الكميات في عقول الأطفال الصغار
كيف يُفكِّر الرُّضَّع في الكميات؟
مثلما رأيْنا من قبل، فإنَّ الحاسَّة العددية الدقيقة تتضح لدى الجماعات اللاعددية، دون وجود أيِّ وسيلةٍ لُغوية لنقل المفاهيم العددية من جيلٍ إلى الجيل التالي، أو بين أفراد الجيل الواحد. وينطبق الأمر نفسُه على جميع البالِغين من البشَر؛ فحتى مَن ينتمون منهم إلى ثقافاتٍ لا عددية يمتلكون القُدرة على التمييز بين المجموعات التي تحتوي على عددٍ كبير من العناصر، إذا كان الفرقُ بين المجموعات كبيرًا بالدرجة الكافية. فجميع البالِغين الذين يتمتَّعون بحالةٍ عصبية إدراكية طبيعية يستطيعون التمييز بين ٦ عناصر وبين ١٢ عنصرًا، وكذلك بين ٨ عناصر و١٦ عنصرًا، وهذه القدرة هي دليلٌ على وجود الحاسَّة العددية التقريبية. وتُتيح لنا مفردات الأعداد واستراتيجيات العدِّ أن نتمكَّن من التمييز بين الكميَّات بدقة، بما فيها الكميات الكبيرة، ويحدُث ذلك بصفةٍ أساسية من خلال الدمج بين حاسَّتَينا العدديَّتَين الفِطريَّتَين معًا.
إنه لأمرٌ صعْب أن نُقدِّم إجابة محددة عن هذا السؤال، غير أنَّ لدَينا مُكوِّنَين أساسيَّين في هذه الإجابة؛ وهما نوعان عامَّان من الأدلَّة قد ترَكا لدَينا يقينًا قويًّا إلى حدٍّ ما بأنَّ البشر يتمتَّعون بغريزةٍ عددية، أو هما على وجه الدقَّة قُدرتان فطريَّتان يُمكننا استخدامهما للتمييز بين الكميات. وقد استخلص الباحثون أحد نوعَيْ هذه الأدلة من سلوك الحيوانات الأخرى؛ فمِثلما سنرى في الفصل السابع تشترك العديد من الأنواع الأخرى في أنَّ لدَيها قدراتٍ مُشابهةً للتمييز الدقيق بين الكميات الصغيرة، وكذلك التمييز التقريبي بين الكميات الكبيرة؛ ومِن ثمَّ يُمكننا أن نقول بثقة: إنَّ النظامَين العدديَّين الموجودَين في أدمغتِنا بدائيَّان من ناحية تطوُّر النوع. ومعنى هذا أنهما كانا موجودَين منذ ملايين السنين في أدمغة البشر، وأدمغةِ بعض الأنواع السابقة علينا. ويُمكننا أن نتعقَّب أثرَهما في الماضي في الأنواع المُنقرِضة التي كانت سلفًا للبشَر وغيرها من الفقاريات ذات الصِّلة. وأما المصدر الثاني للأدلَّة فهو سلوك الأطفال الصِّغار الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد، ويَقترح هذا النوع الأخير من الأدلة أنَّ بعض القدرات الرياضية تتطوَّر في فترةٍ مُبكِّرة من التطور الحيوي للفرد، أي إنها قدراتٌ نمتلكها قبل أن نبدأ في معرفة المفاهيم بصورةٍ عمَلية في مرحلة الطفولة؛ فهي هِبَة وراثية. وليس معنى أنَّ الحاسَّتَين العدديَّتَين المَعنيتَين من الهِبات الوراثية التي نتمتَّع بها أنَّنا نُلمِّح إلى غياب الاختلافات بين الثقافات في مدى نُمو هاتَين القُدرتَين في عقولنا بينما نَكْبُر في العمر، أو في مدى تَمكُّننا من استخدام هذَين النظامَين لتحقيق تفكيرٍ رياضي أكثر اكتمالًا. لا يزال أمامنا إنجازُ قدرٍ كبير من العمل، لكي نتمكَّن من التوصُّل إلى فَهمٍ كامل لطبيعة التفكير الكمِّي لدى الأطفال في جميع ثقافات العالم. بالرغم من ذلك، فقد أنجزْنا من العمل قدرًا كبيرًا أيضًا، وفيما يلي سأُولي بالاهتمام قليلًا من النتائج البارزة بشأن هذا الموضوع.
لكن أولًا ربما يكون لديك سؤالٌ بسيط: كيف يُمكننا أن نَعرف ما يدور في عقل الأطفال الصِّغار ولَمَّا يكتسبوا مهارةَ اللغة بعد، ولا يُمكِن إخبارهم بما يجِب عليهم أن يفعلوه في السياقات التجريبية؟ والحقُّ أنها مشكلةٌ صعبة من الناحية المنهجية، وقد استلزمَت قدرًا من الابتكار كي يَتمَّ التغلُّبُ عليها. وقد أنتج التغلبُ على هذه العقَبة ما يُشبِه الثورةَ في فَهمنا للإدراك العددي لدى الأطفال الصِّغار في الثلاثين عامًا الأخيرة، وفي الوقت نفسِه شكَّك في النتائج السابقة التي ربما تكون قد تأثَّرت بالتوقُّعات غير العادلة عن حَدْس الأطفال بخصوص الأهداف المُرتبطة بتجارِبَ مُعيَّنة. وقد تغلَّب الباحثون على هذه العقبة حينما بدَءوا يعتمدون على المهام التي تتطلَّب القدْر الضئيل من مشاركة الأطفال مع القائمين بالتجربة والتفاعل المادي معهم، مع التركيز بالتحديد على ما يسترعي انتباهَ الأطفال في السياقات التجريبية. وهذا التركيز على الانتباه أمر منطقي؛ نظرًا إلى أنَّ البشر، كالأنواع الأخرى، يُركِّزون على المُحفِّزات الجديدة.
