النسبية العامة
مبدأ التكافؤ
حتى الآن، استعرضنا فقط الحالات التي تكون فيها الحركة منتظمة؛ أي إن الراصد كان موجودًا داخل إطار مرجعي قصوري. أيضًا لم نضع أي اعتبار للجاذبية. والآن سنعمد إلى توسيع منظورنا كي يتضمن تأثيرات الحركة المتسارعة والجاذبية على الزمان والمكان. وفي هذا السياق الأوسع سنرى أن ما استعرضناه إلى الآن — نظرية النسبية الخاصة — ما هي إلا حالة خاصة من النظرية النسبية الأعم.
سنبدأ بالملاحظة البسيطة القائلة إنه في مجال الجاذبية — على غرار ذلك الموجود على سطح الأرض — كل الأجسام الساقطة من الارتفاع ذاته تتحرك نحو الأرض بالمعدل ذاته. في الواقع، ليست هذه الحقيقة واضحة بديهيًّا. فعند التطبيق العملي، علينا أن نضع في الاعتبار مقاومة الهواء، التي تنحو إلى إبطاء بعض الأجسام الساقطة بدرجة أكبر من سواها. فمثلًا، في حين تسقط المطرقة مباشرة نحو الأرض، تتهادى الريشة المُسقطة في الوقت ذاته في حركتها إلى أن تصل للأرض. لكن عند استبعاد تأثير مقاومة الهواء — كما حدث حين أجرى رواد رحلة أبولو ١٥ هذه التجربة على القمر — تصل المطرقة والريشة إلى الأرض في اللحظة عينها.
إذا وُضع جسم في نقطة في الفضاء ثم مُنح سرعة مبدئية هناك؛ فإن حركته التالية ستكون مستقلة عن بنيته أو تركيبه الداخلي، إذا كان خاضعًا لقوة الجاذبية فقط.
كما ذكرنا من قبل، هذه الحقيقة معروفة منذ وقت طويل. تكمن عبقرية أينشتاين في أنه اكتشف — مجددًا — أن ثمة خطأً ما، رغم أن غيره لم يلحظه. في حالة النسبية الخاصة لاحظ أينشتاين أن ثمة خطأً ما عند محاولة التوفيق بين مبدأ النسبية المعروف جيدًا والحقيقة المعروفة جيدًا بالمثل — والمشتقة من قوانين ماكسويل للكهرومغناطيسية — التي تقضي بأن سرعة الضوء ثابتة. والآن، وجد أينشتاين نفسه متحيرًا بسبب حقيقة أن هذين النوعين المتمايزين فيما يبدو من «الكتلة» لهما نفس القيمة؛ ومن ثَم، تساءل كيف تأتَّى لقوة الجاذبية أن «تعرف» مقدار الشدة الذي يجب أن تجذب به جسمين مختلفين للغاية بحيث تجعلهما يتسارعان بالمعدل ذاته؟ وعلى أي حال، «لماذا» تريد الجاذبية أن يتسارع الجسمان بالمعدل ذاته؟ ما هو المغزى من وراء هذا؟ وبهذه الطريقة خلص أينشتاين إلى أنه لا بد من وجود رابط وثيق ودقيق بين الجاذبية من ناحية، والعجلة من ناحية أخرى.
لمعرفة ما يمكن أن يكون عليه هذا الرابط، دعونا نتخيل أننا ألقينا المطرقة والريشة في مصعد؛ بحيث يمثل المصعد الإطار المرجعي الذي يمكن تسريع حركته بسهولة في الاتجاه الرأسي. ولنفترض أنه في اللحظة التي أفلتنا فيها المطرقة والريشة، انقطع حبل المصعد وبدأ المصعد نفسه في السقوط. سيسقط المصعد بنفس المعدل الذي يسقط به الجسمان الآخران، ولأنها جميعًا تسقط معًا، يعني هذا أن مواضعها النسبية بعضها لبعض لا تتغير. من منظور الراصد الموجود في المصعد، عندما يفلت المطرقة والريشة، ستظلان حيثما هما نسبة إليه، ولن ينتهي بهما الحال بالسقوط على أرضية المصعد. بعبارة أخرى: سيبدو لهذا الراصد أن الجاذبية قد عُطلت. وستكون محتويات المصعد «عديمة الوزن». (نفترض هنا أن الراصد يدرك أن مكابح الطوارئ ستؤدي عملها في نهاية المطاف؛ ولهذا سيكون قادرًا على التركيز على المشكلات الفيزيائية المعقدة بدلًا من القلق على سلامته.)
من المألوف أكثر التعرض لفكرة انعدام الوزن في سياق دوران رواد الفضاء حول الأرض في الفضاء الخارجي. من الشائع الاعتقاد بأن سبب انعدام وزنهم هو وجودهم في الفضاء بعيدًا عن قوة الجاذبية الخاصة بالأرض والشمس. بَيْدَ أن هذا ليس صحيحًا. فانعدام الوزن يمكن حدوثه بينما مركبة رائد الفضاء تدور حول الأرض. وحقيقة أن المركبة تدور في مدار — بدلًا من أن تنطلق بعيدًا في الفضاء في خط مستقيم — تخبرنا على الفور بأن المركبة، ورائد الفضاء داخلها، خاضعان لقوة الجاذبية الأرضية. إن السبب الحقيقي لحالة انعدام الوزن هنا هو أن المركبة في حالة سقوط حر تحت تأثير الجاذبية الأرضية، تمامًا كشأن الراصد الموجود في المصعد الساقط. وسبب عدم اصطدام المركبة بالأرض هو أن قوة الجاذبية جميعها تُستهلك في تحويل الحركة المعتادة على خط مستقيم إلى الحركة المدارية التي نلحظها؛ ومن ثَم يمكن القول بأنه لا يتبقى منها ما يكفي لجذب رائد الفضاء إلى سطح الأرض؛ وبذا يبدو رائد الفضاء وكأنه «يطفو بلا وزن» حول مدار الأرض.
على نحو مشابه، بمقدورنا تخليق «قوة جاذبية» صناعية عن طريق التسارع المناسب. افترض — مثلًا — أنه أثناء طفو المركبة قرر رائد الفضاء أن يغفو قليلًا، وأنه بينما هو نائم عملت محركات المركبة. عند استيقاظه، سيشعر بقوة جذب ناحية مؤخرة المركبة، وأي شيء غير مثبت بإحكام سيُرى وهو ينساق نحو المؤخرة. ما الذي سيستنتجه رائد الفضاء؟ يمكنه سماع هدير المحركات؛ ومن ثَم سيدرك أن أحد تفسيرات ما يحدث هو أن المركبة تتحرك. لكنَّ هناك سيناريو بديلًا؛ ماذا لو أنه بينما كان رائد الفضاء نائمًا، دخلت المركبة نطاق أحد الكواكب من جهة المؤخرة، وأن محركات المركبة تعمل فقط كي تحافظ على موضعها نسبةً إلى الكوكب؟ لو صح هذا، فلن تتسارع حركة المركبة، بل ستكون ساكنة في موضعها، وسيكون السلوك المرصود في كابينة المركبة جميعه نابعًا من تأثير قوة جاذبية الكوكب. وسيكون من المستحيل على رائد الفضاء أن يميز بين البديلين: (١) عجلة منتظمة في الفضاء الخارجي، أو (٢) البقاء ساكنًا تحت تأثير قوة جاذبية كوكب قريب. وهذا ينشأ من مبدأ «التكافؤ الضعيف»، الذي ينص على أنه ليس بمقدور المرء أن يميز بين الحركة تحت تأثير الجاذبية والحركة تحت تأثير العجلة؛ إذ إنهما متساويتان؛ ومن ثَم، يعد مبدأ التكافؤ الضعيف في جوهره مساويًا لمبدأ عمومية السقوط الحر.
لكن لماذا سُمي بالمبدأ «الضعيف»؟ لأن ثمة نسخة أخرى منه تسمى «مبدأ التكافؤ القوي»، لأن ثمة نسخة أخرى «جميع» صور السلوك المادي (وليس فقط الحركة) هي ذاتها، سواءٌ تحت تأثير الجاذبية أو العجلة.
لكن ليس لهذا تأثير يُذكر على ما نتحدث عنه هنا. المهم في الأمر أنه بسبب مبدأ التكافؤ، إذا رغبنا في استكشاف ما ستكون عليه تأثيرات الجاذبية في موقف بعينه، يمكننا إحلال العجلة محلها لو كان هذا ملائمًا أكثر، وبالمثل، إذا رغبنا في استكشاف تأثيرات العجلة، يمكننا التفكير فيها بوصفها قوة جاذبية مكافئة. أحيانًا يعد مبدأ الجاذبية بمثابة السلف الأول للنسبية العامة؛ تلك النظرية التي تتجاوز إلى حدٍّ بعيد حدود ذلك المبدأ.
تأثيرات العجلة والجاذبية على الزمن
وبالمثل، إذا كان المصدر موضوعًا عند قمة المركبة والهدف موضوع عند قاعدتها، فمن واقع مبدأ التكافؤ أيضًا علينا أن نستنتج أن الراصد الموجود عند القاعدة سيتلقى النبضات بمعدل أسرع (إذ إن المصدر المتسارع المكافئ الآخذ في الاقتراب منه سيمنحه ترددًا أسرع مزاحًا وفق قاعدة دوبلر). هذا هو «الانزياح الأزرق الجذبوي»؛ وبذا، فإن الراصد الموجود عند أرضية المركبة سيتفق مع الراصد الموجود عند سقفها في أن ساعته تسير على نحو أبطأ من نظيره.
لاحظ أن هذه نتيجة مختلفة عن النتيجة التي وصلنا إليها بشأن ظاهرة الإبطاء الزمني النابعة من الحركة النسبية. في تلك الحالة، كان كل راصد من الراصدَين مؤمنًا بأن ساعة الراصد الآخر هي التي تسير على نحو أبطأ من ساعته؛ وذلك لأن الموقف كان متماثلًا على نحو تام؛ إذ لم يكن ثمة سبيل لمعرفة أيهما كان يتحرك «حقًّا». لكن الموقف الذي بين أيدينا الآن ليس متماثلًا بين الراصدَين؛ فهما متفقان بشأن أيهما أبعد عن مجال الجاذبية وأيهما أقرب له.
