أصول الإسلام
الإسلام وأصوله
للإسلام في الحقيقة دعوتان: دعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده، ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأما الدعوة الأولى فلم يعول فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب، وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعا واجب الوجود عالما حكيما قادرا، وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان. وأطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنته له الفطرة بدون تقييد فنبهه إلى خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتحريك الرياح على وجه يتيسر للبشر أن يستعملها في تسخير الفلك لمنافعه، وإرسال تلك الرياح لتثير السحاب، فينزل من السحاب ماء فتحيا به الأرض بعد موتها وتنبت ما شاء الله من النبات والشجر، مما فيه رزق الحي وحفاظ حياته — كل ذلك من آيات الله عليه أن يتدبر فيها ليصل إلى معرفته.
يذكر القرآن إجمالا من آثار الله في الأكوان تحريكا للعبرة، وتذكيرا بالنعمة، وحفزا للفكرة، لا تقريرا لقواعد الطبيعة، ولا إلزاما باعتقاد خاص في الخليقة، وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل، انظر كيف يقرع بالدليل لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا. مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري (وهو ما نسميه بالنظام الطبيعي) فلا يدهشك بخارق للعادة، ولا يغشي بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية، وقد اتفق المسلمون — إلا قليلا ممن لا يعتد برأيه فيهم — على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله، فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتابا ويرسل رسولا.
وقالوا كذلك: إن أول واجب يلزم المكلف أن يأتي به هو النظر والفكر لتحصيل الاعتقاد بالله لينتقل منه إلى تحصيل الإيمان بالرسل وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة.
وأما الدعوة الثانية فهي التي يحتج فيها الإسلام بخارق العادة وما أدراك ما هو خارق العادة الذي يعتمد عليه الإسلام، في دعوته إلى التصديق برسالة النبي عليه السلام؟ هذا الخارق للعادة هو الذي تواتر خبره، ولم ينقطع أثره، هذا هو الدليل وحده وما عداه مما ورد في الأخبار سواء صح سنده أو اشتهر أو ضعف أو وهى، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين، فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل تقوية العقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله.
ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر — هو أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة، هاديا للضال مقوما للمعوج، كافلا بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم منقذا لهم من خسران كانوا فيه، وهلاك كانوا أشرفوا عليه وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعا الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به إلى أن ألجئوهم إلى الدفاع عن حقهم وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في أجوائها.
وهذا الخارق قد دعي الناس إلى النظر فيه بعقولهم، وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم فإن وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعى فعليهم أن يأتوا به قال تعالى: وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ. وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وقال غير ذلك مما هو مطالبة بمقاومة الحجة، ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل.
معجزة القرآن جامعة من القول والعلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها، أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت، أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم، وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم يضئ عقولهم نور العلم، وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.
ثم إن الإسلام لم يتخذ من خوارق العادات دليلا على أن الحق لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم ترد فيه كلمة واحدة تشير إلى أن الداعين إليه يمكنهم أن يغيروا شيئا من سنة الله في الخليقة، ولا حاجة على بيان ذلك فهو أشهر من أن يحتاج إلى تعريف.
الأصل الأول للإسلام
النظر العقلي لتحصيل الإيمان: فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي. والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟
بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبا غير واقف عند الظن فهو ناج. فأية سعة لا ينظر إليها الحرج أكمل من هذه السعة؟
الأصل الثاني
تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض: أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره: اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل.
وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه أن يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ وأي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها ولا سماء بأجرامها وأبعادها.
الأصل الثالث
البعد عن التكفير: هلا ذهبت من هذين الأصلين على ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم وهو إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت تسامحا على أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولا لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟ إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقي في النار.
الأصل الرابع
الاعتبار بسنن الله في الخلق: يتبع ذلك الأصل الأول في الاعتبار — وهو ألا يعول بعد الأنبياء في الدعوة إلى الحق على غير الدليل، وألا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات — أصل آخر وضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها في معاشها ومعادها — ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر وفي آثار سيرهم فيهم. فمما جاء في الكتاب العزيز مقررا لهذا الأصل: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ إلخ.