تخيَّل مثالًا على بيئة يومية تَأْلفها على الأرجح؛ مطعم مُزدحِم، حين تدخل المطعم قد تلاحظ طَنين المحادثات، وصليلَ آنية المائدة الفِضِّية وهي تُلامِس الأطباق، والكئوس وهي تُوضَع على الموائد، وما إلى ذلك. وهذا ما تتوقَّعه من مثل هذه البيئة، وبينما تجلس وتأكل فإنَّ مثل هذه المُحفِّزات غيرِ الجديدة لن تَسترعيَ انتباهك؛ فسوف تبدأ أنت وبقية زبائن المطعم في تناول الطعام والشراب، مع التركيز على وجباتكم ومُحادثاتكم (ولعلَّها تتضمَّن مُحفزات جديدة، وإلا فسوف يَخمُد اهتمامك بها أيضًا على الأرجح). والآن تخيَّل ما سيحدُث إذا دخل مُحفزٌ جديد إلى حَيِّزك الإدراكي؛ فعلى سبيل المثال يتدحرَج كأسٌ من صينية النادل ويَهْوي على الأرض مُتهشِّمًا. سيَنجذِب انتباهك على الفور إلى صوت التهشُّم، بينما تحاول تمييز مصدر الضوضاء التي سمعتَها للتو. وحين يتغيَّر انتباهك بتلك الطريقة تحدُث العديد من الأشياء على المستوى المادي؛ ينجذِب بصرك إلى مصدر الضوضاء، ومن المرجَّح أنَّ جميع رءوس مَن في المطعم سوف تَستدير للتركيز على المُحفِّز الجديد. ومِن الأمور التي ستكون أقلَّ وضوحًا أنَّهم سوف يتوقَّفون عن الأكل للحظةٍ على الأرجح، مُعلِّقين أنشطةً كالبلْع. أما الأمر الأهم فهو أنَّ هذه النَّزعات إلى تثبيت النظر وإيقاف البلْع، هي أمور أساسية من ناحية النمو، وهي تعود إلى طفولتنا المُبكِّرة. ونتيجةً لذلك، قد أدرك الباحثون في مجال نموِّ الطفل منذ فترةٍ من الوقت أنهم يَستطيعون معرفة المُحفِّزات التي يَعُدها الأطفال مُحفزاتٍ جديدةً أو غير ذلك؛ ولهذا فعند دراسة انتباه الأطفال، يُمكن للباحثين أن يُلاحِظوا ما إذا كان الأطفال يُميِّزون محفِّزًا جديدًا أو لا، سواء أكان هذا المُحفِّز لونًا جديدًا أو شكلًا جديدًا أو كمية جديدة. ولكي يتمكَّن الباحثون من ملاحظة ذلك؛ عليهم أن يُتابِعوا ما إذا كان هناك أي تغيراتٍ مصاحبة في نظرات الأطفال أو أنماط بَلعِهم في أثناء تقديم المُحفِّزات لهم. وعند التطبيق يَدرُس القائمون بالتجرِبة أنماطَ الأطفال في النظر والرضاعة خلال مهمَّاتٍ محددة. والتحديق والرضاعة من السلوكيات التي لا يَسهُل قياسها بشكلٍ دقيق، وقد تطلبَت المنهجياتُ التي تقوم على قياس هذَين السلوكَين ظهورَ أدواتٍ جديدة أصبحَت موجودةً في العقود الماضية الأخيرة. ومن هذه الأدوات سَكَّاتات الأطفال التي يُمكِن مُراقبتها إلكترونيًّا، وكاميرات الفيديو القادِرة على تتبُّع نظرات الأطفال وحركات عيونهم.
