في الحرب والسلم
المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم. حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم، بعد العجز عن إخراجهم من دينهم وتعميدهم، أجلتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا.
فأنت ترى الإسلام من جهة يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء لا يعكرون معه صفو الدولة ولا يخلون بنظام السلطة العامة. ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، ولا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم. ومن جهة أخرى ينهى أفراد المؤمنين عن مقاطعة ذوي قرباهم من المشركين، ويطالبهم بحسن معاملتهم ففي طبيعته أن يكل أمر الناس في سرائرهم إلى ربهم. وفي طبيعته أن يجير من لا يعتقد عقيدته، ويحمي من لا يتبع سنته، وإن كان في عمى من الجهالة، وخبل من الضلالة.
أفَتَرى أنه يصعب عليه بعد ذلك أن يحتمل العلم والعلماء، ويضيق به حلمه عن صنع الجميل بالفضل والفضلاء، ممن ينفق عمره في تقرير حقيقة، أو كشف غامض أو تبين طريقة؟ كلا ثم كلا، فمن بحث ونقب، وسبر ونقر، أو شق الأرض أو ارتقى إلى السماء، فهو في أمن من أن يعرض الإسلام له في شيء من عمله، إلا أن يحدث شغبا، أو يفسد أدبا، فعند ذلك تمتد يد الملك لرد كيد الكائد، وإصلاح الفاسد بسماح من الدين.
الأصل السابع: مودة المخالفين في العقيدة
ماذا ترى في الزوجة الكتابية لو كانت من أهل النظر العقلي وذهبت مذهبا يخالف مذهب زوجها؟ أفينقص ذلك من مودته لها؟ أو يضعف من شعور الرحمة التي أفاض الله بينه وبينها؟ فإذا كان المسلم يتعود الاحتمال، بل يتعود المحبة والنصرة لمن يخالفه في عقيدته ودينه وملته، ويألف مخالطته وعشرته وولايته ونصرته، أتراه لا يحتمل أن يرى بجواره من يعمل نظره في نظام الخليقة ليصل منه إلى اكتشاف سر أو تقرير أصل في علم، أو قاعدة لصناعة؟ إن كان قد يخالف ظاهرا مما يعتقد، أو يميل إلى رأي غير الذي يجد؟ أفلا يسع هذا ما يسع المجاهر بالخلاف، وهو معه على ما رأيت من الائتلاف؟
لو ذهبت أعد ما في طبيعة الإسلام من عناصر وأركان كلها تؤلف مزاج الكرم، وتكون حقيقة المسامحة مع العلم لأطلت على القارئ أكثر مما أطلت. ولهذا أرى من الواجب على أن أختم القول بذكر أصل أشرت إليه ولا غنى لما نحن فيه عن ذكره.
الأصل الثامن: الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة
صاحب هذا الدين صلى الله عليه وسلم لم يقل «بع ما تملك واتبعني» ولكن قال لمن استشاره فيما يتصدق به من مال (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس).
الوضوء أو الغسل من شروط الصحة للصلاة إلا إذا خشي منه الضرر أو عرضت مشقة في تحصيل الماء.
القيام مما لا تصح الصلاة إلا به إلا إذا أصابت المصلي مشقة فيه فيسقط، ويصلي قاعدا.
السعي إلى الجمعة واجب إلا إذا كان هناك وحل غزير، أو مطر كثير، أو ما يوجب تعبا ومشقة فيسقط. وهكذا تجد القاعدة قد عمت «صحة الأبدان، مقدمة على صحة الأديان» فترى الدين قد راعى في أحكامه سلامة البدن كما أوجب العناية بسلامة الروح.
ثم عد الله النعيم والجمال والزينة من نعمه علينا التي بذكرنا بها فضله، ويهيج بها نفوسنا لذكره وشكره، كما قال: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، ثم قال: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة النحل).
النهي عن الغلو في الدين: وخشي على المؤمن أن يغلو في طلب الآخرة فيهلك دنياه وينسى نفسه منها فذكرنا بما قصه علينا أن الآخرة يمكن نيلها مع التمتع بنعم الله علينا في الدنيا إذ قال وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ سورة القصص.
فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها، كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها. فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقية واعتبره حيوانا ناطقا لا جسمانيا صرفا ولا ملكوتيا بحتا، جعله من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة. واستبقاه من أهل هذا العالم الجسداني، كما دعاه إلى أن يطلب مقامه الروحاني. أليس يكون بذلك وبما بينه في قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا قد أطلق القيد عن قواه، لتصل من رفه الحياة «مع القصد» إلى منتهاه؟ والنفوس مطبوعة على التنافس قد غرز فيها حب التسابق فيما تعتقده خيرا أو تجده لذيذا أو تظنه نافعا.
وليس في الغريزة الإنسانية أن يقف بها الطلب عند حد محدود أو ينتهي بها السعي إلى غاية لا مطلع للرغبة وراءها، بل خصها الله بالمكنة من الرقي في أطوار الكمال من جميع وجوهه إلى ما شاء الله أن ترقى بدون حد معروف.
