الجمود علة تزول
تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما أوجزناه في الصفات السابقة. ولن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن شاء الله تعالى.
وقد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث — مرض الجمود على الوجود — وكم في الكتاب من آية تنفر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا عليه، ولا حاجة إلى إعادة ذلك.
ثم إننا أشرنا أيضا إلى بعض الأسباب التي جلبت هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام، وأن محدثها إما عدو للمسلمين طالب لخفض شأنهم أو لاستعبادهم واستغلال أيديهم لخاصة نفسه وإما محب جاهل يظن خيرا ويعمل شرا. وهذا الثاني كان أشد نكاية وأعون على الغواية، وهل تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته وكرمه الفياض؟ وينهض بأهله إلى خير ما ذخر فيه؟؟
جاء في الكتاب المبين إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ذلك الذكر هو الذكر الحكيم — هو القرآن الذي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هو كما قال كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وعد الله بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده، لم تطل إليه يد عدو مقاتل، ولا يد محب جاهل، فبقي كما نزل، ولا يضره عمل الفريقين في تفسيره وتأويله، فذلك مما لا يلتصق به، فهو لا يزال بين دفات المصاحف طاهرا نقيا بريئا من الاختلاف والاضطراب، وهو إمام المتقين ومستودع الدين، وإليه المرجع إذا اشتد الأمر، وعظم الخطب، وسئمت النفوس من التخبط في الضلالات، ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولابد أن تتمزق كلها بأيدي أنصاره. فيتبلج ضياؤه لأعين أوليائه. إن شاء الله تعالى.
هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصهم الله بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم، بما عرفوا من نجاح مسعاهم، ولكن الذين أطبق عليهم ظلم البدع وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزب للشيع، وطمست بصائرهم وفسدت عقولهم بما حشوها من الأباطيل، وبما عطلوها عن النظر في الدليل، هؤلاء في عمى عن نوره، وقلوبهم في أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر، يصيحون بأنهم عُمْي صم، فلا يرون له سناء، ولا يسمعون له نداء، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه وطيش الحلم وهم يعلمون.
هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون. ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه، ويقوون حجج أعدائه في حربه، بزعمهم الاجتماع تحت لوائه، وما هم منه في شيء كما قدمنا.
لا تزال الشدائد تنزل بهؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ولا تزال القوارع تحل بديارهم حتى يفيقوا (وقد بدءوا يفيقون من سكرتهم) ويفزعوا إلى طلب النحاة، ويغسلوا قذى المحدثات عن بصائرهم، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في انتظارهم، يعد لهم وسائل الخلاص، ويؤيدهم في سبيله بروح القدس، ويسير بهم إلى منابع العلم، فيغترفون منها ما يشاءون، فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كمن فيها من قوة، فيأخذ بعضهم بيد بعض، ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين.
ولهذا أقول: إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدا، لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله. وهذا الجمود سيزول، وأقوى دليل لك على زواله، بقاء الكتاب شاهدا عليه بسوء حاله، ولطف الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه، ويدعون إليه ويؤيدونه، والحوادث تساعدهم، وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم.
هذا الكتاب المجيد الذي يتبعه العلم حيثما سار شرقا وغربا لابد أن يعود نوره إلى الظهور، ويمزق حجب هذه الضلالات، ويرجع إلى موطنه الأول في قلوب المسلمين ويأوي إليها — العلم يتبعه وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه.
يقول أولئك الجامدون الخامدون — كما يقول بعض أعداء القرآن إن الزمان قد أقبل على آخره، وإن الساعة أوشكت أن تقوم، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد، وما مني به الدين من الكساد، وما عرض عليه من العلل، وما نراه فيه من الخلل، إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم، فلا فائدة في السعي، ولا ثمرة للعمل، فلا حركة إلا إلى العدم ولا يصح أن يمتد بصرنا إلا إلى العدم، ولا أن ننتظر من غاية لأعمالنا سوى العدم (نعوذ بالله).
هؤلاء حفدة الجهل، وأعوان اليأس، يهرفون بما لا يعرفون. ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته؟ إن الذي مضي بيننا وبين مبدأ الإسلام (أي الهجرة) ألف وثلاثمائة وعشرون عاما، وإنما هي يوم وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى. وإن آيات الله في الكون — وإن كانت تدل على أن ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير — تشهد بأن ما بقي لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا.
إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر ستة وعشرين رجلا كل رجل يعيش خمسين سنة فهل يعد مثل ذلك دهرا طويلا بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام؟ إن زمنا كهذا لا يكفي — وقد تبين أنه لم يكف — لاهتداء الناس كافة بهديه. ولم تقم القيامة على الدين ولم تقم على شرههم وطمعهم؟
هنالك يلتقي (أي العقل) مع الوجدان الصادق (القلب) ولم يكن الوجدان ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته، متى كان الوجدان سليما، وكان من استضاء به من نبراس الدين صحيحا، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن فرقا بين العقل والوجدان (القلب) في الوجهة، بمقتضى الفطرة والغريزة، فإنما يقع التخالف بينهما عرضا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس وقد أجمع العقلاء على أن المشاهدات بالحس الباطن (الوجدان أو القلب) من مبادئ البرهان العقلي، كوجدانك أنك موجود، ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك وألمك ونحو ذلك.
منحنا العقل للنظر في الغايات، والأسباب والمسببات، والفرق بين البسائط والمركبات — والوجدان لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام، وهلع واطمئنان، وشماس وإذعان ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان، ولا يحصيه البيان، فهما عينان للنفس تنظر بهما، عين على القريب: وأخرى تمد إلى البعيد، وهي في حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى، فالعلم الصحيح مقوم الوجدان، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم. والدين الكامل علم وذوق، وعقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان. فإذا اقتصر دين على أحد الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه، هيهات أن يقوم على الأخرى ولن يتخالف العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانين، والوجود الفرد وجودين.
قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنك تعمله طوعا لوجدانك، وربما أيقنت المنفعة في أمر أعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك، فتقول إن هذا يدل على تخالف العقل والوجدان، ولكني أقول: إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره، عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين — إما أن يقينك ليس بيقين، وأنه صورة عرضت عليك من قول غيرك، فأنت تظنها علما وما هي به، وإما أن وجدانك وهم تمكن فيك، وعادة رسخت في مكان القوة منك، وليس بالوجدان الصحيح، وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظننتها شعورا منبعه الغريزة وما هي منه في شيء.
لابد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر الحكيم. ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله)، وعند ذلك يكون الله قد أتم نوره ولو كره الكافرون وتبعهم الجامدون القانطون، وليس بينك وبين ما أعدك به إلا الزمان الذي لابد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل، وتوضيح المنهج، وتقويم الأعوج، وهو ما تقتضيه السنة الإلهية في التدريج سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ.