هانوتو والإسلام
ألقت إلي المصادفة نسختين من إحدى الجرائد المشهورة في القطر المصري جاء بها حديث بين صاحب الجريدة ومسيو هانوتو صاحب الفصول المعروفة في الإسلام.
ولم أشك في أن كثيرا مما جاء في هذا الحديث صادر عن رأي مسيو هانوتو، لأنه لا يصدر إلا عن عارف مثله بأحوال أوربا وكثير من أحوال الشرق، ولهذا رأيت أن حرمانه من حظ النظر فيه، وتركه يمر بلا مناقشة معه في بعض ما تضمنه يعد ظلما وجورا عليه، خصوصا ونسبة القول إليه مما يدع في أذهان الناس أثرا لا يحسن السكوت عنه.
وقد جاء في كلامه ما يدل على أنه قد أصيب بشيء من سوء الفهم في أحوال المسلمين، وما انبعثت إليه نفوسهم اليوم. وسوء الفهم منشأ الشقاق والخصام بين أهل المقصد الواحد كما ذكر حضرته في مقال له سابق. فلا يليق بذي غيرةٍ على الحق ألا يوفيه من الاعتبار ما يستحق، وأرجو أن يترجم ما أكتبه في جريدة المؤيد الفرنسية وأن يرسل إلى مسيو هانوتو ليقف على ما غاب عنه من مقاصدنا وأفكارنا.
إن كان المسلمون اليوم ينتفعون بشيء ويعتبرون بمثال. لم يكن أنفع لهم من الاعتبار بما جاء في كلام مسيو هانوتو. فقد أرشدهم إلى عيوب فيهم لا يسعهم إنكارها، وهداهم إلى مقاصد لطلاب الاستعمار في ديارهم قد شهدوا بالعيان آثارها، وصرح لهم بأن الاعتماد على العدالة في معاملة الدول ضرب من الخيال، وعقد الآمال بإنصاف الأمم تلمس للمحال، وما على المهتم بحماية ذماره، وطالب الطهر من عاره، إلا أن يدركهم ويعمل عملهم، ليبلغ من الحول حولهم، فيفوقهم في القوة أو يكون مثلهم، فيتعارض في المنافع معهم معارضة المالك مع المالك، لا أن يتسلى بالأعاليل، ويلهو بالأضاليل، ويقنع بالأماني، ويكتفي من العمل بالصوت الجهوري واللفظ الطلي، وهو من روح قائله خلي، حتى إذا دهموه وهو في غفلته وأخذوه في نومه أو يقظته، بسط يده يلتمس الرحمة منهم، ويرقب أن يفيض عليه سيب العدل عنهم، فهذا عمل الجاهل الأحمق، وهو بالذلة والاستعباد أحق.
وهي نصيحة يجب على المسلم قبولها من أجنبي منه، وكان يجب عليه من قبل أن يقبلها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال لخالد بن الوليد حين أرسله لحرب اليمامة: «حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف والرمح بالرمح».
ولا يخفى أن كل نزاع فهو حرب، وكل منافسة فيما هو عماد الحياة فهي جلاد، وكل عمل يأتيه أحد المتنافسين للظفر بمنافسه فهو جهاد، وكل وسيلة تظفره بطلبته فهي سلاح، وكل تجاذب أو تدافع بينهما فهو كفاح، وكل منفعة حفظها أو استخلصها منه فهي غنيمة، وكل انخذال عن حق أو تفويت لمصلحة فهو هزيمة.
فالظافر في ميدان المنافسة من كان رأيه أسد، وقوته أشد، وسلاحه أحد، فإذا قربت القوتان من التكافؤ أمكن بمصالح المتنافسين أن تتفق، وسهل على كل منهما أن يرتفق، وإلا استحال الاتفاق، واستبد القوي بالارتفاق، بل صعب على الضعيف أن ينال حق البقاء، سنة الله في عالم الأحياء.
وقد فصل مسيو هانوتو ما أجمله بعض أساتذتنا في قوله (العدل تكافؤ القوى).
