حديث مع هانوتو لصاحب جريدة الأهرام
رأيت وأنا في باريس أن أقابل المسيو هانوتو وأقف منه على حقيقة الأحوال بوجه عام، وعلى الغاية التي قصدها ويقصدها من كتاباته الأخيرة عن الشرقيين والمسلمين بوجه خاص، ولما كان هذا الموضوع من أهم المباحث لدينا مع رجل مثل هانوتو الكاتب البعيد الصيت والسياسي الواقف على أحوال أوربا والشرق، وكنا نعتقد، كما قالت الأهرام مرارا وتكرارا، أن تقدم الشرق يكون بتقدم الأمة الإسلامية، توخيت أن أنشر أقواله وآراءه، فاستأذنته بذلك فأذن لي. قال: أنتم تعرفون من تاريخ أوربا أن أممها ما تقدمت علما ومدنية واختراعا إلا يوم تقيدت السلطة المدنية، وعرف الشعب والحكام فروضهم المتبادلة، وأنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسيين، ولم أستشهد بكيمون، وهو يوناني الجنس، إلا لأفند أقواله التي لم ينفرد بها، فإن كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسيين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه، وقالوا قوله، وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل، ونجاحهم بعيد، لأن الإسلام معتقدهم يحول دون ذلك، وحجة هؤلاء واحدة، وهي أنه كلما تقدمت أوربا تأخر الشرق، لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي، وإن كل حكومة انفصلت عن الشرق سارت على منهاج أوربا علما ومدنية نجحت، مع أن الدولة العثمانية وأفغانستان ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة، وإنما ذكرت من هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم، ولأفند مزاعم هذا الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون الإصلاح والمدنية، واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس، فذكرتها مثالا أؤيد به أقوالي وسياستي هذه هي روح كتابتي السابقة وإنها ستكون روح اللاحقة.
على أن معارضتي لأمثال هؤلاء الكتاب، أي نقضي لأقوالهم، لا يمنعني عن أن أقول لكم الحقيقة، لأنه يستحيل على أن أقول إن شرقكم سائر على منهاج حكومات أوربا في العدل والحرية والمدنية، كما أنه يستحيل على أن أقول إن حالتكم الحاضرة ضمان لمستقبلكم السياسي، فاعلم أن أوربا حاربت السلطة الدينية مدة ثلاثة قرون لا عن عدم اعتقاد، بل لتفصلها عن السلطة المدنية، فإن المتحاربين كانوا من معتقد واحد، ولكن أراد أفراد أممها أولا ولفيف شعوبها ثانيا أن تكون الكلمة الأولى للسلطة المدنية في أحوال الحكومات وشئون الشعب، وأن يكون للمعتقد حق الأدبيات الدينية بأن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
واعلم أن الذي أيد هذه السياسة أيضا في بلادنا فرنسا هو أعظم تلامذة روما وأحد أقطاب الكنيسة الكاثوليكية أي الكردينال ريشليو، فهو الذي قال بفصل السلطتين، ولم تنسه واجباته الكنسية الدينية معرفة الحقيقة، وهو بهذه السياسة خدم السلطتين أشرف خدمة، إذ أيد السلام بينهما فتأيّدت سطوة الحكومات وتقدمت شعوب أوربا تقدما عجيبا، واعتزت السلطة الدينية أيضا وعاشت السلطتان بوفاق وسلام.
وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسيين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق للسلطة الحاكمة، مع احترام عقائد الشعوب التي تحت حكمنا وسلطتنا، وهو ما سرنا عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسية.
