إعادة التفكير في طريقة إنجاز المهام في أماكن عملنا
مثلما تزايَدَتْ أهمية إعادة التفكير في منظومة المعرفة التقليدية، تزايَدَتْ صعوبةُ فعل ذلك. إن زيادة التعقيد، والتقلُّب، والغموض في عالم الأعمال والمنافسة؛ تتطلَّب باستمرارٍ وجهاتِ نظرٍ جديدة. لكن هذه البيئة غامضة وتعجُّ بالمخاطر، ومن طبيعة البشر التمسُّك بالطرق المجرَّبة والصحيحة في مثل هذه الأوقات المتقلِّبة. وعند مواجهة هذا التناقُض، يختار كثير من القادة الخيارَ الأخير — التقليدي بطبيعة الحال — لا سيما في الشركات الناجحة ذات الثقافات القوية.
إن القدرة على إعادة التفكير ليست من الأمور المندرجة تحت السمات القيادية، على الأقل في معظم التعريفات التقليدية للقيادة. وعلى الرغم من ذلك، فمثل كثيرٍ من السمات التي نتناولها في قسم العقل، أصبحت هذه السمة ملائمةً للعصر على نحوٍ متزايدٍ، ومفيدةً بصفةٍ خاصةٍ في ظل هذه البيئة العالمية المعقدة.
يلزم أيضًا أن نقول إننا على الرغم من مناقشة هذه السمة باعتبارها جزءًا من سلوكيات العقل، فإن إعادة التفكير تتضمَّن أيضًا سلوكيات القلب والشجاعة؛ فأنت تحتاج إلى البدء بالجانب المعرفي من خلال إعادة التفكير في إجراءات التشغيل القياسية، وبعد ذلك تحتاج إلى القلب لفهم تأثير إعادة التفكير على الأشخاص من حولك، وتحتاج أيضًا الشجاعة للمخاطرة وتحويل هذا الالتزام إلى أفعال. أما في الوقت الراهن، فدعونا نركِّز على الجانب المعرفي من هذه السمة، ونُبين لماذا يصعب جدًّا على الكثير فهم هذه السمة.
(١) إيجاد وجهة نظر جديدة أمرٌ قولُه أسهلُ من فعله
يدرك معظم قادة الشركات أن التغيير حتمي، وأنه لا بد من تطبيق أساليبَ سلوكيةٍ جديدة ومبتكرة ومطورةٍ كي يظلوا متقدِّمين على منافسيهم، ولتلبية مطالب العملاء. إلا أن هذا الإدراك نادرًا ما يتحوَّل إلى سلوكٍ واعٍ أو إلى تصوُّرٍ جديدٍ عن الحالة. من الناحية النظرية، فإن فكرة إعادة التفكير تبدو منطقية تمامًا، وقليل من الناس قد يختلف على كونها ضرورية، إلا أنه عندما يصل الأمر إلى اتخاذ إجراءاتٍ محددةٍ ذات عواقبَ، فإن تغيير السلوك والاستراتيجيات والتكتيكات والطقوس والتقاليد يصبح أكثر صعوبةً.
صاغ توماس كون، الخبير في تاريخ العلوم ومؤلِّف كتاب «بنية الثورات العلمية» وغيره من الكتب، مصطلحَ «تغيير النموذج الفكري»؛ إذ وجد أنه على النقيض من التوقعات السائدة، فإن معظم العلماء ليسوا مفكِّرين موضوعيين مستقلين، بل إنهم يعملون داخل إطار نماذجهم الفكرية. ويذكر على سبيل المثال بطليموس وإصراره على أن الشمس تدور حول الأرض، وهي فكرة اعتُبِرت حقيقةً علميةً لمئات السنوات حتى جاء كوبرنيكوس وأعاد التفكير في منظومة المعرفة التقليدية تلك.
ما نقصده أن كثيرًا من قادة الأعمال يُشبهون العلماء؛ فهم مقتنعون أنهم مفكرون مستقلون، لكنهم في واقع الأمر واقعون تحت رحمة النموذج الفكري السائد. وهذا يمكن أن يُسفِر عن خداعٍ خطيرٍ للذات. وكما لاحظ كون: «إن الإنسان الذي يسعى لحل مشكلةٍ محددةٍ من قبل المعرفة الحالية والأسلوب الحالي، ليس مجرد شخصٍ يبحث عن حلٍّ. إنه يعلم ما يريد تحقيقه، ويصمِّم أدواته ويوجِّه أفكاره وفقًا لما يريد تحقيقه.»
(٢) لماذا يُعَدُّ الوقت الراهن وقتًا جيدًا للبدء في إعادة التفكير؟
إننا نعيش ونعمل في وقتٍ أصبحت فيه الدورات الاقتصادية أقصر على نحوٍ متزايد، وأصبحت الحاجة إلى تحدِّي نموذج العمل حاجةً مستمرة؛ فالثورة المعلوماتية، والقدرة التكنولوجية المتزايدة، وسوق العمل العالمية، بالإضافة إلى عددٍ لا حصرَ له من العوامل الأخرى؛ تجعل اتخاذ القرار أصعب إلى حدٍّ كبيرٍ ممَّا كان عليه الوضع في الماضي. وأصبح لزامًا على قادة اليوم التعامُل مع التناقض، ومواجهة الأفكار المعقدة، وتكوين نظرة عالمية متكاملة؛ فمعظم حلول المشكلات المجرَّبة والمثبتة فعاليتها لم تَعُدْ مجديةً، ومعظم الطرق التقليدية للاستفادة من الفُرَص يفتقر إلى السرعة والابتكار الضروريَّيْن. من دون القدرة على إعادة التفكير في الطرق التقليدية، سوف يتخلَّف القادة. ونحن نرى كثيرًا من القادة الذين يعتقدون أن نماذج العمل وُجِدت كي نتحدَّاها، لكنهم لم يخلقوا البيئة التي تُمكِّن من حدوث ذلك، أو هم عاجزون عن خلقها.
