النسبية الخاصة
مبدأ النسبية وسرعة الضوء
تخيل أنك داخل عربة قطار متوقف في إحدى المحطات، وحين تنظر من النافذة ترى قطارًا ثانيًا متوقفًا إلى جوار قطارك. تنطلق الصافرة، وأخيرًا تمضي في طريقك. يتحرك قطارك في سلاسة مجتازًا القطار الثاني، وتختفي آخر عرباته من أمام ناظريك، بما سيمكِّنك من رؤية محطة القطارات نفسها وهي تختفي بعيدًا مع تركك إياها. لكن المحطة لا تختفي، بل هي باقية كما هي في مكانها، وأنت أيضًا باقٍ في مكانك دون حراك؛ فتكتشف أنك لم تكن تتحرك على الإطلاق، بل إن القطار الآخر هو ما تحرك.
هذه ملاحظة بسيطة، وجميعنا وقع ضحية هذه الخدعة في وقت ما. فالحقيقة هي أننا نعجز عن تحديد ما إذا كنا نتحرك بالفعل أم لا؛ على الأقل فيما يتعلق بالحركة الثابتة المنتظمة في خط مستقيم. في المعتاد، عندما تتحرك مستقلًّا سيارة، مثلًا، فأنت تكون على معرفة بأنك تتحرك. وحتى لو أغلقت عينيك، فستشعر بدفعة بينما تجتاز السيارة المنعطفات والمطبات، وحين تزيد من سرعتها أو تقللها على نحو مفاجئ، لكن إذا كنت على متن طائرة تتحرك بثبات، وباستثناء ضجيج المحركات والاهتزازات الطفيفة، لا يوجد ما يُنبئك إطلاقًا بأنك تتحرك؛ فالحياة تسير داخل الطائرة كما لو أننا مستقرون على الأرض. هنا نقول إن الطائرة تمثل «إطارًا مرجعيًّا قصوريًّا»؛ وبهذا نعني أن قانون نيوتن للقصور الذاتي ينطبق، وتحديدًا أن أي جسم — حين يُرصد داخل إطار القصور الذاتي هذا — لن يغير من سرعته أو اتجاهه ما لم تؤثر عليه قوة مخلة بالتوازن. على سبيل المثال، سيظل كوب الماء الموضوع على الطاولة أمامك ساكنًا في مكانه ما لم تحركه أنت بيدك.
لكن ماذا لو نظرتَ من نافذة الطائرة ورأيت الأرض وهي تمر من تحتك؟ ألا ينبئك هذا بأن الطائرة تتحرك؟ في الواقع لا. فعلى أي حال، الأرض نفسها ليست ساكنة في مكانها، بل هي تدور حول الشمس، والشمس نفسها تدور حول مركز مجرة درب التبانة، ومجرة درب التبانة نفسها تتحرك داخل عنقود مجرِّي يتكون من مجرات مماثلة لها. كل ما يمكننا قوله هو أن هذه الحركات جميعها «نسبية»؛ فالطائرة تتحرك نسبة إلى الأرض، والأرض تتحرك نسبة إلى الطائرة. وما من وسيلة لتحديد أيٌّ منهما ساكن «بالفعل». فأي شخص يتحرك حركة منتظمة نسبة إلى شخص آخر ساكن يحق له أن يعتبر نفسه هو الساكن بينما الآخر هو الذي يتحرك. سبب هذا هو أن قوانين الطبيعة — أي القواعد الحاكمة لكل ما يدور في الطبيعة — هي ذاتها لكل من يتحرك حركة ثابتة منتظمة. بمعنًى آخر: كل من هو موجود داخل إطار مرجعي قصوري. وهذا هو «مبدأ النسبية».
- (١)
مبدأ النسبية، الذي ينص على أن قوانين الطبيعة هي ذاتها لكل الأُطر المرجعية القصورية.
- (٢)
أحد هذه القوانين يمكِّننا من حساب قيمة سرعة الضوء في الفراغ؛ وهي قيمة ثابتة في جميع الأُطر القصورية بغض النظر عن سرعة مصدر الضوء أو الراصد.
صارت هاتان العبارتان تُعرفان بمسلَّمتَي النسبية الخاصة (أو المبدأين الأساسيين لها).
كانت هاتان الحقيقتان من المعارف الشائعة لدى الفيزيائيين لفترة طويلة. لكن الأمر تطلب عبقرية أينشتاين لاكتشاف أنه على الرغم من أن كل عبارة منهما صحيحة من الناحية المنطقية عند التفكر فيها على حدة، فإنهما لا تبدوان على القدر عينه من المنطقية عند الجمع بينهما؛ إذ يبدو أنه إذا صحَّت الأولى، فمن الحتمي أن تكون الثانية خطأً، أو إذا صحت الثانية، فمن الحتمي أن تكون الأولى خطأً، لكن لو صحت كلتاهما — وهو ما يبدو أننا أثبتناه بالفعل — فمن المؤكد أن ثمة خطأً كبيرًا جدًّا جدًّا. إن حقيقة أن سرعة الضوء ثابتة لجميع الراصدين ذوي أُطر القصور المتباينة — بغض النظر عن حركة مصدر الضوء أو الراصد — إنما تعني أن طريقتنا المعتادة في إضافة وطرح السرعات خاطئة، وإذا كان هناك وجود لخطأ ما في مفهومنا عن السرعة (التي هي ببساطةٍ المسافة مقسومة على الزمن)، فهذا يعني بدوره أن هناك خطأً في مفهومنا عن المكان أو الزمن أو كليهما. إننا هنا لسنا بصدد سمة خاصة بالضوء أو الإشعاع الكهرومغناطيسي. إن «أي شيء» يتحرك بسرعة مماثلة لسرعة الضوء، ستكون له قيمة السرعة عينها لجميع الراصدين ذوي أُطر القصور المتباينة. المهم هنا هو السرعة (وتبعاتها على كلٍّ من المكان والزمان)، وليس حقيقة أنه يتصادف أننا نتعامل مع الضوء.
