أن يكتب عما كانت وصيفات العرائس الحمقاوات ترتدينه، وعن حفلات الشاي للتباهي بجهاز وهدايا العرائس، وعن كل تلك الثرثرة التي تحدث في مجلس البلدة، وهو ما يدفعه إلى الجنون. هو أكثر رجل موهوب قابلته في حياتي، ويومًا ما ستتباهين بأنك كنت تعرفينه!»
بمجرد سماعنا السيد كرايدرمان عند الباب، ألقيت سلة الكي بعيدًا في المطبخ، مثلما قيل لي. كانت السيدة كرايدرمان تنادي، في صوت قلق، ساخر، سخيف وعذب في آن واحد، جديد: «هل عاد فتاي إلى المنزل؟ هل حضر لورد فونتلروي الصغير؟ هل حضر دنجو المجنون؟»
كان السيد كرايدرمان، وهو يخلع حذاءه في البهو، يجيب بأنه ديك تريسي، أو البحار بارنكل بيل. ثم يدخل إلى غرفة المعيشة ويتجه إلى الأريكة مباشرة، حيث ترقد هي فاتحة ذراعيها كي يحتضنها. يتبادلان القبلات الحارة، بينما أتسلل تدريجيًّا بعيدًا حاملة طاولة الكي.
قلت لماريبيث: «تزوجها من أجل مالها.»
أرادت ماريبيث أن تعرف شكله.
قلت: «يشبه شيئًا مستخرجًا من مستنقع.» لكن كان هذا هو وصف العمة إنا بعد أن وقعت عيناها عليه للمرة الأولى. كررت وصفها لأنه أعجبني. لم أجد الوصف في حقيقة الأمر ملائمًا. صحيح أن السيد كرايدرمان كان نحيفًا، طويلًا ونحيفًا، ويمتلك بشرة شاحبة، لكن هيئته لم تكن بالية أو شاحبة. في حقيقة الأمر، كان يمتلك هيئة حادة الملامح، خفيفة العظام، وجذابة؛ وهي هيئة شائعة جدًّا في ذلك الوقت؛ شاربًا في صورة خط، عينين ضيقتين، وابتسامة خفيفة ساخرة.
أضفت قائلة: «مثل ثعبان في الحشائش … لكنها مغرمة به بشدة.» أعدت تمثيل لقائهما اليومي، مصدرة صوت القبلات المرتفع من شفتيَّ، ومطيِّرة ذراعيَّ في الهواء.
أخبرت السيدة كرايدرمان السيد كرايدرمان أنني بارعة في القراءة وأنني عبقرية في التاريخ. كان هذا يرجع إلى أنني أزلت عنها بعض الحيرة فيما يتعلق برواية تاريخية كانت تحاول أن تقرأها. كنت قد بيَّنت لها كيف أن بطرس الأول كان قريبًا لكاثرين الثانية.
قال السيد كرايدرمان: «هل الأمر كذلك؟» جعلته لكنته يبدو أكثر نعومة وخبثًا من أي شخص كندي. «من كاتبك المفضل؟»
قلت، أو ظننت أنني قلت: «دوستويفسكي.»
قال السيد كرايدرمان مطرقًا: «دوستوي-فتسكي … ما مؤلفه المفضل لديك؟»
كنت مرتبكة جدًّا حتى إنني لم ألحظ نطقه للاسم.
قلت: «الإخوة كارامازوف.» كان هذا هو الكتاب الوحيد الذي كنت قد قرأته لدوستويفسكي. كنت قد قرأت الكتاب أثناء الليل في الطقس البارد في غرفة النوم الخلفية، وأثناء قراءتي السريعة والنهمة له تخطيت جانبًا كبيرًا من فصل «المحقق الكبير» وأجزاء أخرى كنت قد توقفت أمامها.
قال السيد كرايدرمان، مبتسمًا كما لو كان قد ضيَّق الخناق عليَّ: «أي الإخوة المفضل لديك؟»
قلت: «ميتيا.» حينئذ، كان قد قل توتري، وكنت أرغب في المضي قدمًا في الحديث، معللة ذلك؛ بأن أليوشا كان ملائكيًّا أكثر من اللازم، وكان إيفان عقلانيًّا أكثر من اللازم، وهكذا. في طريق عودتي إلى منزلي، تصورت أنني قد فعلت هذا، وأنه أثناء حديثي، كان التعبير المرتسم على وجه السيد كرايدرمان قد تغيَّر إلى تعبير عن الاحترام والضيق الخفيف. ثم أدركت الخطأ الذي ارتكبته، في نطق الاسم.
لم تواتني الفرصة كي أواصل حديثي؛ لأن السيدة كرايدرمان نادت من على الأريكة قائلة: «المفضل، المفضل! من المرأة الحبلى العجوز المنتفخة الضخمة المفضلة لدى الجميع؟ هذا ما أريد أن أعرفه!»
مهما كنت أسخر من الزوجين كرايدرمان في حديثي إلى ماريبيث، كنت أريد شيئًا منهما. الانتباه. التقدير. كنت أحب السيدة كرايدرمان وهي تقول عني إنني عبقرية في التاريخ، على الرغم من أنني كنت أعرف أن ذلك كان شيئًا سخيفًا. كنت سأقدِّر قيمة ما سيقوله أكثر. كنت أعتقد أنه يزدري هذه البلدة وكل من فيها. لم يكن يأبه بما كان الآخرون يظنون به فيما يتعلق بعدم إزاحة الثلوج من ممر السير أمام منزله. كنت أريد أن أحدث ثقبًا صغيرًا في دائرة ازدرائه.
