الإسلام والمسلمون
الإنسان عالم صناعي
خلق الله الإنسان عالما صناعيا، ويسر له سبيل العمل لنفسه. وهداه للإبداع والاختراع، وقدر له الرزق من صنع يديه، بل جعله ركن وجوده ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهية، وبيد وحضارة صنيعة أعماله، وأقواته من معالجة الأرض بالزراعة، أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه الحر والبرد والوجى من عمل يديه نسجا أو خصفا، وأكتانه ومساكنه ليست إلا مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتغنمه فيه من دواعي ترفه ونعيمه، إنما هي صور أعماله ومجالي أفكاره، ولو نفض يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان، وبسط كفيه للطبيعة، ليستجديها نفسا من حياة لشحت به عليه بل دفعته إلى هاوية العدم، وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه وهاد يرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته يعمل كيف يعمل وليقتدر أن يعمل، فصنعته أيضا من صنعه، فهو في جميع شئونه الحيوية عالم صناعي كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل. هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
دعه في هذه الحالة وخذ طريقا من النظر إلى أحواله النفسية، من الإدراك والتعقل والإخلاص والملكات والانفعالات الروحية، تجده فيها أيضا عالما صناعيا، شجاعته وجبنته، جزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه، عفته وشرهه، وما يشابهها من الكمالات والنقائص جميعا تابع لما يصادفه في تربيته الأولى وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربى بينهم مرامي أفكاره ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية، أو ركونه إلى البحث في الخوض الطبيعية وعنايته باكتشافه الحقيقة في كل شيء، أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية إنما هي ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون، أما هواء المولد والمربى ونوع المزاج وشلل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر لها في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية، على ضعف في ذلك الأثر، فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به وكأن لم يكن أودع في الطبع. نعم إن أفكارا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد، وصفات تسمو، وهمما تعلو، حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أنه ثمرة ما غرس ونتيجة ما كسب فهو مصنوع يتبع مصنوعا، فالإنسان في عقله وصفات روحه عالم صناعي.
هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء، ولكن هل تذكر، مع هذا، إن الأعمال البدنية، إنما تصدر عن الملكات والعزائم الروحية، وإن الروح هي السلطان القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير لأنه مما لا يغرب عن الأذهان، إنما قبل الدخول على موضوعنا أقول كلمة حق في الدين، ولا أظن منكرا يجحدها.
إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر، تتلقاه العقول عن المبشرين والمنذرين فهو منسوب لمن لم يختصهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتعليم والتلقين وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب ويرسخ في الأفئدة وتصطبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من الملكات والعادات وتتمرن الأبدان على ما نشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها، وكأنما الإنسان في نشأته لوح صقيل وأول ما يخط فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ حتى الصفات، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال.
وبعد فموضوع الديانة المسيحية والديانة الإسلامية بحث طويل الذيل، وإنما نأتي به على إجمال ينبئك عن تفصيل.
الديانة المسيحية
إن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر». ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد، وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمن يقف على مباني هذه الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع ملاحظة أن لكل خيال أثرا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه، يعجب كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه، فهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفه العيش فيها، ولا يقفون عند حد في استيفاء لذاتها، ويسارعون في افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشائعة ويخترعون كل يوم فنا جديدا من فنون الحرب، ويبدعون في اختراع الآلات الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض، ويصولون بها على غيرهم، ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في أحكام نظامها، حتى وصلوا غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلا عن الالتفات إلى طلب غيرها.
الديانة الإسلامية
لم لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيا، لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه الحقيقة؟ هل القرون الخالية والأحقاب الماضية لم تكن كافية لرسوخ الديانتين في نفوس المستمسكين بعراهما؟
هل نبذ كل دينه؟
أما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا عن كل كمال حربي حظا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر، وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع وما أحدثه السفسطائيون الذين أنكروا مظاهر الوجود وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث، ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها في الكتب، وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وأن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا في الهمم وفتورا في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص في التعليم والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة، ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة، وبين فئة ضعيفة. لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذي نعاني من عنائه اليوم مما نسأل الله السلامة منه.
إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته، وإن كان حجابها كثيفا، لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلابد يوما أن يسطع ضياؤها وينقشع سحاب الأغيان، ومادام القرآن يتلى بين المسلمين وهو كتابهم المنزل، وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم يأمرهم بحماية حوزتهم، والدفاع عن ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المنعة من كل سبيل، ولا يعين لها وجها، ولا يخصص لها طريقا، فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم، فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظا لحقوقهم وضنا بأنفسهم عن الذل وملتهم عن الضياع وإلى الله تصير الأمور.