الإبطاء الزمني
ولا يقتصر الأمر على الساعة وحسب؛ فكل ما يدور على متن المركبة يتباطأ بالمعدل ذاته. فإذا لم يكن الحال كذلك، فسيكون بمقدور رائد الفضاء أن يلحظ أن ساعته تسير ببطء (مقارنة مثلًا بمعدل نبضات قلبه، أو الزمن المنقضي حتى يغلي الماء داخل الغلاية … إلخ). وهذا بدوره من شأنه أن يمكِّنه من أن يستنتج أنه يتحرك؛ أي إن سرعته تؤثر — على نحو ما — على آلية ساعته، بَيْدَ أن هذا غير مسموح به وفق مبدأ النسبية؛ فكل أشكال الحركة المنتظمة نسبية. ولا بد من أن تسير الحياة من منظور رائد الفضاء على النحو عينه الذي تسير عليه من منظور مسئول المراقبة؛ ومن ثَم، نستنتج أن كل ما يحدث على متن المركبة الفضائية — الساعة، وآليات عمل الأجهزة الإلكترونية، وعملية تقدم رائد الفضاء في العمر، وعمليات التفكير لديه — كله يتباطأ الآن بالمعدل ذاته. وحين يرى رائد الفضاء ساعته البطيئة بعقله البطيء، لن يبدو أن هناك أي خطأ. في الواقع — في حدود علم رائد الفضاء — كل شيء داخل المركبة الفضائية يسير بسرعته الطبيعية ويبدو على ما يرام. لكن مسئول المراقبة الموجود على الأرض هو فقط من يدرك أن كل شيء داخل المركبة يسير بتباطؤ. وهذا هو «الإبطاء الزمني». فرائد الفضاء له زمنه، ولمسئول المراقبة زمنه، وليس الزمنان متماثلَين.
وفي تجربة منفصلة أُجريت عام ١٩٧١، تم التحقق من المعادلة في إطار سرعات الطائرات، وذلك بالاستعانة بساعتين ذريتين متطابقتين، وُضعت إحداهما على متن طائرة، والأخرى على الأرض. ومجددًا، كان هناك توافق جيد بين النظرية والنتائج. وهاتان التجربتان، إضافةً إلى تجارب أخرى لا تُحصى، تؤكد جميعها صحة معادلة الإبطاء الزمني.
معضلة التوأمين
رأينا كيف يرى مسئول المراقبة الزمن وهو يمر ببطء في المركبة المتحركة، بينما يشعر رائد الفضاء أن الزمن يمر بسرعته الطبيعية. كيف إذن يرى رائد الفضاء الزمن الخاص بمسئول المراقبة؟
في البداية، قد نخال أنه بما أن الزمن يمر ببطء لرائد الفضاء، فإنه حين يرصد ما يحدث على الأرض سيرى أن الزمن يمر هناك على نحو أسرع. لكن مهلًا، لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا؛ فلو أنه صحيح، فسنتمكن على الفور من تحديد مَن منهما الساكن ومن المتحرك، وسنكون هكذا قد أرسينا أن رائد الفضاء هو الراصد المتحرك؛ لأن زمنه تأثر بالحركة، فيما لم يتأثر زمن مسئول المراقبة قط. وهذا يخالف مبدأ النسبية، بمعنى أنه في الأُطر القصورية، كل الحركة نسبية؛ ومن ثَم، يقودنا هذا المبدأ إلى النتيجة — التي نقر بأنها غير مريحة — القائلة بأنه لو خلص مسئول المراقبة إلى أن ساعة رائد الفضاء تسير على نحو أبطأ من ساعته، فسيخلص رائد الفضاء بالمثل إلى أن ساعة مسئول المراقبة تسير على نحو أبطأ من ساعته. لكن كيف يمكن هذا؟ هكذا قد تتساءل: كيف يكون لدينا ساعتان، وتسير كل واحدة منهما على نحو أبطأ من الأخرى؟!
من الخطوات المبدئية لمجابهة هذه المشكلة إدراك أننا في السيناريو الذي وصفناه لسنا بصدد مقارنة الساعتين مباشرة جنبًا إلى جنب. فرغم أن رائد الفضاء ومسئول المراقبة ربما قاما بالفعل بمزامنة ساعتيهما حين كان كلٌّ منهما بجوار الآخر عند بداية الرحلة، فإنهما لن يستطيعا القيام بالأمر عينه مع أي قراءة مستقبلية؛ إذ إن المركبة والساعة التي على متنها قد انطلقتا بعيدًا. وبمقدور مسئول المراقبة معرفة الكيفية التي تسير بها ساعة رائد الفضاء، من خلال انتظار إشارة من نوع ما (إشارة ضوئية ربما) تنطلق من ساعة رائد الفضاء ويتلقاها هو نفسه. ويجب أن يضع في اعتباره وقتها حقيقة أن الإشارة استغرقت بعضًا من الوقت كي تنتقل من موضع المركبة الجديد إلى موضعه في مركز المراقبة. وبإضافة وقت الانتقال هذا إلى القراءة الخاصة بالساعة حين أطلقت الإشارة، يمكنه إذنْ حساب الوقت الذي تسجله الساعة الأخرى الآن؛ ومن ثَم مقارنة هذا الوقت بالوقت الذي تسجله ساعته. وقتها فقط سيدرك أن ساعة رائد الفضاء تسير ببطء. لكن لاحظ أن هذا الإدراك ناتج عن «عملية حسابية»، وليس عن مقارنة بصرية مباشرة. والأمر عينه يصح بالنسبة لرائد الفضاء. فستنبئه حساباته أن ساعة مسئول المراقبة تسير على نحو أبطأ مما تسير به ساعته، لكنه لن يدرك هذا سوى من خلال عملية حسابية باستخدام إشارة منبعثة من ساعته.
من شأن هذا أن يثير سؤالًا مزعجًا لا مفر منه، وهو: «لكن ساعة مَن حقًّا هي التي تسير ببطء؟» في ظل السيناريو الذي وصفناه، ليس لهذا السؤال معنًى، وليس له جواب؛ فمن منظور مسئول المراقبة، من الصحيح تمامًا أن ساعة رائد الفضاء هي التي تسير ببطء، ومن منظور رائد الفضاء، من الصحيح تمامًا أن ساعة مسئول المراقبة هي التي تسير ببطء. وعلينا أن نترك الأمر عند هذا الحد.