صرح مسيو هانوتو بأن أوربا بعد أن كانت لا تشتغل إلا بما يجري فيها، اندفعت إلى الاستعمار ولا يردها عنه إلا قوة الأمم التي تأبى الاستعمار فيها. وضرب المثل باليابان فإنها بما ارتقت في المدنية، وما أصلحت من شئونها الداخلية، وأعدت لوقاية ممالكها، وحماية مسالكها، قد آذنت أوربا بقوتها، وحملتها على الإقرار بمكانتها، فحمت بلادها ومصالحها من صولتها، وأمكنها ببرهان القوة أن تؤلف بين منافعها ومنافع الأوربيين، وهو قول حق، وكان على المسلم أن يعرفه من قرون، وله في كتابه المنزل خير هاد وأرشد مرشد، وكان يكفيه منه آية: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة فقد دعته الآية الكريمة إلى الإعداد، وطالبته أن يبلغ منه حد المستطاع، ولا حد لما تستطيعه أمة إذا صرفت قواها العقلية والجسدية فيما هيئت له، وأطلقت له القوة، وهي كل ما يقوى به خصم على خصم، ويقتدر به على حماية نفسه وحوزته من اعتداء معتد، أو يستطيع به استخلاص حق من يد مغتصب، وخير القوى ما حفظ به الحق، وعظمت به المنفعة، ووقف لهيبته كل من المتنافسين عند جده، حتى يستقر السلام بينهم، وتشمل الطمأنينة نفوسهم.
وقد تألفت قوى الأمم الأوربية من عناصر هي العلم والأدب والتجارة والصناعة والعدل والدين والسلاح. وذكرت الدين في جملة عناصر القوة لأن مسيو هانوتو لا ينكر أن أوربا تعتمد على الدين في سياسة الاستعمار، وأن المرسلين والجمعيات الدينية من أهم الوسائل لديها في إعداد الشعوب إلى قبول سلطانها عند سنوح الفرص لسوقه إليها، وتهيئة نفوس الأمم لاحتمال ما ينقض به ذلك السلطان متى أظلهم، وفي فتح المغالق التي لا يستطيع السلاح وحده أن يفتحها، وتمهيد السبل التي لا يمكن لساعد الجندي وحده أن يمهدها. وهو من الأمور المسلمة التي لا يجادل فيها عارف مثل هانوتو، فلا حاجة للإطالة في بيانه غير أني أذكر قصة كنت شاهدتها لا بأس بذكرها في هذا المقام:
تعلم أحد أبناء لبنان من بلاد سوريا في بعض مدارس الجمعيات الدينية الفرنسية في تلك البلاد، وأخذ عن أساتذته كثيرا من آدابهم، وطالع عددا من مؤلفات كتابهم، وامتلأ قلبه بحب فرنسا، واستقر في ذهنه أنها منبع نور العلم والحرية، وأنها محررة العالم أجمع من رق الاستبداد، ثم انتقل لكتب بعض الفلاسفة الفرنسيين ومؤلفات بعض السياسيين، فعظم عنده الاعتقاد بأن هذه الأمة الجليلة إنما يهمها في سياستها أن تنشر المعارف في العالم لتهذيب العقول، وتكميل النفوس، لتربيتها على أصول العقل وحرية الفكر، ورأى أن من الزلفى عند الحكومة الفرنسية أن يذهب إلى باريس ويسألها المعونة على إنشاء مدارس في جبل لبنان، يُبنى التعليم فيها على تلك الأصول السابقة، فذهب إلى باريس سنة ١٨٨٤، واتصل بأحد أذكياء السوريين الذين طاب لهم المقام في البلاد الفرنسية وطلب منه أن يكون وسيلته في نيل ما يرغبه من معونة الحكومة، فسعى الذكي سعيه، ثم عاد إلى صاحبه وقال إن ما تخيلته ضرب من الوسواس وإن الحكومة الفرنسية وإن كانت تطرد الجزويت من بلادها، وتنازع الكنيسة في سلطتها، لكن سياستها في الخارج دينية محضة، ويمكن أن تعرف ذلك من حمايتها للجزويت وإعانتها لهم بالمال والقوة في بلادك.
فإن كنت تريد إنشاء مدارس دينية في بلاد لبنان كان أملك في المساعدة قريبا، وإلا فارجع واشتغل بما يصلح شأنك الخاص بك. فرجع الشاب بالخيبة بعد ما أقام مدة صرف فيها ما كان عنده من النقود، ولم يجد من يساعده على الرجوع إلى بلده إلا من رحمه من أصدقائنا إذ ذاك، وكان لي حظ في مساعدته. كما كنت شاهدا الحدث الذي رويته.
فإن لم يسع المسلم بعزم ثابت في تحصيل هذه العناصر التي سبق ذكرها، أو تقوية ما ضعف عنده منها وهو مسلم، كان مخالفا لكتابه ولقول الصديق رضي الله عنه، ومستحقا للوم مسيو هانوتو، ولم تتفق له مصلحة مع مصالح الأوربيين إلى يوم القيامة.