بالمثل، كان عليه أن يتركها تناديه فتاي، ويستسلم لتلك القبلات.
•••
كان لدى ماريبيث أخبار جديدة لتخبرني بها أيضًا. كان لدى بياتريس صديق، وكانت تأمل في أن تُخطب له. قالت ماريبيث إن كلًّا منهما متيم بالآخر بشدة.
كان صديق بياتريس متدربًا لدى حلاق. كان يراها أثناء فترات ما بعد الظهيرة، عندما كانت تعود إلى المنزل من نوبة عملها في المستشفى، وكانت ثمة فترة ركود في مجال الحلاقة. كانت الفتيات اللائي كن يعشن في المنزل، في العمل آنذاك. ولم أكن أنا وماريبيث في المنزل أيضًا؛ إذ كنا نتمتع بالكياسة الكافية حتى نتسكع حول المدرسة، أو نذهب لشراء أحد المشروبات الغازية، أو نضيع الوقت في النظر إلى واجهات العرض بالمحلات. لكن أصرت ماريبيث هذه المرة على أن تتوجه مباشرةً إلى المنزل.
وجدنا بياتريس ترتِّب الفراش. نزعت جميع الأغطية ووضعت الملاءة في سرعة احترافية. ثم وضعت غطاء قطنيًّا ماصًّا على الملاءة في مكان استراتيجي. ذُكرت بأيام الخزي التي كنت أنام فيها فوق غطاء بلاستيكي؛ لأنني كنت أبلل الفراش من حين إلى آخر.
وضعت بعد ذلك الأغطية العلوية، سوَّتها ورتبتها، مخبئة الغطاء السري. نفشت الوسائد، وثنت أحد أركان الملاءة العلوية فوق اللحاف. عاد إليَّ الشعور المزعج الخاص بشهوة الطفولة، ذكرى اللحظات الحميمة تحت البطانيات. بطانيات خشنة، ملاءات فلانيليت مريحة، أسرار.
سارت بياتريس عبر البهو في اتجاه الحمام، حتى تهندم نفسها مثلما هندمت الفراش. كان يرتسم على وجهها نظرة جادة، مسئولة، نظرة اهتمام ربة منزل. لم تتفوه بكلمة واحدة لنا.
قالت ماريبيث أثناء مرورنا على الحمام في طريقنا إلى أسفل: «لن أتعجب إذا مضت وفعلت الأمر أمام ناظرينا.» كان الماء يسيل. ماذا كانت بياتريس تفعل تحديدًا؟ أظن أن الأمر كان يتضمن استخدام قطع من الإسفنج.
جلسنا على سلالم الشرفة الخارجية. كانت الأرجوحة قد رفعت في الشتاء ولم توضع مرة أخرى بعد.
قالت ماريبيث: «لا ينتابها أي شعور بالخجل … وعليَّ أن أنام في الفراش نفسه. تظن أن وضع غطاء ماص على الملاءة سيجعل كل شيء على ما يرام. سرقت هذا الغطاء من المستشفى. لا يمكن أن يثق المرء فيها أبدًا، حتى عندما كانت لا تزال صغيرة. ذات مرة، تشاجرنا وقالت: «دعينا نتصالح، نتصافح»، وعندما تناولت يدها لنتصافح، كانت تحمل ضفدعًا صغيرًا فيها، وكان الضفدع قد دخل عليها الحمام.»
لم يكن الثلج قد اختفى بعد؛ كانت ريح شديدة البرودة تأتي بروائح المستنقعات، والجداول، ومياه الفيضان إلى البلدة. لم يأبه صديق بياتريس بارتداء معطف. جاء مسرعًا عبر الزقاق مرتديًا رداء الحلاقة الأبيض، مطأطئًا رأسه، عن عمد. لم يكن مستعدًّا لرؤيتنا.
قال في ثقة زائفة، ومرح عصبي: «أهلًا!»
لم ترغب ماريبيث في الرد عليه، ولم أستطع الرد أنا أيضًا، إخلاصًا لها. لم ننهض، لكن ابتعدت كلٌّ منا عن الأخرى؛ مفسحةً له المجال بما يكفي لصعود السلالم. حاولت سماع صوت فتح وغلق باب غرفة النوم، لكنني لم أسمع.
قالت ماريبيث: «يتصرفان ككلبين … كلبين يتضاجعان.»
كنت أفكر فيما يحدث في هذه اللحظة تحديدًا. التحية، تبادل النظرات، خلع الملابس. بأي ترتيب؟ بمصاحبة أي كلمات ولمسات؟ هل يتصرفان على نحو محموم أو منظَّم؟ هل يتضاجعان على الفراش نصف عاريين، أم يتم الأمر على الوضع الذي تكون عليه المريضة عند الكشف عليها في عيادة الطبيب؟ كنت أعتقد أن الطريقة الأخيرة كانت الأقرب بالنسبة لهما.
اخلعي هذا. نعم. ارقدي الآن. افتحي رجليك. أوامر هادئة، طاعة عمياء. بياتريس ساكنة، مستسلمة. الرجل، ذلك الشخص الهزيل، ذو البقع على الرقبة، زادت إثارته، وتأهب لممارسة سلطته المنحرفة. الآن. نعم. الآن.