لكن هناك مَن لم يتركه عند هذا الحد. وهنا نقابل «معضلة التوأمين» الشهيرة. يقر هذا المقترَح بأن النتائج المتعارضة في ظاهرها إنما تنبع من حقيقة أن الأزمنة «يجري حسابها». لكن ماذا لو أننا استعضنا عن هذه العمليات الحسابية بمقارنات مباشرة جنبًا إلى جنب للساعتين، وذلك عند نهاية الرحلة، مثلما حدث في بدايتها؟ بهذه الصورة لن يكون هناك محل للغموض. ما يتطلبه الأمر لتحقيق هذا هو أن المركبة الفضائية — بعد أن تتم رحلتها لأحد الكواكب البعيدة مثلًا — تعود ثانية إلى الأرض بحيث يمكن مقارنة الساعتين على نحو مباشر. في النسخة الأصلية لهذه المعضلة، كان من المتصور وجود توأمين، أحدهما يخوض الرحلة فيما يظل الآخر على الأرض. وعند عودة المركبة إلى الأرض، لن يصير من الممكن أن يكون كلٌّ منهما أصغر من توأمه، إذنْ، أيهما كبر في العمر عن الآخر؟ أم أن لكليهما العمر ذاته؟
الإجابة التجريبية تأتينا من واقع التجربة التي ذكرناها مسبقًا، والخاصة بتحرك الميونات المتكرر في مسار دائري. فهذه الميونات تلعب دور رائد الفضاء؛ فهي تبدأ من نقطة بعينها في المختبر، ثم تقطع دائرة، وتعود إلى نقطة البداية. وهذه الميونات المتحركة تشيخ في العمر على نحو أبطأ من مجموعة الميونات التي تظل في موضع وحيد في المختبر. وهذا يثبت أن ساعة رائد الفضاء هي التي ستكون متأخرة عن ساعة مسئول المراقبة عند مقارنة الساعتين مباشرة للمرة الثانية.
هل يعني هذا إذنْ أننا خرقنا مبدأ النسبية وكشفْنا أيٌّ من الراصدَين هو الذي يتحرك حقًّا؛ ومن ثَم أي الساعتين أُبطئت حركتها بفعل هذه الحركة؟ الجواب هو: لا. وسبب هذا هو أن هذا المبدأ ينطبق فقط على الراصدَين الموجودَين داخل الإطار القصوري عينه. لقد كان رائد الفضاء داخل إطار مرجعي قصوري بينما كان يتحرك بسرعة ثابتة نحو الكوكب البعيد، ومجددًا خلال رحلة العودة بينما كان يتحرك بالمثل بسرعة ثابتة. لكن — وهذه «لكن» كبيرة — لكي يعكس اتجاه حركة المركبة عند نقطة الالتفاف والعودة، كان لا بد من إطلاق صواريخ المركبة، وكان من شأن أي أشياء موضوعة على طاولة أن تتدحرج ساقطة، وينضغط رائد الفضاء إلى مقعده، وهكذا. بعبارة أخرى: طيلة فترة اشتعال الصواريخ، لم تعد المركبة داخل إطار مرجعي قصوري؛ ومن ثَم لا ينطبق قانون نيوتن للقصور الذاتي. راصد واحد فقط هو من ظل داخل إطاره القصوري طيلة الوقت؛ وهو مسئول المراقبة. وهكذا يكون من حق مسئول المراقبة وحده تطبيق معادلة الإبطاء الزمني؛ ومن ثَم، إذا خلص إلى أن ساعة رائد الفضاء تسير ببطء، فستكون هذه هي النتيجة التي سنجدها عند مقارنة الساعتين مباشرة. فبسبب فترة التسارع التي مر بها رائد الفضاء، انكسر التناظر بين الراصدَين؛ وهكذا تُحل المعضلة.
تُحل جزئيًّا على الأقل. فرائد الفضاء يدرك أنه خرق شرط البقاء داخل الإطار القصوري طيلة الوقت؛ ومن ثَم فهو يتقبل حقيقة أنه لا يستطيع — تلقائيًّا — أن يستخدم معادلة الإبطاء (على النحو الذي يحق لمسئول المراقبة استخدامها به). لكن هذا يتركه في مواجهة لغز؛ فخلال رحلة الذهاب الثابتة، يمكن لرائد الفضاء من واقع حساباته أن يخلص إلى أن ساعة مسئول المراقبة تسير على نحو أبطأ من ساعته. وخلال رحلة الإياب الثابتة، يمكن لرائد الفضاء من واقع حساباته أن يخلص إلى أن ساعة مسئول المراقبة تفقد وقتًا أكثر مقارنة بساعته (لأن تأثير الإبطاء الزمني لا يتوقف على اتجاه الحركة؛ وإنما على سرعة الساعة المتحركة نسبةً إلى الراصد فقط). في ضوء هذا، كيف يمكن لساعة مسئول المراقبة أن «تسبق» ساعة رائد الفضاء؟ ما المسئول عن ذلك؟ هل من سبيل يمكن به لرائد الفضاء أن يعرف مقدمًا أن ساعة مسئول المراقبة ستسبق ساعته بنهاية رحلة العودة؟ الإجابة هي: نعم، هناك سبيل لذلك. لكن سيكون علينا تأجيل الحل الكامل لمعضلة التوأمين إلى وقت لاحق؛ بعد أن ننظر أولًا إلى تأثير التسارع (العجلة) على الزمن.
تقلص الأطوال
وبهذا نأتي لثاني النتائج المترتبة على نظرية النسبية. فالسرعة لا تؤثر على الزمن وحسب، بل هي تؤثر أيضًا على المكان. فمن منظور رائد الفضاء، كل شيء يتحرك نسبةً إليه ينضغط، أو يتقلص. وهذا لا ينطبق فقط على المسافة بين الأرض والكوكب، بل على شكل الأرض نفسه، وشكل الكوكب نفسه؛ إذ إنهما لم يعودا كُروِيَّي الشكل. إن كل المسافات في اتجاه الحركة تتقلص؛ وهو ما يجعل المسافات المتعامدة على اتجاه الحركة دون تغيير. وهذه الظاهرة تعرف باسم «تقلص الأطوال».
فقدان التزامن
وهكذا نجد أنه بينما كلا الراصدين متفقان على تزامن حدثين يقعان في نقطة ما من الفضاء (مغادرة النبضتين من منتصف المركبة)، فإنهما لا يتفقان بشأن تزامن الحدثين اللذين تفصلهما مسافة؛ ونعني بهذا وصول النبضتين إلى طرفَي المركبة. من منظور رائد الفضاء كان الحدثان متزامنَين، لكن من منظور مسئول المراقبة وصلت النبضة المتجهة صوب مؤخرة المركبة أولًا. في الواقع، لنا أن نضيف أنه من منظور راصد موجود في إطار قصوري ثالث على متن مركبة تتحرك على نحو أسرع من المركبة الأصلية (ومن ثَم من منظوره ستبدو المركبة الأصلية وكأنها تتحرك إلى الوراء)، سيبدو أن النبضة المتجهة صوب مقدمة المركبة قد وصلت أولًا — قبل النبضة الموجهة صوب المؤخرة — وهو بطبيعة الحال عكس ما رآه مسئول المراقبة الموجود على الأرض.
