المسألة الإسلامية بين هانوتو والإمام
كتب مسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا في جريدة «الجرنال» الباريسية مقالا عن الإسلام والمسألة الإسلامية نشر في جريدة المؤيد. فرد عليه الأستاذ الإمام بمقال بليغ أفحمه في كل ما جاء به.
مقال مسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا
أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية.
اخترق المسلمون أبناء آسيا شمال القارة الأفريقية بسرعة لا تجارى حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدن البيزنطيين «يونان الشرق» ثم تراموا بها على أوربا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدنية يرجع أصلها إلى آسيا بل أقرب في الوصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبتت أقدامهم أحقابا متعاقبة، ولكن كان لا يزال الهلال ينتهي طرفاه من جهة مدينة (القسطنطينية) ومن جهة أخرى ببلدة (فاس) في المغرب الأقصى معانقا بذلك الغرب كله.
إذن فقد صارت (فرنسا) بكل مكان في صلة مع الإسلام بل صارت في صدر الإسلام وكبده حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطوتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين، وهي تدبر اليوم شئونه، وتجبي ضرائبه، وتحشد شبانه لخدمة الجندية، وتتخذ منهم عساكر يذبون عنها في مواقف الطعان ومواطن القتال. تلك المملكة الفسيحة الأرجاء التي أنشأتها في باطن القارة الأفريقية هي الوارث لما أبقته الدول السابقة والأمم البائدة من (قرطاجيين) (ورومانيين) و(عرب) من آثار المدنية التي كانت القارة الأفريقية منبتا لثمارها اليانعة.
خطر الإسلام
إن شعبا جمهوري المبادئ يبلغ عدد أبنائه أربعين مليونا، لا مرشد له إلا نفسه، لا عائلات ملوكية فيه تتنازعه الحكم، ولا رؤساء يتناولون الرئاسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلد زمام إدارة شعب آخر لا يلبث أن ينمو حتى يساوي ضعف عدده وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمتبع لتقاليد وعادات غير التي نعنو لها ونحترمها، هو الشعب الإسلامي السامي الأصل الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن ملح وروح المدنية، نعم إن ظروف وشروط هذه المعضلة نادرة، ولكن ليس على الشعب الغالب أن يحاول جهده لمعرفتها والاطلاع عليها.
ليس الإسلام فينا فقط بل هو خارج عنا أيضا قريب منا في (مراكش) تلك البلاد الخفية الأسرار التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه — قريب منا في (طرابلس الغرب) التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر الأبيض المتوسط، وبين الطوائف الإسلامية في باطن القارة الأفريقية — قريب منا في (مصر) حيث تصادمت (الدولة البريطانية) فصادمتها إياها في الأقطار الهندية وهو موجود وشائع في (آسيا) حيث لا يزال قائما في (بيت المقدس) وناشرا أعلامه على مهد الإنسانية، وبحسب أنصاره وأشياعه في قارات الأرض القديمة بالملايين، وقد انبعثت شعبة منه في بلاد (الصين) فانتشر فيها انتشارا هائلا حتى ذهب البعض إلى القول بأن العشرين مليونا المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء (لساكياموني)، وليس هذا بالأمر الغريب فإنه لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرا في الآفاق، فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس زمرا وأفواجا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه، ففي البقاع الأفريقية ترى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل البيضاء يحملون إلى الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار، قواعد الحياة ومبادئ السلوك في هذه الدنيا، كما أن أمثالهم في القارة الآسيوية ينشرون بين الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي، ثم هو، أي هذا الدين، قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها، أعني في الآستانة العليا حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع، الذي يحكم منه على البحار الشرقية، ويفصل الدول العربية بعضها عن بعض شطرين.