خرج أينشتاين بتنبُّئه بوجود انزياح تردد جذبوي في عام ١٩١١. وقد وردت أولى الإشارات التجريبية عن وجود انزياح أحمر جذبوي من دراسة أطياف الضوء المنبعث من النجوم القزمة البيضاء. للأقزام البيضاء كتلة تعادل كتلة الشمس، لكنها منضغطة بدرجة كبيرة — أصغر بحوالي ١٠٠ مرة — ومن ثَم يكون لها مجال جاذبية قوي على السطح. وبعد فترة من الوقت، في الستينيات، تمكن فريق من جامعة برينستون من قياس انزياح الضوء الوارد من الشمس. بَيْدَ أن أقوى التأكيدات الواردة من الدراسات الفلكية جاء من النجوم النيوترونية. هذه النجوم لها كتلة قدرها ١٫٤ مرة قدر كتلة الشمس، لكن نصف قطرها يبلغ نحو ١٠ كيلومترات وحسب؛ ومن ثَم فإن قوة الجاذبية على سطحها مهولة. وفي عام ٢٠٠٢، رصد التليسكوب الفضائي إكس إم إم نيوتن، التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، الانزياح الذي تعرضت له الأشعة السينية المنبعثة من أحد النجوم النيوترونية، والمارة عبر غلافه الجوي الذي لا يتجاوز السنتيمتر الواحد، وقد وُجد أن الانزياح في التردد بلغ ٣٥٪.
تم التحقق من هذا التأثير أيضًا من خلال إرسال ساعات ذرية إلى ارتفاعات عالية على متن طائرات. في السابق، ذكرنا كيف تم التحقق من معادلة الإبطاء الزمني الذي تُمليه النسبية الخاصة باستخدام طائرة. في الواقع، كان الموقف أكثر تعقيدًا بكثير مما أشير إليه ها هنا. كان هناك عاملان مؤثران: أحدهما هو سرعة الساعة الموضوعة على الطائرة نسبة إلى الساعة الموجودة على سطح الأرض، والثاني — التأثير الجديد — هو ارتفاع الطائرة فوق الساعة الموجودة على الأرض. هذان التأثيران مشابهان أحدهما للآخر ويجب فك الارتباط بينهما. من الناحية العملية، قام عالمان تجريبيان — هما جيه سي هافيل وآر إي كيتينج — في عام ١٩٧١ بوضع ساعة على طائرة تطير حول العالم باتجاه الشرق، فيما وُضعت أخرى على طائرة تطير حول العالم باتجاه الغرب. ثم قورنت القراءتان المسجلتان بقراءة ساعة ثالثة موجودة في المرصد البحري الأمريكي. ورغم أن الطائرتين كانتا تطيران بالسرعة عينها نسبة إلى سطح الأرض، فإنه بسبب سرعة دوران الأرض حول نفسها كانت الطائرتان بالفعل تطيران بسرعتين مختلفتين نسبة إلى الراصد الموجود داخل الإطار القصوري والموجود — مثلًا — في مركز الأرض. وبسبب دوران الأرض حول نفسها، كانت الساعة الموجودة على سطح الأرض هي الأخرى تتحرك نسبة إلى الراصد الموجود داخل الإطار القصوري؛ وذلك بسرعة تتوسط السرعتين اللتين تتحرك بهما الطائرتان. وفي رحلتَي الطائرتين تم الاحتفاظ بسجل لكلٍّ من السرعة والارتفاع. وقد مكَّن هذا من عمل الحسابات الخاصة بمقدار الفقد أو الزيادة المتوقع في زمن الساعتين الموضوعتين على الطائرتين مقارنة بتلك الموجودة على سطح الأرض. كان من المفترض أن تكتسب الساعة المتجهة شرقًا ١٤٤ ± ١٤ نانو ثانية بسبب الانزياح الأزرق الجذبوي، وأن تفقد ١٨٤ ± ١٤ نانو ثانية بسبب الإبطاء الزمني؛ بحيث يكون الصافي فقْدًا قدره ٤٠ ± ٢٣ نانو ثانية. وقد أثبتت النتائج التجريبية وجود فقْد قدره ٥٩ ± ١٠ نانو ثانية. في الوقت ذاته، كان من المتوقع للطائرة المتجهة غربًا أن تكسب زمنًا قدره ١٧٩ ± ١٨ نانو ثانية بسبب الجاذبية، إضافة إلى مكسب آخر قدره ٩٦ ± ١٠ نانو ثانية بسبب الإبطاء الزمني؛ بحيث يكون الصافي ٢٧٥ ± ٢١ نانو ثانية. وقد توافقت الحسابات توافقًا طيبًا مع النتيجة التجريبية التي بينت وجود زيادة قدرها ٢٧٣ ± ٧ نانو ثانية.
ليس الانزياح الأحمر الجذبوي صغيرًا على الدوام. وكما سنرى لاحقًا، فإن الجاذبية المرتبطة بالثقوب السوداء قوية للغاية لدرجة أنها قادرة على إيقاف الزمن تمامًا.
عودة إلى معضلة التوأمين
في ضوء معرفتنا بتأثيرات العجلة/الجاذبية على الساعات، سنعاود النظر إلى معضلة التوأمين.
أوضحنا سلفًا كيف أن رائد الفضاء بعد أن ترك توأمه على الأرض وسافر صوب كوكب بعيد، عكس حركة مركبته حتى يعود إلى الأرض كي يقارن الساعتين على نحو مباشر لا غموض فيه. وقد فعل هذا من خلال تشغيل محركات مركبته، وهو ما جعله يقع تحت تأثير العجلة. وعلى النقيض، طيلة الفترة التي كانت المركبة واقعة فيها تحت تأثير العجلة، لم يشعر مسئول المراقبة بشيء. وهذه هي الكيفية التي انهار بها التناظر بين رائد الفضاء ومسئول المراقبة. وعليه فإن مسئول المراقبة هو الوحيد الذي أطاع شرط البقاء طوال الوقت داخل إطار قصوري. ولهذا السبب، وحدها حساباته هي الصحيحة، وهذه الحسابات تحديدًا تفيد أن رائد الفضاء سيعود من الرحلة وعمره أصغر من عمر مسئول المراقبة.
من السهل التحقق من الأمر كميًّا بالاستعانة بطريقة إزاحة دوبلر. (هذا ما سنناقشه في الجزء المتبقي من هذا القسم، ويمكنك إغفال هذا الجزء والانتقال مباشرة للجزء التالي إن رغبت في ذلك.)
لنفترض أن ساعة مسئول المراقبة تطلق نبضات بمعدل تردد قدره نبضة واحدة في الثانية (وذلك من منظور مسئول المراقبة). وسيستطيع رائد الفضاء من خلال عد نبضات الضوء التي سيتلقاها من الساعة الأخرى من متابعة كيفية سيرها.
كم عدد النبضات التي سيتلقاها رائد الفضاء بحلول وقت عودته إلى الأرض؟
انحناء الضوء
رأينا بالفعل، من خلال مبدأ التكافؤ، كيف أن العجلة والجاذبية ينتجان تأثيرات متكافئة على حركة الأجسام المختلفة على غرار المطرقة والريشة. لكن ماذا عن حركة شعاع الضوء؟ نحن معتادون على فكرة أن الضوء ينتقل في خطوط مستقيمة، لكن هل يصح هذا تحت تأثير الجاذبية، أو في إطار مرجعي متسارع؟
لاستكشاف الأمر، تخيل تجربة أخرى تتضمن مصدرًا نابضًا للضوء وهدفًا موضوعَين على متن مركبة فضائية. لكن هذه المرة، المصدر والهدف موضوعان على نحو مماثل تمامًا لما كانا عليه في التجربة الأولى. بعبارة أخرى: من المفترض أن ينطلق شعاع الضوء بزاوية عمودية على اتجاه حركة المركبة.
لو أننا استعضنا عن العجلة (التسارع) بمجال جاذبية مكافئ؛ بحيث يُعتبر الحائط الخلفي للمركبة بمثابة «الأرضية» مجددًا والمقدمة المخروطية بمثابة «السقف»، فإن رائد الفضاء سيخلص إلى أن نبضة الضوء «سقطت» في اتجاه الأرضية، شأنها شأن أي جسم آخر يُطلق عبر المركبة في اتجاه الهدف لكن ينتهي به الحال وقد سقط ناحية أرضيتها؛ ومن ثَم يخطئ الهدف.
هذه التجربة، إلى جانب غيرها من التجارب التي أجريت خلال مواقف الكسوف الشمسي، خرجت بقياسات لهذا التأثير في حدود دقة لا تتجاوز العشرين بالمائة. لكن خلال الفترة بين عامَي ١٩٨٩ و١٩٩٣، تمكَّن التليسكوب هيبارخوس التابع لوكالة الفضاء الأوروبية من إجراء قياسات عالية الدقة لمواضع النجوم. ولأن هذا التليسكوب كان فوق الغلاف الجوي للأرض، فقد كانت النجوم مرئية له طوال الوقت، ولم يكُ ثمة حاجة لانتظار كسوف شمسي. وقد تأكد حدوث انحناء الضوء حتى حدود دقة قدرها ٠٫٧٪. وبينما كان على القياسات الأرضية أن تركز على ضوء النجوم الذي يمس حافة الشمس، حيث تكون الجاذبية في أقوى صورها، تمكَّن هيبارخوس من رصد انحناء الضوء حتى لتلك النجوم الواقعة بزاوية قدرها ٩٠ درجة على اتجاه الشمس.