وإني لا أكلمك كمسيحي بل كمؤرخ أو كاتب حر الضمير، لا شأن لغيره في معتقده الخاص، ولكنني أحترم أدبيات كل دين ومعتقده، وأقدر تلك الأدبيات حق قدرها، ولكن الماديات غير الأدبيات، والأولى من شئون عالمنا هذا الذي نعيش فيه ونحيا به، وكل أمة لم تتقدم في ماديتها لابد أن تموت، إذ لا حياة بلا مادة، وإلهكم أنتم أيها الشرقيون إله أوربا وإله أمريكا، إذ أن إله الجميع واحد، ولا يمكن أن يكون أكثر انعطافا على الأوربي منه على الأمريكي، فالشرقي، بل إن الشرقيين عموما، أكثر تمسكا بعقائدهم من الغربيين، وقد علمنا أن أوربا فاقت شرقكم بمراحل، ونرى اليوم أمريكا تزاحم أوربا، وكثيرا ما فاقتها في اختراعاتها وفنونها، ولم يكن ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أميل إلى الأمريكي منه إلى الأوروبي أو الشرقي، ولكن لأن الأخير مستميت والأول حي، هذا يشتغل مجتهدا، وكلما زادت أرباحه زاد نشاطا وإقداما، وذاك يقضي حياته بين القنوط واليأس مستسلما، ولهذا تقدم الأوربي وتأخر الشرقي وضيق أوربا بأهلها دفعها إلى الاستعمار في كل صوب، فصادف أبناؤها أرضا واسعة وشعوبا لا حراك بها، فقبضوا على الأعمال السياسية والاقتصادية فيها.
وهنا استسمحت حضرة المسيو هانوتو وقلت له: إذا كنت تحب مصلحة المسلمين، وتعتقد أنهم راضون في تونس، فهل تعتقد ذلك في أهل الجزائر، ولماذا لا تسأل الحكومة الفرنسية أن ترى في أحوال هؤلاء؟
فقال: أما التونسيون فلا خلاف في أنهم مسرورون بحالتهم، ونحن قد دخلنا بلادهم وهي قاع صفصف فوق شملها أفراد حكمها، وأما نحن فقد تركنا للسكان حقوقهم المذهبية، فاحترمنا جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم الشخصية، ولم نسألهم إلا أمرا واحدا أي احترام سلطتنا السياسية، فأدركوا هذه الحقيقة وعملوا بها، ولهذا كان النجاح عظيما في مدة قريبة، وأنت تعلم أن مذهبي في الاستعمار وضع الحماية كما هو في تونس لأضم المستعمرة إلى فرنسا، كما فعلنا في مدغشقر بالرغم من معارضتي ذلك، وقد رضيت به منقادا لأوامر أكثرية دار الندوة، ولا أنكر أنه يجب تعديل بعض قوانين الجزائر، وقد شرعنا في ذلك، وسأكتب كثيرا في هذا الموضوع، لأني ذهبت بنفسي إلى تلك البلاد، ودرست أحوالها، وأملي ألا يمضي زمن حتى ترى ذلك الإصلاح الذي طلبه غيري وشرعت حكومتنا في إنفاذه.
قلت: إني أعرف ما سردته لي عن تاريخ السلطتين الدينية والسياسية في أوربا وعن أحوال شعوب القطرين. (تونس والجزائر) ولكن ذلك مستحيل في الشرق ولا سيما في الحكومة الإسلامية، والذين يقولون به من الأجانب ليسوا إلا خصوما للمسلمين، لاعتقاد هؤلاء أن في فصل السلطتين ضعفا ترومه أوربا لتنال بغيتها منهم.
قال هانوتو: أنا لا أسأل الشرق ذلك فهو حر يفعل ما يشاء، ولكن أعتقد أن أوربا لم تتقدم إلا بعد تعيين حقوق السلطتين، وجعل الكلمة الأولى للسلطة الحاكمة، كما أني أعتقد أن جمع السلطتين في شخص واحد لم يمنع أن تخسروا في الحروب الماضية، وأعتقد أيضا أن صاحب السلطتين ولا سيما في بلاد كالشرق يستطيع أن يجري إصلاحات لا يقدر غيره عليها. ويعلم المسلمون أن جمع السلطتين في شخص واحد لم يمنع فرنسا من الاستيلاء على الجزائر وتونس، وإنكلترا من التهام الهند، وروسيا من أخذ تركستان وغيرها إلى حدود أفغانستان، كما أنه لم يمنع استلال مراكش وبلاد فارس، والمملكتان إسلاميتان، فإذن كان يستحيل توحيد سلطتهما الدينية، وإذا كان الإسلام كما قلتم ويقول كتابكم إنه لا يحول دون التقدم العصري فما بالكم متأخرون ونحن متقدمون؟ وبماذا تردون على أولئك الكتاب الذين لا يعتقدون اعتقادكم؟ فإذا قلتم إن أوربا تحول دون الإصلاحات، إذن، فلم تأخرتم واليابان تقدمت؟ وهي لم تشتغل إلا ربع قرن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، فأصبحت أوربا تقدرها قدرها في جميع مسائل الشرق الأقصى.