يبدو أن هذا من شأنه أن يثير مشكلة مقلقة؛ ونعني بهذا وجود حدثين يختلف الراصدون حول أيهما وقع أولًا. لنفترض، على سبيل المثال، أن الحدثين يتكونان من (١) صبي يلقي بحجر، و(٢) نافذة تتحطم. هل من الممكن أن يوجد منظور ما من خلاله تتحطم النافذة قبل أن يُلقَى الحجر؟! لحسن الحظ، هذا السيناريو المتناقض ليس ممكنًا. سبب هذا هو أن ترتيب أي حدثين مرتبطين بعلاقة سببية يستحيل أن يُعكس؛ فجميع الراصدين سيجدون أن السبب حدث أولًا بغض النظر عن حركتهم نسبة إلى الحدث. وكما سمعت على الأرجح (وهو ما سنناقشه لاحقًا)، لا شيء يمكنه التحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء. ولكي يتسبب الحدث (أ) في الحدث (ب)، يجب أن تكون إشارة ما — أو أي نوع آخر من التأثيرات — قادرًا على التحرك بينهما بسرعة لا تتجاوز سرعة الضوء. وفي هذه الحالة، رغم أن الراصدين قد يختلفون حول مقدار الوقت المنقضي بين الحدثين، فإنهم جميعًا سيتفقون على الترتيب الذي وقع وفقه الحدثان. فقط حين نكون بصدد حدثَين منفصلَين ليس لأحدهما تأثير على الآخر، يمكن أن ينشأ خلاف حول الترتيب الذي وقعا به؛ لذا، باختصار، في حالة السببية، لا وجود لأي تناقض.
لكن يبدو أن هذا يتركنا في مواجهة السؤال: أي الراصدين هو المُحق؟ هل حدثَا وصولِ النبضتين إلى وجهتيهما في المركبة «متزامنان بالفعل» أم لا؟ من المستحيل تحديد هذا، فالسؤال لا معنى له. وهو في نفس عبثية التساؤل عن الوقت «الفعلي» الذي استغرقته الرحلة من الأرض إلى الكوكب، أو الطول «الفعلي» للمركبة. إن مفاهيم الزمان والمكان والتزامن تأخذ معنًى فقط في سياق راصد بعينه؛ راصد تحددت حركته نسبةً إلى الشيء محل الرصد.
مخططات الزمكان
الزمكان الرباعي الأبعاد
يمكن لكل هذا الحديث — عن كيف أن الراصدين المختلفين يدركون المكان والزمان على نحو متباين — أن يثير الحيرة والارتباك. وأحيانًا يسمع المرء بعض الناس وهم يزعمون أن النظرية النسبية يمكن تلخيصها في عبارة «كل الأمور نسبية»؛ والتي تعني ضمنًا أن الحرية للجميع وأن لأي شخص الحق في أن يعتقد ما يريد! بَيْدَ أن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فقد يخصص الراصدون قيمًا مختلفة للفترات الزمنية والمسافات المكانية، لكنهم متفقون حول الكيفية التي ترتبط بها تلك القيم بعضها ببعض، وذلك من خلال المعادلات التي اشتققناها لكلٍّ من الإبطاء الزمني وتقلص الأطوال. وهذه المعادلات تتحدد بكل دقة رياضية.
نستخدم هذا التشبيه لشرح إدراكاتنا المختلفة للمكان والزمان. في عام ١٩٠٨، بعد أن نشر أينشتاين نظرية النسبية الخاصة بثلاثة أعوام، تعامل أحد أساتذته — وهو هيرمان مينكوفسكي (الذي وصف أينشتاين ذات مرة بأنه «كلب كسول») — مع الموضوع من زاوية مختلفة واقترح تفسيرًا إضافيًّا. اقترح مينكوفسكي أن النسبية تخبرنا بأن المكان والزمان يشبهان أحدهما الآخر أكثر كثيرًا مما قد يتراءى لنا من واقع الطرق المتباينة التي ندرك بها كلًّا منهما ونقيسه. في الواقع، حريٌ بنا التوقف عن التفكير فيهما بوصفهما ثلاثة أبعاد مكانية مضافًا إليها بُعد زماني منفصل. بل يجب اعتبارها «زمكانًا» رباعي الأبعاد، يلتحم داخله المكان والزمان على نحوٍ غير قابل للفصم. إن الأبعاد المكانية الثلاثة التي نقيسها (بالمسطرة مثلًا) ما هي إلا إسقاط ثلاثي الأبعاد للواقع الرباعي الأبعاد. والبُعد الزماني الواحد الذي نقيسه (بساعة الحائط) ما هو إلا إسقاط أحادي البعد للواقع الرباعي الأبعاد. وما القياسات التي تنبئنا بها المسطرة وساعة الحائط إلا «مظاهر»؛ وليست الواقع الحقيقي.
ستتغير المظاهر وفق منظور المرء. فبينما في حالة القلم المرفوع عاليًا كان التغير في المنظور يعني تغيير موضع الشخص داخل الحجرة نسبةً إلى القلم، ففي الزمكان يستلزم تغيير المنظور تغييرًا في كلٍّ من المكان والزمان، ويتكون من تغير في السرعة (والتي هي المسافة المكانية مقسومة على الزمن). فالراصدون ذوو الحركة المتباينة لهم منظورات مختلفة؛ ومن ثَم هم يرصدون إسقاطات مختلفة للواقع الرباعي الأبعاد.
ما هي طبيعة هذا الواقع الرباعي الأبعاد؟ ما هي محتويات الزمكان؟ تعتمد هذه الأمور على الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعد الزماني. بعبارة أخرى: هي «أحداث». وهنا علينا التزام الحذر؛ فكلمة «حدث» في الاستخدام المعتاد يمكن أن تُحمَّل بالعديد من المعاني؛ فالحرب العالمية الثانية، مثلًا، يمكن الإشارة إليها بأنها حدث مهم في تاريخ العالم. وكلمة «حدث» في هذا السياق تتضمن كل ما وقع في الحرب، خلال الفترة ما بين عامي ١٩٣٩ و١٩٤٥، بغض النظر عن مكان وقوعه. لكن في سياقنا الحالي تحمل الكلمة معنًى استثنائيًّا محددًا؛ فالأحداث تتسم بأنها تقع في نقطة بعينها في المكان الثلاثي الأبعاد وفي لحظة بعينها من الزمن. إذنْ، تحدد أربعة أرقام بدقة موضع الحدث داخل الزمكان. قد يكون أحد الأحداث هو مغادرة المركبة الفضائية لكوكب الأرض في لحظة زمنية معينة. وقد يكون الحدث الثاني هو وصول المركبة إلى الكوكب البعيد في موضع مكاني مختلف وفي لحظة لاحقة من الزمن. وبينما في المكان الثلاثي الأبعاد نحن نألف فكرة أن الخطوط هي التي تربط النقاط المكانية المتجاورة، نجد في الزمكان أن الخطوط العالمية هي التي تربط الأحداث المتجاورة.
يختلف راصدانا — رائد الفضاء ومسئول المراقبة — بشأن «المظاهر»؛ بمعنى الاختلاف الزمني بين الحدثين، وأيضًا الاختلاف المكاني بين الحدثين. ومع ذلك — وهذه نقطة غاية في الأهمية — فهما يتفقان بشأن الفارق بين هذين الحدثين في الزمكان الرباعي الأبعاد؛ وهو ما سيشاركهما فيه جميع الراصدين الآخرين، بغض النظر عن سرعاتهم. وحقيقة أن جميع الراصدين متفقون على ما يوجد في الأبعاد الأربعة تعزز فكرة أن الزمكان هو الواقع الفعلي.
إن فكرة الواقع بوصفه رباعي الأبعاد غريبة وتجافي البديهة. وحتى أينشتاين نفسه في البداية كان يجد صعوبة في تقبُّل اقتراح مينكوفسكي، لكنه لاحقًا اقتنع بالأمر وصرح قائلًا: «من الآن فصاعدًا، علينا أن نتعامل مع الوجود الرباعي الأبعاد، وذلك بدلًا من تطور الوجود الثلاثي الأبعاد الذي ظللنا نتعامل معه حتى الآن.» بَيْدَ أن هذا لا يعني أن الزمن اختُزل إلى مجرد بُعد مكاني رابع وحسب؛ فرغم أنه ملتحم بالأبعاد الثلاثة الأخرى لتكوِّن جميعًا متَّصلًا رباعي الأبعاد، فإنه لا يزال يحتفظ بسمة مميزة خاصة به. إن المخروط الضوئي يحيط بالمحور الزمني، وليس المحاور الأخرى. ويتحدد المستقبل المطلق والماضي المطلق وفق علاقتهما بالمحور الزمني فقط.
إن تقبُّل الواقع الرباعي الأبعاد أمر صعب؛ لأنه ليس من السهل تصور أمر كهذا؛ بل في الواقع، يعد تكوين صورة عقلية للأربعة محاور المتعامدة بعضها على بعض أمرًا مستحيلًا. كلا، علينا التخلي عن الصور العقلية والسماح للرياضيات بأن ترشدنا السبيل.
أحد الملامح المربكة للزمكان الرباعي الأبعاد هو أن لا شيء يتغير فيه. فالتغيرات تحدث في الزمان، لكن الزمكان لا يوجد في الزمن، بل الزمن هو الذي يوجد في الزمكان (بوصفه أحد محاوره). يبدو هذا أشبه بالقول بأن الزمن جميعه — الماضي والحاضر والمستقبل — موجود على نحو متساوٍ. بعبارة أخرى: الأحداث التي عادة ما نعتقد أنها لم يعد لها وجود لأنها تقع في الماضي، موجودة بالفعل في الزمكان. وعلى نفس المنوال، الأحداث المستقبلية التي نظن في المعتاد أنها لم تقع بعد، موجودة هي الأخرى في الزمكان. لا يوجد في هذه الصورة ما يضفي على اللحظة الحاضرة — المسماة «الآن» — أي نوع من التميز؛ فما هي سوى فاصل بين الماضي والمستقبل.
نحن الآن بصدد عالم لا يصح فيه فقط أن المكان كله موجود عند كل نقطة في الزمان، بل أيضًا أن الزمان كله موجود عند كل نقطة في المكان. وبعبارة أخرى: أينما تجلس الآن وأنت تقرأ هذا الكتاب، ليست فقط لحظتك الحاضرة موجودة، بل أيضًا اللحظة التي بدأت تقرأ فيها الكتاب، واللحظة التي تقرر فيها لاحقًا أنك اكتفيت من قراءته (ربما يرجع هذا إلى الصداع الذي تسببه الأمور المربكة التي نصفها الآن) وتنهض وتذهب كي تعد لنفسك قدحًا من الشاي.
إننا نتعامل مع وجود ساكن على نحو عجيب، وجود يطلَق عليه أحيانًا «الكون الجامد». ربما لا تثير أي فكرة في الفيزياء الحديثة الجدل مثلما تثيره فكرة الكون الجامد. فمن الطبيعي أن نشعر أن ثمة شيئًا «حقيقيًّا» بشأن اللحظة الحاضرة، وأن المستقبل غير مؤكد، وأن الماضي انتهى، وأن الزمان «يتدفق». وكل هذه الأفكار تتضافر كي تمنعنا من قبول فكرة أن الماضي لا يزال موجودًا، وأن المستقبل أيضًا موجود، وأنه ينتظرنا وحسب كي نمر به. وبعض كبار الفيزيائيين، رغم أنهم يقبلون فكرة أن جميع الراصدين متفقون على قيمة الكمية الرياضية التي نسميها «المسافة، أو الفترة الفاصلة، بين أي حدثين في الزمكان الرباعي الأبعاد»، فإنهم مع ذلك ينكرون أنَّ علينا أنْ نخطو تلك الخطوة الإضافية واستنتاج أن الزمكان هو الطبيعة الحقيقية للواقع المادي. إنهم مقتنعون بأن الزمكان بنية رياضية وحسب، وليس أكثر من هذا. وهم عازمون على الاحتفاظ بالفكرة التي تبدو منطقية، والقائلة بأن الماضي لم يعد موجودًا وأن المستقبل لم يوجد بعدُ، وأن كل ما هو موجود هو الحاضر. أعتقد أنك تميل إلى الاتفاق معهم. لكن قبل أن تعلن تأييدك لهم، ربما يجدر بك أن تتدبر بمزيد من العمق ما يمكن أن يكون عليه ذلك الكون الجامد البديل.
