اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية
العلوم الأدبية والعقلية
بعد ٢٠ سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يحض على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك، وأخذ المسلمون يتحسسون نور العلم في ظلام تلك الفتن استرسالا مع ما يدعوهم إليه دينهم، وتنبههم لطلبه شريعتهم، وإن كانت الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم، فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها بالتدريج على سنة الفطرة، فالبراعة في الآداب: من علم بوقائع العرب وتاريخهم، وقول الشعر، وإنشاء البليغ من النثر، قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغا لم تبلغه أمة قط في مثل مدتها، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها، ويرفعون مكانات الشعراء والخطباء والعلماء بالسير، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم، وترجمت جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول.
الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام ولم يسيروا في الزهد سيرة الخلفاء الراشدين، فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما سأل عنه دل عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل البقيع بين الفقراء، وجاءت رسل الملوك إلى معاوية رحمه الله فإذا هو في قصر مشيد محلى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية مزين الجنات والرياض وينابيع الماء، مفروش بأحسن الفرش، يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش، ولم يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه، وإنما تناول مباحا، وتمتع برخصة آتاه الله إياه، ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على اختلاف ضروبها.
اشتغالهم بالعلوم الكونية
انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة (سنة ١٣٢) ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضا، وأخذ المنصور أيضا ينشئ المدارس للطب والشريعة، وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية، وأكمل حفيده الرشيد ما شرع فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها، وجاء المأمون فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، ويقال إنه حمل إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير، وكان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الآستانة فوجد مما فيها من النفائس كتاب بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسموه بالمجسطي، ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنشاؤهم دور الكتب
وقد أخذت دول الإسلام تعتني بدور الكتب عناية لم يسبقها إلى مثلها من دول سواها «حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف مجلد، منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير. وكان من نظامها أن تعار بعض الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة، وكان فيها كرتان سماويتان (إحداهما) من الفضة يقال إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار (والثانية) من البرنز. ومكتبة الخلفاء في إسبانيا بلغ ما فيها ستمائة ألف مجلد وكان (فهرسها) أربعة وأربعين مجلدا. وقد حققوا أنه كان في إسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية، وكان في هذه المكتبات مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة.
وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون دورهم معاهد دراسة لما تحتوي عليه. يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبا أندلسيا ليزوره فأجابه أن ذلك لا يمكنه لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جمل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها. وكان حنين بن إسحاق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يفد إليها طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه.
إنشاؤهم المدارس للعلوم
غطى بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس. نقول «على سعتها» لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير، فكنت تجد المدارس في كل الأقطار: في المغول، في التتار، من جهة المشرق. في مراكش، في فاس، في إسبانيا من جهة المغرب.
وكانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يعد درسه ويكتب في الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب، ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون عنه ثم تكون هذه الدروس كتبا وأمالي تنشر بين الناس في كل علم. وهنا نبادر إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب الكتاب، غير أن مؤرخا واحدا رأيته ذكر أنه قد وضع قانون في بعض الممالك الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه ألا ينشر منها شيء إلا بإذن. على أني لا أعلم شيئا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاما.
نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية: يقول (جيبون) في كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب: «إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء، في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان من أثر ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشر في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد وجعل لها من الريع الذي يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة، وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه، والمعلمون كانوا ينقدون رواتب وافرة».
وانقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع الخلافة ثلاث شيع كان العباسيون في آسيا (الشرق) والأمويون في الأندلس من أوربا (الغرب) والفاطميون في مصر من أفريقيا (الوسط) ولم يكن تنافس هذه الدول الثلاث مقصورا على الملك والسلطان. ولكن كان التنافس أشد التنافس في العلم والأدب، وكان مرصد سمرقند قائما في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من العناية برياضة الأفلاك، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا بأحط منهم في الإدراك.
جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية عن مدرسة الطب في القاهرة، وكان من أشد النظامات وأدقها، ولم يكن لطبيب أن يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على شدته، وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي أنشأها العرب في (ساليرن) من بلاد إيطاليا وأول مرصد فلكي أقيم في أوربا هو الذي أقامه العرب في إشبيلية من بلاد إسبانيا.