إذن، كيف اختبَرَت وين هؤلاء الذين يَبلغ عمرهم ٥ شهور في هاتَين المهمَّتَين؟ لقد استخدمَت الطرُق البسيطة المبتكَرة التالية؛ وُضِع كل طفل بمفرده أمام صندوقٍ للعرْض كان يَحتوي على شكلٍ يُشبِه الدُّمية كان يَجذب انتباههم تلقائيًّا. إضافةً إلى ذلك، كان صندوق العرض يَحتوي على ستارٍ غير شفاف يمكن رفعه لِيَحجُب رؤية الطفل للشكل الذي يُشبِه الدُّمْية؛ وبعد رفع هذا الستار، لا يَعود هذا الشكل مرئيًّا. أما الأمر الأهم فهو أنه كانت توجَد فجوةٌ بجِوار كل جانب من جوانب الستار في صندوق العرْض. وبعد أن كان انتباهُ الأطفال يتَّجه إلى الشكل في البداية، يُرفَع الستار لِيَحجُب عن الطفل رؤيته، ثم يقوم الباحث القائم بالتجرِبة بوضْع يده في بابٍ جانبي في صندوق العرض مع الإمساك بشكلٍ آخر يُطابِق الشكلَ الذي حجَبه الستار. كان الأطفال يَستطيعون رؤية اليد والشيء الذي تُمسِك به من خلال الفتحة الموجودة بين الستار وجانب صندوق العرض. ومِن منظور الأطفال، فقد أُضيفَ شيء آخر مُطابِق للشكل الذي يُشبِه الدمية، والموجود خلْف الستار. وفي هذه المرحلة تَظهر خدعة منهجية أساسية؛ كان صندوق العرض مزوَّدًا بباب سرِّي يمكن للباحث من خلاله أن يُزيل الشكل الأصلي من أمام الأطفال؛ ومن ثَمَّ فبالرغم من أنَّ الأطفال قد رأَوا شيئًا يُضاف إلى شيءٍ آخر، كان يمكن إزالة الشيء الأصلي في الوقت نفسِه من وراء الستار، دون عِلم الأطفال. وأخيرًا أُنزِل الستار بعد إضافة الشيء الثاني. فوَفقًا لحالة «الناتج المُحتمَل»؛ كشَف لنا إنزالُ الستار عن شكلَين مُتطابِقَين يُشبِهان الدمية، وهو ما يتَّفِق مع ما رآه الأطفال. ووفقًا لحالة «الناتج غير المحتمل» كشَف إنزال الستار عن شكلٍ واحد فقط؛ لأنَّ الشكل الأصليَّ قد أُزيل بخدعةٍ من خلال الباب السرِّي لصندوق العرض.
ولأنَّ البشر، بمن فيهم الأطفال، يُحدِّقون لفترةٍ أطول في الأحداث الجديدة غير المتوقَّعة، فقد افترضَت وين أنَّ الأطفال في دراستها قد يُحدِّقون لفترةٍ أطول في حالة الناتج غير المحتمل. ومعنى هذا أنهم إذا رأَوا شيئًا يُضاف إلى شيءٍ آخر مطابِق، ثم اكتشفوا أنَّ نتيجة هذه الإضافة هي شيء واحدٌ مُتبقٍّ فحسب، فسوف تَنْتابهم الحيرةُ بعض الشيء. أما إذا رأَوا شيئَين بعد إضافة الشيء الثاني، فلن يَكترثوا للنتيجة المتوقَّعة. بعبارة أخرى: إذا أدرك الأطفال ذَوو الأشهُر الخمسة أنَّ ١ + ١ يساوي ٢، وليس ١؛ فإنَّ مثل هذه التجرِبة سوف تُوضِّح ذلك الإدراك. لقد كان التوقُّع المباشر أنَّ الأطفال سوف يُحدِّقون إلى صندوق العرض لفترةٍ أطول في حالة الناتج غير المحتمل، حين بدا أنَّ ١ + ١ يساوي ١ وليس ٢، وقد حدَّقوا بالفعل لفترة أطول. لقد حدَّق الأطفال إلى صندوق العرض لفترةٍ أطول بدرجةٍ ملحوظة من الناحية الإحصائية، حينما كشَف الستار بعد إنزاله عن شيءٍ واحدٍ فقط.
وفي مهمَّة الطرح، استُخدِم صندوق العرض نفسُه والعناصرُ نفسها، لكنَّ ترتيب الأحداث الذي شهِدَه الأطفال كان معكوسًا بالكامل؛ ففي البداية جُذِب انتباه الأطفال إلى الشكلَين الشبيهَين بالدمية في منتصف صندوق العرض، ثم رُفِع الستار فحجَب عن الأطفال رؤية الشكلَين كِلَيهما. بعد ذلك ظهرَت يد القائم على التجرِبة من خلال الفجوة الموجودة بين الستار وجانب الصندوق، ثم أزالت اليدُ أحدَ الشكلَين من خلف الستار، بطريقة تَظهر للأطفال بوضوح. في حالة الناتج غير المُحتمَل، استُخدِم الباب السري لإضافة شكلٍ آخر مُطابِق، بينما تتمُّ عملية الإزالة المرئية. ونتيجةً لذلك، ظلَّ هناك شكلان بعد إنزال الستار، بالرغم من الحقيقة الواضحة بإزالة أحد الشَّكلَين. ففي حالة الناتج المُحتمَل، لم يُضَف شكل إضافي من خلال الباب المسحور، وعند إنزال الستار بعد إزالة أحد الشكلين بصورةٍ مرئية، لم يَتبقَّ سوى شكلٍ واحد. وقد جاءت نتائجُ مهمة الطرح متشابهةً إلى حدٍّ ما مع نتائجِ مهمة الجمع؛ حدَّق الأطفال لفترةٍ أطول إلى ما يبدو على أنه الناتج غيرُ المحتمل، فإذا رأَوا أحد الشكلَين الأصليَّين وهو يُزال، توقَّعوا بقاء شكلٍ واحد فقط. فقد بدا أنَّ الأطفال يُدركون أنَّ ٢ − ١ = ١. وموجز القول أنَّ نتائج هاتَين المهمَّتَين في دراسة وين، تُشير إلى أنَّ الأطفال الذين لم يكتسبوا مهارة اللغة بعد يَستطيعون التمييز بين شيءٍ واحد وشيئَين. ومنذ دراستها التي كانت تستكشف الطريق، ظهرَت أساليبُ جديدةٌ قد استُخدِمت لاستكشاف هذه المسألة بعناية أكبر. ونتيجةً لذلك، فقد أصبح من المُتَّفق عليه بصفةٍ عامة، أنَّ الأطفال يَستطيعون بالفعل التمييز بين الكمية من واحدٍ إلى ثلاثة، بانتظام واتِّساق.