يأخذنا انحناء الضوء إلى ظاهرة مثيرة للاهتمام تُدعى «عدسة الجاذبية». فليست الشمس وحدها، بل المجرة أيضًا — وفي واقع الأمر العناقيد المجريَّة — يمكنها أن تكون مصدرًا للجاذبية، بحيث تحني وتشوه الضوء الآتي من الأجرام الساطعة البعيدة الواقعة خلفها. ففي عام ١٩٧٩، رُصد ما يبدو كأنه نجمان زائفان (كوازار) قريبان أحدهما من الآخر (النجوم الزائفة هي مصادر شديدة السطوع للضوء موجودة في مجرات ضخمة حديثة التكون). لكن اتضح أن الصورتين للنجم الزائف نفسه؛ إذ إن الضوء القادم من هذا النجم الزائف تعرض للتشويه بواسطة مجرة تقع على امتداد خط الرؤية إليه، وبهذا عملت هذه المجرة المتداخلة عمل العدسة؛ بحيث سببت انحناء ضوء النجم الزائف. ولو كان مصدر الضوء والمجرة المسببة للعدسة ونحن على الخط نفسه بالضبط، فسيلتف الضوء القادم من المصدر على نحو منتظم حول المجرة محدثًا حلقة، ويطلق عليها أحيانًا حلقة أينشتاين. لكن هذا هو الموقف المثالي. فبسبب الانحراف قليلًا عن خط الرؤية، ولكون المجرة المسببة للعدسة غير منتظمة كرويًّا، عادةً ما نرى صورًا مشوهة وصورًا متعددة لمصدر الضوء. هذا يطلق عليه عدسة الجاذبية القوية، وإلى وقتنا الحالي يوجد ما يربو على المائة مثال عليها. إضافة إلى ذلك، هناك العدسية الدقيقة، التي تحدث عندما يعمل نجم وحيد عمل العدسة للضوء القادم من نجم آخر بعيد موجود على نفس خط الرؤية الخاص به. في مثل هذه الحالات، نرى الضوء القادم من المصدر وقد سطع فجأة لوهلة بينما كان يمر بخط الرؤية الخاص بالنجم المتداخل، إذ يعمل الأخير عمل العدسة المكبرة. في الواقع، كشفت عمليات تضخيم كهذه في عام ٢٠٠٤ عن أن النجم البعيد يدور حوله كوكب يبلغ حجمه مرة ونصف قدر حجم المشترِي. وكان هذا أول كوكب من الكواكب الموجودة خارج المجموعة الشمسية يُكتشف بهذه الطريقة.
جدير بالذكر أن نيوتن تنبأ منذ زمن بعيد بأن من شأن الضوء أن ينحني في أي مجال جاذبية، وإن كان هذا على أسس مختلفة تمامًا عن تلك التي بنى عليها أينشتاين تنبؤه. فقد بنى نيوتن فكرته على النظرية الجسيمية للضوء، التي تقضي بأن الضوء يتألف من تيار من الجسيمات الدقيقة التي تنتقل بسرعة الضوء. وفي ظل تلك الظروف، لنا أن نتوقع أن هذه الجسيمات ستنجذب نحو الشمس؛ ومن ثَم تنحرف عن مسارها. إلا أن مقدار الانحراف هذا يبلغ نصف المقدار الذي تتنبأ به نظرية أينشتاين، والذي تم التحقق منه تجريبيًّا. ليس هذا وحسب، بل إن النظرية الجسيمية التي اعتنقها نيوتن كانت تتعارض مع النظرية الموجية في وصف الكيفية التي ينتقل بها الضوء عبر الفضاء.
الفضاء المنحني
إذنْ، ما دام أينشتاين لم يعتبر الضوء بمثابة تيار من الجسيمات ينجذب — شأن أي نوع آخر من الجسيمات — بفعل قوة الجاذبية، فما الصورة الفيزيائية التي طورها بغرض اختبار وفهم ما يحدث على أرض الواقع؟
سنعود إلى تجربة إسقاط المطرقة والريشة. في ضوء أن كلًّا منهما تملك كتلة مختلفة عن الأخرى، رأينا أن الجاذبية يتعين عليها أن تجذبهما بقوة متباينة كي تجعلهما تتسارعان نحو الأرض بالطريقة عينها تمامًا. وقد أثار هذا تساؤلًا مفاده: كيف تعرف الجاذبية مقدار الشدة الذي يجب أن تجذب به كلًّا منهما بحيث يسلك الاثنان السلوك عينه؟ وعلى أي حال، لماذا تريد قوة الجاذبية أساسًا منهما أن يسلكا على هذا النحو؟
الأمر عينه يحدث حين يخرج رائد الفضاء من مركبته. إن المركبة تدور حول الأرض حين تكون محركاتها مطفأة؛ أي إنها في حالة سقوط حر. وحين يخرج رائد الفضاء منها ويطفو إلى جوارها في الفضاء فهو أيضًا يدور حول الأرض، في نفس مدار المركبة حول الأرض تقريبًا. ومجددًا، تتسبب الجاذبية الصادرة عن الأرض في السلوك نفسه لجسمين مختلفين تمامًا. فبدلًا من التحرك في خط مستقيم بسرعة ثابتة، فإن قوة الجاذبية تجتذب رائد الفضاء الذي يطفو في الفضاء والمركبة الفضائية بالطريقة نفسها تقريبًا؛ بحيث تجبر الاثنين على التحرك في مسار منحنٍ؛ المسار المنحني ذاته.
كانت استجابة أينشتاين لهذه المعضلة هي اقتراح أنه في وجود جسم جاذب، فإن الحركة «الطبيعية» لأي جسم حوله «ليست» البقاء في سكون أو الحركة بسرعة ثابتة في خط مستقيم، وإنما اقترح أينشتاين أنه قرب الأجسام الجاذبة ككوكب الأرض يكون الفضاء نفسه مشوهًا. فهو منحنٍ بطريقة تجعل المسار الطبيعي للأجسام التي تدور حول الجسم يكون ذلك المسار الذي نرصده: أي المدار الذي يتبعه رائد الفضاء وهو خارج المركبة والمركبة حول الأرض.
يمكن تصور الموقف وكأننا في حلبة دائرية ذات سطح مائل لسباق سيارات. في مثل هذا النوع من الحلبات يمكن لسيارتين مختلفتين للغاية أن تدورا حول الحلبة دون الحاجة سوى لتوجيه قليل للغاية من السائقَين؛ وذلك لأن السيارتين مدفوعتان للسير في المسار المنحني؛ بسبب ميل مستوى سطح الحلبة عند الأطراف. إن سطح الحلبة مشوه أو منحنٍ بحيث لم يعد من «الطبيعي» للسيارة أن تواصل السير في خط مستقيم. أيضًا لم تعد السيارة بحاجة إلى قوة موجهة كي تغير اتجاه حركتها. إن «التوجيه» يوفره سطح الحلبة المهيأ على هذا النحو.
ما يقوله أينشتاين إذنْ هو أننا لسنا بحاجة للاستعانة بقوة — قوة الجاذبية — لإبقاء رائد الفضاء والمركبة في مدارهما حول الأرض. ليست هناك قوة بحاجة للضبط الدقيق بحيث تبقي الأجسام ذات الكتل المختلفة على المسار ذاته. بدلًا من ذلك، يتبع كلٌّ من رائد الفضاء والمركبة المسار الطبيعي الذي ستتبعه «كل» الأجسام لو أنها بدأت من الموضع ذاته وبالسرعة ذاتها؛ وبذا استعاض أينشتاين بالكامل عن فكرة قوى الجاذبية بمفهوم جديد تمامًا هو مفهوم «الفضاء المنحني».
كان الأمر غاية في البساطة. لكن بالطبع بشرط أن يستطيع المرء الإلمام في عقله بفكرة الفضاء المنحني! وهذا ليس بالأمر السهل، خاصة وأننا اعتدنا التفكير في الفضاء بوصفه مرادفًا ﻟ «العدم». كيف يكون العدم منحنيًا؟
الجواب في نظر الفيزيائيين هو أن الفضاء ليس كالعدم. بل يُنظر للفضاء بوصفه متَّصلًا سلسًا منتظمًا، يمكن تشبيهه بطبقة رقيقة للغاية من الجيلي. وعندما نضع في اعتبارنا لاحقًا علم كونيات الانفجار العظيم، سنجد أن جميع العناقيد المجرية تتحرك مبتعدة بعضها عن بعض. ليس هذا راجعًا إلى أنها تتمدد فيما كان في السابق فضاءً شاغرًا — أو عدمًا خاويًا — وإنما الحقيقة هي أن الفضاء نفسه هو الذي يتمدد، وبالتبعية يحمل معه المجرات في مدٍّ من الفضاء المتحرك. ومرة أخرى، عند التعرض لدراسة فيزياء الكم، نكتشف أن الفيزيائيين يرون أن الفضاء مكتظ بجسيمات أساسية «افتراضية»، بعضها يظهر إلى الوجود من وقت لآخر. هذا أحد التأثيرات. ويتمثل تأثير آخر في أن الشحنة الكهربية التي يحملها الإلكترون — مثلًا — تتنافر مع شحنات الإلكترونات الافتراضية التي يتألف منها الفراغ الملاصق لها، وهو ما يتسبب في دفع هذه الجسيمات الافتراضية بعيدًا.
وهكذا نرى أن محيط الدائرة يكون أقل من ٢ ط نق.
لاحظ أن الدائرتين والمثلثين، المرسومة على السطحين المقوسين، كانت أحجامها متشابهة نسبة إلى الحجم الكلي للكرة أو السرج. ولو أننا حصرنا انتباهنا في الدوائر والمثلثات الصغيرة للغاية، كنا لنحصل على نتائج مختلفة بدرجة كبيرة. فعلى المستويات الصغيرة للغاية حتى الأسطح المنحنية تميل إلى أن تكون مستوية، وفي هذه الحالة تصح الهندسة الطبيعية الخاصة بالأسطح المستوية ولو على نحو تقريبي، وهذا التقريب يتحسن كلما كان النطاق أصغر.
ما نعلمه إذنْ من هذه الدراسة الموجزة للفضاء المنحني الثنائي الأبعاد، هو أننا نحصل على نتائج تختلف عن النتائج التي تقدمها لنا الهندسة الإقليدية المستوية المعتادة، رغم أننا كلما درسنا الأشكال على مستوًى أصغر، صارت أقرب إلى حالة الهندسة المستوية. وسنستعين بهذه النتائج عند تدبرنا لما يعنيه وجود فضاء منحنٍ «ثلاثي» الأبعاد.