بقي عليّ الكلام مع هذا الوزير في أمرين: الأول فيما فهمه من شأن المسلمين في هذه الأيام، وما يسمونه دعوة إلى توحيد كلمة المسلمين قاطبة، وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد. والأمر الثاني سوء ظن أكثر المسلمين بالسياسة الأوربية، بل بالمسيحيين أجمع، حتى وصل فقد الثقة بهم إلى ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا في عمل من أعماله، وإن أخلص لهم الخدمة كما سمعه من صاحب هذه الجريدة الناشرة الحديث، وغيره.
شأن المسلمين اليوم وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية.
أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد المسلمين ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه، لما خطر بباله أن يشير إلى هذه الدعوة فضلا عن أن يبني عليها حكما، وإن ما علق بالأوهام منها فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسي الغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها.
وإني أعرض الحقيقة كما هي لا يغشاها ستار من تمويه ولا غطاء من تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين اليوم في كلامهم عن الدين وما يرد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه إلى رشدهم حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم، ولا يتخذ بعضهم من المسلم حربا ولا من السكون شغبا.
لا أنكر أن طائفا من الدين طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، وإن نسمة من نفس الرحمة مرت بأنفس قليل من أهل الفضل فيهم فحركت ساكنهم، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان عليه أهل هذا الدين، وفيما صاروا إليه، وإن منهم من يتكلم بما يرى إذا وجد سبيلا إلى الكلام، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة إذا تهيأت له الوسائل لذلك. ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون ولا كلام لنا في هذر المقلدين، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين.
ظهر الإسلام لا روحيا مجردا، ولا جسدانيا جامدا، بل إنسانيا وسطا بين ذلك، آخذا من كلا القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره، ولذلك سمى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم وعدوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية، ثم لم يكن من أصوله «أن يدع ما لقيصر لقيصر» بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله. جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا، وألان قاسيا، وهذب خشنا، وعلم جاهلا، ونبه خاملا، وأثار إلى العمل كسلا، وأقدر عليه وكلا، وأصلح من الخلق فاسدا، وروج من الفضيلة كاسدا، ثم جمع متفرقا، ورأب متصدعا، وأصلح مختلا، ومحا ظلما، وأقام عدلا، وجدد شرعا، ومكن للأمم التي دخلت فيه نظاما امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك. وظهرت به آثار النعمة عليهم في جميع شئونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته. بل كان قائده في جميع وجوه سيره، فإن شاء قائل أن يقول إن الدين لم يعلمهم التجارة ولا الصناعة ولا تفصيل سياسة الملك ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه، وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة، وما ظنك بدين يقول خليفته الثاني وهو من المدينة من بلاد العرب «لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر» ويقول الخليفة الرابع «أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش؟ أي خشونته» يريد بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان وأسوة الفقراء في حسن الصبر.
هكذا كان الإسلام مهماز للمسلمين يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصباحا لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال وتقويم الأفكار، وعاطفا يعطف قلوبهم على الأمم بالعفو والمرحمة وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض سادة لها وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم.
أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم ويمقت ما مقته؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغا في دينه، وإن كان فيه ملك الأرض أو ملكوت السماوات، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في هذا الدين ما شهد؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية، ينساق إليها الأمر بنفسه بحكم سنة الله في خلقه.
واأسفا!! لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه، أما الدين نفسه فقد انقلب في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته، وانطمست في نظره طريقته، وحق فيه قول عليّ كرم الله وجهه «إن هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا».
لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت، ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول: قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه، وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها بل ما يهدم قواعدها ويأتي على أساسها. عرضت البدع في العقائد والأعمال، وحلت محل الاعتقاد الصحيح، وأخذت مكان الشرع القويم، وظهرت آثارها في أعماله، وعم شؤمها جميع أحواله.
إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح، فالقرآن يؤيد معناه، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه، فالرجل والمرأة سواء في الخطاب التكليفي، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض الإسلام، وخصال الإيمان، وفي طلب العلم ما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما، وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في كتاب الله وسنة رسوله وعمل الصالحين من بعده حتى لم يبق باب من أبواب العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان. ضل المسلم بعد ذلك في معنى العلم، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة فرائض الوضوء والصلاة والصوم في صورة أدائها، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها ووسيلة قبولها عند الله فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر، أما آداب الدين وتهذيب الروح واستكمال الخصال الجليلة مما جعله الإسلام غاية العبادات وثمرة الأعمال الصالحات فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا تتوجه إليه عزيمته، ولا تنصرف نحوه إرادة، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في أطراف الأرض لا ترقى بهم أمة، ولا تسمو بهم كلمة، أما من ينقطعون لطلب العلوم ليحصلوا جملة منها فقد انقسموا إلى فريقين:
الأول: من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها، وقد قل أفراده في معظم البلاد الإسلامية، ولم يبق منه إلا رسوم لا يكاد يدركها نظر الناظر، والمشتغلون منهم في بعض البلاد كمصر والآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل ما هو أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان، ويفهمها بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى، ومتى تم له ذلك فقد استكمل العلم سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم، فكان مثلهم مثل من ورث سلاحا، فكان همه أن ينظر إليه ويملأ عينيه منه، ولا يمد يده إليه يستعمله أو يزيل الصدأ عنه، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث. ويزعمون أن الدين يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة، ومن رأي هؤلاء ألا شأن لهم مع العامة، ولا يجبل عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، وقد ارتكبوا لذلك خطأ في فهم دينهم لا يساويه في سوء عاقبته خطأ، وللكثير منهم بل الأغلب من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده، ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في العلم لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود.
والفريق الثاني من يهيئه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو سافل، وأفراد هذا الفريق، إن كثروا أو قلوا، يحصلون مبادئ العلوم المعروفة بالعلوم العصرية، ثم يحصل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده، على أن ما يحصل إما لفظ يُحفظ أو خيال يُخزن، والمدار على الوصول إلى ورقة الشهادة، ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا لاستكمال التربية فيها ولا غاية لهم سوى هذه الغاية، فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها، وحصر همه على العمل فيها، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها، فإذا مل الانتظار أو تقضّى زمن العمل وجدته في مقهى أو ملهى يسرف في أوقاته ويفسد في أدواته، والصالحون منهم، وقليل ما هم، لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت، هلكت أو قامت، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة، وأستثني منهم شواذا في كل بلد على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم وتجني الأمم ثمار أعمالهم.
وهذا شأن الرجال مع العلم.
أما النساء فقد ضرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهم أو دنياهن بستار لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة أو يؤدين فريضة سوى الصوم، وما يحافظن عليه من الفقه فإنما هو بحكم العادة، وحارس الحياء، وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وحشو أذهانهم بالخرافات، وملاك أحاديثهن الترهات، اللهم إلا قليلا منهن لا يستغرق الدقيقة عدهن، وكل من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما يعده الجنة ويمنيه السعادة.
أخطأ المسلم في فهم معنى التوكل والقدر فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل. ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه ويوافي رغائب دينه.
أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم. وأن العزة والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة الشأن تابعة للفظه وإن لم يتحقق شيء من معناه، فإن أصابته مصيبة أو حلت به رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب، بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ، أو ينهض إلى عمل لتلافي ما عرض من خلل، أو مدافعة الحادث الجلل، مخالفا في ذلك كتاب الله وسنة نبيه.
أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لأوامرهم، فألقى مقاليده إلى الحاكم ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه حتى ظن أن الحكومة يمكنها القيام بشئونه جميعا من إدارة وسياسة بدون أن يكون لها من عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم لأداء الخدمة العسكرية، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها حكم بأن ما يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات العقل، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه، من حيث ظنوه قادرا على كل شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه، من حيث إنهم تركوه وشأنه، لا يساعدونه في حادث، ولا يعينونه في أمر مهم، اللهم إلا إذا أرغموا على ذلك، ومن ذا الذي يحسن عملا إذا لُجئ إليه بالرغم منه. ومن هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها.
أما الحكام، وقد كانوا أقدر الناس على انتشال الأمة مما سقطت فيه، فأصابهم من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلا، ولا يستشيرون كتابا، ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظلم وما يتبع ذلك من الخصال التي ما فشت في أمة إلا حل بها العذاب.
هذا كله إلى ما حدث من بدع أخرى من مذاهب شتى في العقائد، وطرق متخالفة في السلوك، وآراء متناقضة في الشرائع، وتقليد أعمى في جميع ذلك، فتفرقت المشارب، وتوزعت المنازع، وعظم سلطان الهوى على أرباب النزعات المختلفة، كل يجذب إلى نفسه، لا ينظر إلى حق، ولا يفزع من باطل، وإنما همه أن يظفر بخصمه، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الإسلام في معرض التشدق بالكلام.