قالت ماريبيث: «ذات مرة، طلب مني أحد الصبية أن أفعل ذلك … كدت أتسبب في طرده.» أخبرتني كيف أن صبيًّا، في الصف السابع، مرر إليها رسالة تقول: «هل تريدين أن تضاجعيني؟» وقدَّمت الرسالة إلى المُدرسة.
قلت: «يريد شخص ما أن أفعل ذلك.» كنت أتعجب تمامًا من نفسي، وأنا أقول ذلك. أبقيت عينيَّ إلى أسفل ولم أنظر إلى ماريبيث. قالت: من؟ وماذا قال تحديدًا؟ وأين قال ذلك؟ ومتى؟ وهل كان أحد زملائنا في الصف؟ ولماذا لم أخبرها؟
نزلتْ إلى الدرجة التالية للدرجة التي أجلس عليها، حتى تستطيع أن ترى وجهي. وضعت يديها على ركبتيَّ. قالت: «تواعدنا أن تخبر كل واحدة منا الأخرى بكل شيء.»
هززت رأسي.
«يجرح مشاعري كثيرًا أنك لم تخبريني.»
مططت شفتيَّ معًا كما لو كنت أحافظ على السر داخلهما. قلت: «حقيقة، هو يحبني.»
«جيسي! أخبريني!»
وعدتني بأن أستخدم قلمها الرصاص من نوع إيفرشارب حتى نهاية العام الدراسي. لم أرد. قالت إنني أستطيع أن أستخدم قلمها الحبر أيضًا. قلمها الرصاص وقلمها الحبر، المجموعة الكاملة.
كنت أنوي أن أغيظها فترة أطول، ثم أخبرها أن الأمر كله لم يكن إلا مزحة. لم أكن حتى أضع اسمًا في رأسي، في البداية. لدي اسم الآن في رأسي، لكن كان ذلك أمرًا خطيرًا جدًّا. لم أعتقد أنني كنت سأتفوه بالاسم.
«جيسي، سأعطيك سوارًا. لن أقرضك واحدًا. قلت «سأعطيك»، سأعطيك أي سوار ترغبين فيه ويمكنك الاحتفاظ به.»
قلت: «إذا كنت سأفصح عن اسمه، فلن أفعل ذلك مقابل سوار.»
«أقسم لك أنني لن أخبر أحدًا. أنا لا أكذب عليك.»
«فقط أقسمي بالرب.»
«سأفعل. أقسم بالرب، جيسي. أقسمت بالرب.»
قلت في نعومة: «السيد كرايدرمان.» شعرت بخفة مدهشة، لم أعد أحمل عبئًا، بكذبتي. «إنه هو.»
سحبت ماريبيث يديها من على ركبتيَّ وجلست في استقامة. قالت: «هو كبير في السن … قلتِ إنه قبيح! ومتزوج!»
قلت: «لم أقل إنه قبيح قط … وعمره ثلاثة وثلاثون عامًا فقط.»
«لكنك لا تحبينه!»
«في بعض الأحيان عندما تحبين، يبدأ الأمر على هذا النحو.»
•••
ذات مرة، تعرفت على امرأة عجوز قالت لي، عندما كانت تتحدث عن حياتها، إنها ارتبطت بعلاقة استمرت ثلاث سنوات بروبرت براونينج. لم تكن مخرفة بأي حال من الأحوال؛ كانت امرأة عجوزًا تتمتع بلياقة ذهنية فائقة وكانت مباشرة جدًّا في حديثها. لم تقل إنها كانت تحب كتابات براونينج، أو إنها كانت تقضي وقتها كله تقرأ عنه. لم تقل إنها كانت ترى خيالات. قالت: «أوه، نعم … ثم كانت العلاقة مع روبرت براونينج التي استمرت ثلاث سنوات.» انتظرتُ منها أن تضحك أو أن تضيف كلمات أخرى تفسر ما تقول، لكنها لم تفعل. عليَّ أن أعتقد، إذن، أن العلاقة التي جرت في خيالها كانت غاية في الجدية والإجهاد حتى إنها حرَّمت على نفسها الإشارة إليها باعتبارها خيالًا.
ربما لم تكن العلاقة التي أقمتها هذا الربيع مع السيد كرايدرمان — في رأسي، وأمام ماريبيث — بتلك الأهمية في حياتي، لكنها كانت تجعلني منشغلة دومًا. لم يعد ثمة أي شعور بالتبعية والملل، عندما نكون أنا وماريبيث معًا. كان عليَّ أن أظل أرتِّب وأغير ترتيب الأمور، ثم أضعها في مكانها من خلال شذرات المعلومات التي اخترت أن أصرِّح بها. أقمت العلاقة لكنني لم أخبرها، وكنت سعيدة بعد ذلك؛ لأنني قررت ألا أكمل العلاقة. لم أستطع أن أتخيل على نحو ملائم ترتيب الخطوات أو ماذا سيُقال لاحقًا. لم أمانع قط في الكذب. بمجرد أن جربت الكذب — من خلال التفوه باسم السيد كرايدرمان — صار الكذب مريحًا بالنسبة لي على نحو مدهش.