وسوف نتناول فيما يلي كيف سارت التجرِبة الأولى في دراسة شو وسبيلك. استُخدِم في التجربة ستةَ عشر طفلًا يبلُغ متوسِّطُ أعمارهم ستةَ أشهر، وقد جعلهم القائمون على التجربة يَعتادون رؤية ٨ نقاط سوداء أو ١٦ نقطة على شاشة بيضاء، بمعنى أنَّ هذه المُحفِّزات كانت تُعرَض على الأطفال حتى يمَلُّوا منها أو لا يَعودوا يجدونها جديدةً بعد ذلك. وكان القائمون على التجرِبة يرَون أنهم قد وصلوا إلى مرحلة الاعتياد حين يتوقَّف الأطفال عن التحديق في المُحفِّزات، أو حين يَكونون قد رأَوا أربعةَ عشر مصفوفةً مُتتالية من النقاط. وفقًا لحالة النقاط الثماني، كان يُعرَض على الأطفال عروض مختلفة لثماني نقاط تختلف في الحجم والتكوين والسطوع، حتى يعتادَ الأطفال على رؤيتها. ووفقًا لحالة الستَّ عشرة نقطة، كان يُعرَض على الأطفال أيضًا عروضٌ مختلفة لسِتَّ عشرة نقطة تختلف أيضًا وفقًا لمعاييرَ مثل الحجم والتكوين، إلى أن يعتاد الأطفالُ على رؤيتها. وفي كِلتا الحالتَين، كان يُعرض على الأطفال بعد ذلك ٨ نقاط أو ١٦ نقطة، بعد أن يَكونوا قد اعتادوا على الكمية الأولية من النقاط. فوَفقًا للحالة الأولى كانت المصفوفات التي تتكوَّن من ١٦ نقطة، والتي عُرِضت بعد مرحلة الاعتياد، تُمثِّل محفِّزًا جديدًا؛ لأنَّ الأطفال لم يكونوا يرَون سابقًا سوى مصفوفاتٍ تتكوَّن من ٨ نقاط. وفقًا للحالة الثانية، كان العكس هو الصحيح، وقد كانت المجموعات التي تتكوَّن من ٨ نقاط، والتي عُرِضت على الأطفال بعد مرحلة الاعتياد، هي المُحفزَ الجديد؛ إذ إنَّ الأطفال كانوا يرَون قبل ذلك مصفوفاتٍ تتكوَّن من ١٦ نقطة. على الأقل فنحن البالغين الذين نعرف الأعداد، سوف نُدرِك أنَّ هذه المصفوفاتِ جديدة؛ لأنَّنا نعرِف أنَّ ١٦ لا تساوي ٨. لكن ماذا عن الأطفال الذين لم يتعلَّموا العدَّ بعد، ولا حتى تعلموا الحديث؟ إنَّ نتائج شو وسبيلك قد قدَّمَت بعض الأدلة القوية على أنَّ الأطفال أيضًا يُمكِنهم إدراكُ الفرق بين ٨ عناصر و١٦ عنصرًا.
توضِّح مثل هذه الأبحاث التجريبية أنَّ أطفال البشَر يمكنهم تمييز بعض الفروق العددية في سِنٍّ صغيرة. إنَّ الحاسَّتَين العدديَّتَين التقريبية والدقيقة، لا يُمكِّنانا من حلِّ معظم المسائل الحسابية بسرعةٍ ودقَّة، لكنهما يُتيحان لنا الفُرصةَ في معرفة كيفية التعامُل مع مثل هذه المسائل. بالرغم من ذلك، فالدِّراسات المَعنيَّة لا تُوضِّح أنَّ أطفال البشر مُزوَّدون بمفاهيمَ عددية مجرَّدةٍ بحق؛ فإدراك الفرْق بين شكلٍ واحدٍ يُشبِه الدُّمية وشكلَين، أو بين ثماني نقاطٍ وسِتَّ عشرة نقطة على الشاشة، لا يَعني سوى أنَّ الأطفال ينتبهون إلى الاختلافات العددية البصرية. غير أنَّ البعض ربما يقولون: إنَّ ذلك الإدراك لا يَعني أنَّ الأطفال يُفكِّرون في الكميات بطرُق مجردة، أي طرُق لا تعتمِد على الإدراك البصري. بعبارةٍ أخرى: ربما لا يكون تمييز الكميات لدى الأطفال عابرًا للحواس؛ فقد يُميِّز الأطفال على سبيل المثال أنَّ دُميتَين على شكل أسَدٍ تختلفان عن دميةٍ واحدة في نطاق حاسَّة البصر. وقد يُميزون أيضًا أنَّ صوت صَفْرتَين مُتتاليتَين يختلف عن صفرةٍ واحدة في نطاق حاسَّة السمع، لكنَّ ذلك الإدراك الماديَّ للاختلافات في نطاق حاسَّتَين مُنفصلتَين لا يَعني بالضرورة أنهم يدركون الرابط بين صَفرتَين ودُميتَين على سبيل المثال؛ فهذا الإدراك العابر للحواسِّ للتشابُه بين الكميات، سوف يُقدِّم دليلًا أقوى على أنَّ ما يحدُث في عقول الأطفال هو تفكير عددي في شكلٍ أكثرَ جوهريةً وتجريدًا. وربما لا يكون من الغريب إذن أنَّ بعض التجارِب الحديثة قد سعَتْ إلى اختبار إدراك الكميات العابر للحواسِّ لدى الأطفال.