من المريح تمامًا القول إن كل ما هو موجود هو ما يحدث في اللحظة الحاضرة، لكن ما الذي تعنيه بالضبط بذلك؟ أنت على الأرجح تعني «أنني أقرأ هذا الكتاب في هذا الموقع المحدد.» لا بأس، لكني أتصور أنك ستضم أيضًا ما يحدث في غير ذلك من الأماكن في اللحظة الحاضرة. على سبيل المثال، ربما يكون هناك رجل في نيويورك يرتقي الدرج. في اللحظة الحاضرة، هو يضع قدمه على الدرجة الأولى. وهكذا ستضيفه، وهو يضع قدمه على تلك الدرجة، إلى قائمة الكيانات الموجودة. لكن الآن افترض أن هناك رائد فضاء يُحلق في السماء فوقك مباشرة. بسبب فقدان التزامن الخاص بالأحداث المنفصلة، سيختلف معك بشأن ما يحدث في نيويورك في الوقت عينه الذي تقرأ فيه هذا الكتاب. فمن منظور رائد الفضاء، ذلك الرجل في نيويورك — في اللحظة الحالية — يضع قدمه على الدرجة الثانية، لا الأولى. علاوةً على ذلك، فإن رائد فضاء ثانيًا يُحلق في مركبة تطير في اتجاه معاكس لاتجاه المركبة الأولى سيخلص إلى نتيجة ثالثة، وتحديدًا أنه في اللحظة الحالية ذلك الرجل في نيويورك لم يصل بعدُ إلى الدرج. ها أنت ذا ترى المشكلة. من المريح تمامًا القول إن «كل ما هو موجود هو ما يحدث في اللحظة الحاضرة»، لكن لا يمكن أن يتفق معك الجميع بشأن ما يحدث بالفعل في اللحظة الحاضرة. ماذا يوجد في نيويورك؟ رجل يضع قدمه على الدرجة الأولى، أم رجل يضع قدمه على الدرجة الثانية، أم رجل لم يصل إلى الدرج بعدُ؟ وفق مفهوم الكون الجامد، لا مشكلة في هذا الأمر؛ إذ إن جميع البدائل الثلاثة في نيويورك موجودة. والجدل الوحيد القائم هو بشأن أيٌّ من تلك الأحداث الثلاثة الواقعة في نيويورك هو ما يختار المرء أن يصفه بأنه يملك نفس الإحداثي الزمني الذي تملكه أنت حيثما تكون. فالحركة النسبية تعني أن المرء ببساطة يأخذ شرائح مختلفة من الزمكان الرباعي الأبعاد بوصفها تمثل الأحداث الواقعة على امتداد الإحداثي الزمني عينه؛ «الآن».
لكن بالطبع، لفكرة الكون الجامد مشكلاتها. من أين تأتي الطبيعة الخاصة المُدركة للحظة «الآن»؟ ومن أين نحصل على الحس الحركي بتدفق الزمن؟ هذا لغز كبير لم يُحل بعدُ، وربما يستعصي على الحل إلى الأبد. يبدو أن هذا الحس ليس نابعًا من الفيزياء — وقطعًا ليس من فكرة الكون الجامد — بل من «إدراكنا الواعي» للعالم المادي. فلسببٍ ما غير معروف، يبدو الوعي وكأنه يعمل ككشاف ضوء يتقدم تدريجيًّا على امتداد المحور الزمني، بحيث ينتقي وقتيًّا لحظة من الزمن المادي ويميزها بوصفها تلك اللحظة الخاصة التي نسميها «الآن»؛ ثم يمضي الشعاع لينتقي اللحظة التالية كي يطلق عليها الاسم عينه.
لكننا بهذا ندخل إلى عالم التخمينات. لذا، لنعاود الحديث عن النسبية …
السرعة القصوى
رأينا كيف أنه كلما تحرك المرء بسرعة أكبر، يتباطأ الزمن. وإذا بلغت سرعة الضوء، سيتوقف بك الزمن. وهذا يثير التساؤل عما سيحدث إذا واصل المرء التحرك أسرع من هذا بحيث يتجاوز سرعة الضوء، ما الذي سيفعله هذا بالزمن؟ هل سيعود المرء بالزمن إلى الوراء؟ نأمل ألا يكون الحال كذلك؛ فمثل هذه الاحتمالية من شأنها أن تسبب إرباكًا ما بعده إرباك. افترض — على سبيل المثال — أنك عدت بالزمن إلى الوراء، وبالمصادفة دهست جدتك بالسيارة، وذلك قبل أن تتاح لها فرصة أن تلد أمك. كيف لك أن توجد بينما أمك لم تولد من الأساس؟! لحسن الحظ ليس من الممكن أن يحدث هذا. فكما ذكرنا من قبل، لا شيء يمكنه الحركة بسرعة أكبر من سرعة الضوء. لكن لماذا؟
من هذه المعادلة نخلص إلى أننا لو دفعنا الجسم لمدة كافية وبالشدة الكافية، فستتزايد العجلة على نحو غير محدود، ولن تكون ثمة حدود للسرعة التي يمكن أن يصل إليها الجسم.
هل حقيقة أننا لا نستطيع التحرك بسرعة تضاهي سرعة الضوء تستبعد أي إمكانية للتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء؟ على وجه الدقة، كلا. فكل ما نقوله هو أنه من المستحيل أن نأخذ المادة التي نألفها ثم ندفعها للتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء. لكن هذا لا يستبعد تلك الإمكانية الخيالية إلى حدٍّ ما، والمتمثلة في وجود نوع ثانٍ من المادة، تُخلَّق على سرعات تفوق سرعة الضوء، وتكون قادرة على التحرك فقط بسرعات تتراوح بين سرعة الضوء واللانهائية. هذه الجسيمات الافتراضية مُنحت الاسم «تاكيون». ومنذ بضع سنوات كانت هذه الجسيمات موضوع العديد من التخمينات. وقد ذُكر — على سبيل المثال — أن الراصدين المتكونةَ أجسامُهم من مادة التاكيون سيعتقدون أن السرعات في عالم التاكيون يجب أن تكون أقل من سرعة الضوء، وأن نوع المادة الخاص بنا هو القادر على التحرك بسرعات تتراوح بين سرعة الضوء واللانهائية. لكن كفانا من هذا، فلا دليل إطلاقًا على وجود التاكيونات، وهي مجرد تخمينات لا أساس لها.
الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء
إلامَ ينبغي أن نعزو هذه الزيادة في الكتلة؟ بينما تزداد سرعة الجسم، تزداد طاقته؛ ومن ثَم فهو يكتسب طاقة حركة. من المفترض أن للطاقة كتلة، ولا يستطيع الجسم أن يكتسب المزيد من الطاقة دون أن يكتسب في الوقت عينه تلك الكتلة الإضافية المصاحبة لطاقة الحركة. لمَ يوجد حدٌّ للسرعة؟ لأن كتلة الجسم في نهاية المطاف ستقترب من اللانهائية مع اقتراب سرعة الجسم من سرعة الضوء؛ ومن ثَم يصير من المستحيل على أي قوة — مهما بلغت شدتها وطول مدة عملها — أن تزيد من سرعة جسم ذي كتلة لانهائية.