لم يقتصر الأمر فقط على ما قلت، بل شمل هيئتي، مبالغتي في تجسيد ما كان يجري. قمت ببعض الأشياء العكسية. لم أرتدِ ملابس ضيِّقة، وأضع مكياجًا على وجهي، وأتظاهر بأنني امرأة شابة مُغوية. بدلًا من ذلك، صففت شعري في صورة ضفائر ملفوفة حول رأسي، ولم أضع أحمر شفاه أو أي طلاء على شفتيَّ، وإن كنت قد وضعت بودرة بكثافة على وجهي حتى أبدو شاحبة. كنت أذهب إلى المدرسة في بلوزة فضفاضة من الكريب تملكها العمة إنا. قلت لماريبيث إن السيد كرايدرمان طلب مني أن أرتدي الملابس على هذا النحو وأن أضفِّر شعري. لم يستطع تحمُّل فكرة أن ينظر شخص آخر إلى شعري أو أن يرى تقسيمات صدري. كان يعاني من لوعة الحب. عانيت أنا أيضًا. تظاهرت بالخضوع، تقمصت هيئة متأدبة. العواطف ليست مسألة هينة، كانت فحوى رسالتي إلى ماريبيث. يجب أن تتصور أن الذنب، والشك، والرغبة المحمومة هم رفاقي اليوميين.
وهكذا الحال بالنسبة للسيد كرايدرمان أيضًا. في خيالي، كان يتجرأ أكثر. كان يلاطف، ويهمس، ثم يؤنب نفسه، يتأوه، ويزداد إخلاصًا وقربًا لي، ويقبِّل جفنيَّ.
ماذا عن السيد كرايدرمان في الحقيقة؟ هل جعلني كل هذا أرتجف عندما أسمعه عند الباب، أنتظر قدومه إلي، آمل في إشارة منه؟ على الإطلاق. عندما بدأ يلعب دوره في خيالي، خفتت صورته في الواقع. لم أعد آمل في حديث شائق معه، أو حتى إلى إيماءة في اتجاهي. في عقلي، كنت قد حسنت من شكله قليلًا؛ منحته لونًا أكثر نضارة، أزحت سخريته الخفيفة المعتادة للكشف عن رقة حزينة. كنت أتفادى النظر إليه عندما يكون حاضرًا، لئلا أغيِّر من هيئته الكاملة مرة أخرى.
طلبت مني ماريبيث مزيدًا من التفاصيل، لكنها لم تجد أي متعة في أيٍّ منها. حثتني على ألا أستسلم أبدًا. قالت: «ألا تستطيعين أن تخبري السيدة كرايدرمان عنه؟»
«سيقضي عليها ذلك. ربما تموت على أي حال عندما تلد الطفل.»
«هل ستتزوجان إذا ماتت؟»
«لا أزال قاصرة.»
«يستطيع أن ينتظر. إذا كان يحبك مثلما يقول. سيحتاج إلى من يعتني بالطفل. هل سيحصل على مالها كله؟»
جعلني ذكر الطفل أفكر في شيء حقيقي، وغير سار، ومحرج، كان قد حدث مؤخرًا في منزل الزوجين كرايدرمان. كانت السيدة كرايدرمان قد نادتني كي آتي وأرى الطفل يركلها. كانت ترقد على الأريكة، وروبها مرفوعًا إلى أعلى، وكانت ثمة وسادة تغطي عورتها. صرخت: «هناك، أترين!» ورأيت ذلك، لا حركة على السطح بل حركة تحتية وحركة دوران للبطن المنتفخة المغطاة بالبقع. كانت سرتها بارزة كما لو كانت سدادة فلينية على وشك الاندفاع. تصببت ذراعاي وجبهتي عرقًا. شعرت بكرة صلبة من الاشمئزاز تندفع إلى أعلى في حلقي. ضَحِكَت وسقطت الوسادة. وعدوت إلى المطبخ.
«جيسي، مم تخافين؟ لا أعتقد أن ثمة أطفال تخرج إلى النور على هذا النحو!»
•••
مشهدان آخران في منزل الزوجين كرايدرمان.
يعود السيد كرايدرمان إلى المنزل مبكرًا. يكون هو والسيدة كرايدرمان معًا في غرفة المعيشة عندما أعود من المدرسة. لا تزال السيدة كرايدرمان تجعل الستائر مسدلة طوال اليوم، على الرغم من أن الوقت كان ربيعًا في الخارج، طقس شهر مايو الحار. تقول إنها تفعل هذا حتى لا يستطيع أحد أن ينظر إلى الداخل ويرى الشكل الذي هي عليه.
أدخل قادمة من طقس وقت ما بعد الظهيرة الساطع، الحار، وأجد البخور يحترق في الغرفة الخانقة، المسدلة الستائر، والزوجان كرايدرمان الشاحبان يضحكان، ويشربان. يجلس على الأريكة، وقدماها في حجره.
يقول السيد كرايدرمان: «وقت الانضمام إلى الاحتفال! … هذه حفلة وداعنا! حفلة وداعنا لك يا جيسي. وداعًا، اذهبي، مع السلامة!»
تقول السيدة كرايدرمان: «تحكَّم في نفسك!» ضاربة رجليه بكعبيها العاريين. «لن نرحل بعد. يجب أن ننتظر حتى يولد هذا الطفل الرهيب!»
ثمل، هكذا أحدث نفسي. كنت أجدهما كثيرًا ثملين، لكن حتى الآن لم أستطع أن ألمس أي تغيير لافت في السلوك.
تقول السيدة كرايدرمان: «سيقوم إريك بتأليف كتابه.»
يقول السيد كرايدرمان، في صوت سخيف، عالي النبرة: «سيقوم إريك بتأليف كتابه.»
تقول السيدة كرايدرمان، ضاربة بكعبيها أكثر: «ستفعل ذلك! … وسنرحل من هنا في اللحظة التي يولد فيها هذا الطفل الرهيب.»