في باحات قصر يلدز ترى العلماء والدراويش وقد تدثروا بثياب الصوف، وتعمموا بالعمائم الكبيرة، جالسين على الأرائك بجانب سفراء الدول. هم هناك يمثلون في الخاطر أشخاص ألف ليلة وليلة لا يتحركون من مقاعدهم، ينبسون بكلمات تطابق تحريك أيديهم حبات السبح، منتظرين مجيء دورهم في المقابلات لعرض طلب أو توجيه لوم. وكل المسلمين ممن يقيمون في (الآستانة) أو في (مراكش)، في أرجاء أسيا أو أصقاع أفريقية، من بدو كانوا أو حضر، واقفين في أماكنهم أو سارين مع القوافل، يركعون مع الراكعين إذا حانت الصلاة، يتوضئون أو يتيممون بالتراب، مولين وجوههم جميعا شطر الكعبة، وسواء منهم الذين يلبسون الثياب الواسعة، أو يتزيون بالسترة الإسلامبولية، والذين يلبسون الطربوش أو العمائم على رءوسهم، والذين يضعون السيف واليطقان في نطاقهم، أو يتلقون العلوم في مدرسة برلين الجامعة، أو يدرسون علوم السياسة في باريس، فإنهم يولون وجوههم شطر جهة واحدة، هي الأرض المقدسة، هي الأرض التي تكتنفها الصحراء، هي الأرض التي عاش فيها محمد، هي الأرض التي تتضمن جسمه المبارك، في قبر لا يجسر أحد على الوصول إليه إلا مغطى الوجه حياء وهيبة، هي الأرض التي جاء منها الآباء ويعود إليها الأبناء بحركة مستمرة، هي الحج الأبدي إلى بيت الله الحرام، وجميع المسلمين عن بكرة أبيهم يرنون بطرفهم إلى هذا المكان المقدس، ويمدون إليه أعناقهم ولا يجدون لذة في الحياة إلا بأمل العودة إليه، ومن مات منهم ولم يكن أدى فريضة الحج مات على أسف وحسرة. وخلاصة القول إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة، بها يدبرون أعمالهم ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي يبتغونها، وهذه الرابطة تشبه السبب المتين الذي تتصل به أشياء تتحرك بحركته وتسكن بسكونه، بل هي القطب الذي تنتهي إليه قوة المغناطيسية. ومتى اقتربوا من الكعبة — من البيت الحرام — من بئر زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس — من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة — من الركن الذي يقولون عنه إنه سرة العالم، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام — اشتعلت جذوة الحمية الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفا وتقدمهم الإمام مستفتحا العبادة بقوله: «باسم الله» فيعم السكون والسكوت، وينشران أجنحتهما على عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف، ويملأ الخشوع قلوبهم، ثم يقولون بصوت واحد «الله أكبر» ثم تعلوا جباههم بعد ذلك قائلين: «الله أكبر» بصوت خاشع يمثل معنى العبادة.
ترى في قرانا وبلداننا درويشا فقيرا شاحب اللون مدثرا بأرديته البيضاء المقلمة بخطوط سوداء يلهج لسانه بذكر الله والصلاة على نبيه، لا يلويه عن ذلك شيء — هذا الدرويش الذي ينتقل من خيمة إلى خيمة، ومن قرية إلى قرية، راويا حوادث الأقطاب والأولياء من مشايخ الإسلام، إنما يبذر في القلوب حيثما حل وأينما توجه بذور الحقد والضغينة علينا.
إن العالم الإسلامي منقسم إلى طوائف وطرائق لا عداد لها، ينخرط في سلكها الألوف من رعايانا المسلمين ولكن ليس لها في الغالب مراكز ولا زوايا بالأرض الداخلة في دائرة نفوذنا، وغاية الأمر أن العاملين في هذه الطوائف والمذاهب الكثيرة يخترقون بلا انقطاع ولا توانٍ مستعمراتنا الأفريقية، فيستقبلهم أهلوها بالترحاب، ويحسنون وفادتهم، ويكرمون مثواهم، حتى أن الفقير منهم لا يرى في إكرامهم له أقل من أن ينحر له شاة، هذا عدا ما يجمعه له من صدقات ذوي البر والإحسان، أو من المرتبات المالية السنوية التي يبلغ ما يدفعه أهالي الجزائر وحدهم منها ثمانية ملايين من الفرنكات كل عام، وهذا مما يستوجب العجب والدهشة لأن مقدار ما نجبيه من الضرائب كل سنة من أهالي الجزائر لا يتجاوز ضعف هذا المبلغ.
كنا نرى من زمن حديث رعايانا الوطنيين في الجزائر ينقادون لأوامر سرية، تناقلوها بالأفواه، وكانت تقضي عليهم بتأليف الزمر والأفواج منهم لمهاجرة أوطانهم، والذهاب إلى آسيا الصغرى حيث الأمن المرجو.
يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح، وطي أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم تثبط هممهم. نعم ليس لمقاومتهم رؤساء يديرون هذه المقاومة، ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرئاسة، ففي مسألة علائقنا مع الإسلام تجد المسألة الإسلامية والمسألة الدينية والمسائل الداخلية والخارجية شديدة الاتصال والارتباط بعضها ببعض، وهذا يجعل حلها صعبا ومتعذرا كما سنبينه.
المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر والمغفرة والحساب، وهي كلمات ثلاث مصبوغة بصبغة دينية، تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة الملك في تفهمها، مع أنها من الأمور التي ينبغي الوقوف عليها والعلم بها مهما صعب منالها وتعذر مرامها. إن الدين هو الوسيلة التي تمهد للإنسان طريق الوصول إلى الحضرة الإلهية أو هو بعبارة أخرى الواسطة في وقوف المخلوق بين يدي الخالق. إذا تقرر ذلك، فهل الخالق بقدرته المطلقة يودع في نفس المخلوق استعدادا للعمل بمقتضى إرادته السرمدية بحيث لا يحيد عما تأمره به هذه الإرادة، أم للإنسان متى تم خلقه إرادة خاصة يعمل بحسبها واختيار مستقل لا يستمد من اختيار أسمى منه؟ وهل للإنسان الذي خلقه الله وسواه إرادة مطلقة من نفسه وتصرف مطلق في ذاته، أم ترجع جميع أعماله من خير وشر إلى القدرة الربانية القابضة على زمام الكون والمسببة لوجوده فيه؟
في دائرة هذا البحث تنحصر الخلافات الدينية والفلسفية التي لم يوفق دين من الأديان ولا مذهب فلسفي إلى حسمها بكيفية يقتنع بها الإدراك ويرضاها العقل، مع أن البحث فيها لإصابة هذا الغرض السامي لم يكن بالأمر الحديث، إذ طالما بحث فيها فلاسفة الأقدمين فلم يجدوا لها حلا، وكان حظهم منهم كحظ فلاسفة وعلماء المتأخرين.
وغاية ما عرف منذ الأعصر السالفة إلى الآن أنه وجد مذهبان تشاطرا فيما بينهما العقائد البشرية من تلك الوجهة المهمة، فالأول منهما يقول بتناهي الربوبية في العظمة والعلو، وجعل الإنسان في حضيض الضعف ودرك الوهن. ويذهب الثاني إلى رفع مرتبة الإنسان وتخويله حق القربى من الذات الإلهية بما فطر عليه من إيمان وإرادة، وبما أتاه من أعمال صالحات وحسنات.
وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمائة عام من انقضائه ديانتان، إحداهما ربانية والثانية بشرية تمثلانه في ذَيْنك المذهبين المتناقضين ولكن بتلطيف في التناقض. أما الأولى فهي الديانة المسيحية الوارثة بلا واسطة آثار الآريين والمقطوعة الصلات بالمرة مع مذهب السامية، وإن كانت مشتقة منه وغصنا من دوحته، ومن خصائص هذه الديانة ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية وهي الإسلام المشوبة بتأثير مذهب السامية تحط بالإنسان إلى أسفل الدرك، وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له.
هذان الميلان المختلفان يظهران ظهورا واضحا في الاعتقاد الأساسي لكلتا الديانتين، وهو أصل الألوهية، أما المذهب المسيحي فيذهب في هذا الأصل إلى الثالث أي أن الإله الأب أوجد الابن واتصل الاثنان بصلة هي روح القدس، وعليه فيكون يسوع المسيح إلها وبشرا — هذا الثالوث السري المشتقة أصوله من ضرورة وجود إله بشري يمحو ذنب الجنس البشري ويفديه من الخطيئة التي اقترفها، إن شعبا جمهوري المبادئ يبلغ عدد أبنائه أربعين مليونا، يرفضه المسلم الذي يعتقد بوحدانية الرب، ويتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا شديدا حيث يقول: «لا إله إلا الله».
غير أن إدراك المسيحيين من هذا القبيل هو أخف وأعلى وأجلب للثقة، إذ هو يحملهم على إتيان الأعمال التي تقربهم إلى الله حيث الوسائط بينهم وبين ذاته الجليلة موصولة في حين أن المسلمين تجعلهم ديانتهم كمن يهوي في الفضاء بحسب ناموس لا يتحول ولا يتبدل، ولا حيلة فيه سوى متابعة الصلوات والدعوات والاستغاثة بالله الذي هو مستودع الآمال ولفظة الإسلام معناها «الاستسلام المطلق لإرادة الله».
ترى الديانتين أو بعبارة أخرى المدنيتين المسيحية والإسلامية إحداهما بإزاء الأخرى، وتتصل الاثنتان بعضهما ببعض من حيث المنشأ العام لهما، إذ هما مشتقتان من الأصول اليونانية السامية ومنها استمدتا جانبا من العقائد والمذاهب والآداب فهما إذن متداخلتان في بعضهما من وجوه عدة، ولكن مسافة الخلف بينهما شاسعة في الحقيقة من حيث البحث في القدرة الإلهية والحرية البشرية.
رأيان في الإسلام
وقد كانت هذه المناقضات وتلك الأشباه تفرع الطريقين المختلفين اللذين أتبعناهما فيما يربطنا من العلائق بالإسلام والمسلمين. قصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينين المسيحي والإسلامي فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد. قال المسيو كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام): «إن الديانة المحمدية جذام نشأ بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا بل هي مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمور ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رءوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهستيريا (الصرع) العامة والذهول العقلي وتكرار لفظة الله إلى ما لا نهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية، ككراهة لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى والجنون الروحاني والليمانيا أو الماليخوليا وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات … إلخ إلخ».
أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية وحيوانات مفترسة (كالفهد والضبع كما يقول المسيو كيمون) وأن الواجب إبادة خمسهم (كما يقول أيضا) والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر (وهذا أيضا قوله) … وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري … أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو ١٣٠ مليون مسلم وأن من الجائز أن يهب هؤلاء «المجانين» للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم.
ويذهب غير أصحاب هذا الرأي إلى أن الإسلام دين ومدنية يتصلان مع ديننا ومدنيتنا بعروة الإخاء والتصاحب، وتطرف البعض منهم فاعتبروا الإسلام أرقى مبدأ وأسمى كعبا من الدين المسيحي. قال المسيو لوازون (القس ياسنت سابقا) معترفا ومقرا أن الإسلام هو الدين المسيحي محسّنا ومحوّرا، ونصح للفرنسيين الذين يلتمسون دينهم المفقود أن يستعينوا بالإسلام للعثور على ضالتهم المنشودة ويذهب قوم غير الذين سبقت الإشارة إليهم إلى وجوب احترام الإسلام وتبجيله، مستندين في ذلك على ما دونه أحد مؤرخي الكنيسة الذي صار فيما بعد كردينالا حيث قال: «إن الإسلام قنطرة للأمم الأفريقية ينتقلون بواسطتها من ضفة الوثنية إلى ضفة المسيحية، فليس الواجب والحالة هذه مقصورا على معاملة الإسلام بالتساهل والتسامح، بل لابد من رعايته وتعضيده بأن نسعى في توسيع نطاقه، وترتيب الأرزاق على المساجد والمدارس، وجعله رائدا لمدنية فرنسا وآلة تستعين به على فتوح البلاد».
هذان هما الرأيان السائدان بما بينهما من درجات الاعتدال والتلطف والمسالمة، ولكنهما وإن افترقا، متصل بعضهما ببعض وموجودان في حيز واحد. وقد لوحظ كثيرا أن كل فرد من أفراد موظفينا أو وكلائنا أو أبنائنا المستعمرين قد حار بين المبدأين، وسلك الخطة التي رسمها لنفسه تجاه المسلمين طبقا لميوله نحو قطب من القطبين المتناقضين اللذين يوجد بأحدهما المتطرفون وبالآخر المتعصبون، ولا وسط بينهما.
وتلك الميول المتعاكسة التي برزت من مكان الاعتقاد إلى مجالي الفعل والتنفيذ، هي التي أحدثت التناقض في أعمالنا الاجتماعية والسياسية والإدارية، وأدت إلى الشكوك والريب، ونقض ما أبرم، ما نقض، إلى غير ذلك مما جرت عليه حكومتنا ولا سيما في البلاد الأفريقية من عدم السير على وتيرة واحدة. هذا الخلل ينمو شيئا فشيئا ويتضاعف خطره كل يوم، إذا فكر الإنسان في أنه لا يصيب بسوئه بلاد الجزائر مع سكانها الوطنيين الذين يبلغ عددهم أربعة ملايين أو خمسة فقط، بل يسري على نصف قارة بأكملها عديدة السكان، وسيزداد ويتضاعف عددها بامتداد رواق الأمان على الأهالي وإبطال التجارة في الرقيق.
المسألة خطيرة
فالمسألة إذن خطيرة جدا ولابد من الاعتماد على أمر واحد في حلها، إذ لا يكفي للوصول إلى هذا الحل تنميق عبارات وتسطير كلمات، ولذلك خيرت أن أعرضها على محك الرأي العام، مبينا أحكم الوسائل وأكثرها انطباقا على العقل والصواب، للوصول إلى نتيجة فعلية، وموردا شيئا واحدا هو من ألزم الأشياء لموضوع تلك المسألة وأشدها ارتباطا به.
قد سبق لي وقتما تم تشكيل مملكتنا الأفريقية تشكيلا تاما، أن سألت — ولا زلت أكرر هذا السؤال — الحكومة أن تبحث بحثا علنيا في علاقاتنا مع الإسلام والمسلمين، بمعرفة أناس خبيرين وعلماء عارفين، ليتجلى هذا البحث عن الخطة التي يتحتم على الجميع اتباعها من حاكم منا ومحكوم عليه.
إن الراغب في الاستعمار من أبناء بلادنا يصل إلى الجزائر أو تونس أو السنغال، فيجد نفسه في اتصال مع العربي، أو بعبارة أعم من المسلم، إذ منه يشتري الأرض التي يريد استنباتها، ومنه يطلب اليد العاملة ومعه يدبر شئونه المعيشية، فبالرغم عن هذا الاتصال وعن هذا الجوار والتلاصق تراهما يجهل أحدهما الآخر، وتنفرج مسافة هذا الجهل وتكون عواقبه أكثر خطرا، إذا كانت العلاقة بين الأهالي وبين الموظف أو الحاكم أو القاضي أو الضابط أو غيرهم، ممن هو منوط بالفصل في خصوماتهم، والقيام على شئونهم، وتنفيذ قوانيننا بينهم، وما أسوأ مغبة ذلك الجهل إذا كانت العلاقة بينهم ووزارة مستعمراتنا أو رجال حكومتنا المركزية التي يديرها أحد عشر وزير، ربما لا يوجد من بينهم سوى واحد أو اثنين أنعما النظر في خريطة الأنحاء الواسعة والأصقاع القصية التي عهد إليهم أمر إدارتها وتنظيمها.