ولع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها، والفنون الأدبية بجميع أنواعها، حتى القصص والأساطير الخيالية، في الأحوال الاجتماعية، وابتدءوا بأخذ العلم عن اليونانية والسريانية، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة العربية بالترجمة الصحيحة. وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين وغيرهم، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم في اللسانين وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها، وينقلوها إلى لسانهم على حسب ما يصل إليه علمهم فيها. وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من المسيحيين واليهود، ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة ودين، كل يعلم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه.
علوم العرب واكتشافها
كان علم العرب في أول الأمر يونانيا، ولكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم صار عربيا، ولم يرض العربي أن يكون تلميذا لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو بطليموس زمنا طويلا كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ المسيحي.
قالوا: إن (باكون) هو أوّل من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية أو أقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين، وأطلق العلم من رق التقليد. ذلك حق في أوربا وأما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة.
أول شيء تميز به فلاسفة العرب عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربة، وألا يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة، حتى لقد نقل جوستاف لوبو عن أحد فلاسفة الأوربيين أن القاعدة عن العرب هي «جرب وشاهد ولاحظ تكن عارفا» وعند الأوربي على ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي «اقرأ من الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالما» فلينظر المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلبت الحال، وماذا أعقب من سوء المال.
قال (ديلامبر) في تاريخ علم الهيئة «إذا عددت في اليونانيين اثنين أو ثلاثة من الراصدين أمكنك أن تعد في العرب عددا كبيرا غير محصور» وأما في الكيمياء فلا يمكنك أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مائتين عند العرب. ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم. وقد كانوا يعدون الهندسة والفنون والرياضة من الآلات المنطقية، يستعملونها في الاستدلال على القضايا النظرية، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو معروف.
والعرب هم أول من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وهم أول من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض.
وقد اكتشفوا قوانين لثقل الأجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة، كما وضعوا جداول للأرصاد الفلكية، وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف الجاذبية.
«تأخذنا الدهشة أحيانا عندما ننظر في كتب العرب فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا، كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية وتدرجها في كمال أنواعها، فإن هذا الرأي كان مما يعلمه العرب في مدارسهم وكانوا يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا، فكان عندهم عاما يشمل الكائنات غير العضوية والمعادن. والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها. قال الخازني إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء: أن الذهب قد تقلب في الأشكال المختلفة حتى صار ذهبا ظن من هذا أنه مر في صور معادن أخرى فكان رصاصا ثم قصديرا ثم صفرا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبا ولا يعلم أن الفلاسفة إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور الأنواع المختلفة كأن كان ثورا ثم حمارا ثم فرسا ثم قردا ثم صار بعد ذلك إنسانا».
ويقول الفيلسوف جوستاف لبون: «إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين».
وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية الرأي إلى نقض أصل الدين وقال: إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي يبقى هو أرواح الأنواع. فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان بقاء الأنواع دون الأشخاص، فإنه قال كما قال أرسطو وغيره: إن الأشخاص توجد وتفنى وأما الأنواع فهي باقية لا تزول: وهذا باب آخر يغاير بالمرة ما استنتجوا منه، كما أخطئوا في قولهم عنه إنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صوره والكل يرجع إليه، بمعنى أنه يفنى في ذاته ولا يبقى في العالم باق آخر. وهو يقرب من قولهم السابق. فإن ابن رشد كان مسلما يعرف أن الإسلام لا ينافي العالم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم، الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم، أو الاسترسال مع الخيال. وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه. ولكنه كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه، ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن سبعين وهو ممن أخذ عن تلاميذ ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك.
ويقول فيلسوف آخر: «إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم وكانت ميتة بين دفات الدفاتر، مقبورة بين جدران المكاتب، أو مخزونة في بعض الرءوس كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن، لا حظ للإنسانية منها سوى النظر إليها — صارت عند العرب حياة الآداب، وغذاء الأرواح، وروح الثروة، وقوام الصنعة، ومهمازا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعدت له. وليس في الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل — في إخراج أوربا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفي تعليمها كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يُبنى عليهما العلم — إنما هو للمسلمين وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من إسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا عليهم. وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن البابا كان غائبا لأن كرسيه كان قد انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدب العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك، إن شوارع باريس لم تفرش بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصت بالبلاط على نحو ما رصت به مدن إسبانيا».
ويقول آخر: «لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددا من الفلكيين يطول سرد أفراده وأن الكنيسة تسلطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنا في أوربا ولم تمنحنا فلكيا واحدا».