يقول السيد كرايدرمان: «هل هو حقًّا رهيب؟ … هل لديه رأسان؟ هل نستطيع أن نعرضه في عرض الأشخاص غريبي الشكل ونحقق من ورائه أموالًا طائلة؟»
«لا نحتاج إلى المال.»
«أحتاج أنا إلى المال.»
«أتمنى أن تتوقف عن ذلك. لا أعرف إذا كان لديه رأسان، لكنني أشعر كما لو كان طوله خمسين قدمًا. أخاف جيسي مؤخرًا.»
تخبره كيف عدوت.
يقول السيد كرايدرمان: «عليك أن تعتادي على هذه الأشياء يا جيسي … الفتيات في مثل عمرك في بعض أجزاء من العالم لديهن طفل أو اثنين. لا تستطيعين أن تخدعي الطبيعة. يكون لدى الفتيات الصغيرات من ذوي الأصول الآسيوية، اللائي هن أطفال في الأساس، أطفال.»
تقول السيدة كرايدرمان: «أوه، أنا متأكدة … جيسي، كوني مطيعة. تعرفين الجين، أليس كذلك؟ ضعي قليلًا منه في هذه الكأس واملئيه بعصير البرتقال، حتى أحصل على فيتامين سي.»
أتناول كأسها. يحاول السيد كرايدرمان النهوض، لكنها تمسك به وتجلسه حتى يقول: «السجائر. أظن أنها في غرفة النوم.»
عندما يعود من غرفة النوم، يدخل المطبخ، لا غرفة المعيشة. أقف عند الحوض، أملأ صينية مكعبات الثلج.
تنادي السيدة كرايدرمان: «هل وجدتِ أي جين؟»
«ما زلت أبحث.»
يحمل علبة سجائر في يده، لكنه يفتش في الخزانة إلى جانب الحوض محدثًا ضوضاء. يضغط بجسمه على جسمي، جانبه في جنبي. يضع يده على كتفي، ويضغط. يحرِّك يده على ظهري، يلمس رقبتي العارية. أقف حاملة صينية الثلج في يديَّ، وأنظر خارج النافذة إلى حافلة قديمة منتظرة في الحارة الخلفية، خلف القاعة الكنسية. الكلمات «كالفري تابرناكل» مكتوبة على جانبها.
تتحرك أطراف أصابع السيد كرايدرمان على حلقي. لمستها خفيفة في البداية مثل قطرات مياه. ثم تشتد وطأتها. ثم أشد فأشد، ثم يمرر يده على بشرتي كما لو كان سيترك أخاديد بها.
«وجدت بعض الجين.»
عندما آخذ الشراب إلى السيدة كرايدرمان، يجلس السيد كرايدرمان على المقعد ذي الذراعين إلى جانب المرمدة الطولية.
تقول، في نبرة صوتها السخيفة والعذبة في آن واحد: «تعال واجلس حيث كنت.»
«أنا أدخن.»
أشعر بوخز في حلقي كما لو كنت قد تلقيت ضربة فيه.
•••
يقع المشهد الثاني بعد ذلك بعدة أيام، في يوم عملي المعتاد في الأسبوع التالي.
يعمل السيد كرايدرمان في الحديقة. يرتدي قميصه، ولا يزال يرتدي رابطة عنقه، يزيل باستخدام مجرفة بعض النباتات المعترشة التي تغطي ظُلة صيفية صغيرة آيلة للسقوط في أحد أركان الفناء. يناديني محذرًا، وينتظرني حتى آتي إليه عبر الحشائش غير المقصوصة. يقول إن السيدة كرايدرمان ليست على ما يرام. كان الطبيب قد أعطاها شيئًا حتى تنام، حتى تبقى ساكنة، وهادئة، حتى لا يولد الطفل قبل الأوان. يقول إنه من الأفضل ألا أدخل إلى المنزل اليوم.
أقف على مسافة ياردتين منه. يقول: «تعالي إلى هنا. هنا. هناك شيء أريد أن أسألك عنه.»
أقتربُ أكثر، برجلين مرتجفتين، ولا يفعل إلا الإشارة إلى نبات أحمر الساق، مورق، قوي عند قدميه.
«ما هذا الشيء، هل تعرفين؟ هل أستخرجه من الأرض؟ لا أستطيع أن أميِّز بين الحشائش الضارة وغير الضارة.»
هذا أحد أنواع نبات الراوند، أعرفه باعتباره نباتًا أو حشائش ضارة.
أقول: «لا أعرف»، وفي تلك اللحظة لا أعرف حقيقة.
«ألا تعرفين؟ ما فائدتك لي يا جيسي؟ أليس هذا مكانًا غريبًا؟» يلوِّح مشيرًا إلى الظُّلة الصيفية. «لا أعرف لمن بُنيت. لأقزام؟»
يمسك ببعض النباتات المتعرشة، يقطعها، ثم يقول: «ادخلي هنا.»
أفعل ذلك. في الداخل، المكان سري رائع، ظليل ومهمل، تكسو الأرضية غير المستوية كومة من بقايا أشجار مورقة. السقف منخفض جدًّا حقًّا. كان على كلينا الانحناء.
يسأل السيد كرايدرمان: «هل تشعرين بالحرارة؟»
«لا.» في حقيقة الأمر، تمر موجات هواء باردة فوقي؛ موجات من الضعف، والتوتر الجسدي.
«نعم، تشعرين بالحرارة. أنت متعرقة بالكامل تحت كتلة شعرك هذه.»
يلمس عنقي بطريقة لا عاطفة فيها، مثل طبيب يفحص حالة، ثم يحرِّك يده إلى خدي وحدود شعري.