لقد قدَّمَت إزارد وزملاؤها دليلًا واضحًا على أنَّ الأطفال حديثي الولادة قادرون على استخدام نظامهم العددي التقريبي في المقارنة المجردة للكميات عبر حواسَّ مُتعدِّدة. استمَع الأطفال إلى مجموعةٍ من المقاطع، مثل «تو، تو، تو، تو» أو «را، را، را، را». وقد كانت هذه المجموعة تحتوي على عددٍ ثابت من المقاطع، ويَتبع كلًّا منها فاصلٌ قصير. فعلى سبيل المثال، يستمع الطفل إلى أربعة مَقاطع يَتبعها فاصلٌ قصير، ثم يَستمع إلى أربعة مقاطعَ أخرى، وهكذا. كان الأطفال يَستمعون إلى المُحفِّزات السمعية لمُدة دقيقتَين، وخلال هذا الوقت، أَلِف الأطفال كمية المقاطع. وبعد هاتَين الدقيقتَين، عُرِض على الأطفال بعضُ الصور على شاشة كمبيوتر. وكانت هذه الصور تتضمَّن مصفوفاتٍ لعددٍ محدَّد من الأشكال زاهيةِ الألوان، تحتوي على أفواهٍ وعيون (لجذب انتباه الأطفال)، التي كانت تتطابَق في العدد مع سلسلة المقاطع التي تكرَّرَت على مسامع الأطفال. وقد افترضَت إزارد وزملاؤها أنه إذا كان الأطفال يتمتَّعون بالإدراك المجرد للكميات العابر للحواس، فسوف تَصدُر عنهم استجاباتٌ مختلفة تجاه المصفوفات البصرية التي عُرِضَت عليهم بعد المقاطع. فسوف يُحدِّقون لفترةٍ أطول إلى مصفوفات محددة، وفقًا لما إذا كانت المصفوفات تتطابق في العدد مع مجموعة المقاطع التي سَمِعوها للتو. وهذا بالضبط هو ما لاحظه الباحثون؛ فعلى سبيل المثال، عند الاستماع إلى مجموعةٍ تتضمَّن أربعةَ مقاطع، كان الأطفال بعدَها يُحدِّقون إلى الشاشة حين تحتوي على أربع صُوَرٍ لفترةٍ أطولَ من تلك التي حدَّقوا فيها إلى الشاشة حين عُرِضَت اثنتا عشرة صورة. وهم أيضًا يُحدِّقون إلى الشاشة حين تتضمَّن أربع صورٍ لفترة أطول من تلك التي يُحدِّقون فيها إليها حين تتضمَّن ثمانيَ صور. (وقد كان الاختلاف في فترة التحديق أكبر في الحالة الأولى؛ إذ إنَّ الفرْق بين ٤ و١٢ أكثرُ وضوحًا من الفرْق بين ٤ و٨.) وحين استمع الأطفال إلى مجموعةٍ تتكوَّن من ستة مقاطع، كانوا يُحدِّقون بعدها إلى الشاشة التي تحتوي على ستِّ صورٍ لفترة أطول من تلك التي يُحدِّقون فيها إلى الشاشة التي تحتوي على ثماني عشرةَ صورة. وقد كان الاختلافُ في فترة التحديق في حالات التطابُق وعدَم التطابق يَزيد عن ١٠ ثوانٍ في معظم الأحيان، وليست تلك بالنتيجة الهينة. وباختصار، فإنَّ فتراتِ التحديق لدى الأطفال كانت تتوافق بدرجةٍ كبيرة مع اهتمامهم الزائد نسبيًّا بالكميات المُتساوية، كما لو أنهم كانوا يدركون وجود تطابقٍ جديد بين الحواس. لقد زادت نتائجُ إزارد والمجموعة في تأكيد الادِّعاء القائل بأنَّ البشَر يُولَدون بقدرةٍ فطرية تُمكِّنهم من تقدير عدد المجموعات الكبيرة من العناصر بصورةٍ تقريبية، وهي تُشير أيضًا إلى أنَّ هذه القدرة تتميز بالتجريد، ولا تقتصر على حاسَّة واحدة كالبصر.
