شعوب لا عددية مُعاصرة
في بعض الأحيان وأنا طفل صغير، كنتُ أستيقِظ في الأدغال على الأصوات المُتنافِرة لأشخاصٍ يَرْوون أحلامهم لبعضهم البعض: أحاديث فردية يعقُبها دفقاتٌ من تعليقاتٍ تتَّسِم بالحماسة. والأشخاص المَعنيون هم مجموعة تُعرَف باسم «بيراها»، وهي جماعة مُذهِلة (بالنسبة إليَّ على أي حال)، ويُعرَف عنهم أنهم يستيقظون ويتحدَّثون إلى أقرب جيرانهم في أيِّ ساعةٍ من ساعات الليل. وفي بعض الأحيان، تُزعِج هذه الممارسةُ بعض الأغراب الذي يحاولون جاهِدين أن يناموا. بالرغم من ذلك، فبالنسبة إلى ولدٍ صغير مثلما كنت، فإنَّ هذه الأصواتَ التي يتردَّد صداها في كوخ أُسرتي الكبير، خفَّفَت من مخاوفي الليلية المُرتبطة بالأدغال، وهدَّأَت من رَوعي حتى وإن لم أفهم إلا قليلًا مما يقولون. فعلى أي حال، كانت هذه الأصوات تدلُّ على أنَّ أهل القرية كانوا مطمئنِّين وغير مُنشغِلين بما كان يُقلِقني. لقد بدَت أصواتهم في هذا الليل السحيق خاليةً من أسباب القلق التي كانت تُبقيني مُستيقظًا في سكون في أرجوحتي الشبكية حين كانت تُقلقني بعض ضوضاء الغابة غير المفهومة. وحين كنتُ أستيقظ على صوت رُواة الأحلام، عادةً ما كان النوم يتسلَّل إليَّ ثانيةً بعد وقتٍ قصير.
كان طريق الوصول إلى قرية «بيراها» التي كانت تَعيش فيها أُسرتي عبارة عن رحلةٍ مُتعرِّجة عبر روافد الأمازون، أو رحلة لمدة ساعة بطائرة سيسنا ذات المُحرِّك الواحد، وكانت هذه الرحلةُ تنتهي بالطيَّار وهو يَستقر بعجلات الطائرة على مَدرَج هبوطٍ ضيِّق من العُشب، كان قبل اقتراب الطائرة مُختفيًا في خضمِّ ذلك البحر من الأشجار. وقد ظلَّت قرية بيراها مُنعزِلةً حتى اليوم، فلم تتغيَّر ثقافتها بدرجةٍ كبيرة منذ طفولتي، بل منذ بداية تواصُلهم مع أهل البرازيل قبل ما يزيد على القرنَين. إنهم ما زالوا يعيشون في تجمُّعات صغيرة حول النهر، في بيوتٍ متواضِعة للغاية كانوا يتخلَّون عنها في بعض الأحيان فينامون على ألواحٍ من الخشب على شواطئ النهر البيضاء التي تظهر في موسم الجفاف. وهم ما زالوا يستيقظون في مُنتصف الليل، ويبدو أنهم يكونون في وسط محادثة إذ يتشاركون الخِبراتِ من أحلامهم.
في الكثير من هذه الليالي التي قضيناها في القرية، وقبل أن نذهب إلى النوم في الأرجوحات الشبكية، كان والدايَ يُعطيان دروس الحساب لأهل بيراها، وقد زادوا من مُستويات مشاركة أهل القرية في هذه الدروس من خلال تقديم أحد أنواع الواردات الجيِّدة المطلوبة في نظرهم: الفشار. وعلى الوهَج الجاذب للحشرات، المنبعث من مصابيح الغاز الموَّزعة في كوخ أُسرتنا، والذي يُطلُّ على عناصر الطبيعة المُمتدَّة على طول نهر مايسي الأسود، حاوَلا تعليم هذه الجماعة الحساب بلُغَتهم الأصلية. وقد اتَّضح أنَّ هذه المحاولات لم تنجَحْ لمجموعةٍ متنوعة من الأسباب؛ ولعلَّ السبب الأبرز منها هو أنَّ لغة البيراها تفتقِر إلى وجود أي أعدادٍ محدَّدة؛ فحين تتبنَّى إحدى الثقافات نظامًا عدديًّا لثقافةٍ أخرى، فإنَّ أفراد هذه الثقافة المُتبنَّاة يكونون على وعيٍ بالمقصود بمفردات الأعداد على أقل تقدير، أما في حالة البيراها فقد كانت الأعدادُ غريبةً تمامًا. ولا ينطبق ذلك على مفردات الأعداد البرتغالية التي كان والداي يُحاولان تدريسها فحسْب، بل على وجود مفرداتٍ دقيقة للأعداد، والأهمُّ من ذلك أنه كان ينطبق على تمييز مُعظم الكميات المحدَّدة التي تُشير إليها.
حين كنتُ ولدًا صغيرًا كانت الصعوبة التي يُواجِهها البالِغون من أهل بيراها حين يُحاولون تعلُّم الأعداد، تُحيِّرني كثيرًا. وبدرجة كبيرة، كان ذلك الأمر مُحيرًا لي؛ لأنَّه كان واضحًا حتى لوعيي الصغير أنَّ هؤلاء ليسوا أفرادًا يُعانون من صعوبةٍ ما في التعلم؛ فما مِن خللٍ وراثي واضح بين هؤلاء الأفراد يُفسِّر الصعوبة التي كانوا يُواجهونها حين ذاك، وما زالوا يواجهونها، حين يتعلق الأمر بتعلُّم الأعداد. علاوةً على ذلك، فإنَّ أفراد البيراها الذين نَشئوا في ثقافةٍ خارجية لا يواجهون مثل هذه الصعوبة. وبالفعل، فقد كنتُ أتعجَّب من البراعة الإدراكية لهؤلاء الأفراد في العديد من الجوانب الأخرى. ولا شكَّ بأنَّ جزءًا من هذا التعجُّب كان يُعزى إلى حداثة سِنِّي، لكنَّ التجرِبة التي حفَّزته لم تكن بالهيِّنة؛ فقد كنتُ (مثل أختيَّ) ألعبُ مع أطفال البيراها، وأتبَعُهم في الغابات، وقد كنتُ أضلُّ طريقي بالفعل دونهم في بعض الأحيان. كنتُ أشاهدهم وهم يَصطادون السَّمك أفضل منِّي، ويُميزون موارد الفاكهة بطرُقٍ لم أستطع أن أفعلها. وبصفةٍ عامة، فقد كنتُ أشعُر أنهم لا يُبارَوْن في العديد من المهارات الذهنية التي كانت في غاية الأهمية في بيئتهم. بالرغم من ذلك، ففي درس الحساب العابر الذي يُقام على ضوء المصابيح، كنتُ أنا الأفضلَ من بينهم، أفضل حتى من الكبار.