وزد على ذلك أكبر بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم وهي بدعة البأس من أنفسهم ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأن ما نزل بهم من الضر لا كاشف له، وإنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه. مرض سرى في نفوسهم، وعلة تمكنت من قلوبهم، لتركهم المقطوع به من كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار أو خطئهم في فهم ما صح منها، وتلك علة من أشد العلل فتكا بالأرواح والعقول، وكفى في شناعتها قوله جل شأنه: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
تبع هذه البدع جميعها وأخرى يطول ذكرها هزال في الهمم، وضعضعة في العزائم، وفساد في الأعمال، يبتدئ من البيت، وينتهي إلى الأمة، ويمر في كل طبقة، ويجول في كل دائرة، خصوصا من دوائر الحكومات، وما يُرمى به المسلمون من التعصب الديني الأعمى، فإنما عرض على أقوام في بعض البلاد الإسلامية، تبعا لهذه البدع الضالة، على أنني لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم المسيحية شرقية كانت أو غربية والتاريخ شاهد لا يكذب.
هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في دينهم وخطئهم في فهم أصوله، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله، ولهذا سلط الله عليهم من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم بدفعه إلا إذا تداركهم الله بلطفه، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب، ويقرنه إذا ذكره بما يتبرأ منه، ويعده حجابا بين الأمم والمدنية، بل يعده منبع شقائهم وسبب فنائهم.
تنبه لذلك أفراد من عقلاء المسلمين في أواسط القرن الماضي من سني الهجرة في أقطار مختلفة من بلاد فارس والهند وبلاد العرب ثم في مصر، وكل منهم بحث في الداء، وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم، ولعلهم يلتقون يوما عند الغاية إن شاء الله.
مقصد الجميع ينحصر في استعمال ثقة المسلم بدينه في تقويم شئونه، ويمكن أن يقال إنَّ الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع، تبعتها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة، فإذا سمعت داعيا يدعو إلى العلم بالدين فهذا مقصده، أو مناديا يحث على التربية الدينية فهذا غرضه، أو صائحا ينكر ما عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته، وهذه سبيل لمزيد الإصلاح في المسلمين لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين، يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدا وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟
لم يخطر ببال أحد ممن يدعون إلى الرجعة إلى الدين، سواء في مصر أو غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أو غيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين، غير أن بعض المسيحيين إذا سمع قولا في الدين أعرض عن فهمه، وأنشأ لنفسه غولا من خياله، يخاف منه ويخشى غائلته يسميه باسم الدين، وبعضهم يظن أنه لو انتبه المسلمون إلى شئونهم، ورجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم لاعتصموا بجامعتهم واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم، واستغنوا عمن أدخلوه في أعمالهم من غيرهم، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم، وهو سوء ظن من الزاعم بنفسه، فإنه بظنه هذا يعتقد أنه غاش مغرر، وسالب متلصص، وسوء ظن بالمسلمين أيضا، فإن أهل الوطن الواحد لا يستغني بعضهم عن بعض، مهما ارتقت معارفهم وعظم اقتدارهم على الأعمال، وغاية الأمر أن ما كان ينال اليوم بدون حق، يصبح وهو لا ينال إلا بحق، والأجنبي الذي كان ينفق الواحد ويربح المائة، يرجع إلى الاعتدال في الكسب، ويحتاج إلى شيء من التعب في استيراد الربح، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية وهي في عنفوان قوتها، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها وهي في أرفع مقام من عزتها.
نعم يعرض في طريق الدعوة إلى الدين على هذا الوجه أن يلتمس مسلم بمصر معونة من مسلم آخر بسورية أو بالهند أو بالعجم أو بأفغانستان أو بغير هذه الأقطار، لأن مرض الجميع واحد، وهو البدعة في الدين، فإذا نجح الدواء في موضع، كان السليم أسوة للمريض في موضع آخر، أما السعي في توحيد كلمة المسلمين وهم كما هم، فلم يمر بعقل أحد منهم، ولو دعا إليه داع لكان أجدر به أن يرسل إلى مستشفى المجانين.
يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج ويقول: إنه صلة بين المسلمين في جميع أقطار الأرض ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم، فعليهم أن يستفيدوا منه، وهو كلام حق، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه، فإن الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين، حتى يستعين بعضهم ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم أو أضلّ من أعمالهم، وفي مدافعة ما ينزل بهم من قحط أو ألم أو بلاء، وهو أمر معهود عند جميع الأمم التي تدين بدين واحد خصوصا عند الأوربيين.
يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد ويعلقون آمالهم بهمته وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له وهذا الأمر لا ينبغي أن يدهش أحدا فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم، وسلطانها أفخم سلاطينهم، ومنه يرتجي إنقاذ ما بين يديه من المسلمين مما حل بهم، وهو أقدر الناس على إصلاح شئونهم، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد، وتهذيب الأخلاق، بالرجوع إلى أصول الدين الطاهرة النقية، فأي شيء في هذا يزعج أوربا حتى تتحد على هضم حقوق المسلمين إذا حدثت حوادث مثل الماضية كما يقول مسيو هانوتو؟
بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد يقول فيه مسيو هانوتو إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وهو كلام صحيح، ولكنه لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند المسلمين. لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية، عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء ويقرر الضرائب على الممالك، ويصنع لها القوانين الإلهية. وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى وهو الخليفة أو السلطان ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية والمدافع عنها بالحرب أو السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وهذه الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظاما لطريقة الحكم، وعدد الحاكمين ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها، وكذلك حكومة مصر أنشئت فيها محاكم مختلطة ومحاكم أهلية بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم ولا دخل لشيء من ذلك في الدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى كما يطلب مسيو هانوتو ولكن مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين بل كان الأمر معكوسا، فإن أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين لما استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم والمغالاة في وضع المغارم والمبالغة في التبذير الذي جر الويل على بلاد المسلمين وأعدمها أعز شيء كان لديها وهو الاستقلال.
إن فرنسا تسمّي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق، وملكة إنجلترا تلقب بملكة البروتستانت، وإمبراطور روسيا ملك ورئيس كنيسة معا، فلم يسمح للسلطان عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين أو أمير المؤمنين؟
لا أظن أن مسيو هانوتو يسيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بيناه، وأظنه يكون عونا للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنسية إذا وجد فيها من يقوم بها، وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح الفرنسيين، فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين، سابقوا الأوربيين في اكتساب العلوم وتحصيل المعارف ولحقوا بهم في التمدن، وعند ذلك يسهل الاتفاق معهم إن شاء الله.
سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا كلها، وعدم ثقة سياسييهم بدولة من الدول، واعتقاد المسلمين بأن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية، وعدم اطمئنانهم إلى سياسة الدولة المسيحية، حتى أدى بهم فقدان الثقة بالمسيحيين إلى حد ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة وصدق معهم — سمع بذلك كله مسيو هانوتو من صاحب الأهرام، ومن بعض العثمانيين في الآستانة وباريس، ثم أخذ يبرهن على أن سياسة أوربا اقتصادية ملكية، لا دينية لاهوتية.
لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم مسيو هانوتو، ومن أبلغه أخبارهم: أهم الهنود وهم في حكم دولة أجنبية، ولا نزال نرى في خطبهم وجرائدهم ما يدل على طاعتهم لحاكمهم، وتعليقهم الآمال بعدلهم، والتماسهم الحق من طرقهم؟
هل هم مسلمو روسيا، وثقتهم بحكومتهم أو ثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد، حتى أن الدولة الروسية تفضلهم على المسيحيين من غير المذهب الأرثوذكسي؟
هل هم الأفغانيون وإخلاص أميرهم في مصافاة الإنكليز أشهر من أن يذكر، ولا ينفي إخلاصه حرصه على بلاده، ومحافظته على مصلحتها؟
هل هم الفرس واستنامتهم إلى السياسة الروسية لا يجهلها أحد؟
هل هم التونسيون، وقد أثنى عليهم مسيو هانوتو بما هم أهله، وثبت له ارتياحهم إلى السلطة الفرنسية لمجرد أنها أطلقت لهم الحرية في دينهم؟
لعله لم يقصد إلا العثمانيين كما يدل عليه بقية كلامه وكما يفيده قوله إنهم لا يأتمنون مسيحيا عثمانيا، والعثمانيون منهم المصريون ومنهم غيرهم، فأمّا المصريون فلا شيء عندهم يدل على عدم الثقة بالأوربيين وبالمسيحيين العثمانيين، فإنهم يشاركون في العمل مواطنيهم من الأقباط في جميع مصالح الحكومة، ما عدا المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين، وهم معهم على غاية الوفاق خصوصا أهل الإخلاص وسلامة النية منهم، ولكل من الفريقين أصدقاء وأحبة من الفريق الآخر، ثم شأنهم هو ذلك الشأن مع سائر الطوائف المسيحية، إلا من ظهر منهم بالتعصب البارد للدين وآذاهم في دينهم أو في منافعهم الخاصة بهم لا لشيء سوى التعصب الأعمى، ولا تطلب على ذلك شاهدا أقرب من صاحب الجريدة الذي يحادثه مسيو هانوتو، فإنه بعد أن كان على المسلمين أثناء الحرب الروسية العثمانية، وبعد أن أتى ما أتى عقب الحوادث العرابية، شهد له المسلمون بأنه صديقهم والساعي في خيرهم، كما افتخر بذلك مرارا في جريدته، وإن كانت له هنات معروفة فأين فقد هذه الثقة بالعثمانيين المسيحيين في مصر؟ هل طرد أحد من خدمة الحكومة لأنه مسيحي عثماني؟ هل حرم أحد حق المحاماة أو إنشاء الجرائد أو المطابع أو إقامة المصانع أو تأسيس البيوت التجارية لأنه مسيحي عثماني؟ فليأت صاحبنا بشاهد واحد!