«حتى جبهتك متعرقة.»
أستطيع أن أشم رائحة السجائر في أصابعه، ورائحة حبر آلات الطباعة الموجودة في مقر الجريدة. كل ما أريده هو أن أكون على قدر ذلك. منذ أن لمس السيد كرايدرمان حلقي عند حوض المطبخ، كنت أشعر أنني أرى مدى قوة أكاذيبي، خيالاتي. أنا شخص قادر على القيام بأعمال مدهشة لكنني لا حول لي ولا قوة. لا أملك إلا الاستسلام، الاستسلام للعواقب. أتساءل عما إذا كان الهجوم الجنسي سيحدث هنا، دون إعداد مسبق؛ هنا داخل أركان الظُّلة الصيفية، على هذه الأرضية، بين الأوراق الميتة والأغصان الشائكة التي ربما تخفي أجساد فئران أو طيور ميتة. أعرف شيئًا واحدًا؛ ألا وهو أن الشكوى من التعاسة في الحب، التوسلات الرقيقة والتأوهات التي عادةً ما يصرح بها السيد كرايدرمان في خيالي، لن يكون لها مكان في الواقع حقيقة.
يقول السيد كرايدرمان: «هل تعتقدين أنني سأقبلك يا جيسي؟ … لا أشك في أنك ستسمحين لي بتقبيلك. لا.» يقول ذلك، كما لو كنت قد سألته بصورة محددة عن ذلك: «لا يا جيسي. دعينا نجلس.»
هناك ألواح خشبية ملحقة بجدران الظُّلة الصيفية وهي بمنزلة مقاعد. بعضها مكسور. أجلس على أحدها الذي ليس مكسورًا، ويجلس هو على آخر. نميل إلى الأمام لتفادي الأفرع الخشنة التي انكسرت عبر جدران التعريشة.
يضع يده على ركبتي، على تنورتي القطنية.
«ماذا عن السيدة كرايدرمان يا جيسي؟ هل تظنين أنها ستكون سعيدة جدًّا إذا رأتنا الآن؟»
أنظر للسؤال باعتباره سؤالًا لا يحتاج إلى إجابة، لكنه يكرره، وعليَّ أن أجيب، «لا.»
«لأنني فعلت بها ما ربما تحبين أن أفعل بك، فهي ستلد طفلًا، ولن يكون الأمر سهلًا بالنسبة إليها.»
يلمس رجلي من خلال القطن الخفيف. «أنت فتاة عفوية يا جيسي. يجب ألا تدخلي أماكن كهذه مع رجال لأنهم طلبوا منك ذلك. يجب ألا تكوني مستعدة هكذا حتى تدعيهم يقبلونك. أعتقد أنك عاطفية، أليس كذلك؟ أنت شخص عاطفي. لا يزال أمامك بعض الدروس التي يجب أن تتعلميها.»
وهكذا تسير الأمور، الملامسة، والوعظ، في آن واحد. يخبرني أن اللوم يقع عليَّ، بينما تحدث أصابعه حركات خفقان تحت جلدي، مثيرة ألمًا خفيفًا، بعيدًا. يؤنبني صوته الجاف. تثيرني يده وتلقي كلماته باللوم عليَّ، ويوجد شيء في صوته يسخر، يسخر إلى ما لا نهاية، من هذين الأمرين. لا أدرك أن هذا ليس عدلًا. على الأقل، لا أفكر في القول بأن الأمر ليس عدلًا. أشعر بالخزي حقيقة، وبالحيرة، والشوق. لكنني لا أستحي مما يخبرني أنني يجب أن أستحي منه. ولكن من أن يراني أحد في هذا الوضع، أن أبدو غبية، أن يتم إغوائي ثم أوبخ على ذلك. ولا أستطيع وقف هذا الشعور.
«ثمة شيء عليك أن تتعلميه يا جيسي؛ أن تقدري الآخرين. تقدري حال الآخرين. يبدو الأمر بسيطًا لكن يمكن أن يكون صعبًا. سيكون الأمر صعبًا بالنسبة إليك.»
ربما يشير إلى زوجته، التي لا أقدر حالها. لكنني أفهم هذا الأمر على نحو مختلف. أليس صحيحًا أن جميع الأشخاص الذين أعرفهم في العالم حتى الآن لا يعدون أن يكونوا أكثر من مجرد عرائس متحركة بالنسبة إليَّ، يخدمون خطط خيالي المختلقة؟ هذا صحيح. أصاب كبد الحقيقة، مثلما تحب العمة إنا أن تقول. لكن إصابة كبد الحقيقة في أمر كهذا، في أمر يتعلق بالفشل في العلاقة الحميمة، لن يردع الآخرين ولن يجعلهم ممتنين، ومستعدين للتغيير من أساليبهم. يزداد العناد أكثر فأكثر، حقيقة، حيال الخطأ المدرك على نحو واضح. وهكذا يزداد عنادي. يزداد العناد، يتعامل العناد مع جميع تلك اللحظات المرغوبة من العذوبة، يخمد الأمل في المتعة، البريق العميق للدعوات الخفية. ماذا أريد من شخص يستطيع أن يعرف الكثير عني على هذا النحو؟ في حقيقة الأمر، إذا كنت أستطيع محوه محوًا من على وجه البسيطة الآن، فسأفعل.