إنَّ السبب في المُعوِّقات الثقافية لاستخدام الأعداد الدقيقة بين هذه الجماعات، لا يَزال محلًّا للجدل، لكنَّ صلابة هذه المعوقات غيرُ اعتيادية؛ فعادةً ما تَنتشِر الأنظمةُ العددية بين الثقافات، لا سيما بعد التواصُل لفترةٍ طويلة مع أفرادٍ من خارج الثقافة، مثلما حدَث مع هذه الجماعات من السكَّان الأصليِّين. وبعبارةٍ أخرى، حين تواجه الثقافاتُ مجموعاتٍ أخرى تَستخدِم عددًا أكبر من الكلمات التي تُعبر عن الكميات، فإنها عادةً ما تستعير بعض هذه الكلمات أو كلَّها، أو حتى المفاهيم التي تُعبِّر عنها هذه الكلماتُ على الأقل. وهذه الاستعارة أمر مفهوم؛ لأنَّ الأعداد مفيدة جدًّا. ونظرًا إلى هذه النزعة التي نلاحِظها كثيرًا، فقد يكون من المُفاجئ أنَّ بعض الثقافات لم تتبنَّ الأنظمة العددية الشاملة التي تستخدِمها الجماعاتُ التي التقَتْ بها، بغضِّ النظر عما قد تُواجِهُه من صعوبةٍ في استخدام هذه الأنظمة في حالاتهم الخاصة. بالرغم من ذلك، فقد ظلَّت البيراها والموندوروكو وبعضٌ من الثقافات الأخرى ثقافاتٍ لا عددية، أو ثقافاتٍ لا عددية إلى حدٍّ كبير. (غير أنَّ بعض الإشارات تُشير الآن إلى تغيُّر ذلك الوضع في كِلْتا الحالتَين.) ومثلما سنرى لاحقًا فإنَّ هذا الاختيار له آثارٌ متغلغلة.
البحث عن إجاباتٍ في الغابة
وفي مَوجة الانتباه الذي وُجِّه إلى البيراها عقْب نشْر دراسة جوردون، غالبًا ما كان يتمُّ تصويرُ هؤلاء الأشخاص بصورةٍ غير دقيقة، أو مشوَّهة للغاية في بعض الأحيان. فعلى أي حال، أصبَحوا يُمثِّلون بالنسبة إلى البعض حياةَ الرجعية، عودة إلى أيام العصر الحجَري، وبقايا من العصر اللاعددي. واقترحَ البعضُ أنَّ الصعوبة التي يُواجِهونها في تعلُّم المفاهيم الحسابية ربما تعود إلى زواج الأقارب فيما بينهم، فربما يكون السببُ هو جينًا، أو جيناتٍ، متنحِّيةً قد ظهرَت بسبب المُختنق السكاني. وكلا التفسيرَين خاطئٌ تمامًا بالطبع؛ فالنتيجة المنطقية الوحيدة التي يُمكِننا أن نستخلصها من دراسة جوردون هي أنَّ أهل البيراها هم جماعة تَعيش على الصيد والتقاط الثمار، وقد اختاروا ألا يَستخدموا الأعداد، ونتيجةً لذلك، فهم لا يَستخدمون المزايا الإدراكية التي تُقدِّمها هذه الأداة. ولكي نَفهم هذا التفسير بصورةٍ أفضل؛ يجب علينا أن نَدرُس نتائج دراسة جوردون، وكذلك أعمال الآخرين اللاحقةَ عليها، بما في ذلك أعمالي.
لكنَّنا في البداية، سنَعرض مُقدِّمة عن كيفية إدراك البشر للأعداد بصفةٍ عامة. مثلما أوضحْنا في الفصل الرابع، فإنَّ البشر مزوَّدون فطريًّا «بحاسَّتَين» حِسابيَّتَين. وبالرغم من أنَّ العديد من البالِغين لن يرَوْا أنَّ هاتَين القُدرتَين أو هاتَين الهِبتَين الوراثيَّتَين، تتَّسمان بالطبيعة الحسابية، نظرًا لبساطتهما، فإنهما أساسيَّتان لمشروع التفكير باستخدام الأعداد؛ لدَينا أولًا: الحاسَّة العددية التقريبية، وهي قُدرتنا الفطرية على تقدير الكميات، ويبدو أنَّ أطفال البشَر يُولَدون بهذا النظام، وهو يُمكِّنهم من تمييز الفروق الكبيرة بين الكميات؛ فمِثلما سنرى في الفصل السادس، يَستطيع الأطفال حديثو الولادة أن يُميِّزوا على سبيل المثال بين ثمانية عناصر وستةَ عشر عُنصرًا، فهم يستطيعون إجراء العمليات الحسابية بشكلٍ تقريبي، فيما يتعلَّق بالكميات الكبيرة. وأما ثاني القدرات الحسابية الفطرية لدى البشر: فهي قدرتهم على التمييز الدقيق للكميات المُتمثلة في ثلاثةٍ أو أقل، بعبارةٍ أخرى، فإنَّ جميع أفراد البشَر من جميع الأعمار يَستطيعون أن يُميِّزوا بين شيءٍ واحد وشيئَين، وكذلك بين ثلاثة أشياء وشيءٍ واحد. وفي هذا الكتاب، سوف أُشير إلى هذه القدرة باسم الحاسَّة العددية الدقيقة؛ لسهولة مُقارنتها بالحاسَّة العددية التقريبية. (ونظرًا إلى أنها تساعد بصفةٍ عامَّة في تتبُّع المجموعات الصغيرة من الأشياء بالتوازي، فعادةً ما يُشار إليها في مجال علم النفس باسم «نظام الملف الهدف» أو «نظام التفرُّد المتوازي».) ومثلما ذكرتُ في الفصل الرابع، فإنَّ المنطقة المسئولة بشكلٍ كبير عن هاتَين الحاسَّتَين في أدمغتنا، هي منطقة الثَّلْم داخل الفص الجداري.