لقد خلصنا إلى هذا الاستنتاج القائل بأن ثمة حدًّا للسرعة استنادًا إلى التفكير النظري. لكن، هل تعزز هذا الاستنتاج بالنتائج العملية؟ للإجابة عن هذا السؤال سنذهب مرة أخرى إلى مختبر الفيزياء عالية الطاقة في سيرن في ضواحي جنيف بسويسرا، أو ما سواه من المختبرات العديدة المماثلة في الولايات المتحدة وأوروبا. في هذه المختبرات توجد آلات تسمى «معجلات الجسيمات» (وهي تُشتَهر على نحو خاطئ باسم «محطمات الذرات»). وظيفة هذه المعجلات هي استخدام قوى كهربية شديدة في دفع جسيمات دون ذرية ضئيلة — بروتونات أو إلكترونات — إلى التحرك بسرعات عالية. في بعض المعجلات تُوجَّه الجسيمات بواسطة مغناطيسات كهربية حول مسار دائري؛ على نحو أشبه بما يحدث حين يدير رامي المطرقة الأوليمبي مطرقته مرارًا فوق رأسه حتى تكتسب المزيد والمزيد من السرعة. وبالفعل، ثبت أن ثمة حدًّا للسرعة؛ إنه سرعة الضوء. فمع الاستمرار في دفع الجسيمات، تتزايد سرعتها ببطء نحو سرعة الضوء، بَيْدَ أنها لا تصل إليها مطلقًا، وذلك رغم الاستمرار في زيادة زخمها وصولًا إلى نقطة يعجز معها المجال المغناطيسي عن الحفاظ على الجسيمات في مسارها. عندئذٍ يصير هذا هو حد الطاقة الخاص بذلك المعجل. وللوصول إلى طاقات أعلى، علينا بناء معجلات أكبر؛ وذلك كي تتسع لمغناطيسات إضافية. وأكبر المعجلات حتى وقتنا الحالي — والقائم في سيرن — يبلغ محيطه ٢٧ كيلومترًا.
في ضوء تفسير هذه النتيجة بوصفها ناجمة عن زيادة كتلة الجسيمات، إلى أي مدًى تزداد الجسيمات ثقلًا؟ في معجل موجود في ستانفورد بكاليفورنيا، يقوم العلماء بتسريع أخف الجسيمات قاطبة — الإلكترونات — على امتداد أنبوب مستقيم طوله ٣ كيلومترات. وحين تصل الإلكترونات إلى الطرف الآخر، تكون كتلتها قد تضاعفت ٤٠ ألف مرة عما كانت عليه في بداية الرحلة. ما الذي يحدث لها نتيجة اكتسابها هذه الكتلة؟ حين تسكن حركة الإلكترونات، تفقد الطاقة التي اكتسبتها، وبالتبعية تفقد أيضًا الكتلة المكتسبة المرتبطة بهذه الطاقة؛ ومن ثَم تعود إلى كتلتها العادية في حالة السكون.
الحد الأول على الجانب الأيمن للمعادلة يمثل الطاقة الحبيسة في كتلة السكون. أما بقية الحدود فتمثل الطاقة الإضافية التي يكتسبها الجسيم خلال حركته. ستدرك أن أول هذه الحدود هو تعبير نيوتن الرياضي المألوف عن طاقة الحركة، وهو تقريب جيد لطاقة الحركة النسبية عندما تكون قيم سرعة الجسم صغيرة مقارنة بسرعة الضوء. ما نقوله إذنْ هو أن الطاقة الإجمالية للجسم هي مجموع الطاقة الحبيسة في كتلة السكون الخاصة بالجسم، مضافةً إليها الطاقة الحركية للجسم.
لكن عند التعامل مع القوى العنيفة — على غرار تلك التي تربط نَوَيَات الذرات — تصير القصة مختلفة تمامًا. ففي العمليات النووية، يصير لفوارق الكتلة أهمية بالغة. لا ريب أنك تعرف أن الذرات تتكون من نويات ثقيلة مركزية يحيط بها إلكترونات خفيفة للغاية. إن العناصر الاثنين والتسعين التي تتألف منها المادة التي نجدها في الطبيعة تتباين بعضها عن بعض من حيث عدد الإلكترونات التي تملكها (والتي يتراوح عددها ما بين إلكترون واحد إلى ٩٢ إلكترونًا)، وأيضًا من حيث حجم نوياتها. وقد وُجد أنه عند ارتطام النويات الخفيفة بعضها ببعض، فإنها أحيانًا ما تندمج مكونة نواة أثقل. وشأن الأنظمة المترابطة، بمجرد تكوُّن النواة المركبة سنحتاج إلى طاقة لفصم المكونات مجددًا. ومن هذا نستنتج أن النواتين الأصغر حجمًا لا بد وأنهما كانتا تملكان فيما بينهما في البداية طاقة أكبر من الطاقة التي صارتا تملكانها داخل النواة المركبة الأكبر؛ ومن ثَم، لا بد أن عملية الاتحاد حتمت إطلاق فارق الطاقة هذا، وهو ما يتم على صورة طاقة حرارية و/أو طاقة ضوئية. وهذه هي العملية التي تحصل بها الشمس على طاقتها، «الاندماج النووي»؛ أي اندماج النويات الخفيفة لتكوين نويات أثقل.
بما أن النواة الأثقل تملك طاقة أقل من النواتين المنفصلتين، لا بد أيضًا أن كتلتها أقل من كتلتَي الجسيمين المنفصلين. وبعض الطاقة التي كانت في البداية حبيسة على صورة كتلة سكون تحولت الآن إلى أحد تجسيدات الطاقة الأخرى، والذي يُشَع في نهاية المطاف إلى الفضاء. وبهذه الطريقة، تُحوِّل الشمس كل ثانية ٦٠٠ مليون طن من الهيدروجين إلى ٥٩٦ مليون طن من الهليوم، مع فقْدٍ مقداره ٤ ملايين طن من كتلة السكون.