في البداية، من المستحيل أن نتصور ذهنيًّا شكل الفضاء المنحني الثلاثي الأبعاد. في حالة الفضاء الثنائي الأبعاد كان الأمر يسيرًا؛ لأن لدينا بُعدًا ثالثًا نستطيع تصور التقوس أو الانحناء وهو يحدث فيه. لكن أين البعد المكاني الرابع الذي سيحتوي «انحناء» الأبعاد الثلاثة؟
لذا انسَ أمر تصور الانحناء ذهنيًّا. بدلًا من ذلك نحن نعرِّف الفضاء بوصفه منحنيًا ما دامت الهندسة «داخل» ذلك الفضاء تختلف عن الهندسة الإقليدية. فعلى أي حال، لن يحتاج الذباب الذي يزحف على سطح الكرة أو السرج أن ينظر إلى ذلك السطح من علٍ كي يستنتج أنه سطح منحنٍ. فبمقدوره التوصل إلى ذلك الاستنتاج ببساطة من خلال إجراء بعض القياسات على المثلثات والدوائر داخل السطح نفسه. وهذه هي الكيفية التي سنستكشف بها هندسة الفضاء الثلاثي الأبعاد؛ ليس بواسطة وضع أنفسنا في موضع خارج الفضاء الثلاثي الأبعاد بشكل ما من أجل الحصول على نظرة كلية له، وإنما بواسطة إجراء بعض القياسات داخل الفضاء نفسه.
نعرف بالفعل — من تجارب انحناء الضوء ومن دوران المركبة ورائد الفضاء خارجها حول الأرض — أن الفضاء ينحني بالمقدار الذي تؤثر به الأرض والشمس والمجرة. فهذه الأجرام أشبه بغمازات منتشرة على امتداد السطح العريض الذي يؤلف الفضاء بأكمله. لكن إجمالًا، هل هذه الغمازات موجودة على سطح مستوٍ أم كروي أم على شكل سرج أم ماذا تحديدًا؟ سنعاود الحديث عن هذا الموضوع لاحقًا؛ حين نتدبر الكون إجمالًا.
رأينا من قبل كيف أن وجود جسم جاذب يؤثر على الزمن (الانزياح الأحمر الجذبوي)، والآن نرى أنه يؤثر أيضًا على المكان. ومع الوضع في الاعتبار كيف أن النسبية الخاصة قادتنا إلى استنتاج أن المكان والزمان يؤلفان زمكانًا رباعي الأبعاد، نخلص من هذا الآن إلى أنه لا يجدر بنا فقط التفكير في فضاء منحنٍ، بل في «زمكان منحنٍ». فمحور الزمن إضافة إلى المحاور المكانية الثلاثة الأخرى تتأثر كلها بوجود جسم جاذب.
تحدثنا سابقًا عن أن الأجسام تتبع «مسارات طبيعية» عبر الزمكان المنحني. والاسم الفعلي الذي يطلق على هذه المسارات هو «الخطوط الجيوديسية». والخط الجيوديسي هو المسار الذي يتبعه الجسم في حالة السقوط الحر، ونقصد الجسم الذي لا يخضع لأي قوى غير جذبوية، مثل التأثيرات الكهربية والمغناطيسية (التأثيرات الجذبوية موضوعة بالفعل في الحسبان من خلال انحناء الزمكان). وبعبارة أخرى: في النسبية العامة، يحل الخط الجيوديسي محل الخط المستقيم في الهندسة الإقليدية المعتادة أو في النسبية الخاصة؛ وبذا، حين ينحني الضوء القادم من أحد النجوم قرب الشمس، فهو بهذا يتبع خطًّا جيوديسيًّا.
بالمناسبة، لا تدع مسمى «الزمن الحقيقي» يضللك؛ فهو لا يعني بصورة ما أن هذا هو الزمن الفعلي، الصحيح، وأن غيره من الأزمنة ليس صحيحًا! أكرر هنا ما قلته من قبل عندما شرعت في تقديم الأفكار النسبية عن الأطوال والأزمنة: إن كل تقديرات المسافة والزمن مرتبطة بمنظور راصد بعينه؛ فما من وجود لمسافة أو فترة زمنية موضوعية ومستقلة عن منظور أي راصد؛ ولا وجود لما يمكن تسميته المسافة أو الزمن «المتفق عليه».
نقطة أخرى تستحق الذكر؛ هي أنه رغم أننا قدمنا فكرة الخطوط الجيوديسية في سياق مناقشتنا لتأثيرات الجاذبية، فإنها تنطبق على نحو عام وشامل؛ حتى على الحالات التي لا تشتمل على الجاذبية. ليس الأمر أننا نستخدم «الزمن الحقيقي الأقصى» في حالة، و«أقصر مسافة بين نقطتين» في حالة أخرى. ففي غياب الجاذبية، فإن الخطوط الجيوديسية التي تتسم بأن لها الزمن الحقيقي الأقصى يتفق أنها تتسم أيضًا بكونها أقصر مسافات مكانية.
إن أساس النسبية العامة هو أن المادة تُملي على الفضاء كيف ينحني، والفضاء يُملي على المادة كيف تتحرك. فالفضاء لم يعد يُنظر إليه بوصفه خشبة مسرح يؤدي عليها الممثلون — المادة والأجسام والضوء — أدوارهم، بل صار للفضاء نفسه دورٌ يلعبه.
قد تخال أنه لا بأس بكل هذا، وأن فكرة قوى الجاذبية قد حلت محلها فكرة الفضاء أو الزمكان المنحني. لكن أليس هذا محض تفضيل شخصي بشأن الكيفية التي يختار بها المرء أن يرى الأمور؟ ألا يستطيع المرء التمسك بفكرة نيوتن عن قوى الجاذبية لو أنه رغب في ذلك؟
في أغلب المواقف اليومية، تنطبق نظرية نيوتن حتى مستوًى ملائم للغاية من الدقة. وحتى عند حساب مدارات الأقمار الصناعية، من المُواتي استخدام قانون التربيع العكسي للجاذبية. فمن الناحية الرياضية، نظرية نيوتن أسهل كثيرًا في تناولها من النسبية العامة؛ ولهذا السبب وحده سيستمر الفيزيائيون في الحديث عن قوى الجاذبية وسيستخدمون قانون نيوتن. ومع ذلك، هم يدركون أن النسبية العامة تقدم تنبؤات أدق وأنها سبيلٌ أرقى لفهم الفيزياء. فرغم أن قانون نيوتن يعد «وصفة» مفيدة لحل أغلب المشكلات — تلك التي تتضمن الجاذبية الضعيفة والسرعات الأقل بكثير عن سرعة الضوء — فإنه لا يقدم أفكارًا كثيرة عما يحدث بالفعل. ليست النسبية العامة مجرد تفسير هندسي اختياري للجاذبية، وقد لمسنا جانبًا من هذا بالفعل حين أوضحنا أن نظرية نيوتن تنبأت بانحناء ضوء النجوم قرب الشمس — وذلك على افتراض أن الضوء مؤلف من جسيمات — بَيْدَ أنها تنبأت بمقدار خاطئ، أما النسبية العامة فتنبأت بمقدار الانحناء الصحيح.
لاحظ أن التأثير الذي نتحدث عنه هنا يتضمن قياسات زمنية؛ ومن ثَم فهو دليل على أن الزمكان — وليس الفضاء (المكان) وحده — هو الذي ينحني قرب الأجسام ذات الجاذبية.
نقطة أخيرة تستحق الذكر؛ رأينا في مختلِف التجارب التي أُجريت لاختبار النسبية العامة (الانزياح الأحمر الجذبوي، انحناء الضوء، عدسة الجاذبية، تقصي نبضات الرادار بالقرب من الشمس، بدارية حضيض عطارد) أننا كنا نبحث عن تأثيرات صغيرة؛ انحرافات طفيفة عما هو متوقع وفقًا لقوانين نيوتن للجاذبية. بَيْدَ أن هذا يجب ألا يغرينا بالاعتقاد بأن النسبية العامة معنية فقط بالتفاصيل الدقيقة التافهة. فالنسبية العامة تفسر «كل» التأثيرات الجذبوية، بما فيها تلك التي يمكن أن تتناولها قوانين نيوتن؛ ومن ثَم، لا تفسر النسبية بدارية حضيض مدار عطارد وحسب، بل تفسر أيضًا سبب بقاء عطارد وجميع الكواكب الأخرى في مداراتها من الأساس.
الثقوب السوداء
لكن مجددًا دعوني أؤكد على أنه رغم كون هذه المخططات مفيدة في تصور ما يحدث في الواقع، فإننا من الناحية العملية لا نرى الفضاء الثلاثي الأبعاد وهو ينحني داخل بُعد مكاني آخر من نوع ما. بدلًا من ذلك علينا الاعتماد على الخصائص الجوهرية للفضاء نفسه. ما الذي يعنيه هذا إذنْ؟ سنتناول مثالًا محددًا عن جسم متناظر كرويًّا كالشمس ونتساءل: كيف له أن يؤثر على الزمكان من حوله؟
ما علاقة هذا بسرعة الضوء؟ تخيل أن نبضة من الضوء تنطلق من الساعة مبتعدة عن مجال الجاذبية ومتجهة نحو الراصد. تبدأ النبضة في منطقة يكون الزمن فيها قد تباطأ. يعني هذا أن كل شيء يحدث هناك تباطأت سرعته من منظور الراصد البعيد. وهذا يسري على سرعة الضوء؛ فتأخذ وقتًا أطول كي تقطع مسافة كل مسطرة من المساطر الموضوعة على امتداد المسافة إلى الراصد. لكن ليس الزمن وحده هو ما يتباطأ في منطقة الساعة، بل ينضغط المكان أيضًا في الاتجاه الشعاعي الذي تتحرك النبضة فيه. يعني هذا أنه من منظور الراصد البعيد يقطع الضوء مسافة تقل عن المتر في كل مرة يجتاز فيها مسطرة طولها متر. وهذا عامل ثانٍ يؤدي إلى إبطاء نبضة الضوء. وبذا يكون على الضوء أن «يجر» نفسه مبتعدًا عن الشمس.