إنَّ وجود هاتَين القُدرتَين الحِسابيَّتَين البدائيَّتَين المُختلفتَين، قد أصبح مؤكدًا في الوقت الحالي، غير أنَّ الوعي بوجودهما لا يزال يَطرح أمامنا أسئلة مُحيرة: لِمَ يَستطيع البشر دون الأنواع الأخرى الجمْعَ بين هاتَين القُدرتَين؟ وكيف نجمع بينهما معًا؟ وما الذي يُمكِّننا من نقْل هذا الإدراك الدقيق للكميَّات الصغيرة إلى الكميات الكبيرة، التي تُعالجها الحاسَّةُ العددية التقريبية تلقائيًّا؟ وبصفةٍ عامة، توجَد إجابتان أساسِيَّتان لهذه الأسئلة المُتشابِهة؛ الإجابة الأولى هي إجابة التوجُّه الفطري، ووَفْقًا له فإنَّ هاتَين القُدرتَين مُدمَجتان في الدماغ البشري؛ لأنَّ تلك ببساطة هي كيفية عمل الدماغ البشري. ووَفْقًا لهذا المنظور، فإنَّنا لم نُزوَّد في شفرتنا الوراثية بالحاسَّة العددية الدقيقة والحاسَّة العددية التقريبية فحسْب، بل زُوِّدْنا أيضًا بالقُدرة على استخدامهما معًا تدريجيًّا بطريقةٍ ما. ومعنى هذا بعبارةٍ أخرى: أنَّ إحدى السِّمات التي يَتميَّز بها نوعُنا هي أنَّ الأعداد مُثبَّتة في أدمغتنا، وأنَّنا نُدرِك تلقائيًّا على مدار تطوُّرنا أنَّ كميتَين مثل ٥ و٦، تختلفان عن بعضهما البعض. (وحتى إن كانت التسميات مثل «خمسة» و«ستة» قد تُيسِّر هذا الإدراك، فإنَّ الإدراك نفسَه ممكنٌ في غيابها.) أما الإجابة الثانية المُحتملة فهي ذات توجُّهٍ ثقافي، وهي أنَّ البشَر لا يتعلَّمون الجمع بين القُدرتَين الرياضيَّتَين الفطريَّتَين، إلا إذا تعرَّضوا للأعداد بعد انتمائهم إلى ثقافةٍ عددية وتَحدُّثِهم لغةً عددية. ويَفترض مثلُ هذا التفسير أنَّ البشر لا يتعلمون التمييزَ بدقةٍ بين الكميات الأكبر من ٣، إلا حين يتعلمون الرموز الثقافية المشتركة التي ترمز إلى الكميات المُحدَّدة، أي حين يتعلَّمون مفرداتِ الأعداد.
إنَّ هذَين التَّفسيرَين المُحتملَين بشأن نشأة الإدراك العددي الذي يتميز به البشر؛ يؤدِّيان إلى توقُّعات مُتماثلة بدرجةٍ كبيرة. فكِلا التفسيرَين يَتوقَّع أنه مع نشأة البشَر في مجتمعات عددية، سوف يكتسبون مهارةَ إدراك الفروق الدقيقة بين الكميات الأكبر من ٣. ونظرًا إلى أنَّ الغالبية العظمى من ثقافات العالم عددية؛ فقد ظلَّ تقديمُ أدلةٍ واضحة تدعم هذه الفرضية أو تلك أمرًا صعبًا لبعض الوقت. فقد يقترح أحد المُؤيِّدين لهذا التفسير الثقافي، على سبيل المثال، أنَّ الأطفال لا يُتقِنون التمييزَ بين الكميَّات الأكبر من ٣، إلا حين يتعلَّمون العد. وقد يَحتجُّ أحد المؤيدين لفرضية التوجُّه الفطري بأننا نتعلَّم العدَّ حين تنمو أدمغتنا بالدرجة الكافية لأداء هذه المهمة. ومن الطرُق التي يمكن استخدامها لإلقاء الضوء على المسألة تقديمُ بيانات من مجموعةٍ من البالغين الأصحَّاء الذين يَعيشون في مجتمع غير عددي. فإذا كانت إحدى الجماعات السُّكانية لا تَستخدم مفرداتِ الأعداد أو غيرها من أشكال الثقافة العددية، فهل سيتعلم أفرادُها التمييزَ بين معظم الكميات بدقة، أم يقتصر استخدامهم على الحاسَّة التقريبية الأبسط التي يُوفرها جهازنا الدماغي؟ إنَّ الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأول سوف تُقدِّم دعمًا كبيرًا للتفسير الفطري، أما الإجابة بالإيجاب عن السؤال الثاني فسوف تُقدِّم دعمًا كبيرًا للتفسير الثقافي.
ومع وضع هذه المسائل في الاعتبار، فإنَّ الدراساتِ المُتعلقةَ بالموضوع، التي أُجرِيَت على سكان البيراها، قد ركزَت على إبراز قدرة هؤلاء الأفراد على التمييز بين الكميات الأكبر من ٣ بدقة، أو إبراز غيابها. تكوَّنت دراسة جوردون من مجموعةٍ من مهام تمييز الكميات، وقد أجراها على البالغين في قريتَين، وكان الهدفُ من هذه المهام هو الإجابةَ عن هذا السؤال الأساسي: هل يتمكن الأفراد البالِغون الأصحَّاء الذين ينتمون إلى ثقافةٍ لا عددية من التمييز بين الكميات الأكبر من ٣ بدقة وبصورة منتظمة؟ هل يمكنهم دومًا التمييز بين ٦ عناصر و٧ عناصر، أو بين ٨ و٩، أو حتى بين ٥ و٤؟ وإذا لم يَكونوا يستطيعون، فإنَّ ذلك سوف يُشير إلى أنَّ معرفة العدِّ ومفردات الأعداد أمر أساسي، لا للرياضيَّات فحسْب، بل لمجرد التمييز بين الغالبية العظمى من الكميات.