هذا النماء والذكاء العلمي لم يكن خاصا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في التمكن من تناوله سواء، وإنما كان التفاضل بالجد والعلم، والفضل في ذلك كله لحلم الخلفاء وأعمالهم وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته، قال بعض فلاسفة الغربيين قولا يعرفه الحق وتثبته المشاهدة: «إن شعوب الأرض لم تر قط فاتحا بلغ من الحلم هذا المبلغ (يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم) ولا دينا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد».
تشجيع العلم والعلماء
إن الخلفاء الذين يقال عنهم إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معا كانوا هم بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها، كانوا العالمين العاملين. كان خليفة كالمأمون يضطهد أحيانا أعداء الفلسفة، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين، لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده. هل رأيت في غير الإسلام رئيسا دينيا يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة؟ لعلك لا تجده أبدا.
كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء والخاصة ما يليق بهم كيفما كانت حالهم، وأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري، لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة.
يذكر علي بن يوسف القفطي أن صالح بن مرداش — صاحب حلب — خرج إلى المعرة وقد عصي أهلها عليه، فنازلها وشرع في حصارها ورماها بالمنجنيق، فلما أحس أهلها بالغلب، سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم، فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه، ثم قال: ألك حاجة؟ قال: الأمير — أطال الله بقاءه — كالسيف القاطع لان مسه، وخشن حده، وكالنهار البالغ، قاظ وسط وطاب برده خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فقال له صالح: قد وهبتها لك، ثم قال: أنشدنا شيئا من شعرك لنرويه، فأنشده على البديهة أبياتا فيه، فترحل صالح. فانظر كيف وهب الأمير بلدا عصي أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف.
ولو ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال، وفيما سبق كفاية لمكتف.
إزالة شبهتين
قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من المفتريات على أهل العلم والفكر الحر، وهمس بعضهم في آذان بعض، وتغامزهم على أهل الفضل، ولمزهم إياهم بالألقاب، بل واحتقارهم في بعض الأحيان. وهذا النوع منه عند المسلمين بلا نكير. وهو خطأ ظاهر لأن هذا النوع — ممن يكره أهل العلم — لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية، ومهما بلغ ذوق العلم من نفوس أهلها، فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون معاداة للكنيسة، ويكتبون ما يوهن قواعدها وقد يختلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه، ويرون أن النظر في كتبهم لا يجوز في شريعة الدين، ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم، ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء، وإنما هي نفرة الإنسان مما لا يعرف، مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء.
يقول آخرون: إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف لغلوه في فكره، فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به، وليس يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة.
ماذا يقول القائلون؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبا أمره، يكاد يكون خفيا سره، مسجد أو مدرسة تابعة لمسجد، يجلس فيها للتدريس الفقيه والمتكلم والمحدث والنحوي والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس، ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف، ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب، وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام، وسقطت قيمة الغلو في التعبير، وأخذ التسامح بينهم مأخذه.
كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه، ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح، وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده، حتى قال له يوما وهو خارج من بين يديه «رميت لكل الناس حبا فلقطوا إلا إياك يا عمرو بن عبيد» فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسا؟
إذا عد عاد بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلو في الدين، فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين، وإن الغيرة عليه ليست هي الباعث لهم على الوشاية بهم، وطلب تنكيلهم، وإنما تجد الحسد هو العامل الأول في ذلك كله والدين آلة له، ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على قاضي قضاة كابن رشد (ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على ذلك) أو وزير، أو جليس خليفة أو سلطان، أو ذي نفوذ عظيم بين العامة. وهذا كما يقع من الفقهاء مثلا لإيذاء الفلاسفة، يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض، لإهلاك بعضهم بعضا، كما يشهد به العيان، ويحكي لنا التاريخ، فليس هذا كذلك معدودا من معنى اضطهاد الدين للفلسفة، لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة وإن لبسوا لباسه. وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا.
هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهم عناصرها ومقومات مزاجها. وهذا كان أثرها في العالم الشرقي والغربي وهذه سعة فضل الدين وقوته على احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلوا بظله، هل في هذا خفاء على ناظر؟ وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء الباهر؟ أفلا يبسم الإسلام عجبا وهو في أشد الكرب لعقوق أبنائه، من أديب لم يكن يعده من أعدائه، إن لم يحسبه في أحبائه، عندما يراه يسدد سهمه إليه، ويجور، كما يجور الجائرون في حكمهم عليه؟