مع أن الواجب متى رضينا باحتمال هذه المسئولية على عواتقنا، ونلنا هذه السلطة أن نطيل البحث ونمعن النظر في طرق استخدام هذه السلطة وأن نسأل الخبيرين والعارفين، ونستفيد ممن شاهدوا واختبروا ونستمد من معلوماتهم ما نستعين به على تحرير متن سياسي وجيز يتضمن أصول ومبادئ علاقاتنا مع العالم الإسلامي. إن فريقا كبيرا من العلماء النظريين والعمليين من موظفين وضباط وأساتذة ومهندسين ومزارعين ومستعمرين قد كانوا ولا يزالون على اتصال بالمسلم. وجعلوا أحوال معيشته وطرق أعماله موضوع بحثهم ودراستهم. ولكن المسلمين أنفسهم قد ينبئوننا بما نجهله من بقية أخبارهم، فهم إذا سئلوا أجابوا، وإذا أجابوا أفاضوا، وقد كثرت الأبحاث في كل موضوع، حتى في الموضوعات الصريحة الواضحة ولم يفكر أحد في الأمر الذي نحن بصدده، وهو من أكثرها غموضا والتباسا، فلماذا لا نستعين بالوسيلة التي تفيض علينا أنوار الحقيقة، ونطرح من هذه الأنوار شعاعا على من يريدون اتباع الصراط المستقيم، حتى إذا ما تم التحقيق والبحث حررنا بما ينبعث عنهما من الحقائق رسالة تذاع على الألسنة، وتتداولها أيدي الموظفين والمستعمرين، وتنشر بين الطلاب في المدارس فتنمحي بها آثار الأضاليل والترهات الكثيرة، وتزول العقبات القائمة، وتقال الأقدام من العثرات، وتكون تلك الرسالة بمثابة قانون ثابت لفرنسا الاستعمارية يجري على نهجها كل عامل، فيعم نفعه وتجتنى ثماره، وربما كان سببا في أن نعيش مدة نصف جيل على أساس اختيار الفرنسيين المستعمرين الذين انتشروا في عرض البلاد وطولها لا رابطة بينهم ولا صلة، يواصلون الصباح بالمساء في الندم والحسرة من عواقب هفوة أو زلة سقطوا فيها. وكانت كلمة واحدة كافية لإقالتهم من عثرتهم وإصلاح هفوتهم.
ولست أظن أحدا يرتاب في نتائج ذلك التحقيق. وإنما قبل ختام هذا الفصل أورد بعض اعتبارات أخالها ضرورية للوصول إلى الغاية المقصودة من أقوم طرقها.
أشرت سابقا إلى الصلة الأكيدة بين السياسة والدين في العالم الإسلامي، والمسلمون في الأحوال الراهنة شاعرون شعورا قويا بإيمانهم العام، غير أن إدراكهم من حيث الجامعة السياسية، وما كان يسميه القدماء بالرابطة المدنية أو الوطنية، إذ ينحصر الوطن عندهم في الإسلام، فلا يجوز أن يتولاها إلا من كان من عقيدتهم. ولم تدخل رءوسهم حتى الآن فكرة سوى هذه التي تمكنت من أفئدتهم، وأخذت من قلوبهم أمتن مأخذ، فكان ذلك سببا في حدوث سوء التفاهم بين الحاكمين والمحكومين في البلاد الإسلامية الخاضعة لحكومات مسيحية.
على أنه بالرغم من ذلك قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد فصلت فيه السلطة الدينية عن السلطة السياسية بدون جلبة ولا ضوضاء، نريد به القطر التونسي الذي وضعت عليه الحماية التي مؤداها احترام النظام السابق على الفتح بصيانة القوانين والعادات من المساس، والمحافظة على مركز الباي، وقد بالغنا في ذلك بحيث تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئا فشيئا، وأجريناه من المراقبة على شئون الأمور الإدارية والسياسية من التدخل في شئون البلاد، والقبض على أزمتها بدون شعور من أهلها.
تم هذا الانقلاب بسرعة ولين فلم يتألم منه الأهلون ولم تنخدش له إحساساتهم، إذ لبثت المساجد مغلقة في أوجه المسيحيين، والأملاك الموقوفة محبوسة على السبل التي خصصت لها، وتركت أزمة الأحكام بأيدي القواد والقضاة، ولم يغير شيء من القوانين الأهلية إلا برضا وتصديق من الأهالي، وربما كان يطلب منهم، وقام بأعمال هذا التغيير والتبديل وهذا النسخ والتحويل عدد قليل من الموظفين أكثرهم من التونسيين. وجملة القول إن انقلابا عظيما حدث بدون أن يجر وراءه ألما أو توجعا أو شكوى، بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوربية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقترانا لم تغشه سحابة كدر.
إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد ارتخى بل انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها ببعض. إذن توجد أرض تنفلت شيئا فشيئا من مكة ومن الماضي الآسيوي. أرض نشأت فيها نشأة جديدة، أنبتت في قضائها وإدارتها وعاداتها وأخلاقها، أرض يصح أن تتخذ مثالا يقاس عليه، ألا وهي البلاد التونسية.
كانت هذه البلاد ميدان التنافس والجلاد إذ حكمت فيها قرطاجة ورومية وبيزنطية والعرب و«سان لويس» و«شارلكان» فأصبحت الآن مهبط المسالمة ومعهد التصالح والوئام، ففيها الديانتان بل المدنيتان متلاصقتان بل متداخلتان، حتى تأكدت نقط بينهما وانحسرت فرجة الخلاف وارتفعت الأحقاد من الصدور رغبة من الفريقين في التمتع بمزايا الأراضي الخصبة والسماء الصافية الأديم التي ينزل منها على القلوب برد وسلام يلطفانها ولعل الأطلال العديدة والشاهدة على ما تعاقب في الأقطار التونسية من المدنيات القديمة، تندثر تماما ولم ينمح أثرها كي تهتز لاستقبالنا ويوصل بعضها ببعض ما انقطع من حلقات الدهر الماضي.
مقال هانوتو الثاني
من المسلم أنه يتعذر عليّ الرد في هذه الجريدة على جميع الرسائل التي ترد إلي بشأن ما أنشره فيها من الفصول والمقالات، ولذا أشكر جميع الذين راسلوني شكرا جزيلا، وأرجوهم أن يعتقدوا ويثقوا بأن ما أشاروا به عليّ وأبانوه لي محفوظ في مخيلتي. ولا يبرح عن ذاكرتي، وإنني أجد في تبادل الأفكار على هذا المثال خير معوان وأحسن مشجع، وبالرغم مما يخالجني من الميل إلى عدم قصر البحث في نوع خاص من الموضوعات، أرى ألا مندوحة لي من العود إلى بعض المناقشات التي أثار عجاجها الفصلان اللذان نشرتهما حديثا في مسألة الإسلام، والحق يقال إنني أصبحت بسببهما كما يقال: بين نارين، فالمسيحيون أنحوا علي بالتعنيف واللوم، قائلين: إنني تظاهرت بالميل للإسلام، واتخذني المسلمون خصما لدودا لدينهم، وهو ما يثبط همة الإنسان عن إتباع خطة المسالمة والتوفيق، لو لم يعرف من قديم الزمان أن الذين يتصدون إلى بيان الحقائق بالتصور والتعقل إنما يشبهون سندان الحداد تتلاقى عليه ضربات المطرقتين.
ويجب قبل الدخول في الموضوع أن أشير إلى طريقة من الجدل: كان الجهل بلغتنا، وهو في نظري أكثر تأثيرا من سوء القصد، سببا في اتباع بعض الجرائد الإسلامية لها وسيرها على سننها، فإن جريدة «المؤيد» التي تظهر في مصر القاهرة قد نشرت ترجمة أو بالأحرى خلاصة فاسدة من الفصلين اللذين كتبتهما على الإسلام، ولعل القراء يذكرون أنني أوردت فيهما آراء كيمون التي أبداها في كتابه (باثولوجيا الإسلام) وأن إيرادي لها كان على سبيل الحكاية والنقل، إذ أشرت إلى خطر شدتها، وأبنت العواقب الضارة التي يفضي إليها الجدال السياسي في الخواطر السريعة التأثر والانفعال، ولكيلا يختلط على الذهن شيء من أقوال كيمون التي أوردتها، وضعت في آخر كل عبارة من عباراته كلمتي (أنا أنقل) محصورتين بين قوسين دفعا للالتباس ومنعا للشك.
ولو أمكن محو ما تراكم شيئا فشيئا حول ما يقع بشأنه سوء التفاهم من العواقب الضارة والشدائد التي لا فائدة منها، وتيسر العودة إلى النقطة الأولى التي كانت مبدأ النزاع وسبب الاختلاف، لانْدَهَشَ الإنسان من السهولة في تذليل الصعاب، وتمهيد المشاكل التي جعلت الفارق عظيما ومسافة الخلف بعيدة. ولقد قيل إن العالم ميدان يتنازع فيه بنو الإنسان، وهو قدر مقدور لولاه لتعذر على الفهم أن يدرك كيف تكون مقدمات أمثال تلك النتائج البالغة في الرداءة والسوء مبلغا عظيما حتى لقد تمر على الإنسان لحظات يسائل فيها نفسه، عما إذا كان في الإمكان إصلاح ما انثلم من حوادث التاريخ باجتهاد الناس في فهم مقاصد بعضهم بعضا.