يشعر بحدوث تغير فيَّ. يسحب يده بعيدًا وينهض. يطلب مني أن أخرج قبله، أن أعود إلى المنزل. ربما قال كلمتين تحذيريتين، إضافيتين، لكنني لم أكن أستمع.
•••
فضلًا عن ذلك، قالت ماريبيث إنها لا تصدقني. «كنت أصدقك في البداية. كنت. ثم بدأت أتساءل.»
قلت: «انفصلنا … انتهى الأمر.»
قالت ماريبيث، بصوت مرتعش، آسفةً، هازةً رأسها: «لا أصدقك … لا أصدق أن شيئًا كان يجري بينك وبينه على الإطلاق. كان يجب علي أن أخبرك بهذا. لا تغضبي. كان عليَّ أن أخبرك بذلك.»
لم أرد عليها. مضيت في السير مسرعة. كنا في طريقنا إلى المدرسة. كنا قد التقينا كالعادة بالقرب من بنك «دومنيون بانك»، وانتظرت حتى مررنا بثلاثة مربعات سكنية قبل أن تندفع في قول ما كانت تريد قوله. كان عليها أن تسرع من خطاها حتى تلاحقني في السير. قبل أن نلحق ببعض الفتيات الأخريات — قبل أن أنادي أسماءهن مبديةً ودًّا كبيرًا وروح دعابة طيبة — نظرت إليها نظرة قاسية؛ نظرة يستحقها خائن، وكنت أظن أنها تستحقها. كانت مخطئة؛ كان قد جرى الكثير بيني وبين السيد كرايدرمان. كانت محقة، أيضًا، بالطبع. لكنني كبحت التفكير في ذلك في يسر مذهل. ربما يشعر المرء بنوبة الغضب المبرر نفسها، سواء جرى اتهامه عن حق أو عن غير حق.
دون أن أخطط تمامًا للأمر، تبنيت سياسة ألا أتحدث إلى ماريبيث. عندما أتت ناحيتي في غرفة وضع المعاطف والقبعات، وقالت في رقة: «ألن نسير إلى المنزل معًا يا جيسي؟» لم أجبها. عندما سارت إلى جانبي، تظاهرت أنها لم تكن موجودة. كانت الاختبارات قد بدأت، اختلفت مواعيدنا؛ وكان من السهل تحاشيها.
اكتشفت خطابًا، مطويًّا في كتابي الخاص باللغة الفرنسية. لم أقرأه كله. قالت فيه إنها تتعذب بسببي، إنها لا تستطيع أن تأكل، كانت تبكي في الفراش ليلًا، كانت تتملكها نوبات صداع هائلة جراء البكاء حتى إنها كانت لا ترى الأسئلة في أوراق الاختبارات واعتقدت أنها لن تنجح. اعتذرت، وتمنَّت لو أنها لم تتحدث إلي عن الأمر؛ كيف يمكنها أن تخبرني بأنها آسفة وأنا حتى لم أكن أتحدث إليها؟ كانت متأكدة من شيء واحد؛ أنها لا تملك قلبًا قاسيًا بحيث تعاملني مثلما كنت أعاملها.
قفزت إلى نهاية الخطاب ووجدت قلبين متشابكين مرسومين من حرفي إكس صغيرين، داخلهما اسمانا. جسي وميريبيث. لم أقرأ المزيد.
كنت أريد أن أتخلص منها. سئمت من شكواها وأسرارها، وجهها الجميل، وطبيعتها الرقيقة. كنت قد تجاوزتها، تجاوزت الحاجة إلى أي شيء كان يمكن أن تقدمه لي. لكن كان في الأمر ما هو أكثر من ذلك. عيناها المنتفختان، نظراتها المعذبة كانت ترضي شيئًا ما في داخلي. شعرت بأنني أفضل حالًا حين جرحتها. لا شك في ذلك. استرجعت قليلًا مما فقدته في الظُّلة الصيفية للزوجين كرايدرمان.
•••
بعد هذا بسنوات قليلة — ليس وقتًا طويلًا بالنسبة إليَّ الآن، لكن كان وقتًا طويلًا آنذاك — كنت أسير في الشارع الرئيسي في تلك البلدة التي كنت أذهب إلى المدرسة الثانوية فيها. كنت طالبة دراسات عليا آنذاك. كنت قد حصلت على منح دراسية ولم أعد أنطق اسم دوستويفسكي بشكل خاطئ. ماتت العمة إنا. جلست وماتت، بعد أن لمَّعَت الأرضية بالشمع مباشرة. تزوجت فلوريس. بدا كما لو أن الصيدلي الذي كان يملك متجرًا إلى جانب متجر الأحذية الذي تعمل به، حاول التودد إليها لسنوات، سرًّا، غير أن العمة إنا اعترضت عليه؛ كان يشرب الخمر (بعبارة أخرى، كان يشرب قليلًا)، وكان كاثوليكيًّا. أنجبت فلوريس صبيين، أحدهما في إثر الآخر مباشرة، ووضعت صبغة بنية مائلة إلى الاحمرار على شعرها، وكانت تشرب الجعة مع زوجها في الأمسيات. كان جورج يعيش معهما. كان يشرب الجعة، أيضًا، وكان يساعد في العناية بالطفلين. لم تعد فلوريس حيية أو سريعة الغضب. أرادت أن تصبح صديقتي؛ أعطتني أوشحة عليها زهور، وإكسسوارات ملابس لم أستطع ارتداءها، ومستحضرات للعناية بالبشرة، وأحمر شفاه من الصيدلية وهو ما أسرني. دعتني إلى زيارتها متى أحببت ذلك. في بعض الأحيان كنت أفعل ذلك، ثم سرعان ما كانت الأعمال المنزلية المحمومة، الأعمال الروتينية والمسرات المتمحورة حول الطفلين، تدفعني إلى الخروج للسير.