في هذا يصرح الكتاب أن لله في الأمم والأكوان سننا لا تتبدل والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين. ما لنا ولاختلاف العبارات؟ الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه. فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه. فمهما بحث الناظر وفكر، وكشف وقرر، وأتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري مع طبيعة الدين، وطبيعة الدين لا تتجافى عنه، ولا تنفر منه، فلم لا يعظم تسامحها معه؟
الأصل الخامس
قلب السلطة الدينية: أصل من أصول الإسلام انتقل إليه — وما أجله من أصل — قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.
هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أن الرسول عليه السلام كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، قال الله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء. بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم — مهما علا كعبه في الإسلام — على آخر — مهما انحطت منزلته فيه — إلا حق النصيحة والإرشاد. قال تعالى في وصف المفلحين: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وقال: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وقال: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير — وهم المراقبون عليها — يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه. وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد. ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار. فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما وله بل عليه أن يطالب المجيب بالدليل على ما يجيب به سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال.
فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه.
السلطان في الإسلام
لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدودا، ورسم حقوقا، وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله. فقد يغلب الهوى. وتتحكم الشهوة. فيغمط الحق. ويتعدى المعتدي الحد. فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق. وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير فلابد أن تكون في واحد وهو السلطان أو الخليفة.
الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم. ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة. نعم شرط فيه أن يكون مجتهدا أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها — مما تقدم ذكره — بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معا.
فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه.
ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوقراطي) أي سلطان إلهي فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة بل بمقتضى الإيمان فليس للمؤمن مادام مؤمنا أن يخالفه، وإن اعتقد أنه عدو لدين الله، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق على ما يعرفه من شرائعه، لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر هما دين وشرع، وهكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى. ولا تزال الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة كما سبقت الإشارة إليه.
كان من أعمال التمدن الحديث الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه، تشرع وتنسخ ما تشاء وتراقب وتحاسب كما تشاء، وتحرم وتعطي كما تريد، وخول السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض، وحق السيطرة على ما يحفظ نظام اجتماعهم، في معاشهم لا في معادهم، وعدوا هذا الفصل منبعا للخير الأعم عندهم.
ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص واحد. ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرر الدين، وهو واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب بالإخضاع وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده الإمتاع، ويبنون على ذلك أن المسلم مستعبد لسلطانه بدينه وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان يحارب العلم، ويحمي حقيقة الجهل، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح مع العلم مادام من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين وقد تبين لك أن هذا كله خطأ محض وبعيد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام. وعلمت أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم، ومن هنا تعلم «الجامعة» أن مسألة السلطان في دين الإسلام ليست مما يضيق به صدره، وتحرج به نفسه عن احتمال العلم. وقد تقدم ما يشير إلى ما صنع الخلفاء العباسيون والأمويون الأندلسيون من صنائع المعروف مع العلم والعلماء. وربما أتينا على شيء آخر منه فيما بعد.
يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ أو قول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره.
الأصل السادس
حماية الدعوة لمنع الفتنة: قالوا إن الدين الإسلامي دين جهادي شرع فيه القتال ولم يكن شرع في الدين المسيحي، ففي طبيعة الدين روح الشدة على من يخالفه، وليس فيها ذلك الصبر والاحتمال اللذان تقضي بهما شريعة المسالمة، وهي الشريعة التي وردت في كثير من الوصايا المسيحية «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الآخر، من سخرك ميلا فسر معه ميلين» (متى ٥: ٣٩، ٤٠) ونحو ذلك، حتى لقد طلبت فيها محبة العدو وهي مما لا يدخل تحت الاختيار بل ولا محبة الصديق، وإنما الاختيار العدل بين الأعداء والأولياء. لكن في ملكوت الله كل شيء مستطاع ولا شيء فيه بمستحيل.
لم تقع حرب إسلامية بقصد الإبادة كما وقع كثير من الحروب بهذا القصد بأيدي المسيحيين. وإنما كان الصبر والمسالمة دينا عندما كانت القدرة والقوة تعوزان الدين. وغاية ما يقال إن العناية الإلهية منحت الإسلام في الزمن القصير من القوة على مدافعة أعدائه ما لم تمنحه لغيره في الزمن الطويل. فتيسر له في شبيبته ما لم يتيسر لغيره إلا في كهولته أو شيخوخته.