أما حالهم مع الأوربيين فإنا نراهم إذا أحسوا بعدل من إنكليزي ذكروه، أو وصل إليهم معروف من أي عامل أوربي شكروه، بل أزيدك على هذا أن المستغيث منهم بالحكومة يطلب منها أن يتولى تحقيق مظلمته إنكليزي، كما شوهد ذلك كثيرا في شكاياتهم، وليس بقليل من يعرض شكواه على جناب اللورد كرومر وهو ليس بحاكم رسمي، فأي دليل على الثقة أكبر من هذا؟
ليس بقليل في مصر من يثق بالفرنسيين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم ويعتد بولائهم، ومسيو هانوتو وصاحب الجريدة يعرفان ذلك.
كثيرا ما أغرى الأوربيون من فرنسيين وأمريكيين من أرباب المدارس في مصر شبانا من المسلمين بالمروق من دينهم والدخول في الديانة المسيحية، وفروا ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية، وأحرقوا أكباد آبائهم، ومع ذلك لا نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارس، وناظر المعارف عندنا وزير مسلم وأولاده يتربون في مدارس الجزويت، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس الفرير فأي ائتمان هذا الائتمان؟
زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوربيين خصوصا في المعاملات حتى أساء أولئك الأوربيون استعمالها، وانتهزوا فرصتها، وسلبوا كثيرا من أهل الثروة ما كان بأيديهم، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم، ويغالون في الاستنامة إليهم، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم وعوائدهم، فماذا يطلب من الثقة فوق هذا؟
هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شيء مثلما يشكون من الثقة العمياء بالأجنبي، من غير تمييز فيما هو عليه من إخلاص أو غش، من صدق أو كذب، من أمانة أو خيانة، من قناعة أو طمع، حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا إليه من خسارة المال وسوء الحال! فهل هذا هو فقد الثقة بالأوربيين والعثمانيين المسيحيين الذي يعنيه حضرة صاحب الأهرام وجناب مسيو هانوتو؟!
وأما العثمانيون من غير المصريين فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها أيده الله، وجدنا أن نظام الدولة قاض باستخدام المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في كل بلد فيه مسيحيون، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشين والرتب ما يناله المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك، وكثير من المسيحيين نالوا من الامتيازات والمنافع في الدولة ما لم ينله مسلم، وسفارات الدولة ومناصبها العالية لا تخلو من المسيحيين.
إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية وإنعامه عليهم بوسامات الشرف، واختصاصه لبعضهم بشرف المثول في حضرته، والإحسان إليه برقيق المخاطبة لا ينقطع ذكره من الجرائد، وصاحب الجريدة التي نقلت الحديث أمثل شاهد على مثل ذلك فقد جاهر زمنا ليس بالقصير بما لا ترضى الدولة بمثله ولا بأقل منه من مسلم، ثم سهل عليه وهو مسيحي أن يكون موضع ثقة للجناب السلطاني حتى أدناه منه وقبله في مجلسه، وسمع منه أمير المؤمنين تلك النصيحة المفيدة التي نشرها في جريدته من نحو شهرين، إثْرَ هبوبه لنصرة مسيو هانوتو، ثم والى عليه إحسانه بالرتب والنياشين وغيرها، فما هي الثقة إن كان هذا فقدانها؟
أما سياسة الدولة الخارجية فالفرنسيون يشكون من مصافاة لسلطان وثقته بدولة ألمانيا وهي دولة مسيحية، ولا أظنهم يشكون من ثقة أخرى بدولة إسلامية، وكانت للدولة ثقة لا تتزعزع بالسياسة الإنكليزية، ثم حدثت حوادث أهمها نشأ من ضعف سياسة مسيو غلادستون، فأعقبها اضطراب في تلك الثقة مدة من الزمان بحكم الضرورة، إنا نراها اليوم تتراجع، وفي رجال الدولة من لهم ثقة بصداقة روسيا، ويودون لو مالت إليها سياسة الدولة وهم مسلمون. والذي أحب أن يعرفه مسيو هانوتو أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول الأوربية ليست بسياسة دينية، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم، وإنما كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسية ومدافعة، ولا دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوربية.