مع إجراء جوردون لتجارِبه، ظهر نمَطٌ واضح في إجابات أهل البيراها، بصرْف النظر عن الطلبات المُحدَّدة في المهمة. ومُوجَز القول إنَّ أهل البيراها كانوا يواجهون صعوبةً ملحوظة في التمييز بين الكميَّات، على أنَّ الأمر الأهم هو أنَّهم لم يَجِدوا هذه الصعوبة إلا في الكميات الأكبر من ثلاثة؛ فحين كان يُطلَب من المشاركين على سبيل المثال أن يَصنعوا خطًّا من البطاريات يُطابق خطًّا آخر في الكمية، فإنَّ الخط الذي كانوا يَصنعونه كان يُطابِق الأول دائمًا، إذا كانت هذه الكمية ١ أو ٢ أو ٣. بالرغم من ذلك، فحين كان الخطُّ الأوَّلي يتضمَّن ٤ بطاريات أو أكثر، بدأ ظهور الأخطاء في الإجابات، وكان عددُها يزداد طَرديًّا مع زيادة عدد البطاريات التي تُعرَض عليهم. وقد ظهر نمَطٌ مُشابِه لذلك في مهمة المطابقة المتعامِدة، وكذلك مهمة العرْض لفترةٍ وجيزة، غير أنَّ الأخطاء قد زادت في المهمة الثانية، وليس ذلك مفاجئًا بالطبع نظرًا لما تحمِله طبيعةُ هذه المهام من صعوبةٍ أكبر. وفي اختبار وضع الجوز في العلبة، واجه مُتحدِّثو هذه اللغة اللاعددية صعوبةً فائقة، وقد زادت أخطاؤهم تبعًا لزيادة عدد الجوز الذي وُضِع في العلبة في البداية. وبعبارةٍ أخرى، فقد أشارت نتائجُ جوردون إلى أنَّ أهل البيراها كانوا قادِرين على مُطابقة الكميَّات في عقولهم، وذلك بشكلٍ متكرِّرٍ ودقيق؛ شرطَ ألا تَزيد كميةُ هذه العناصر التي يُسجِّلونها في عقولهم عن ثلاثة. أما في الكميَّات التي تَزيد على الثلاثة، فقد بدأَتِ الأخطاءُ بالظهور كما هو مُتوقَّع. لقد عكسَت إجاباتُهم نمَطًا من الاعتماد على التقريب أو التقدير التماثُلي، لا التمييز الدقيق بين الكميات.
لقد رسمَت لنا هذه النتائجُ الأولية التي جمَعْناها من البيراها صورةً واضحة؛ وهي أنَّ هؤلاء الأشخاصَ يجدون صعوبةً في مجرد التمييز بين الكميات التي تَزيد عن ثلاثة، وهم يستطيعون فِعل ذلك، غير أنهم يفعلونه بطريقةٍ تعتمد على التقدير. وبالمثل، فإنهم قادرون تمامًا على التمييز بين الكميات الصغيرة؛ فما يبدو أنَّ أهل البيراها يفتقرون إليه هو الوسيلة إلى توحيد هاتَين القُدرتَين التي منحَتْنا إياهُما شفرتُنا الوراثية، بالرغم من أنَّ هؤلاء الأشخاص طبيعيُّون جدًّا من الناحية الوراثية؛ فلقد نجَحوا في بيئتهم المحلية، وتمكَّنوا من التكيُّف والبقاء على قَيد الحياة بجوار نهر مايسي على مدار قرون على الأقل، وما مِن تفسيرٍ سهل يوضِّح السبب فيما يُواجهونه من صعوباتٍ واضحة في أداء المهام الأساسية التي تَستنِد إلى تمييز الكميات، إضافةً إلى حقيقة أنهم يتَحدَّثون لغةً لا عددية تمامًا، ولا تتضمَّن ثقافتُهم أيَّ ممارسات عددية.
لقد نُوقِشَت نتائجُ جوردون على نطاقٍ واسع، ونظر إليها الكثيرون على أنها مُؤشِّر واضح، ولعلَّه الأوضح بشأن تلك النقطة المُتمثلة في أنَّ بعض المفاهيم الرياضية الأساسية ليست مُتأصِّلةً فطريًّا لدى البشَر، بل إنَّنا نتعلَّمها ونكتسبها من خلال الثقافة والانتقال اللُّغوي. وإذا كنَّا نتعلَّمها لا نكتسبها بالوراثة، فهي ليست مُكوِّنًا من مكونات الجهاز العقلي البشَري، لكنها جزءٌ من برنامجنا العقلي، سِمةٌ في تطبيقٍ طوَّرناه بأنفسنا.
وفي حالة مهمة مطابقة الخط الأساسية، دون الحاجة إلى الاستعادة من الذاكرة أو التدوير المادي، لم تكن النتائجُ التي توصَّل إليها فريق فرانك مطابقةً تمامًا لنتائج جوردون؛ فقد وجَدوا، مع بعض الاستثناءات، أنَّ أفراد البيراها تمكَّنوا من إعادة تكوين الكمية التي رأَوْها من بكَرات الخيط بشكلٍ دقيق، إذا كانت هذه البكَرات معروضةً في خط، وسُمِح للمشاركين برؤية هذا الخط على مدار المهمة. وقد كانت هذه النتائجُ بمثابة عقَبة للتفسير السابق بشأن الإدراك العددي لأهل البيراها. واستخلص فريقُ البحث أنه بالرغم من أهمية مفردات الأعداد التي تَعمل بمثابة «تِقنية إدراكية» وتُيسِّر عملية مُعالجة الكميات واستذكارها، فإنها ليست ضروريةً في المهام التي تقتصر على تمييز الكميات فحسب. وقد اقترح الباحثون سببًا بديلًا ربما يُفسِّر الصعوبة التي واجهها أفراد البيراها في أداء أبسطِ المهام في دراسة جوردون، التي تتمثَّل في مطابقة خطٍّ بخط؛ ربما كانت البطاريات تدحرجَت بالفعل في بعض الأحيان، وربما عقَّدَت هذه الدحرجةُ إدراكَ الأفراد للكميات.