الأطفال والعد
يبدو لنا إذن أنَّ الأطفال يُزوَّدون مسبقًا بالحاسَّتَين العدديَّتَين اللتَين يتمتَّعون بهما منذ مولدهم. غير أنَّ وجود هاتَين الحاسَّتَين لا يُسهِم إلَّا بمقدارٍ في إكمال الصورة التي لدَينا عن القدرة التي يتمتَّع بها البشر على وجه الخصوص على التفكير الرياضي. فبطريقةٍ ما، لا يَزال الجزء الأكبر من اللُّغز قائمًا؛ إذ إنَّنا لا نعرِف الكيفية التي يَجري بها دمجُ حاسَّتَيْنا الفِطريَّتَين بعد ذلك، للقيام بالتفكير الرياضي. فمع الطبيعة البدائية لهاتَين الحاسَّتَين العدديَّتَين، كيف نتمكن على سبيل المثال، من تمييز أنَّ الأخطبوط يمتلِك عددًا مُعيَّنًا من المجسَّات، وليس كمية مُبهَمة فحسب؟ إنَّ مثل ذلك التمييز الكمِّي الأساسي لا يتوفَّر لدَينا من خلال حاسَّتَينا الفطريَّتَين. فكيف ننتقِل إذن من النقطة «أ» وهي التمييز الفطري البسيط بين الكميات، إلى النقطة «ب» وهي التفريق الدقيق بين جميع الكميات؟ كيف ننتقِل بالفعل إلى عالم الأعداد الطبيعية؟ إحدى الطرُق التي يُمكننا استخدامها لإيجاد الإجابة (أو الإجابات) المُحتمَلة عن هذا السؤال، هي استكشاف كيفية تقدُّم الأطفال في التفكير الكمِّي بينما يتقدَّمون في السن. لقد أجرى علماء النفس، وما زالوا يُجْرون، مثلَ هذه الدراسات. وفيما يلي سوف أستعرِض بعضَ النتائج التوضيحية التي تَوصَّل إليها الباحثون خلال مثل هذه الدراسات. وأعتقِد أنَّ الدراسات التي أُلخِّصها هنا، تُمثِّل أنواع الطرُق التي تُستخدَم لتحسين فَهمِنا للكيفية التي يتعلَّم بها الأطفال المفاهيم العددية. بالرغم من ذلك، فعلَينا أن نضَع في الاعتبار أنَّه تُوجَد بالفعل آلاف الدراسات المنشورة عن هذا الموضوع الواسع. وتُسهِم الدراسات التي سنُناقشها في هذا الكتاب في توضيح أنَّ التقدُّم تجاه الوعي بالأعداد الطبيعية، هو تقدُّمٌ مُضنٍ وتدريجي، وهو يتطلَّب المُمارسةَ المُتكرِّرة مع المُحفِّزات اللغوية.
حتى الجزء الأخير من القرن العشرين، لم تكن المهاراتُ العددية لدى الأطفال في سِنِّ ما قبل المدرسة تَحْظى بالتقدير الكافي بشكلٍ عام، بل كان يُعتقَد في وقتٍ ما أنَّ الأطفال لا يتعلَّمون المفاهيم العددية الأساسية حتى سِنِّ الخامسة تقريبًا. ومن الأدلَّة التي كان يَستنِد إليها هذا الادِّعاء هو سلوك الأطفال في سنِّ الرابعة، فيما يُعرَف باسم «اختبارات الحفاظ». في مثل هذه الاختبارات، يُعرَض على الأطفال صفَّان من الأشياء؛ صفٌّ به سِتُّ كئوسٍ وصفٌّ به ستُّ زجاجاتٍ على سبيل المثال، ويكون كل عنصرٍ في أحد الصفَّين أمامه عنصرٌ في الصف الآخر، حتى يَكون من الواضح على الأرجَح أنَّ المجموعتَين مُتساويتان في العدد. عندما كان الأطفال يُسأَلون أيُّ الصفَّين أكبر عددًا، كانوا يُجيبون بأنهما مُتساويان. أما إذا باعد القائمُ بالتجرِبة بين العناصر الموجودة في أحد الصفَّين، فأصبح صفُّ الكئوس على سبيل المثال أطولَ من صفِّ الزجاجات، فقد تتغيَّر إجاباتُ الأطفال. في كثيرٍ من الأحيان، كانت إجاباتُهم في التجارِب الأولى على الحفاظ على الكمية، تُشير إلى أنهم كانوا يَعتقدون أنَّ عدد العناصر في الصفَّين يَختلف بمجرَّد إطالةِ أحد الصفَّين. فقد كانوا يَقولون، على سبيل المثال، إنَّ عدد الكئوس أكبرُ من عدد الزجاجات، بالرغم من عدَم إضافة أي كئوس أو إزالة أي زجاجات. ومعنى هذا أنه وَفقًا لمَهامِّ الحفاظ البسيطة هذه، فإنَّ الأطفال فيما دون سنِّ الخامسة، لم يُدرِكوا أبدًا أنَّ الكمية تَبقى كما هي بصرْف النظر عن طُول صفَّيِ المُحفِّزات اللذَين تَجري المقارنة بينهما. إن تغيير الحجم الكُلِّي لمجموعةٍ من المحفزات، كان يُربِك إدراك الأطفال لعدد المُحفِّزات.