رأينا كيف أن النجوم تستمد طاقتها من عمليات الاندماج النووي. ومن البديهي أن — شأنها شأن أي جسم مشتعل — سيأتي عليها يوم ينفد فيه الوقود منها. ويعتمد ما سيحدث عندئذٍ إلى حدٍّ بعيد على مدى ثقل النجم ومن ثَم مقدار شدة جاذبيته. بالنسبة للنجوم متوسطة الحجم كشمسنا، بعد الاحتراق بثبات لمدة ١٠ آلاف مليون عام، سينتفخ النجم ويصير «عملاقًا أحمر». ثم سيطرح طبقاته الخارجية، بينما ينهار القلب على نفسه مكونًا «قزمًا أبيض» ساطعًا. ثم سيخبو هذا القلب ويصير جمرة باردة.
لو أن كتلة النجم كانت تبلغ في البداية ٢٠ مرة ضعف كتلة الشمس، فسينتج عن انفجار المستعر الأعظم نجم نيوتروني تتجاوز كتلته ضعفَي كتلة الشمس، إلا أنه بالنسبة لهذه الكتلة، تكون الجاذبية شديدة للغاية لدرجة أنه لا شيء يستطيع مقاومتها، وسيستمر النجم النيوتروني المتكون في الانهيار على ذاته إلى أن تتركز مادته كلها في نقطة وحيدة؛ منطقة متناهية الصغر حجمها صفر وكثافتها لانهائية. وهكذا يولد الثقب الأسود، كما أسماه جون ويلر في ستينيات القرن العشرين. إلا أن هذه الظاهرة جرى التنبؤ بها قبل ذلك بكثير، في عام ١٩٣٩ تحديدًا، على يد روبرت جيه أوبنهايمر وهارتلاند سنايدر استنادًا إلى نظرية أينشتاين.
يجب هنا التأكيد على أن هذا ما ستبدو عليه الأمور من منظور الراصد البعيد. فكيف ستبدو الأمور من منظور رائد الفضاء الموجود داخل المركبة؟ من منظور رائد الفضاء، بينما تهوي المركبة نحو الثقب الأسود، يكون رائد الفضاء في البداية داخل إطار قصوري وتبدو البيئة المحيطة طبيعية. لا شيء غريب بخصوص الزمن أو المسافة أو سرعة الضوء. وسيمر رائد الفضاء عبر أفق الحدث وهو غير واعٍ إلى أنه من اللحظة الحالية صار مصيره محتومًا. لكن لا يوجد ما ينبئ رائد الفضاء بأنه يجتاز نقطة اللاعودة، وأنه من اللحظة الحالية لا مهرب له. بعد الدخول في أفق الحدث، يستمر كل شيء في الاندفاع بلا هوادة صوب مركز الثقب الأسود. وهذا ينطبق على الضوء مثلما ينطبق على أي شيء آخر. فالثقوب السوداء لا ينبعث منها أي ضوء؛ ولهذا سميت بهذا الاسم.
ينتهي الحال برائد الفضاء ومركبته وقد انسحقا في نقطة وحيدة في مركز الثقب. ومن المهم أن ندرك أن هذا النوع من الانسحاق لا يشبه البتة ظاهرة تقلص الأطوال التي تعرضنا لها في سياق النسبية الخاصة. فكما تذكر — في حالة تقلص الأطوال — فإن رائد الفضاء ومركبته لم يستشعرا أي شيء؛ لأن ذرات جسديهما تقلصت هي الأخرى؛ ومن ثَم لم تعد بحاجة لنفس المكان الذي توجد فيه. لكن السقوط في ثقب أسود سيكون أمرًا مختلفًا تمامًا؛ فعندما يسقط رائد الفضاء وقدماه جهة الثقب الأسود، سيشعر أن جسده يستطيل، كما لو كان موضوعًا على آلة التعذيب المسماة بالمخلعة. سبب هذا هو أن قدميه أقرب إلى مركز الثقب؛ ومن ثَم فهما يتأثران بمجال جاذبية أقوى من ذلك الذي يؤثر على رأسه، الأبعد قليلًا عن مركز الثقب. وبينما تتواصل عملية الاستطالة، يزداد جانباه انسحاقًا. وفي النهاية، ينتهي الحال به وقد انسحق في نقطة وحيدة، وقد مات بكل تأكيد!
بَيْدَ أن هذه ليست الطريقة الوحيدة لتكون الثقوب السوداء؛ إذ يُعتقد الآن أن أغلب المجرات تُؤْوي ثقوبًا سوداء في قلوبها؛ والمعروفة باسم «الثقوب السوداء المجرِّيَّة». تتكون هذه الثقوب من خلال تقارب النجوم القريبة من مركز المجرة بعضها من بعض، ثم اصطدامها واندماجها؛ ومن ثَم انهيارها مكونة ثقبًا أسود ضخمًا. في عام ١٩٧٤ اكتُشف أن مجرتنا — مجرة درب التبانة — تُؤْوي ثقبًا أسود في مركزها تبلغ كتلته ٣ ملايين مرة قدر كتلة الشمس. ويبدو أن أغلب المجرات الأخرى تحوي أجرامًا سوداء فائقة الصخامة يُعتقد أنها ثقوب سوداء. وقد ابتلع بعضها بالفعل مليارات النجوم.
قلنا إن الثقوب السوداء النجمية تتكون عندما تنهار النجوم فائقة الضخامة. لكنَّ ثمة شيئًا واحدًا لم نذكره بعدُ وهو حقيقة أن أغلب النجوم — شأن الكواكب — لها زخم زاويٌّ؛ أي إنها تدور حول محورها. يجب أن يظل الزخم الزاويُّ محفوظًا؛ لذا رغم فقدان بعضٍ من الزخم الزاوي بسبب المادة التي لفظها النجم خلال انفجاره كمستعر أعظم إبان انهياره، فإن الثقب الأسود ذاته من المتوقع أن يحافظ على غالبية الزخم الزاوي الأصلي للنجم. وهذا يجعل الأمور أكثر تعقيدًا. فحل شفارتزتشيلد لمعادلات أينشتاين لم يعد صالحًا. وتعين علينا الانتظار حتى عام ١٩٦٣ ليخرج روي كير بحل للثقوب السوداء الدوارة. وقد جلب لنا حل كير نتيجة مثيرة للاهتمام للغاية: وهي أن الثقب الأسود الدوار يجر الزمكان القريب منه حوله كالدوامة الملتفة. والجسم الساقط على نحو مباشر صوب الثقب الأسود سيجد نفسه وقد انجرف تدريجيًّا داخل هذه الحركة الدوارة. بالنسبة للثقب الأسود الدوار، يمر الجسم الساقط أولًا عبر سطح يعرف باسم «الحد الساكن». وهذا الحد يعد بداية المنطقة المسماة «مجال أرجو» التي تمتد وصولًا إلى أفق الحدث. في مجال أرجو، يكون مد الزمكان الدوار قويًّا للغاية لدرجة أنه لا شيء — ولا حتى مركبة فضائية تخيلية ذات قوة دافعة لانهائية — يمكنه البقاء ساكنًا، بل سيكون عليه الدوران حول مركز الثقب. فقط خارج الحد الساكن من الممكن للمركبة الفضائية التي تشغل محركاتها أن تظل ساكنة.
حاليًّا، تعكف مهمة فضائية تدعى «مسبار الجاذبية ب» على اختبار عملية تباطؤ الإطار المرجعي. وتتكون هذه المهمة من أربعة جيروسكوبات فائقة الدقة. في الفضاء الحر ستحافظ هذه الجيروسكوبات على اتجاه محاور دورانها إلى ما لا نهاية. إلا أن المسبار يدور حول كوكب الأرض، وانحناء شفارتزتشيلد للفضاء الذي تسببه جاذبية الأرض من المفترض أن يسبب انحرافًا في قراءة الجيروسكوبات قدره ٠٫٠٠١٨ درجة كل عام. علاوةً على ذلك، من المفترض وجود تأثير إضافي طفيف ناتج عن تباطؤ الإطار المرجعي قدره لا يتجاوز ٠٫٠٠٠٠١١ درجة كل عام. هذا أشبه بالنظر إلى شعرة من على مسافة ربع ميل. وحتى كتابة هذه السطور لا نزال في انتظار النتائج.
تفقد الأجسام هويتها حين تسقط في ثقب أسود. على سبيل المثال، عندما تنسحق الأجسام في نقطة وحيدة، لا يكون لها أي حجم أو شكل مميز. لا يعني هذا أنها تفنى من الوجود تمامًا؛ فأي كتلة كان الجسم يملكها تُضاف إلى كتلة الثقب الأسود. ما الذي يتبقى أيضًا؟ من السمات المحفوظة كتلة الثقب الأسود، وسمة أخرى هي الزخم الزاوي. أيضًا الشحنة الكهربية تظل محفوظة؛ لذا، أيًّا كانت الشحنة التي كان يحملها الجسم الساقط فهي تظل محفوظة وتضاف إلى الشحنة الإجمالية للثقب الأسود. وهذا كل ما في الأمر؛ فقط الكتلة والزخم الزاوي والشحنة الكهربية. أما بقية السمات الأخرى للأجسام التي سقطت في الثقب، ومن ثَم صارت جزءًا منه، فتصير نسيًا منسيًّا.
قد تفكر قائلًا: كل هذا يبدو معقولًا بدرجة كبيرة، لكن هل من دليل على وجود الثقوب السوداء؟ فعلى أي حال ثمة مشكلة جلية تتعلق بالعثور على الثقوب السوداء، وهي أنها سوداء معتمة؛ أي لا تبعث أي ضوء، علاوةً على أنها تبتلع أي ضوء كان من الممكن أن ينعكس عنها. فهذه الثقوب خفية بكل ما تحمله الكلمة من معنًى.
هل تذكر فيلم الرجل الخفي؟ لم يكن بمقدور أحدهم رؤيته بصورة مباشرة، لكن كان بإمكانهم رؤية التأثيرات التي يحدثها على بيئته المحيطة. وهذا تحديدًا هو النهج الذي نتبناه عند البحث عن الثقوب السوداء. فنحن نبحث عن نجم يمر بتغيرات دورية في ترددات الضوء المنبعث عنه، وسيكون سبب ذلك هو إزاحة دوبلر التي تحدث مع ابتعاد النجم عنا ثم اقترابه منا. هذه الحركة من السمات المميزة للنظم النجمية الثنائية التي تتكون من نجمين يدوران حول مركز كتلتهما المشترك. وفي المعتاد يكون من الممكن رؤية أحد هذين النجمين. لكن في بعض الأحيان يبدو أن ثمة نجمًا واحدًا وحسب، أما رفيقه فلا يُرى. من واقع حركة النجم المرئي يمكننا حساب كتلة رفيقه. وإذا تجاوزت الكتلة ٣ أضعاف كتلة الشمس، فمن المحتمل أن يكون هذا الرفيق ثقبًا أسود. تتعزز هذه الاحتمالية إذا كان النجم المرئي عملاقًا أحمر؛ أي نجمًا منتفخًا بشدة. وفي بعض الأحيان نتمكن من رؤية الطبقات الخارجية للنجم المرئي وهي تُجذب ناحية الرفيق الخفي مطلقة الأشعة السينية بينما يجري امتصاصها بسرعة في جوف الثقب الأسود.