ومن الأمور التي لا يزال خاطري منصرفا إليها أن المسائل المشكلة، ولو كانت من أهم المسائل وأخطرها تتضمن في ذاتها الحل الملائم لها والمطابق للإنصاف والسلام، وكنت ولازلت على اعتقاد وطيد في المباحثات المتعلقة بمصلحة من المصالح وفكرة من الأفكار، بأنه متى كان الطرفان على جانب من طهارة الذمة وحسن النية، وجعلا غايتهما القصوى المسالمة والاتفاق، واتخذا لذلك وسائل الحكمة والتدبر، وصدق اجتهادهما في التجرد عن الأهواء، فإنهما يصلان إلى نقطة تتفق فيها مقاصدهما وتتطابق رغائبهما.
وقد اعتقدت دائما أن للسياسة على الخصوص مهمة في هذا المعنى ينحصر فيها شرفها، وترجع إليها كرامتها، ليس بما تعلقه الشعوب من الشكر والاعتراف بالجميل فقط، بل بحسن العمل العقلي الذي يقوم به السياسيون بدون لغط ولا ضوضاء في سكون مكاتبهم، أما الاعتماد على القوة والركون إلى العنف الذي هو أخص ما يلتجئ إليه القوي فهو من أخريات الوسائل وأحطها، وهو حيلة من لا حيلة له.
ويظن الناس في الغالب أن الواجب التفرقة بين الاتفاق والمجاهرة بالشقاق، وهو خطأ بين وغلط، إذ بين السلم والحرب ميدان فسيح يمكن للسياسة أن تجول فيه جولتها، وكما انطبقت هذه الطريقة على السياسة تنطبق أيضا على المناقشات الفلسفية والدينية، إذ للأفكار والعقائد سياسة مرجعها التسامح والاحتمال، وليس التسامح من مخترعات هذا العصر، بل نقيضه من مخترعاته، لأننا إذا نظرنا في أصول المشاكل البشرية الكبرى يكون اندهاشنا من التشابه بين الآراء التي تعذر التوفيق بعد فيما بينها، أعظم من الانفراج المستحكم بينها. وخلاصة القول إن معيشة بني الإنسان مع بعضهم بعضا بسلام ميسورة لمن يريدون ذلك ويقصدونه برغبتهم وحسن إرادتهم.
وقد حدا بي هذا البحث إلى نوع آخر من الانتقاد صوبه نحوي بعض المسلمين، وليس المقصود به السياسة في هذه المرة بل المقصود به الفلسفة والعلوم الدينية. وقد انتهت إلي رسالتان غريبتان في هذا الباب، إحداهما من رجل مشهور الاسم في فرنسا وهو (أحمد رضا) مدير جريدة «مشورت» الذي جمع ملحوظاته في رسالة سماها (التسامح الإسلامي) وقصد بها الرد على الكتاب الغربيين الذين يتهمون العالم الإسلامي بالتعصب الديني، واستشهد في خاتمتها بكلمات قالها الكردينال «لافيجري» وهي: (أجاهر علانية بأنني أعتبر إثارة خواطر الشعوب الإسلامية بعدم التدبر في دعوتهم إلى الدين المسيحي إثما من الآثام وضربا من ضروب الجنون)، وإنه ليفيض بي الكلام على الوصف الذي وصف به صاحب الرسالة تسامح المسلمين، ولكني على ثقة من أن تبادل الشكوى أو الشتم لا يحدو بنا إلى الغاية السلمية التي نقصدها، وإن الاجتهاد في فهم بعضنا مقاصد بعض أولى وأحسن من الصياح والعويل لمنع الناس في الاتفاق والوئام.