بالرغم من ذلك، فحقيقة الأمر أنَّ الأطفال الصِّغار يَستطيعون الحفاظَ على الكميَّات في بعض الأحيان على الأقل، فهُم يَستطيعون تمييزَ أي المَصفوفتَين تحتوي على عددٍ أكبر من العناصر، بصرْف النظر عن طولهما. وقد وضَّحَت بعضُ التجارِب في الوقت الحاليِّ أنَّ النتائج التي حصل عليها الباحثون من مهامِّ الحفاظ الأولى، قد كانت بسبب تشوُّش الأطفال بعض الشيء، وهو تشوُّشٌ بشأن أهداف الباحثين. حاول لثانية أن تتصوَّر أنك طفلٌ في مثل هذه التجرِبة، وقد عرَض عليك أحدُ البالِغين، الذي تَفترِض أنه يَعرِف عن كيفية عمل الأشياء أكثرَ منك بكثير، مصفوفتَين يمكن التمييز بينهما بصَريًّا، ثم سألك أيُّهما يَحتوي على كميةٍ «أكبر» بالرغم من أنَّه من الواضح أنهما مُتساويتان في العدد (نظرًا إلى أن كلَّ عنصر في المصفوفة الأولى له ما يُقابله في المصفوفة الثانية)، فبماذا يُمكِنك أن تُجيب؟ من الصعب أن نَعرف ذلك بالطبع، لكنك قد تُؤوِّل سؤاله بأفضل صورةٍ مُمكِنة لكي تَفهم دوافعَه التي يُفترَض أنها خالِصة، وربما تُفسِّر الأمر على أنَّ الخط الذي يتضمَّن كميةً «أكبر» هو الذي يُغطِّي مساحةً أكبرَ من الفراغ، لا الخط الذي يَحتوي على عددٍ أكبر من العناصر. وقد تفترِض أنَّ الخطَّ الأطولَ لا بدَّ أنه يحتوي على شيءٍ ما بكمية أكبرَ من الخطِّ الآخر (المسافة مثلًا) وإلا فإنَّ هذا الشخص يسأل سؤالًا مُضلِّلًا؛ لماذا قد يَفعل شخصٌ بالِغ مثلَ هذا الشيء؟ ومعنى هذا أنَّ مهامَّ الحفاظ البسيطةَ تلك ربما لا تُخبِرنا إلا الشيء القليل عن الإدراك العددي لدى الأطفال، وتُخبرنا بدلًا من ذلك بقدْرٍ أكبرَ عن مدى الجهد الذي يبذُله الأطفال في التوصُّل إلى الدلالات الاجتماعية خلال المُحادثات مع البالِغين.
ولكي نصِل إلى فَهْمٍ أفضل لكيفية انخراط الأطفال مع الأعداد، سنتناول نتائجَ دراسةٍ بارزة أحدَثَ عن تطوُّر الإدراك لدى الأطفال. (أُجرِيَت الدراسة على يد عالمةِ النفس بجامعة هارفارد، كيرستن كوندري، والعالمة سابقة الذِّكر إليزابيث سبيلك.) ومن خلال مجموعةٍ من التجارب، وضَّحَت الدراسةُ أنَّه حين يتعلَّم الأطفال الذين يبلُغون من العمر ٣ سنوات مفرداتِ الأعداد، فإنهم لا يفهمون معناها في البداية إلا بالقدْر الضئيل. وبالفعل فإنَّ هذه النتيجة قد دعَّمَتها العديدُ من الدراسات الحديثة: الأطفال لا يَفهمون معانيَ الأعداد تمامًا حين يَبدءون في تعلُّمها. وفي الدراسة المَعنيَّة، درسَت الباحِثتان ما تُمثِّله الأعداد فعلًا للأطفال الذين يَبلُغ عمرهم ٣ سنوات، وقد ركَّزَتا على هذه السِّنِّ بصفةٍ جزئية؛ لأنَّ هؤلاء الأطفالَ قد تعرَّضوا لمفردات الأعداد، لكنهم لم يَدرُسوا الحسابَ بصورةٍ مكثَّفة، وهم يَستطيعون في العادة استظهارَ الأعداد من «واحد» إلى «عشرة». وقد بيَّنَت نتائجُ الدراسة أنَّ الأطفال في سنِّ الثالثة لا يَستوعِبون المفاهيمَ المُرتبطة بمفردات الأعداد، إلا على مستوًى أساسيٍّ للغاية. فعلى سبيل المثال، يَفهم الأطفالُ أنَّ الاسم «ثمانية» يُستخدَم لوصْف مجموعة عناصر لها كمية محدَّدة، وهم يُدرِكون أيضًا أنَّ «ثمانية» تُشير إلى مجموعةٍ لها حجم مختلِف عمَّا تُشير إليه كلمة مثل «اثنين».