ماذا عن «الانشطار النووي»؟ هذه هي العملية التي استُخدمت في أول قنبلتين نوويتين أُلقيَتا على كلٍّ من هيروشيما وناجازاكي، وهي مصدر الطاقة في جميع محطات الطاقة النووية اليوم. تعتمد هذه العملية على حقيقة أن النويات الكبيرة للغاية — كنواة اليورانيوم — تنحو إلى عدم الاستقرار. ومن الممكن أن تصير نيوتروناتها وبروتوناتها مرتبة بإحكام أكبر وعلى نحو أكثر فعالية إذا انقسمت النواة الكبيرة لتكون نواتين أصغر حجمًا، بالإضافة إلى نواتج أخرى لعملية الانشطار النووي مثل النيوترونات والإلكترونات ونبضات الضوء. تتضمن عملية الانشطار النووي التقليدية امتصاص نظير اليورانيوم — يورانيوم ٢٣٥ — نيوترونًا بحيث يصير يورانيوم ٢٣٦، والذي ينشطر عندئذٍ مكونًا عنصرَي الكريبتون ٩٢ والباريوم ١٤١، إلى جانب إطلاق ثلاثة نيوترونات وكمية من الطاقة؛ طاقة الانشطار النووي. يمكن للنيوترونات المنبعثة أن يتم امتصاصها من قِبل ذرات أخرى لليورانيوم ٢٣٥، والتي تنشطر بدورها، وهكذا ينطلق تفاعل متسلسل. وإذا وقع عدد من التفاعلات بسرعة، يحدث انفجار (القنبلة النووية)، على الجانب الآخر، إذا نُشطت عملية الانشطار على نحو محكوم، يمكن تحرير الطاقة على نحو ثابت بحيث تُستخدم هذه الطاقة لأغراض سلمية (محطات الطاقة النووية).
إن الطاقة التي يمكن الحصول عليها من الاندماج النووي للهيدروجين أكبر من تلك التي يمكن الحصول عليها من انشطار النويات الثقيلة. ولهذا السبب تكون القنابل الهيدروجينية أكثر دمارًا من سابقاتها النووية المعتمِدة على الانشطار النووي. ومنذ اختراع القنبلة الهيدروجينية والمحاولات جارية لتسخير طاقة الاندماج النووي في الأغراض السلمية، خاصة وأن الوقود المطلوب لعمليات الاندماج النووي متاح بوفرة على صورة الديوتريوم، نظير الهيدروجين الموجود بوفرة في مياه البحر. إن جالونًا واحدًا من مياه البحر يحوي طاقة تعادل ٣٠٠ جالون من النفط. ميزة أخرى يملكها الاندماج النووي على الانشطار النووي، تتمثل في أنه لا يتسبب في نفايات مشعة مضرة يجب أن يتم تخزينها على نحو آمن لفترات طويلة من الوقت. لكن مع الأسف، من العسير للغاية تسخير هذا النوع من الطاقة. إن المواد الداخلة في عملية الاندماج يجب أن تخضع لحرارة مرتفعة للغاية، تصل إلى ١٠٠ مليون درجة مئوية، وهي من الشدة بحيث تتسبب في ذوبان الوعاء الحاوي لها. ولهذا يجب أن تحاط المادة بمجالات مغناطيسية تبعدها عن جدران الوعاء الحاوي. وهذه الحالة من الصعب للغاية الحفاظ عليها. ولا تزال المحاولات جارية، ومن المؤكد أنها ستنجح يومًا ما. بَيْدَ أن توليد الطاقة على المستوى التجاري لا يزال يبدو بعيد المنال. ووفق التقديرات الحالية لن يحدث هذا قبل عام ٢٠٤٠.
رأينا كيف أن طاقة كتلة السكون يمكن تحويلها إلى أشكال أخرى من الطاقة. هل تسير هذه العملية على نحو معاكس أيضًا؟ هل يمكن مثلًا استخدام طاقة الحركة في تخليق كتلة ساكنة؟ نعم، بالفعل. وهذا أحد الأهداف الرئيسة لمعجلات الجسيمات التي تحدثنا عنها لتونا. فالجسيمات تُدفع حتى مستويات عالية من الطاقة ثم تصطدم بأهداف، أو بشعاع من الجسيمات قادم من الاتجاه المعاكس. وعادةً ما ينجم عن الاصطدام جسيمات جديدة؛ جسيمات لم يكن لها وجود من البداية. من الواضح أن القول المأثور «المادة لا تفنى ولا تُستحدث من عدم» لم يعد صحيحًا. لكن ضع في الاعتبار أننا لا نتحدث هنا عن تخليق مادة من العدم. فبجمع طاقة الحركة لكل الجسيمات النهائية ومقارنتها بالطاقة التي كانت الأجسام المقذوفة تملكها نجد أن بعض الطاقة مفقود. وهذا النقص يمكن تفسيره بواسطة مقدار كتلة السكون الجديدة التي جرى تخليقها.
ما أنواع الجسيمات التي يمكن تخليقها؟ في المقام الأول، يجب أن نذكر أننا لا نستطيع تخليق مادة جديدة بأي كمية نريدها. فهناك كتل ثابتة معينة مسموح للمادة أن تملكها. وهكذا فإن بمقدورنا أن ننتج جسيمًا كتلته ٢٦٤ مرة ضِعف كتلة الإلكترون، لكن ليس جسيمًا كتلته ٢٦٣ أو ٢٦٥ مرة ضعف كتلة الإلكترون. هذا هو جسيم البايون متعادل الشحنة الذي قابلناه من قبلُ عند الحديث عن سرعة الضوء المنبعث من مصدر متحرك. وكما ذكرنا هناك، هذا الجسيم غير مستقر ويتحلل إلى دفقتين من الضوء. إذنْ، في وقت قصير فإن طاقة الحركة الخاصة بالمقذوف، والتي تحولت إلى كتلة سكون خاصة بالبايون تعاود التحول إلى طاقة على صورة ضوء. أيضًا يعد الميون — الذي قابلناه من قبلُ عند الحديث عن اختبار الإبطاء الزمني — من الجسيمات التي تنشأ من تجارب الطاقة العالية. للميون كتلة قدرها ٢٠٧ مرات قدر كتلة الإلكترون وينتج عن تحلل البايون المشحون. والميون بدوره يتحلل إلى جسيمات أخف، مطلقًا الطاقة مجددًا.
بعض الجسيمات المخلَّقة حديثًا لها سمات لا تملكها المادة العادية التي يتألف منها عالمنا؛ سمات تحمل أسماءً ذات وقع عجيب على غرار «الغرابة» و«السحر». هذا هو عالم الفيزياء عالية الطاقة، أو كما يطلق عليها أحيانًا فيزياء الجسيمات الأساسية. إنه عالم كل ما فيه تقريبًا يتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء، وفيه تكون النسبية الخاصة هي الحاكمة. إنه عالم ينظر فيه الفيزيائيون إلى النسبية بوصفها ظاهرة يومية واقعية؛ وأمرًا منطقيًّا تمامًا.
بهذا نختم دراستنا للنسبية الخاصة. وبالعودة إلى ما طرحناه في التمهيد، سنجد أننا عدلنا بالفعل من خمسة من الأفكار المنطقية المزعومة التي بدأنا حديثنا بها. فماذا عن البقية؟