كَرَّرَت دراستُنا مهامَّ المطابقة سابقة الذِّكر، باستخدام وسائلَ ومُحفِّزاتٍ مُماثلة لما استخدَمه فرانك وزملاؤه، وهي بَكَرات من الخيط وبالونات من المطاط، وبعض المُحفِّزات الأخرى، مع الحصول على النتائج نفسِها في دراسة المتابعة. غير أننا حين اختبرنا أفراد البيراها في قريةٍ أخرى غير «آه جي أوه باي»، لم يَكُن المشاركون في الدراسة قد تعرَّضوا لتدريس مفردات الأعداد في الشهور السابقة على عملِنا التجريبي. وشارَك في هذا المشروع أربعةَ عشَر فردًا من البالِغين (ثماني نساء وستةُ رجال)، لكنَّنا أجرَينا بعض المهام مع الأطفال أيضًا، الذين كانوا مُتحمِّسين للاشتراك. في مهام المُطابقة الثلاث كانت إجاباتُ أفراد البيراها تتضمَّن أخطاءً حين يُعرَض عليهم أربعةُ مُحفِّزات أو أكثر. وانخفضَت نسبةُ الإجابات الصحيحة من ١٠٠ بالمائة، عند عرض ١ أو ٢ أو ٣ عناصر، إلى حوالي ٥٠ بالمائة عند عرض ٥ عناصر، وانخفضَت هذه النسبة تدريجيًّا مع الكميات الكبيرة. وبالنسبة إلى الكمية ١٠، وهي أكبر كمية في الاختبار، كانت الإجابات صحيحةً في رُبع الوقت فقط في مهام مطابقة خطٍّ بخط ومهام المطابقة المُتعامِدة، وفي عُشْر الوقت فقط في مهام مطابقة الخط المخفي.
إضافةً إلى تَكرار الدراسات السابقة بين أفراد البيراها، قُمْنا بعد ذلك باختبار مهارات الإدراك الكمِّي لدَيهم بطرقٍ أخرى. فعلى سبيل المثال، طلَبْنا منهم في بعض المهام تَكرار سلسلةٍ من الإشارات، أو سلسلة من الأصوات، كالتصفيق. وفي جميع الحالات ظلَّ أداؤهم يُشير إلى أنهم يُواجِهون صعوبةً في التمييز بدقة بين الكميات؛ إذ يَبدو أنهم يَستخدمون الحاسَّة العددية التقريبية عند التمييز بين الكميات، بصرْف النظر عن كيفية استقبالهم للمُحفِّزات المَعنية.
ومن سوء الحظ أنَّ النتائج التي جمَعها الباحثون من أفراد البيراها، ما زالت تُفسَّر على نحوٍ غير صحيح في كثيرٍ من الأحيان؛ فمن التفسيرات السطحية والخاطئة بشكلٍ واضح، مثلما أشرْنا من قبل، هو أنَّ أداء الأفراد يدلُّ بطريقةٍ ما على وجود قُصورٍ في مهارات الإدراك على مستوى السكَّان، وهو تفسير لا يمكن الدفاعُ عنه من منظورٍ تجريبي. ومن التفسيرات الأخرى التي يمكن دَحضُها بسهولةٍ أنَّ الأفراد لا يَبذُلون جهدًا في أداء مهام التجربة المَعنية، أو يُولُون اهتمامهم لأشياء أخرى خلال أداء المهام. ولا يتَّفِق هذا التفسيرُ مع الفحص الدقيق للنتائج؛ إذ إنَّ المشاركين لا يُخمِّنون الإجابة فحسْب، بل إننا نجد منهم إجاباتٍ تقريبيةً صحيحة بصورة منتظمة. فمن الواضح أنهم يُولون انتباهَهم إلى الكمية، لكنَّ ذلك يكون بشكلٍ تقريبي. وأما التفسير الثالث، وهو الأكثر وَجاهةً وتؤيده جميعُ النتائج التي حصَلْنا عليها من أفراد البيراها حتى الآن، فهو أنهم جماعة لا عددية، يَفتقِرون إلى وجود اللغة العددية أو غيرها من مظاهر الثقافة العددية، وهذا الافتقارُ إلى وجود الأعداد هو الذي يُنتِج هذا التأثيرَ الواضح في قُدرتهم على تمييز الكميات وتذكُّرها. وليستِ الدراساتُ التجريبية وحدَها هي التي تَدعم هذا التفسير، بل تدعمه أيضًا تقاريرُ كثيرٍ من الأجانب الذين تفاعلوا مع هذه الجماعة؛ فما من شيءٍ في الثقافة الأصلية لجماعة البيراها يُشير إلى وجود العدِّ الدقيق؛ فالمباني التي يَسكنون بها، والأدوات التي يَصطادون بها، وغيرها من الأدوات الصغيرة، لا تَستلزِم في إنتاجها تمييزًا دقيقًا بين الكميات.
وبالرغم من ذلك، فمن المؤكَّد أنَّ بعض مظاهر ثقافتهم تتطلَّب التمييز بين الكميات الكبيرة بصورةٍ منتظمة، أليس كذلك؟ وفي ذلك الصدد يتَّضح لنا بعضٌ من المفاهيم الخاطئة التي صادَفتُها مراتٍ عديدةً في المحاضرات وغيرها من السياقات، ففي الفقرة التالية التي قدَّمَها أحدُ المعلِّقين على الإنترنت على مقالةٍ نُشِرت في مجلة «سليت» بشأن نتائجِ هذه الدراسة التجريبية: «إذا كان ثَمَّة سيدةٌ في هذه الجماعة، ولدَيها سبعة أطفال أو حتى خمسة، فكيف ستُربِّيهم وتهتمُّ بهم إذا كانت غيرَ قادرة على استخدام الحساب لمعرفة أعمارهم النسبية؟ هل يُمكِن للأمِّ أصلًا أن تتذكَّر أنَّ لدَيها أكثرَ من طِفلَين أو ثلاثة؟ وإذا كانت تستطيع أن تتذكَّر فلا بدَّ أنها تستطيع العدَّ في سياقاتٍ أخرى أيضًا.»