ومن النقاط الأساسية أيضًا في طريقنا للتفكير الحِسابي، ما نُشير إليه باسم «المبدأ الكاردينالي». حين يتعلَّم الأطفال هذا المبدأ، يُدرِكون أنَّ آخِر عددٍ يُنطَق به عند عدِّ مجموعةٍ من الأشياء، يَصِف عدد العناصر في المجموعة التي يجري عدُّها أو كمية العناصر في المجموعة بأكملها. حين يصِل الأطفال إلى مرحلة المعرفة بالمبدأ الكاردينالي، يُدرِكون أنَّ كلَّ عددٍ يصف حجم مجموعةٍ مُحدَّد بدقة، وهو إدراك يتشكَّل تدريجيًّا وهم لا يتَوصَّلون إليه بسهولة، ويَختلف الوقتُ المُستغرَق في التوصُّل إليه من طفلٍ إلى طفل. بالرغم من ذلك يمرُّ الأطفال بمراحلَ مُتوقَّعة في طريقهم إلى الوصول لهذه المرحلة: في البداية يَمُرُّون بمرحلة «معرفة العدد واحد» التي يُدرِكون فيها أنَّ الكلمة «واحد» تُمثِّل مجموعةً تتكوَّن من عنصرٍ واحد فقط، ثم يَمُرُّون بمرحلة «معرفة العدد اثنين»، ثم «معرفة العدد ثلاثة»، ولا يَصِلون إلى مرحلة المعرفة بالمبدأ الكاردينالي إلا بعد ذلك. وهم يَصِلون إلى مرحلة المعرفة بالأعداد واحد واثنين وثلاثة بسهولة نِسبيَّة، حتى وإن كان ذلك بصورةٍ جزئية على الأقل؛ وذلك بسبب قُدرتهم الفطرية على عدِّ أشياء تتراوَح كميتُها من ١ إلى ٣ بدقَّة.
إضافةً إلى ذلك، اكتشَف علماءُ النفس أنَّ الأطفال الذين لم يَعرِفوا المبدأ الكاردينالي بعد، يَستطيعون تسمية المجموعات الكبيرة بصورةٍ تقريبية باستخدام أصابعهم، أفضلَ ممَّا يستطيعون تسميتها باستخدام الكلمات. فيَبدو أنَّ التمثيل الإيمائيَّ لبعض المفاهيم العددية يَسبق التمثيل اللفظي. وربما لا يكون ذلك مُفاجئًا؛ نظرًا لما للأصابع من مزايا متأصِّلةٍ في تمثيل بعض الكميات، مقارنةً بالكلمات. فيُمكِن للأصابع تمثيلُ كمية العناصر في مجموعةٍ صغيرة من خلال مُطابقة كل إصبعٍ بعنصرٍ في المجموعة، وذلك مِن خلال الأصابع المنفصِلة التي تُستخدَم معًا في الوقت ذاته لتمثيل كلِّ عنصر. ويكون الأطفال أكثرَ استعدادًا لتقدير الكميات الأكبر بصورةٍ تقريبية من خلال التمثيل البسيط باستخدام اليد الواحدة واليدَين على التوالي. أما الكلمات فهي على العكس من ذلك عشوائيةٌ في معظم الأحوال، ولا بدَّ من حفظها، ولا يمكن للأطفال استخدامُها بسهولة في وصف مجموعةٍ مُعيَّنة من العناصر، سواءٌ أكان ذلك بصورةٍ دقيقة أم تقريبية.
وتتَّضِح هذه الميزةُ المتعلقة بالتطوُّر الحيوي للفرْد، التي تتَّسِم بها الأصابع واليدان أيضًا في الأنماط العابرة للغات في مصطلحات الأعداد التي تناوَلْناها في الفصل الثالث. فعلى أي حال، نجد أنَّ مفرداتِ الأعداد تُسمَّى عادةً بأسماء الأصابع واليدَين التي كانت تُستخدَم منذ البداية في تمثيل الكميات، ومنذ البداية مقصود بها من الناحية التاريخية ومن ناحية التطوُّر الحيوي الفردي على حدٍّ سواء. بالرغم من ذلك فإنَّ تعلُّم المفردات التي تُعبِّر عن المفاهيم العددية في نهاية المطاف، يُيسِّر المُعالجة الذهنية للكميات بدرجةٍ كبيرة؛ إذ يتعلَّم الأطفالُ التعبيرَ عن عدد العناصر بدقَّة من خلال الإشارات المُعجمية. (تكون هذه الإشارة المُعجمية الأدقُّ إلى الكميات لفظيةً لدى معظم الأطفال، ولكن يستطيع الأطفال الصمُّ بالطبع استخدامَ الإشارات اللغوية من أجل الإشارة إلى الكميات بسرعة ودقَّة.)
خاتمة
إنَّ هذه المناقشة مُقتضَبة بكلِّ تأكيد؛ فنحن لم نتناوَلْ مُختلِف النتائج المُثيرة، المُرتبطة بالطرُق التي يتعلَّم بها الأطفال الأعداد والمهارات الكمية المرتبطة بها. بالرغم من ذلك، فقد ركَّزَت هذه المناقشةُ على بعض النتائج المهمة المتعلقة بغايتنا الأشمل؛ وهي توضيح الدور الذي تُؤدِّيه الأعداد في حياتنا، والدور الذي أدَّتْه على مدار تاريخ البشرية. إنَّ الأعداد وطرُق العدِّ تُغيِّر الطريقة التي يُفكِّر بها الأطفالُ في الكميات. وهي توفِّر مستوًى جديدًا من الدقة في التفكير العددي لدى البشر، وهو لم يَنتُج ببساطة عن التطوُّر الطبيعي للدماغ، بل هو نتيجة النشأة في ثقافات محدَّدة طوَّرَت طرُقًا للعدِّ وغيره من المهارات ذات الصِّلة. وهذه الطرُق والمهارات تَعتمد في النهاية على مفردات الأعداد.