فإذا جمع سائق الأنفس ومزجيها ومرشدها وهاديها، بين شاحذين، شاحذ التمتع بمتاع الحياة الدنيا، وشاحذ الرغبة في النعيم الدائم في الآخرة، فقد جمع لها كل ما يسمو بها عن الرضاء في الدنيا بالدون وفي الآخرة بعذاب الهون، فترى كل نفس تمضي مع استعدادها بشهامة فؤادها مضاء الزميع لا تخشى العثرة بالوعيد، ولا تقعد عن مطلبها قعدة الرعديد فتطلب منافعها من هذا الكون الذي وجدت فيه ووجد لها، فتسير في مناكب الأرض ولا تكتفي عن الكل بالبعض، وتبحث في تربتها، ولا يقف بها ظاهرها عن باطنها، ولا يحجبها ظهرها عن مد يدها إلى ما في جوفها، ولا تجد ما يصدها عن النظر في الهواء، والبحث في الماء، والاهتداء بنجوم السماء بعد معرفة مواقعها وحركاتها في مداراتها واستقامتها وانحرافها وظهورها وخنوسها، وبالجملة فكل مستعد لوجه من وجوه النظر أو الولوج في باب من أبواب العلم. ينطلق إلى حيث يبلغ به استعداده إما للنجاة من ضرورة وإما لاستتمام منفعة أو استكمال لذة، لا يجد من نواهي الدين ما يصده عن مطلب، ولا ما يكف يده عن تنازل رغيبة أين هذا من ذلك الذي لا يرى الخلاص إلا في مجافاة هذا العالم ولذائذه، ويجد أن الغنى والثروة من الحجب التي لا تخرق، تجول بينه وبين ملكوت السماوات.
كيف يتسنى للمسلم أن يشكر الله حق شكره، إذا لم يضع العالم بأسره تحت نظر فكره لينفذ من ظاهره إلى سره، ويقف على قوانينه وشرائعه، ويستخدم كل ما يصلح لخدمته في توفير منافعه؟ كيف يشكر الله إذا توانى في ذلك وقد أرشده الله في كتابه وبسنة نبيه إلى أن عالمه إنما خلق لأجله، وقد وضعه الله تحت تصرف عقله؟ انظر إلى لطف الإشارة في الآية المتقدمة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ إلخ حيث قال: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فأهل العلم هم الذين يعرفون مقدار نعم الله تعالى فيما يرفه به معيشتهم، ويجمل به هيئتهم، ويجلي به زينتهم.
المسلمون مسوقون بنابل من دينهم إلى طلب ما يكسبهم الرفعة والسؤدد والعزة والمجد، ولا يرضيهم من ذلك ما دون الغاية، ولا يتوفر شيء من وسائل ذلك إلا بالعلم — فهم محفوزون أشد الحفز إلى طلب العلم وتلمسه في كل مكان، وتلقيه من أية شفة وأي لسان فإذا لاقاهم العالم في أي سبيل، أو عثروا به في أي جبل، أو ظهر لهم من أي قبيل، هشوا له وبشوا، ونصبوا إليه وكمشوا وشدوا به أواصرهم، وعقدوا عليه خناصرهم، ولا يبالون ما تكون عقيدته، إذا نفعتهم حكمته (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) ألم يأتهم عن ربهم: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ ألم يسمعوا في وصفهم قوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
لا شيء ينقلب عند النفس الإنسانية لذة بنفسه، وإن كان في أول أمره مطلوبا لغيره، مثل العلم، تطلب العلم أولا لحاجتك إليه في تقويم معيشة، أو ترفيه حال، أو دفاع عن نفس وملة، ثم لا تلبث إذا أوغلت فيه أن تجد اللذة في العلم نفسه، فتصير اللذة بتحصيله والوصول إلى دقائقه غاية تقصد بنفسها وتضمحل فيها كل غاية سواها، وعلة ذلك ظاهرة فإن العلم مسرح نظر العقل، والعقل قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة، وقد وضع لها العليم الحكيم لذة، كما منح لكل قوة سواها نعيما ولذة، ولست في حاجة إلى تعديد لذة البصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس فالحيوان يعرفها بله الإنسان، وكلما عظم اختصاص القوة بالنوع عظمت لذاته باستعمالها فيما وجهت له، فيمكنك أن تستنتج من ذلك ألا شيء عند الإنسان ألذ من كشف المجهول، وإحراز المعقول وقد سمح الإسلام للمسلم أن يتمتع في هذه الحياة الدنيا بما يلذ له مع القصد والاعتدال. أفلا يكون من لذائذه ومتممات نعيمه أن يسيح في مملكة العلم ليمتع عقله كما يسيح في بسيط الأرض ليكسب رزقه ويقيت أهله؟ على أن العلم كان من ضرورات معيشة المسلم أو حاجياتها كما ذكر فإذا طفق يستنبط ماءه للضرورة، ويستجلي سناءه للحاجة، فلا يلبث أن يصير هو حاجة نفسه، وشاغله عن حاجات حسه حتى يدخل معه في رمسه، كما وقع لكثير من المسلمين. قال إمام جليل من أئمتهم «طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله».
وفي سفر التثنية أيضا «٢٠: ١٠–١٦» ما نصه «حين تقرب من مدينة لتحاربها ادعها إلى الصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كلها غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك الذي أعطاك الرب إلهك، وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة جدا منك التي ليست من هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منهم نسمة ما».