إمبراطور ألمانيا جاء إلى سورية للاحتفال بفتح كنيسة فبالغ السلطان في الاحتفال به إلى الحد الذي اشتهر وبهر. يجيء الأمراء المسيحيون من الأوربيين إلى الآستانة فيلاقون من الاحتفال ما لا يلاقونه في بلاد مسيحية، وينفق في تعظيم شأنهم من المال ما المسلمون في حاجة إليه. أليس ذلك لمجاملتهم واكتساب مودتهم، وهل بعد المودة إلا الثقة بصاحب المودة؟ كان يمكن للسلطان أن يكتفي بالرسميات ولا يزيد عليها، ولكن عهد في معاملته ما يفوق الرسمي بدرجات، فإن سلمنا أن سياسة أوربا ليست دينية من جميع وجوهها فسياسة الدولة العثمانية مع أوربا هي كذلك، ومسلموها تبع لها.
فإن قال قائل: إن حوادث الأرمن لم تزل في ذاكرة أهل الوقت، وينسبون وقائعها إلى التعصب الديني، بل يقولون إن أسبابها مظالم جر إليها ذلك التعصب، أمكن أن يجاب بأن العداوة مع طائفة مخصوصة لا تدل على فقد الثقة بكل مسيحي منها ومن غيرها، ومع ذلك فإن كثيرا من الأرمن في خدمة الدولة إلى اليوم، وهم بذلك موضع ثقتها، وهذا وذاك يدل على الريب فيما يزعمون من أن منشأ تلك الوقائع التعصب الديني، فإن المسيحيين وسواهم في الممالك العثمانية أنعم حالا من المسلمين كما شاهدناه بأنفسنا، ولو أنصف الأوربيون لأمكنهم فهم أسباب هذا الاضطراب الذي يظهر زمنا بعد زمن في تلك الأقطار، ولسهل عليهم أن يعرفوا أن منبعه في أوربا لا في آسيا.
لا أغالي حين أقول إن المسيحيين في الممالك العثمانية متمتعون بنوع من الحرية في التعليم والتربية وسائر وجوه الخير ما يتمنى المسلمون أن يساووهم فيه، فهل هذا عنوان سوء الظن بالمسيحيين وعدم الثقة بهم؟ لا يليق بكاتب مثل صاحب الأهرام أن يروي عن المسلمين كافة مثل ما رواه، فإن ذلك مما يحزن المسلمين والمسيحيين جميعا، وإني أعتقد أنه عند الكلام على المسلمين لم يكن في ذهنه إلا بعض أشخاص لم تعجبه آراؤهم فيه، فاستحضر في صورهم جميع المسلمين وسياسييهم.
ليعلم مسيو هانوتو أن جميع ما يقال له أو يكتبه بعض العثمانيين لا حقيقة له إلا في ذهن القائل أو الكاتب، فلا ينبغي أن يعول على مثله في أحكامه، وعليه أن يحقق الأمر بنفسه إن كان يهمه أن يتكلم فيه.
وأما أن المسلمين أخذوا عليه فيما كتب عن الإسلام مع أنه خدمهم، وقوله «فكيف بحالهم مع من لم يخدمهم»، فنبين له الوجه فيه ليزول عنه ما سبق إلى فهمه، ولو اقتصر على الكلام في السياسة، وبحث في علاقة المسلمين مع حكومته ولم يتناول الدين نفسه في أصلين من أهم أصوله، لما أخذ عليه أحد إلا من ينتقد رأيه من جهة ما هو صحيح أو غير صحيح، ولكنه لم يكتف بذلك وطعن في عقيدة التوحيد، وبين رداءة أثرها في المسلمين، واستل سلاحه على عقيدة القدر، وبين سوء ما جرت إليه فيهم، وهو بذلك يثبت أن المسلمين لا يزالون منحطين ما داموا مسلمين، وهو ما لا يرضاه أحد منهم.
لو مال على المسلمين فيما هم عليه اليوم وفي انحرافهم عن أصول دينهم، واكتفى بتعنيفهم على إهمالهم لشئونهم، وغفلتهم عن مصلحتهم، كما جاء في حديثه الذي نحن بصدده، لما وجد من المسلمين إلا معتبرا بقوله متعظا بنصيحته والسلام.