في عام ١٩٧٢ اكتشف توم بولتون أن النجم المسمى «الدجاجة إكس-١» يظهر هذا السلوك تحديدًا. قُدرت كتلة الشريك الخفي بسبعة أمثال كتلة الشمس. وكان هذا النجم مصدرًا لأشعة سينية متذبذبة بسرعة كبيرة. كان التذبذب في المعتاد يحدث كل جزء على المائة من الثانية. أشارت هذه الفترة إلى أن مصدر الأشعة السينية — أيًّا كان — لا يمكن أن يكون كبيرًا للغاية. يقطع الضوء نحو ٣ آلاف كيلومتر (أي حوالي ربع قُطر الأرض) في هذه الفترة الزمنية، ومن ثَم يبدو أن هذا يضع حدًّا أقصى لحجم الجرم الذي يطلق هذه الأشعة السينية. بعبارة أخرى: المنطقة صغيرة؛ على نحو يؤكد أن الانبعاث صادر من النطاق اللصيق لثقب أسود. ووقت كتابة هذه السطور، ثمة نحو ٢٠ مثالًا معروفًا على الأنظمة الثنائية، التي يعد أفضل تفسير لها هو أن أحد النجمين المكونين لها هو في الواقع ثقب أسود نجمي؛ وبعض الأمثلة أقوى حتى من نجم الدجاجة إكس-١.
ماذا عن أدلة وجود ثقوب سوداء عملاقة في مراكز المجرات؟ تدور نجوم أي مجرة حول مركزها. في البداية قد يفترض المرء أن ما يبقى على النجوم في مسارها هو قوة الجاذبية الخاصة بكل النجوم الأخرى الأقرب إلى مركز المجرة من النجم المتحرك في مداره. لكن اكتُشف أن النجوم القريبة من مركز المجرة تدور على نحو أسرع بكثير مما هو متوقع وفق هذا المبدأ. وعليه، يخلص المرء إلى أنه من أجل توفير قوى الجذب الكافية للحفاظ على النجوم في مداراتها، يجب أن تفوق الكتلة الجاذبة القريبة من مركز المجرة كتلة جميع النجوم المرئية بكثير. وهذا يقودنا إلى استنتاج أنه في مركز المجرة ذاته لا بد من وجود ثقب أسود فائق الضخامة ابتلع بالفعل العديد من النجوم؛ ومن ثَم جعلها جميعًا غير مرئية.
دليل آخر يشير إلى وجود الثقوب السوداء فائقة الضخامة يأتينا من «المجرات النشطة». هذه المجرات تبدو مثل المجرات العادية فيما عدا أنها تطلق انبعاثات من قلب صغير منطمر داخلها. إن نواتج هذه الانبعاثات — أشعة تحت حمراء وموجات راديوية وأشعة فوق بنفسجية وأشعة سينية وأشعة جاما — قد تكون متباينة بشدة وساطعة للغاية مقارنة ببقية المجرة. يمكن تفسير هذا بالقول إن المادة يجري تكثيفها بواسطة منطقة صغيرة مركزية — ثقب أسود — مع انبعاث كميات كبيرة من طاقة الجاذبية.
ثمة تأكيد آخر على وجود الثقوب السوداء يأتينا من «النجوم الزائفة». هذه عبارة عن أجرام ساطعة بدرجة استثنائية تقع على مسافات بعيدة للغاية عنا. وكلما نظرنا أبعد في جوف الكون وجدنا المزيد من النجوم الزائفة. وكما هو معروف، كلما نظرنا إلى جرم سماوي أبعد، يعني هذا أننا نعود أكثر إلى الماضي (بسبب الزمن المحدد الذي يستغرقه الضوء في الوصول إلينا). يُعتقد أن النجوم الزائفة هي مجرات في مراحل تطورها المبكرة. وشأن المجرات النشطة، ظل مصدر السطوع الاستثنائي للنجوم الزائفة لغزًا لبعض الوقت، إلى أن جرى الربط بين النجوم الزائفة وتكوُّن الثقوب السوداء في مراكز المجرات حديثة التكون. في الواقع، يُعتقد الآن على نطاق واسع أنه رغم أن المجرات النشطة والنجوم الزائفة تبدوان مختلفتين للغاية في نظرنا، فإنهما في الحقيقة جانبان مختلفان للظاهرة نفسها. فما النجوم الزائفة إلا مجرات نشطة بعيدة للغاية عنا.
باختصار، الأدلةُ الداعمة لفكرة وجود الثقوبِ السوداء الفائقةِ الضخامة في مراكز المجرات؛ أدلةٌ دامغة.
بعد أن تعرضنا للثقوب السوداء المجرية والنجمية، حريٌّ بنا الحديث عن نوع ثالث: «الثقوب السوداء الدقيقة». رأينا أنه إذا كانت كتلة النجم أقل من ضعفين إلى ثلاثة أضعاف كتلة الشمس، فإن جاذبيته لا تكون بالقوة الكافية بحيث ينضغط إلى ثقب أسود. ومع ذلك، يمكن للنجوم الأقل ضخامة أن تصير ثقوبًا سوداء إذا ما تعرضت لضغط خارجي شديد بما يكفي. في عام ١٩٧١ اقترح ستيفن هوكينج أنه في ظروف الضغط والاضطراب الشديدين التي سادت في بواكير الانفجار العظيم، ربما انضغطت التذبذات عالية الكثافة مكونة ثقوبًا سوداء دقيقة. ربما كانت لهذه الثقوب كتلة لا تتجاوز مثلًا كتلة جبل، وفي هذه الحالة لن يتجاوز أفق الحدث الخاص بها حجم البروتون. ربما توجد مثل هذه الأجسام في وقتنا الحالي، إلا أنه ما من دليل على وجودها.
وبالمثل، ما من دليل على وجود «الثقوب البيضاء»، التي هي مجرد احتمالية نظرية تسمح بها معادلة أينشتاين. فمثلما يكون الثقب الأسود منطقة من الفضاء لا يمكن لشيء الفكاك منها، يكون الثقب الأبيض منطقة لا يمكن للمرء أن يمنع خروج الأشياء منها! وثمة توقع جامح آخر يروق لكتَّاب الخيال العلمي، هو «الثقب الدودي». تقضي هذه الفكرة بأنه بمجرد سقوط الجسم في ثقب أسود فإنه سيندفع عبر نفق إلى أن يخرج من ثقب أبيض. قد يكون هذا الثقب الأبيض في مكان آخر من الكون، أو في كون آخر كلية. ومجددًا نؤكد أنه ما من دليل على صحية أيٍّ من هذه الافتراضات.
في البداية كان يُظن أن هذه هي نهاية الحكاية. فعلى أي حال، لا شيء يسعه الفرار من الثقب الأسود، ولن يتبقى شيء ليدخل فيه. لكن في عام ١٩٧٤ خرج ستيفن هوكينج بفكرة لامعة مفادها أن الثقوب السوداء يُفترض بها أن تسطع، وإن كان سطوعًا باهتًا للغاية، إلا أنها تشع طاقة على أي حال. تفسير هذا يأتينا من نظرية الكم، وهو ما يأخذنا بعيدًا عن نطاق هذا الكتاب الوجيز. لكن اسمحوا لي أن أستعرض باختصار كيف يحدث هذا.
موجات الجاذبية
ليس الكشف عن موجات الجاذبية هذه بالمهمة اليسيرة. وسبب هذا هو أن التأثيرات التي من المتوقع أن تنتجها ضئيلة. في حالة الموجات الكهرومغناطيسية لا توجد مشكلة؛ فالجسيمات المشحونة التي تدور في دائرة كهربية مغلقة لمعجل جسيمات (ومن ثَم تتعرض لعجلة طاردة مركزية) تنتج على الفور إشعاعًا كهرومغناطيسيًّا؛ ذلك الإشعاع المسمى «إشعاع المعجل الدوراني التزامني». بالنسبة للإلكترونات يكون فقْد الطاقة في ظل هذه الظروف حادًّا للغاية لدرجة أنه من أجل الوصول بها إلى أعلى مستويات الطاقة، من المفضل أن يجري تعجيلها على امتداد أنبوب مستقيم — على غرار المعجل الموجود في ستانفورد بكاليفورنيا والبالغ طوله ثلاثة كيلومترات — بدلًا من توجيهها على نحو متكرر في دائرة مغلقة.