وإذا قال لكم أولئك الكتاب إننا مقتنعون بأن أوربا وشعوب تركيا حالت دون إصلاح الولايات الواقعة في أوربا والقريبة من أوربا كسوريا مثلا سألتكم، هل مسلمو بغداد وما بين النهرين وحلب راضون عن أحوالهم؟ أيظن رجالكم وكتابكم أننا نحن وكتابنا جاهلون أحوالهم هنالك حيث لا أوربي ولا غيره يحول دون تعميم العدالة وحفظ حقوق المتقاضين؟
وأنا أعرف أن أمثال هذه الحقائق يجرحكم ذكرها، ولكن قد حان لكم ألا يعميكم غرضكم عن الحقيقة ولو أنها خارجة من فم أجنبي، مادام كتابكم لا يقولونها فقط بل يكذبونها، كأني بهم يساعدون الظالمين من حكامكم على ما يأتونه من المغارم والمظالم، فكان ذنبهم نحو وطنهم أعظم من ذنب الحكام الظالمين.
وإني أقول لك هذا بعد الذي قرأته في جرائدكم ردا على ما كتبته، فقد عدوني خصما لهم، ونسوا خدماتي لهم وأنا في منصة الوزارة الخارجية في أيام المسألة الأرمنية، فإذا كان هذا رأيهم في صديق خدمهم، فماذا يكون حكمهم على خصم جهر بعدواتهم؟ ولكن فليعلم هؤلاء أنه إذا حدثت أمثال تلك الحوادث في المستقبل فيستحيل على وزير أوربي أن يقبل مثل تلك السياسة. ولا أقول هذا من باب العداء، بل لما نراه من تعديل أوربا على وجه عام مبادئ سياستها الخارجية مع الشعوب الشرقية، فإن الدول ستكون واحدة في المستقبل كما ترى الآن في مسألة الصين.
فقلت للمسيو هانوتو: وما شأنكم والشرق وأممه فكلاهما راض عن حاله، ومفضل لها على كل سلطة أجنبية أو أوربية، والذي ينفر الشرقي هو ظلم أوربا في سياستها هذه، وعتبنا على فرنسا أكثر من غيرها لأنها عودتنا حماية الضعيف من القويّ.
فقال الوزير بعبارة صريحة: إن هذه الأقوال خيالية لا تنطبق على حالة أوربا في هذا الزمان، فهي بعد أن كانت لا تهتم بغير قادتها، قد اندفعت إلى الاستعمار، ولا تقف عند دعوى العدالة وغيرها، واعلم أن فرنسا مضطرة، مادامت لا تقدر على منع الدول الثانية عن توسيع نطاقها الاستعماري والتجاري إلى الاقتداء بالدول المذكورة. وإني أرى كتابكم وأفراد أمتكم يجهرون في غالب الأحيان بأفكار صبيانية فيستعبدون للألماني لنكاية الإنكليزي، وينتصرون للفرنسي على الألماني، ولكن أما حان لهم أن يعلموا أن الأوربيين مهما اختلفت أجناسهم ومذاهبهم من السهل اتفاقهم على الشرقيين؟ لأن هؤلاء لا يعملون عمل العامل البصير باستخدام مصلحة هذه الدولة أو أغراض تلك الأمة لإصلاح شئونهم بل لمعارضة دولة ثانية، وهي سياسة قديمة العهد لا تعتد بها أوربا اليوم. وأنت تعلم أن ألمانيا أكثر الدول في أوربا استقرارا، وأبعدها عن الاستعمار، وهي التي اقترحت تجديد مناطق النفوذ في الصين، وهي التي سألت امتياز إنشاء «سكة حديد» بغداد، مما يدلكم على أن أوربا لا تسعى إلا إلى مصلحتها السياسية.