وقد وردت إلى رسالة ثانية من أحد عظماء المسلمين وهو حضرة أحمد أفندي مدحت أكبر كتاب الترك في الوقت الحاضر، وإني آسف شديد الأسف من عدم إمكاني نشر مضمونها بأكملها في هذا المقام لطولها وغموض مباحثها، ولا ريب في أن القراء الفرنسيين كان يسرهم أن يتلذذوا بتلاوة إنشاء شرقي مكتوبة بلغة فرنسية صحيحة، غير أن في المباحث الدينية، ولو كانت متعلقة بالإسلام، شيئا من الاكفهرار والتجهم. على أن هذا لا يمنعني من إيراد شذرة قصيرة يبين فيها الكاتب مبدأ الدين الإسلامي، وها هي: «فيما يتعلق بالإيمان والضمير كل مسلم رقيب نفسه، فهو لا يقدم لأحد سوى الخالق جل وعلا حسابه عن أقواله وأعماله، ولم ير النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولم تسمح له فرصة رأى منها لنفسه حقا أو سلطة مما يخوله لأنفسهم رجال الأكليروس (الدين) في الديانة المسيحية، بل لم يفرقه فارق عن بقية العالمين أمام عدالة الحق سبحانه وتعالى وهو ما يؤخذ منه أنه لو سأل أحدهم ما هو الإسلام، لأجاب المسلمون على اختلاف مذاهبهم بأنه العمل بما قرره القرآن الشريف — فالديانة القرآنية لا تهوي بالإنسان بإقصاء الإله عنه في نهاية الفضاء — إذ جاء في القرآن الشريف وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. هذا الدين فرق بين الإنسان من وجهتيه الأدبية والمادية، فحدد أحواله فيهما بكيفية موافقة للإدراك البشري». ثم استنبط الكاتب من هذا الفرق دفاعا عن الدين الإسلامي يراه أرقى وأحسن ما يدفع عنه به، وأخذ يعتب علي لكوني اختصرت البحث في المسألة الفلسفية ذريعة إلى قصر الكلام على المسألة السياسية.
وإنني أعترف بأنني انصرفت أثناء سياحتي في الجزائر وتونس إلى الوجهة التاريخية السياسية أكثر منها إلى غيرها، وإذا كان القارئ لا يمل حديثي فإنني أورد هنا بإيجاز كيفية الأسباب التي حملتني على هذه السياحة وقصر مباحثي مؤقتا على أعظم مشكلة قامت منذ قرون بين الديانتين المسيحية والإسلامية.
وكان يوجد في فرنسا وقتئذ جم غفير من الناس يجاهرون بضرورة استئناف الحروب الدينية التي اشتهرت بها القرون الوسطى، واسترسل في هذا الموضوع كثيرون من أخص أصدقاء الكردينال ريشليو الذين أخذوا بناصره في خطاه الأولى، ووالوه بنصائحهم وسطوتهم، ومنهم الدوق دي نيفير، والأب جوزيف صديق ريشليو الحميم ومشيره الخاص الذي انطوى معهم في أفكارهم قلبا وقالبا، حتى لقد بدئ في ذلك الحين بتجهيز الحرب الصليبية، ويمكن القول بأن حزب الملكة ماري دي متديسي الذي أجلس ريشليو على منصة الأحكام، وكان يسمى بحزب الكاثوليكيين حزب من الصليبيين.
فما كان من الكردينال ريشليو إلا أن قطع كل صلة من أصدقائه رافضا أن يكون آلة بأيديهم، بل كان منه أن جذب الأب جوزيف إلى ناحيته ثم ولى وجهه عن الإسلام فحارب — كما هو مشهور — الأسرة النمساوية. والحق يقال إن الكردينال كان من أقل الناس تعصبا، فإنه قبل أن يأتي بما عمل به، بنى عمله على أسباب تأمل فيها طويلا واستنجد وقارن، وإن هذه الأسباب هي التي كنت أروم الوقوف عليها لإظهارها.
أما الأسباب التي حملت ريشليو على العدول عن الحروب الصليبية فلسوف أبينها في يوم ما. ولكنني بالبحث في الماضي والمشاهدة العيانية في الحاضر قد توصلت إلى البحث عن مبادئ الاتفاق والوئام في عين المكان الذي اشتهر بأسباب الشحناء والبغضاء، بحثت عن أصول هذه الأسباب فأشرت إلى السلم الناشئ من الحماية ونوهت بذكر أمر مهم وهو معيشة فريقين من الناس، كان لا يظن أنهما يجتمعان في وئام واتفاق، باحترام كل منهما معتقدات الآخر. لما لاحظت هذه الأمور، كنت أود مداراة العواطف، والاقتصار على عبارات التسامح والمسالمة، والاكتفاء بالكلام على الحياة الفعلية، ولكن يظهر أن هذا صعب المرام، إذ الجميع لم يفهموا مرادي ولم يقفوا تمام الوقوف على مقصدي، ومهما يكن من الأمر فإن من الأمور المهمة قيام الأفكار في البلاد المسيحية والإسلامية قياما إذا تحركت فيه بالحركة الطبيعية المبنية على حسن النية وطهارة الضمير، كانت نتيجتها التقريب والتوفيق لا الإبعاد والتفريق.
هذا ما كتبه هانوتو وليس فيه رد لشيء مما خطأه به الأستاذ الإمام من المسائل الدينية والتاريخية ولكنه تنسم من الكلام أن الترجمة تشعر بأنه مستحسن لما نقله عن كيمون وما هو بمستحسنه وهذا صحيح.
«لما كان المحيط الكبير ليس إلا مذاقا واحدا هو الملح الأجاج، كذلك الحال مع هذه العقيدة ليس لها إلا مذاق واحد هو مذاق الخلاص والتحرر».