وأما النقطة الأخرى التي تتَّضِح في تعليق القارئ، فهي تَعكس بعض الحَصافة، وإن كان ذلك سطحيًّا على الأقل؛ كيف يُمكِن لأمٍّ ألا تتذكَّر عدد أطفالها؟ لا شكَّ بأنَّ جميع الأمهات يتذكَّرن جميعَ أطفالهنَّ طوال الوقت، أليس كذلك؟ بالطبع بلى، لكنَّ ذلك لا يتعلَّق في الواقع بالعدِّ وتمييز الكميات. فلنقل مثلًا إنك تنحدِر من عائلةٍ كبيرة، وتذهب إلى بيتك في العطلات لتزور إخوتك الأربعة: كوري وأنجِلا وجسيكا ومات. بالرغم من ذلك، تُلغَى رحلة كوري ولا يتمكَّن من الوصول في الموعد المُحدَّد للعشاء العائلي. فإن لم تُخطَر بالإلغاء قبل العشاء وجلَستَ لِتَناوله، فسوف تتساءل على الفور: «أين كوري؟» أعتقِد أنك لن تنظر حولك مُتسائلًا بتعجُّب: «إنني أرى ثلاثةَ إخوة هنا، لكنني أعرف أنَّ لديَّ أربعة!» ما أَعنيه أنك لا تحتاج إلى أي معرفة بالتمييز الدقيق للكميات لكي تُدرِك غيابَ أحد أحبَّتِك. إننا نُفكر في أعضاء أُسَرنا بصفتهم أفرادًا، لا أشياءَ عديمة الوجوه يمكن عدُّها. «نستطيع» بالطبع أن نَعُدَّ أعضاء أُسرتِنا، لكننا لا «نحتاج» إلى ذلك لكي نُدرك حضورهم أو غيابهم. والأمر نفسُه ينطبق على البيراها؛ فما من دليلٍ يُشير إلى أنَّ هؤلاء الأشخاص يحتاجون إلى التمييز بين الكميات لكي يتذكَّروا الغائبين أو لأداء أي مهمة أخرى في ثقافتهم. فإذا كانت تلك هي الحالة فلا شكَّ في أنهم كانوا سيستخدمون مفردات الأعداد لتيسير ذلك التمييز، لكنَّ البيراها يتذكَّرون أطفالهم بصفتهم أفرادًا، لا أعدادًا.
إنَّ الأسئلة المُتعلقة بالأفراد الذين لا يَستخدمون الأعداد غالبًا ما تُنبِئنا بشيءٍ عمن يَسألونها من الأشخاص الذين ينتمون إلى ثقافاتٍ عددية. إننا مُنخرطون جدًّا في عالم الأعداد، حتى إنه قد صار من الصعب علينا أن نتخيَّل الحياة بدونها؛ فحَيواتنا الإدراكية والمادية لا يُمكن أن تنفصل عن الأعداد التي طوَّرناها، والتي نَفرضها على أنفسنا في سنٍّ مبكرة للغاية. إنَّ النتائج التي تُجمَع من جماعة البيراها، قد تُستغَل في إظهار غرابة هذه الجماعة من السكان الأصليين، وذلك يَحدُث في بعض الأحيان، وتؤدي إلى التعامُل معهم باعتبارهم نسخةً معاصِرة من بشَر العصر الحجَري القديم. ومثل هذا التغريب يُضيع الكشف الحقيقي الذي تُقدِّمه مثلُ هذه الأبحاث. ولا يَقتصر هذا الكشف على جماعة البيراها فحَسْب، بل يمتدُّ لِيَشملنا جميعًا؛ فالبشر يحتاجون إلى اللغة العددية والثقافة كي يتمكَّنوا من تمييز مُعظم الكميات المحدَّدة بدقة وتذكُّرها. إنَّ المهاراتِ الإدراكيةَ المُتعلِّقة بالكميات، التي تبدو من المهارات الأساسية، ليست مجرَّدَ مُنتجٍ ثانوي لبعض الآليات الفطرية أو العمليات التي تحدُث بصورة طبيعية تلقائية، بل إنَّ بعضها لا يُكتسَب إلا من خلال الثقافة واللغة.
ومِن حُسن الحظ أنَّ هذا الاستنتاج لا يتوقَّف كُليًّا ولا حتى مَبدئيًّا على النتائج التي حصَلْنا عليها من أهل البيراها؛ فالأعمال المَعنيَّة بتطوُّر الإدراك العددي لدى الأطفال في المُجتمعات الصناعية الكبيرة، قد توصَّلَت إلى الاستنتاج نفسِه، وهو ما سَنراه في الفصل السادس، إضافةً إلى الأبحاث التي أُجرِيَت بين مجموعةٍ أخرى مُذهِلة من سكَّان الأمازون، وهي جماعة الموندوروكو التي سبق ذِكرها. وثقافة الموندروكو من الثقافات الأصلية الكبيرة؛ فبينما يبلُغ عدد أفراد البيراها ٧٠٠ فرد تقريبًا، نجِد ما يَربو على ١١ ألف فردٍ من الموندوروكو. وهم يُقِيمون على أرضهم الكبيرة على بُعد ٦٠٠ كيلو مترٍ من أقصى جزءٍ باتجاه الشرق من أرض البيراها. وهم يشتركون مع البيراها في بعض السِّمات، بالرغم من اختلاف نمَطَي حياتهم؛ فمِن الناحية التاريخية تَشترك الثقافتان في سُمعتهما المُخيفة في الدفاع عن أراضيهم الأصلية عند وصول الأوروبيِّين. وقد استحقَّت هذه السُّمعةَ أيضًا جماعةٌ أخرى تُعرَف باسم المورا، التي كانت البيراها مجموعةً صغيرة تَنتسِب لها. ومثلما ذكَرنا سابقًا، فإنَّ جماعة الموندوروكو يتشاركون في تلك السُّمعة، التي سادت لفترةٍ طويلة، بأنهم يواجهون صعوبةً مع المفاهيم العددية.
لقد قام بيير بيكا، وهو عالم لُغويات فرنسي يُجري بعض الأعمال التجريبية في الأمازون، بدراسة الإدراك العددي الأساسي لدى جماعة الموندوروكو، وذلك مع فريقٍ من علماء النفس المرموقين. وقد وضَّح هو والفريق أنَّ مُتحدِّثي هذه اللغة يَعتمدون على حاسَّتِهم العدَدية التقريبية في أداء المهام الرياضية التي تتضمَّن كمياتٍ أكبرَ من ثلاثة، مثلهم في ذلك مثل أفراد البيراها. في إحدى الدراسات أجرى بيكا ورفقته أربعَ مهامَّ رياضية أساسية، على خمسةٍ وخمسين من أفراد الموندوروكو البالغين، وعشَرةِ أفراد من مُتحدِّثي الفرنسية يُمثِّلون المجموعة الضابطة. وقد كانت اثنتان من هذه المهام لهما طبيعةٌ تقريبية، وكان يُطلَب من المشاركين فيهما أن يُحدِّدوا بسرعةٍ أيُّ مجموعَتَيِ النقاط اللَّتَين تَظهران على شاشة الكمبيوتر تتضمَّن أكثرَ النقاط. وقد كان أداء الموندوروكو وأداء الفرنسيين مُتماثِلًا في مثل هذه المهام؛ إذ إنها لا تَستلزِم سوى التقريب لا التمييز الدقيق بين الكميات. بالرغم من ذلك، ففي المهمَّتَين الأُخريَين طُلِب من المشاركين توضيحُ التمثيل الدقيق للكميات، وقد تضمَّنَت كِلتا المهمتَين الطرحَ من النقاط؛ فقد شاهد المشاركون النِّقاطَ وهي «توضع» في علبةٍ تَظهر على شاشة الكمبيوتر، وقد تابعوا المشاهدةَ بينما تتمُّ «إزالة» عددٍ من النقاط من العلبة. وقد طُلِب منهم في واحدةٍ من هاتَين المهمتَين أن يذكروا اسم الكمية المُتبقية في العلبة، وفي المهمة الأخرى طُلِب منهم أن يختاروا من بين مجموعةٍ من الصور العلبةَ التي تحتوي بداخلها على العدد الصحيح المُتبقِّي من النقاط؛ فعلى سبيل المثال إذا شاهدوا خمس نقاطٍ تدخُل العلبة، وأربعةً تخرج منها، فقد كانوا يرَون بعدَها بشكلٍ مُتزامن ثلاثَ عُلَب «للاختيار»؛ من بينها: علبة تحتوي على صفرٍ من النقاط، وعلبة تحتوي على نقطةٍ واحدة، وعلبة تحتوي على نقطتَين. والإجابة الصحيحة في هذه الحالة بالطبع هي العلبة التي تحتوي على نقطةٍ واحدة.
إنَّ ديهان على صوابٍ بالطبع في أنَّ نتائج الموندوروكو والبيراها تؤيد الطبيعةَ العالمية لحاسَّتنا العددية الفطرية، أو حاسَّتَيْنا العدديَّتَين على وجه التحديد؛ فبالرغم من كل شيء، تستطيع كِلتا الجماعتَين التمييزَ بين ١ و٢ و٣ بصورةٍ مُتَّسقة؛ وذلك من خلال الحاسَّة العددية الدقيقة (نظام التفرُّد المُتوازي الفطري). وكِلتا المجموعتَين تعمدان إلى حساب الكميات الكبيرة بصورةٍ تقديرية، باستخدام الحاسَّة العددية التقريبية. بالرغم من ذلك، فربما يكون الأمر الأهمُّ بشأن هذه الدراسات وثيقةِ الصِّلة، هي أنها تقترِح أنَّ ارتقاء أيٍّ من درجات السُّلَّم يَستلزِم وجود الأعداد. إنَّ الارتفاع الذي نبلُغه في ارتقاء هذا السُّلَّم ليس نتيجةً لذكائنا الفطري، بل نتيجةُ اللغة التي نتحدَّث بها والثقافة التي وُلِدنا فيها؛ فإذا كان أحدُنا يتحدَّث لغةً لا عددية، فلن تكون لدَيه سوى فرصةٍ ضئيلة في الارتقاء، ومن المُحتمَل ألا يكون لدَيه سوى سببٍ ضئيلٍ يدفعه إلى الارتقاء أيضًا؛ فاللغة العددية وما يرتبط بها من ممارسات عددية، تُتيح وجود ما يبدو لنا على أنه أنواعٌ أساسية من التفكير الكمِّي.
من الواضح إذن أنه لا يزال علينا أن نتعلَّم القدْر الكبير بشأن الكيفية التي تُشكِّل بها اللغة العددية وغيرُها من أجزاء الثقافة العددية إدراكَ البشَر للكميات؛ فلا يزال من غير المؤكد لدَينا، على سبيل المثال، مدى اختلاف الثقافات في نزعتِها إلى استخدام خطوط الأعداد الذهنية. بالرغم من ذلك، فثَمَّة أمرٌ واحد اتَّضَح لنا من مناقشتنا في هذا الفصل، وهو أنَّ أعضاء الثقافات الأصلية المختلِفة، الذين يَعيشون في الأدغال البعيدة ويتحدَّثون لغاتٍ لا يرتبِط بعضُها ببعض، يُسهِمون في إعادة تشكيل فَهمِنا عن التفكير الرياضي؛ فقد أوضحَت الدراساتُ التي أُجرِيَت على هذه الجماعات السكانية أنَّ الأعداد والعدَّ أمران أساسيَّان في مهارات الإدراك الكمِّي، حتى ما يبدو مُتواضعًا منها. وقد أوضحَتِ الدراسات أنه بالرغم من أنَّ جميع البشَر يُولَدون بقدراتٍ رياضية مؤكَّدة وأساسية للغاية، فوَحْدَهم الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافاتٍ عددية هم الذين يستطيعون ارتقاء السُّلَّم الحسابي.