ثم قال لي: أنت تقول لي إن الساسة المسلمين لا يعتقدون بإخلاص سياسة أوربا كلها أو بعضها، ولهذا يخافون من مصافاة هذه الدولة خوفهم من معاداة تلك لا سيما وأن أكثر الدول تطمع في أملاكهم، وحضرتك أكدت ذلك في كلامك الآن عن سياسة أوربا.
والمسلمون يعتقدون أيضا أن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية، ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول المسيحية، وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة وصدق معهم، وهم يؤيدون سياستهم هذه لما رأوه من تدخل أوربا في أعمالهم، ومن أفعال الموظفين غير المسلمين في المناصب السياسية العثمانية سواء أكان في بلاد الدولة أم في سفارتها، وأنت تقول لي إن في ذلك بعض المغالاة ولكنهم يعذرون.
فهذا الذي تقوله لي اليوم قد سمعته منك من قبل وقاله لي بعض العثمانيين في الآستانة وباريس، ولكن تفنيده أمر سهل وإليك البرهان:
لا يسعك والساسة المسلمين أن تنكروا أن بعض دول أوربا قد اتفقت مع الدولة العثمانية على دول ثانية مسيحية في أوربا، فإن هذا حصل قولا وفعلا في حرب القرم، فنحن وإنكلترا لم نبخل بالمال والرجال لمساعدة دولتكم العثمانية، ونحن وروسيا وألمانيا منعنا بعض دول أوربا عن نيل أغراضها في المسألة الأرمنية، بالرغم من هياج الرأي العام الأوربي وتصريح بعض الدول بمعارضتكم، وتلك أمور حديثة العهد يعرفها رجالكم كما نعرفها نحن.
وإذا راجعنا حوادث التاريخ القديمة تبين لنا أيضا أن فرنسا وبولونيا وغيرهما حالفت الدولة العثمانية ضد دولة ثانية مسيحية، مما يدل على أن ضالة أوربا مصلحتها الاقتصادية والسياسية، ولا دخل للاعتقاد البتة في أعمالها، ولعمرك هل منع ألمانيا كونها مسيحية أن تحارب أوستريا وفرنسا المسيحيتين؟ وألم تحارب إيطاليا أوستريا؟ وهل منع فرنسا مذهبها الكاثوليكي من أن تحالف روسيا ومذهبها أرثوذكسي؟ وهكذا قل عن التحالف الثلاثي بين البروتستانتي الألماني والكاثوليكي النمسوي والإيطالي، وهذه الترنسفال دينها كدين إنكلترا وأهلها من أقرب العناصر إلى الجنس السكسون. وقد حاربها الإنكليز وغرضهم سلب استقلالهم.
كل هذه شواهد قديمة العهد وحديثة تفند زعم حضرتك ومزاعم ساسة الشرق.
وإني أتساهل معك وأقول، إن بعض دول أوربا يريد لكم سوءا، وإن هذا ولد فيكم عدم الثقة بنا نحن الأوربيين، ولكن إذا كان قد استحال على دول الشرق، وهي في أوج مجدها وشامخ عزها، أن تتحد وتوحد كلمتها، فهل يسهل ذلك عليها اليوم؟ وإذا كان المسلمون يعدون سياسة أوربا عداء لمصلحة الإسلام، لأن أوربا مسيحية، وهو زعم باطل، فهل كان ما ينادون به من وجوب الاتحاد الإسلامي وجمع كلمة المسلمين مما يخيف أوربا، ويمنعها عن إنفاذ ما يتهمها به المسلمون؟ وكيف يمكن ذلك الاتحاد المزعوم؟ أترضى به أوستريا ولها البوسنة والهرسك وهي طامعة في غيرهما؟ أم تقبله فرنسا مع أملاكها الأفريقية الواسعة؟ أم تؤيده إنكلترا وعدد رعاياها المسلمين عظيم؟ أم تعضده روسيا؟ أليس ذلك خرقا في الرأي من الذي ينادون بهذه السياسة؟ كأني بهم هم الذين يريدون إنفاذ ما يطلبه كيمون وغيره من كتاب أوربا، وقد كان أولى لمثل أولئك الكتّاب أن يكتبوا كتابات أدبية بلغات الكتبة الأوربيين لتفنيد أقوالهم ولاستمالة الرأي العام الأوربي إليهم. أما ما كان يجب عمله على رجالكم سواء كان الذين عركتهم حوادث السنين الغابرة أو الذين درسوا في أوربا وتعلموا بعض علومها ووقفوا على قليل من مبادئها وسياستها فهو أن يهتموا بنشر العلوم العصرية في بلادهم، وأن يعملوا في الخارج على إزالة سوء التفاهم الواقع بين الشرق والغرب، بأن يتخذوا إقدام أوربا واجتهاد أبنائها مثالا يسيرون عليه، وأنموذجا يعملون بموجبه، أي كما فعل اليابانيون في السنين الأخيرة. وأنت تعلم أن الذي نبه اليابان هو خوفها من أوربا، وهي التي لم تتعز عن ضعفها باحتقار الأوربي وذمه والمباهاة بمجد الآباء، ولم يقل ياباني بتحقير الأجنبي، لأنه عنصر غريب، أو لأنه مسيحي ودينه بعيد بمراحل عن دين أهل اليابان بل قال رجال هذه المملكة بوجوب محاربة أوربا، ولكن بسلاح أوربا، أي بأن تتشبه بها في العلم والمدنية والإقدام، ولهذا فازت في مطالبها، وحالت دون فتوحات الأوربي الاقتصادية أولا فالسياسية ثانيا … ولو أتى رجال الشرق القريب هذا المأتى منذ حرب القرم لما شكا مسلم من أوربا، ولما شكا كاتب أوربي من حال الشرق وأهله، بل لو فعلوا وحدث انقلاب عظيم في السياسة الأوربية سواء كان في أوربا أو في الشرقين الأقصى والأقرب لكان دون شك حظ دولتكم العثمانية أضعاف حظوظ أعظم دولة أوربية.
وأراني في هذا الشرح قد بلغت ما قصدته من تفنيد ما يزعمه رجالكم الذين إذا رجعوا إلى نفوسكم عرفوا هذه الحقائق كما نعرفها نحن، وقد كان يجب عليهم أن يجهروا بها خدمة لأمتهم ولوطنهم لا أن يتجاهلوها ويكذبوها.
وتقول لي إن النهضة العلمية بدأت في مصر، وإن بعض الأفراد أنشئوا المدارس، وإن الجناب السلطاني قد اهتم كثيرا بتوسيع نطاق المعارف في البلاد العثمانية، وإن أصحاب النشأة الجديدة أدركوا قصور الحكام، وتأخر البلاد، فقاموا يجاهرون بوجوب الإصلاح وتعميم العدالة، والأمل وطيد بالنجاح. ولكن الطفرة محال وهذا أمر يسرني ويشرح صدري لأني أرغب رغبة خالصة في نجاح شرقكم، ولكن يجب أن تعلم أن العبرة ليست فقط في إقامة المدرسة بل في وضع «البروجرامات» المدرسية، كما أن العلم وحده لا يكفي وقد يضر إذا لم يمزج بالتهذيب، فإني لا أجهل أن كثيرين من أبناء الشرق درسوا في أوربا، وقد يربو عددهم على عدد اليابانيين الذين درسوا في أوربا أيضا. ولكننا رأينا في اليابان نتيجة لم نرها حتى الآن عندكم، ولعلنا نراها يوما لأني أعتقد أن رجال النشأة الجديدة ينجحون نجاحا كاملا إذا كان غرضهم خدمة الوطن منزهة عن كل غاية شخصية أو مذهبية، لأن الواحد قد يجمع أكثر من عنصر ومعتقد، ولكن الاعتقاد وحده لا يجمع إلا عنصرا واحدا، وأنت تعلم أن الفرنسي يشمل الكاثوليكي والبروتستانتي والمسلم واليهودي والوثني وغيرهم من رعايا فرنسا، ولكن الكاثوليكي الفرنسي والأرثوذكسي الفرنسي لا يشمل كل فرنسي.
لهذا كانت السلطة المدنية أهم وأشد من الرابطة الدينية، وهي التي كانت قاعدة أوربا الأولى في سياستها وبها تقدمت وتمدنت ونجحت، وإلى هنا قد أجبتك على جميع ما أردت أن تعرفه مني عن رأيي في الشرق.