كنت أسير في الشارع الرئيسي وسمعت صوت طرق على نافذة. كانت نافذة مكتب وكيل التأمين، وكان الشخص الذي يقرع النافذة ماريبيث، التي كانت تعمل هناك. خلال السنة الأخيرة لها في المدرسة الثانوية، كانت قد تلقت دورة تدريبية في الكتابة على الآلة الكاتبة ومسك الحسابات. كانت تعيش مع بياتريس وزوجها، الذي سرعان ما أصبح صاحب محل حلاقة خاص به. لم تحاول أن تصادقني خلال تلك السنة. كنا نعبر الشارع أو ننظر إلى واجهة عرض أحد المتاجر عندما كانت أيٌّ منا ترى الأخرى قادمة؛ على الرغم من أن ذلك كان يرجع إلى الشعور بالحرج أكثر من وجود عداوة حقيقية. ثم حصلت على الوظيفة في مكتب وكيل التأمين.
كان الزوجان كرايدرمان قد رحلا قبل ذلك. أغلقا المنزل ورحلا إلى تورونتو قبل ميلاد الطفل. كان صبيًّا؛ طبيعيًّا تمامًا، هذا ما كان الجميع يعرفه. كانت العمة إنا تشعر بالاشمئزاز منهما؛ لأنهما لم يغلقا المنزل كما يجب. قالت إن الفئران ستدخل إليه. لكنهما باعا المنزل. باعا الجريدة. رحلا تمامًا.
أشارت ماريبيث إليَّ كي أدخل.
قالت: «مر وقت طويل منذ أن رأيتك.» كما لو كنا قد تفرقنا على أفضل ما يكون. وضعت قابس الغلاية الكهربية، لتصنع لنا قهوة سريعة التحضير. لم يكن وكيل التأمين موجودًا.
كانت أكثر بدانة مما كانت من قبل، لكنها كانت لا تزال جميلة، خاصة مع نظرتها التي تشبه فرخ الطير الصغير المجروح. كانت متأنقة في ملابسها كعادتها دومًا، كانت تضع سترة زرقاء ناعمة جذَّابة، مع وجود صوف مزغب عند صدرها الرقيق. كانت تحتفظ بشوكولاتة في درج بالمكتب، وبقطع تارت مربى في علبة. قدَّمت لي حلوى المرزبان ملفوفة في ورق فويل. سألتني هل كنت لا أزال أدرس وأي دورات كنت أتلقاها. أخبرتها قليلًا عن دراساتي وطموحاتي.
قالت دون خبث: «هذا رائع … كنت أعلم دومًا أنك ذكية.» ثم قالت إنها تشعر بالأسف لوفاة عمتي إنا، وكانت تعتقد أن الأمور تسير على ما يرام مع فلوريس. كانت قد سمعت أن صبيي فلوريس كانا لطيفين حقًّا.
كان لدى بياتريس بنات. كن لطيفات، أيضًا، لكنهن كن مدللات.
تحدثت كلتانا عن أنها مصادفة رائعة أنها استطاعت رؤيتي، وتعاهدنا على أن نلتقي في وقت ما في زيارة حقيقية؛ وهو شيء كنت أعرف أنها لم تكن تنويه مثلما لم أكن أنا أيضًا. أبدت إعجابها بوشاحي المصنوع من صوف الأنجورا وبالقبعة الاسكتلندية، وسألت عما إذا كنت قد اشتريتهما من المدينة.
قلت نعم، وكانت المشكلة الوحيدة بهما هي أن الخيوط كانت تتساقط منهما بكثرة.
قالت: «ضعيهما في الثلاجة ليلًا … لا أعرف لماذا، لكن هذا يفلح في الحفاظ عليهما.»
فتحت الباب، ودخل هواء شديد من الشارع.
قالت ماريبيث في صوت مليء بالدهشة الحزينة: «أتذكرين كيف كنا مجنونتين؟» كان عليها أن تتحرك في هذا الاتجاه وذاك، كي تمسك بالأوراق.
تذكرت السيد كرايدرمان وجميع أكاذيبي، وحيرتي المضنية في الظُّلة الصيفية.
قالت ماريبيث، متحركة في سرعة عبر المكتب للإبقاء على الأوراق حتى لا تتناثر: «لن تعود تلك الأيام مرة أخرى.»
ضحكت وقلت نفس الشيء، ثم أغلقت الباب بسرعة. ولوَّحت من الخارج.
شعرت بتلك التغييرات آنذاك — من سن الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة، من السابعة عشرة إلى التاسعة عشرة — حتى إنه لم يخطر ببالي قط كيف كنت، طوال تلك الفترة. رأيت ماريبيث تنغلق على نفسها، على متعها وآلتها الكاتبة، تزداد جمالًا وبدانة، ولا يزال الزوجان كرايدرمان كما هما، بعيدًا، في مفاوضاتهما الأبدية، ورأيت نفسي أتخلى عن الأحلام، والأكاذيب، والعهود، والأخطاء، دون محاسبة. لم أر أنني كنت لا أزال الشخص نفسه، متحمسة، ناكرة. كنت أظن أنني أستطيع تغيير نفسي كليةً، مرة بعد مرة، وأتلمس خطاي متعثرة في العالم دون أن يحاسبني أحد.