بلا أصوات ولا أعداد
ليست جماعةُ الموندوروكو وجماعة البيراها هما الجماعتَين الوحيدتَين اللتَين تَستخدِمان أساليبَ التواصل اللاعددي بصورةٍ مطلقة، أو تَستخدِمانها بصفةٍ أساسية؛ فثمة جماعةٌ أخرى من البشر تَفتقر إلى وجود اللغة العددية، وهي أيضًا تُلقِي بعض الضوء على مدى تأثير الأعداد في التفكير الرياضي الأساسي. وهؤلاء الأفراد الذين نتحدَّث عنهم هم مجموعة من الصُّمِّ الذين يعيشون في نيكاراجاوا، ولمجموعةٍ من الأسباب، لم تَسْنَح لهم الفرصة من قبلُ في تعلُّم لغة الإشارة. بالرغم من ذلك فهُم، كغيرهم من الصُّمِّ الذين لا يعرفون لغة الإشارة في أجزاء أخرى من العالم، يَستخدِمون إشاراتِ الأيدي المُبتكَرةَ للتحدُّث مع مَن حولهم؛ لا سيما أفراد الأسرة الذين يشاركون في تعلُّم هذه الإشارات المُبتكَرة واختراعها. إنَّ هؤلاء الصُّم هم شاهدٌ حي على قوة احتياج البشَر إلى التواصُل؛ ففي الحالات التي يَفتقِر فيها الأطفال إلى حاسَّة السمع، والتعرُّض للغة مُكتمِلة التكوين؛ لا تَزال تَظهر لدَينا وسيلةٌ واضحة من وسائل التواصُل؛ غير أن هذه الوسيلة للتواصُل، على الأقل في حالة صُم نيكاراجاوا، تفتقِر إلى مُفردات الأعداد.
في دراسةٍ مُذهلة، أجرى علماءُ النفس مجموعةً من التجارِب المتعلِّقة بقُدرات الإدراك العددي لدى أربعةٍ من الصم البالِغين الذين لا يَعرفون لغة الإشارة في نيكاراجاوا. لا يَمتلك هؤلاء البالغون أيَّ معرفةٍ بالأعداد، لكنهم على العكس من الموندوروكو والبيراها ينتمون إلى ثقافةٍ عددية؛ فهم يُدرِكون أهمية الاختلافات بين الكميَّات. فعلى سبيل المثال يمكن لهؤلاء الصُّمِّ أن يُدرِكوا القيمة التقريبية للأوراق النقدية، ويستطيعون التمييز بين الأوراق ذات الفئة الصغيرة والأوراق ذات الفئة الكبيرة. وبالرغم من هذا الوعي، وبالرغم من وعيِهم بوجود كميَّاتٍ محددة أكبر من ثلاثة؛ فهُم لا يمتلكون وسيلتهم الخاصة للإشارة إلى مثل هذه الكميات بطرُق محدَّدة. إنهم لا يمتلكون الأعداد.
وقد اختبَر الباحثون مدى تأثير عدمِ وجود الأعداد على هذه الجماعة النيكاراجاوية، التي تُشبِه البيراها والموندوروكو في أنه لا يَظهر لدَيها أيُّ عيوبٍ إدراكية خَلقية. وتُلقي الدراسةُ مزيدًا من الضوء على القُدرات الرياضية لدى الأصحَّاء البالِغين الذين لا يعرفون الأعداد، لكنها تختبِر ذلك على مجموعةٍ من الأفراد الذين أدركوا على مدار حياتهم وجودَ الأعداد. إنَّ هذه الأعداد ببساطة لم تتَغلغل في حيواتهم الإدراكية من خلال اكتساب مفردات الأعداد وطرُق العدِّ؛ فبالرغم من أنَّ هؤلاء الصُّم يستخدِمون الإيماءات للتواصُل بشأن الكميات، فهم يَفعلون ذلك بطريقةٍ غير مُحدَّدة حين يتعلَّق الأمر بالكميَّات الكبيرة.
خاتمة
على ضوء فائدة الأعداد وانتشارها في معظم لغات العالم؛ فإنَّ وجود الجماعات اللاعددية هو أمرٌ صادم بطريقةٍ ما، غير أنَّ المخزون العالمي من اللغات يُقدِّم لنا، على نحوٍ لا بدَّ منه، استثناءاتٍ لتوقُّعاتنا بأنَّ بعض السِّمات اللغوية يجب أن تكون عالَمية. إن الثقافات واللغات يختلف بعضُها عن بعض اختلافًا جذريًّا. وإذا سلَّمْنا بهذه الحقيقة، فلن نَندهش بالقدْر نفسِه عندما نعرِف أنَّ بعض البشَر يعيشون في عوالِمَ بلا مفرداتٍ للأعداد، أو أرقامٍ أو إشارات عددية مُتَّفَق عليها، أو غيرها من الإشارات التي تُعبِّر عن كمياتٍ مُحددة. وقد أشرتُ ضِمنيًّا في هذا الفصل إلى أنَّ ذلك أمرٌ مُفيد في سياق مَسْعانا الحاليِّ لفهم الكيفية التي غيَّرَت بها الأعدادُ خِبرتنا البشرية؛ فهذه الجماعات من البالِغين الأصحَّاء الذين يَنتمون إلى ثقافاتٍ لا عددية، تُوفِّر لنا نافذةً ثمينة على طبيعة التفكير الكمِّي لدى البشَر. وهي تُقدِّم لنا دليلًا واضحًا على أنه بدون الأعداد لا نستطيع أن نُنمِّيَ قدراتنا الفطرية لكي نَفهم جميع الكميات بشكلٍ كامل.