لهذا السبب، علينا النظر خارج مختبراتنا، ونحو الأجرام السماوية، للعثور على مصادر أقوى لإشعاع الجاذبية. أول دليل — غير مباشر بقدر ما — على إشعاع الجاذبية عُثر عليه في عام ١٩٧٨. فكما تذكر فإن هالس وتايلور اكتشفا قبل هذا التاريخ بأربعة أعوام نجمًا نابضًا يمثل جزءًا من نظام نجمي ثنائي. وقد رأينا كيف أنه قدم لنا أفضل اختبار حتى ذلك الوقت على بدارية الحضيض الشمسي للجسم الذي يدور في مدار. ظهرت نتيجة أخرى لهذا الاكتشاف؛ وهي نتيجة عادت على هذين المكتشفين بجائزة نوبل في عام ١٩٩٣. النجوم النابضة هي نجوم نيوترونية تطلق تيارات من الإشعاع من قطبيها الشمالي والجنوبي، ثم تلتف هذه التيارات مع حركة النجم حول نفسه. وإذا حدث أن وقعت الأرض في مسار هذه الأشعة الدوارة، فسنرصد سلسلة من النبضات المنتظمة؛ على نحو أشبه بالسفينة التي تتلقى وهي في عرض البحر نبضات الضوء الصادرة عن الإشعاع الدوار الذي يطلقه الفنار. في حالتنا هذه يتكون الإشعاع من موجات راديوية. وما اكتشفه هالس وتايلور هو أن الدورة الأساسية لهذا النجم النابض (وقدرها ٠٫٠٥٩٠٣ ثانية) كانت ثابتة للغاية (ولا تزيد بأكثر من ٥٪ كل مليون عام)؛ ومن ثَم فهي تعد ساعة دقيقة للغاية. ومع هذا، كان ملحقًا بهذا الإيقاع المنتظم دورة من الإيقاع المتفاوت. وقد فُسرت هذه الدورة بأنها إزاحة دوبلر ناجمة عن الطريقة التي يتحرك بها النجم النابض مقتربًا منا ثم مبتعدًا عنا خلال دورانه حول رفيقه الخفي. وقد وُجد أن فترة الدوران تبلغ نحو ثماني ساعات. لكن المثير للاهتمام حقًّا هو أن هذه الفترة كانت تقصر على نحو متزايد. لم يكن مقدار النقص كبيرًا — بل نحو ٧٥ جزءًا على المليون من الثانية في العام — لكن على مدار الأعوام الأربعة من الرصد بدا التأثير ملموسًا. بمعنًى آخر: كان النجم النابض — خلال حركته حول رفيقه — يفقد طاقة، وكان يسير في مدار حلزوني يضيق مع الوقت. وقد أُرجعَ سبب هذا إلى أنه يشع موجات جاذبية. وقد اتفقت النسبة المحسوبة من واقع نظرية أينشتاين مع النسبة المرصودة حتى حدود دقة قدرها نصف درجة في المائة.
ماذا عن المستقبل؟ هناك بالفعل خطط لإطلاق مقياس تداخل إلى الفضاء، ووقتها لن نكون متحررين من الاضطرابات العشوائية الموجودة هنا على الأرض والتي تحد من حساسية معداتنا وحسب، بل سنكون أيضًا قادرين على أن نزيد على نحو عظيم مسار العودة الذي سيتعين على أشعة الليزر أن تقطعه. يتكون مشروع لاقط مقياس التداخل الفضائي الليزري (المعروف اختصارًا بالاسم «ليزا») من ثلاث محطات فضائية حاملة للمرايا، موضوعة على مسافة خمسة ملايين كيلومتر بعضها من بعض. وبينما تستطيع المعدات العاملة حاليًّا — بمسارات العودة الخاصة بها البالغ طولها كيلومترات عديدة — أن تكشف عن ترددات موجات الجاذبية حتى شدة قدرها نحو ١٠٠ هرتز وأكثر من ذلك، تستطيع الأذرع الممتدة للاقط ليزا الكشف عن ترددات أعلى بكثير، تبلغ مثلًا ميللي هرتز واحدًا. سيمكِّنها هذا من استكشاف طيف موجات الجاذبية المتوقَّع أن يفيد في التحقق من أولى المراحل المبكرة لتطور الكون؛ المرحلة التي سنطلق عليها في القسم التالي اسم «التضخم». ووقت كتابة هذه السطور لا يزال المشروع ينتظر التمويل اللازم. وأقرب موعد محدد للإطلاق هو عام ٢٠١٧.
الكون
- (١)
أنه قد يكون «مستويًا»، بمعنى أنه بعيدًا عن أي أجرام جاذبة، ستنطبق الهندسة الإقليدية العادية. سيكون مجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة، وسيساوي محيط الدائرة ٢ ط نق. ومن المفترض أن يكون هذا الفضاء ممتدًّا إلى ما لا نهاية.
- (٢) الاحتمال الثاني هو أن يكون الفضاء ذا «انحناء موجب». والتشبيه الثنائي الأبعاد لهذه الحالة هو الكرة (انظر الشكل ٢-٨). في هذه الحالة سيكون مجموع زوايا المثلث أكبر من ١٨٠ درجة، وسيكون محيط الدائرة أقل من ٢ ط نق. وفي هذه الحالة، سيكون الكون (كالكرة) ذا حجم محدود. هذا يعني أنه لو أنك انطلقت على متن صاروخ في أي اتجاه بعينه — لنقل مثلًا في اتجاه عمودي منطلقًا من القطب الشمالي — فبعد أن تقطع مسافة محددة، وأنت في الاتجاه عينه، ستجد أنك قد عدت من حيث بدأت، بحيث تصل إلى كوكب الأرض من ناحية القطب الجنوبي. أو يمكن تشبيه الموقف بزحف الذبابة على سطح كرة في اتجاه معين، بحيث تجد نفسها في نهاية المطاف وقد وصلت إلى نقطة البداية.
- (٣) الاحتمال الثالث هو أن يكون الفضاء الثلاثي الأبعاد ذا «انحناء سالب». والتمثيل الثنائي الأبعاد لهذه الحالة هو شكل السرج (انظر الشكل ٢-٩). في هذه الحالة سيكون مجموع زوايا المثلث أقل من ١٨٠ درجة، وسيكون محيط الدائرة أكبر من ٢ ط نق.
عند بحث هذه الاحتمالات، قد ينخدع المرء بالاعتقاد بأن الإجابة الصحيحة واضحة؛ فنحن «نعرف» بالفعل أن مجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة، وأن محيط الدائرة يساوي ٢ ط نق، إذنْ لا بد أن الفضاء مستوٍ. لكن علينا ألا ننسى أنه حتى في حالة تشبيهَي الكرة والسرج، إذا كنا بصدد التعامل مع دائرة صغيرة للغاية، فإن هذه الأسطح المنحنية ستقترب من الاستواء. فعند بحث انحناء الكون ككل، نحن لم نتعرض سوى للمثلثات والدوائر دقيقة الحجم للغاية؛ لذا من الطبيعي أن نتوقع أنها ستكون مقاربة للحالة المستوية. لكن عند الحديث عن الانحرافات عن الهندسة الإقليدية سيكون علينا أن نفكر مثلًا في مثلثات عملاقة تضم ثلاثة عناقيد مجرية بعيدة بعضها عن بعض. فقط على هذا المستوى من التفكير نتوقع أن نلحظ اختلافات بينة عن الاستواء.
هذه الحركة المتباعدة تُستنتج من الطريقة التي تنزاح بها الأطوال الموجية للضوء الصادر عن العناقيد المجرية البعيدة ناحية الطرف الأحمر من الطيف؛ أو ما يطلق عليه اسم «الانزياح الأحمر». وبعبارة أخرى: الأطوال الموجية استطالت. في البداية فُسر الأمر بوصفه إزاحة دوبلر، بالطريقة ذاتها التي تنزاح بها موجات الصوت الصادرة عن صافرة سيارة الشرطة المسرعة نحو ترددات أقل مع ابتعاد السيارة عنا. إلا أن التفسير الحديث لهذا الانزياح الأحمر هو أنه ناتج عن تمدد الفضاء نفسه. وكما ذكرت بإيجاز من قبل، ليس الأمر أن العنقود المجري يتحرك مبتعدًا عنا «عبر» الفضاء، وإنما نعتقد أن الفضاء بيننا وبينه هو الذي يتمدد على نحو متواصل، وإبان ذلك يحمل معه العنقود المجري بعيدًا عنا على موجة مدية من الفضاء المتمدد. إن الضوء لا يبدأ رحلته نحونا بطول موجي زادته حركة العنقود، وإنما هو يبدأ رحلته بالطول الموجي الطبيعي، لكن فيما بعد يستطيل الضوء بفعل تمدد الفضاء الذي ينتقل خلاله.
من المهم هنا أن نذكر أننا حين نتحدث عن تمدد الفضاء فإننا لا نعني أن «كل» المسافات تتمدد. فلو أن هذا حدث لما كان لدينا وسيلة للتحقق من هذا التمدد. إن القوى المحكمة التي تبقي على تماسك الأجسام، مثل الذرات والمجموعة الشمسية والمجرات والعناقيد المجرية، من الشدة بما يكفي بحيث تتغلب على ميل الفضاء للتمدد، وبذا تحافظ هذه الأجسام على حجمها كما هو. لكن هذا لا ينطبق على الانجذاب الضعيف بين العناقيد المجرية؛ ففي هذه الحالة يكون تأثير تمدد الفضاء هو المهيمن؛ ومن ثَم تتحرك العناقيد مبتعدة بعضها عن بعض.
هذا النوع من التباعد — الذي فيه تتناسب سرعة التباعد طرديًّا مع المسافة — هو بالضبط ما نتوقعه إذا كانت محتويات الكون كلها في وقت ما من الماضي منضغطة في نقطة وحيدة، ثم وقع انفجار مزقها إربًا. يُطلَق على هذا الانفجار اسم «الانفجار العظيم». والحركة المتباعدة التي نراها اليوم هي الأثر المتخلف عن ذلك الانفجار. ومن واقع الانفصال المرصود بين العناقيد المجرية اليوم، والسرعات التي تتحرك بها، يمكننا أن نحسب كم من الوقت تطلب الأمر كي تقطع هذه المسافة بتلك السرعة. وهذه هي الكيفية التي خلصنا بها إلى أن الانفجار العظيم وقع منذ ١٣٫٧ مليار عام.
ينطبق قانون هابل على نحو محكم على المسافات المتوسطة، لكن على أكبر المستويات من المتوقع وجود انحرافات. وثمة إمكانية أن معدل التباين سيتغير مع مرور الوقت. في الواقع، كان من المتوقع في البداية أن العناقيد المجرية ستبطئ في حركتها؛ وذلك بسبب الجاذبية المتبادلة بينها. فإذا كان متوسط الكثافة كبيرًا بما يكفي، فمن المفترض أن يؤدي التجاذب المتبادل إلى إبطاء حركة العناقيد إلى أن تتوقف تمامًا. وبدايةً من تلك النقطة ستتحرك مقتربة بعضها من بعض إلى أن تتلاقى جميعًا في «انسحاق عظيم». وستكون هناك فترة محددة بين الانفجار العظيم والانسحاق العظيم. ليس هذا وحسب، بل إن هذه الكثافة العالية ستجعل الفضاء ذا انحناء موجب، وسيكون حجمه لامتناهيًا، وإن كان محددًا (على غرار سطح الكرة في حالة الفضاء الثنائي الأبعاد).
بالطبع، مع تمدد الكون وزيادة المسافات بين العناقيد المجرية، سيكون من المتوقع أن تقل الجاذبية المتبادلة بينها. وإذا كانت كثافة المادة منخفضة، بحيث تنخفض الجاذبية المتبادلة فعليًّا إلى الصفر وتبدأ العناقيد المجرية في الابتعاد بعضها عن بعض، فسيستمر التمدد إلى الأبد. في هذه الحالة سيتسم الفضاء بأنه ذو انحناء سالب وسيكون الكون ذا حجم لامتناهٍ.
تتضمن مساعي قياس معدل تباطؤ تمدد الكون رصد أبعد العناقيد المجرية عنا. لا توجد صعوبة في قياس مقدار الانزياح الأحمر. لكن ثمة صعوبات جمة في الحصول على تقديرات موثوق بها للمسافات بين العناقيد. ولهذا السبب، عجزت القياسات القائمة على الرصد لفترة طويلة عن تحديد مقدار التباطؤ؛ ومن ثَم الفصل بين النماذج الثلاثة الممكنة لتمدد الكون. ثم في عام ١٩٩٨ وردت أولى الإشارات المفاجئة التي دلت على أن العناقيد المجرية البعيدة لم تكن تتباطأ على الإطلاق، وإنما كانت تتسارع في حركتها مبتعدة عنا! هذه النتيجة غير المتوقعة تمامًا كشفت النقاب عن نوع لم يكن معروفًا من القوى حتى ذلك الوقت؛ نوع يعمل في الاتجاه المعاكس للجاذبية المتبادلة بين العناقيد المجرية، بل ويهيمن أيضًا على المسافات البعيدة. وسنتحدث عن مصدر هذه القوة فيما يلي.
كما ذكرت من قبل، يعتمد الانحناء الكلي للفضاء على محتويات الكون. وباستخدام نظرية أينشتاين، طور الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان في عام ١٩٢٢، والفيزيائي البلجيكي جورج لوميتر في عام ١٩٢٧ — على نحو منفصل — المعادلات التي تربط انحناء الفضاء بمصدر هذا الانحناء. وبالأساس، ثمة مصدران لانحناء الفضاء؛ الأول هو متوسط كثافة الكتلة أو الطاقة الخاصة بمحتويات الكون. وهنا تحضرنا الفكرة العبقرية التي قدمتها لنا النسبية الخاصة، والتي تقضي بأن الكتلة والطاقة وجهان لعملة واحدة، وذلك من خلال المعادلة: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. فبالإضافة إلى الطاقة التي يملكها الجسم بفضل حركته، يملك الجسم طاقة مختزنة في صورة كتلة السكون. لكن ليست المادة وحدها التي تملك طاقة؛ إذ إن للإشعاع الكهرومغناطيسي طاقة هو الآخر، شأنه شأن مجالات الجاذبية. لذا في هذا السياق علينا أن نضع في اعتبارنا الأنواع المختلفة من الطاقة الموجودة. وبهذا فإن «كثافة الطاقة» هي الحد الأول في المعادلة الخاصة بمصدر الانحناء المكاني. المصدر الثاني هو «الضغط»، وهو ينشأ عن الطريقة التي تتحرك بها العناقيد المجرية بعيدًا بعضها عن بعض. هذه الحركة المنظمة تتسبب في دفعة من الزخم إلى الخارج والتي — شأنها شأن كثافة الطاقة — تسهم في انحناء الفضاء. والعنصر الأهم هو كثافة الطاقة، وهو ما سنركز حديثنا عليه الآن.
ماذا وجدنا إذنْ؟ هل كثافة الطاقة تعادل القيمة الحرجة أم أنها أكبر منها أم أقل منها؟ بجمع كتلة النجوم المرئية الموجودة في المجرات، نجد أن هذه الكتلة تعادل ٤٪ من الكتلة الحرجة. هذا وحده من شأنه أن يشير إلى أن للفضاء انحناءً سالبًا، وأن الفضاء لامتناهٍ، وأن التمدد سيستمر إلى الأبد. لكن علينا ألا نتسرع. فالشمس، شأن غيرها من النجوم الموجودة في مجرة درب التبانة، تدور حول مركز المجرة، وما يحافظ على مسارها هذا هي قوة الجاذبية النابعة من كل الأجرام الأقرب إلى مركز المجرة منها. المشكلة هي أننا عندما نقدر الكتلة الإجمالية لهذه النجوم — بما في ذلك تلك النجوم التي ابتلعها الثقب الأسود الموجود في مركز المجرة — سنجد أنها لا تكفي لإحداث قوة الجذب القوية بما يكفي كي تجعل الشمس تدور في مدارها. ومن هذا نخلص إلى أنه لا بد من وجود قدر أعظم بكثير من المادة في المجرة عن ذلك الذي تحويه النجوم. ونحن نطلق على هذا العنصر الخفي اسم «المادة المظلمة». وإلى الوقت الحالي لا نزال غير واثقين ممَّ تتكون هذه المادة، وإن كنا نعتقد أنها تتكون من نفس نوعية المادة المألوفة لدينا؛ أي من إلكترونات ونيوترونات وبروتونات.
بعد ذلك نلحظ أن المجرات مرتبطة بعضها ببعض بفعل قوة الجاذبية في عناقيد مجرية. ورغم أن هذه المجرات لا تدور بعضها حول بعض على النحو الذي تدور به النجوم حول مراكز مجراتها، فإن السرعات التي تتحرك بها المجرات داخل العنقود المجري دون الإفلات من قوة الجاذبية الخاصة بالأعضاء الآخرين بالعنقود المجري؛ تمكِّننا من تقدير الكتلة الإجمالية للعنقود المجري. وقد تبين أن هذه الكتلة أكبر من الكتلة الإجمالية للمجرات نفسها، حتى بعد إضافة المادة المظلمة التي تحتويها هذه المجرات. هذا بدوره يعني أن ثمة مادة مظلمة إضافية موجودة «بين» المجرات. وإجمالًا، يُقدَّر إجمالي الطاقة المختزنة في المادة — بصورتيها العادية والمظلمة — بنحو ٣٠٪ من الكثافة الحرجة.
أخيرًا، عند تصنيف مجموع الإسهامات في كثافة الطاقة الإجمالية للكون، علينا أن نضع في الاعتبار الاكتشاف الحديث بأن تمدد الكون يتسارع وسبب حدوث هذا. هذا التسارع يُعزى إلى كثافة الطاقة التي يتسم بها الفراغ. قد يبدو من الوهلة الأولى مستغربًا أن نعزو أي شيء إلى «الفضاء الخاوي»، لكننا ذكرنا بالفعل أنه من منظور الفيزيائيين ليس الفضاء مساويًا للعدم. ولقد رأينا بالفعل كيف أن الفضاء يمكن أن ينحني، وكيف أنه يحمل العناقيد المجرية على موجة مدية من الفضاء المتمدد، وكيف أن زوجًا من الجسيمات الافتراضية يستطيع على نحو لحظي أن يظهر إلى الوجود من الفراغ. هذه الإمكانية يسمح بها مبدأ عدم اليقين الذي وضعه هايزنبرج. ومن تبعات هذا المبدأ أنه في أي لحظة زمنية يكون من المستحيل أن نحدد بدقة ماهية الطاقة. وعلى وجه التحديد، من المستحيل أن نحدد أن طاقة الفراغ تساوي صفرًا؛ صفرًا بالضبط. هذا يمكِّن الجسيمات الافتراضية من استعارة الطاقة على نحو مؤقت؛ ومن ثَم يوفر لها الطاقة الكافية لإنتاج كتلة السكون الخاصة بها؛ ومن ثَم تظهر إلى الوجود. وبذا يعد الفراغ بمثابة بحر هائج من الجسيمات التي تظهر إلى الوجود لفترات وجيزة ثم تختفي مجددًا. هذه الظاهرة تتسبب في وجود كثافة طاقة متذبذبة للفراغ؛ أو ما نطلق عليه اسم «الطاقة المظلمة». وهي تضيف إسهامها الخاص إلى كثافة الطاقة الإجمالية الخاصة بالكون. وشأن أنواع الطاقة الأخرى، هي تزيد من الانحناء الكلي للفضاء، لكنها تختلف عن أنواع الطاقة الأخرى في الطريقة التي تؤثر بها على حركة العناقيد المجرية؛ فبينما تتسبب أنواع الطاقة الأخرى في إحداث قوة تجاذب، تتسبب هذه الطاقة في إحداث قوة تنافر؛ التنافر المسئول عن تسارع تمدد الكون.
كيف إذنْ نلخص كل هذا؟ فيما يلي نعرض لأفضل تقديراتنا الحالية عن الإسهامات المختلفة في كثافة الطاقة، وذلك على صورة نسب مئوية من الكتلة الحرجة:
المادة العادية على صورة نجوم | ٠٫٠٤ ± ٠٫٠٠٤ |
المادة المظلمة | ٠٫٢٧ ± ٠٫٠٤ |
الطاقة المظلمة | ٠٫٧٣ ± ٠٫٠٤ |
الكثافة الإجمالية | ١٫٠٢ ± ٠٫٠٢ |
النتيجة النهائية هي أنه من بين كل أشكال الهندسة التي تسمح بها النسبية العامة، فإن كوننا له فضاء مستوٍ؛ ومن ثَم تنطبق عليه الهندسة الإقليدية. ومع ذلك فالزمكان «ليس» مستويًا. ولأن الفضاء يتمدد مع مرور الزمن، ينبغي التفكير في عنصر الزمن بوصفه منحنيًا. وهو في هذا يختلف عن الزمكان في النسبية الخاصة، حيث يعد كلٌّ من الفضاء والزمكان مستويين.
ختامًا، رأينا كيف أن نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين تمكِّننا من فهم سلوك أصغر المكونات دون الذرية للطبيعة بينما تتحرك بسرعة تقارب سرعة الضوء، وكيف أن نظرية النسبية العامة تقدم اللغة والأدوات الضرورية لفهم الكون ككل. والاثنان معًا يعتبران إنجازًا رائعًا بحق.