إن الاستعانة بنظرةٍ تاريخيةٍ مختصرةٍ ستوضِّح لنا إلى أي مدًى أصبحت إعادة التفكير ضروريةً في الوقت الحاضر. منذ عشرين عامًا عندما كانت المنافسة تعتمد على المنتج، كان الجزء الأكبر من عملية إعادة التفكير يركِّز على ما إذا كان لزامًا على الشركة تغيير أحد الأمور المتعلِّقة بالمنتج (مثل التعبئة، والسعر، وهكذا). وفي مرحلةٍ ما في ثمانينيات القرن العشرين، بدأت الشركات تُعيد تعريفَ المنافسة، ليس فقط فيما يتعلَّق بالمنتجات التي تُنتجها، بل أيضًا فيما يخصُّ طريقةَ تقديم تلك المنتجات. بدأت السرعة والتوافُر والتخصيص وغيرها من العوامل تمنح ميزةً تنافُسية؛ ولذلك، لم يَعُدِ البحث والتطوير نقطةَ التركيز الأساسية عند إعادة التفكير في منظومة المؤسسة، وأصبح من الضروري القيام بمخاطراتٍ تنظيميةٍ أكبر مثل إعادة هيكلة الشركة من أجل توصيلٍ أسرع للموارد المحلية. إن مثل هذا النوع من التغيير في النظام ينطوي على قدرٍ أكبر من المخاطَرة، وقدرٍ أكبر من الصعوبة في التنفيذ.
وعلى الرغم من ذلك، فالتغيير ضروري بالتأكيد. ومعظمُ القادةِ الناجحين والشركاتِ الناجحة، مثل جنرال إليكتريك، وجونسون آند جونسون، وبنك أوف أمريكا، وغيرها الكثير، يميلون إلى إعادة التفكير في هوية عملائهم، ويتساءلون عن مجال العمل الذي يعملون فيه، ويعيدون هيكلة مؤسساتهم بجرأةٍ من أجل تقديم خدمةٍ أفضل لعملائهم. لقد أعادت شركة نوكيا ابتكارَ نفسها بعد وجودها لمدة مائة عامٍ باعتبارها شركة أخشاب، وفعلت ذلك من خلال التخلِّي عن كافة نشاطاتها، ما عدا نشاط صناعة الرقاقات الإلكترونية الصغيرة والهواتف؛ وتلك كانت خطوةَ إعادةِ تفكيرٍ هائلةً في مجالٍ مترسِّخٍ تاريخيًّا. وكلٌّ من شركة آي بي إم وشركة إي إم سي تحوَّلت من شركة تصنيعٍ إلى شركة خدمات، وتحوَّلت تايم وارنر من دار نشرٍ للمجلات إلى شركةٍ متكاملةٍ لخدمات الإعلام والاتصالات والترفيه، واندمجت شركة ترافلرز إنشورَنس مع سيتي بنك لتصبح أكبر شركة خدماتٍ ماليةٍ في العالم.
ومع ذلك، فإن هذا النوع من إعادة التصوُّر ليس ضمانًا للنجاح؛ فمن الممكن أن تعيد التفكير في الأمور بطريقةٍ خاطئة؛ على سبيل المثال: أنفقت شركة إيه تي آند تي مليارات الدولارات في صناعة الكمبيوتر، ولم تحقِّق إلا القليل؛ فقد أعادوا هيكلة الشركة منذ عدة سنواتٍ بعد مرسوم التراضي، لكنهم واجَهوا مشكلةً في المُضي قدمًا بعد هذا التغيير الهيكلي. وسعت شركة جنرال موتورز لأن تصبح شركةَ بياناتٍ ثم تصبح شركة أقمار صناعية، فاستحوذت على شركتَيْ إي دي إس، ودَيريكت تي في، ثم تخلَّتْ عنهما. وعلى مدار السنوات، استحوذَتْ شركةُ سوني على شركاتٍ لا حصرَ لها وتخلَّت عنها، بدءًا من شركات عصير البرتقال وحتى استوديوهات الإنتاج السينمائي؛ ولذلك، فإن إعادة تخيُّل المؤسسة ليست كافية، بل من اللازم أن تكون إعادة التخيُّل على النحو الصحيح.
ومع ذلك، تحتاج المؤسسات قادةً مستعِدِّين لتحدِّي الوضع القائم، والتفكير في بدائل للأمور التي ساعدت الشركة في تحقيق نجاحٍ هائلٍ في الماضي، بل قد لا تزال تساهم في نجاحها حاليًّا أيضًا. هؤلاء القادة هم أكثر قدرةً على التعامُل مع المواقف غير المتوقَّعة والمُقلِقة التي يبدو أنها تظهر يوميًّا؛ فهم يمتلكون الوسائل اللازمة للتعامُل مع مختلِف الأشخاص بطرقٍ مختلفة؛ فهم يستطيعون التعامُل مع الخبير التقني الشاب العبقري الذي لا يرغب في اتباع أعراف الشركة، أو الذي يطالِب الشركةَ بالإقدام على مخاطراتٍ لم تُقدِم عليها من قبلُ؛ وهؤلاء القادة هم الأشخاص الذين سوف يساعدون في إدارة المبادرات العالمية الجديدة؛ ومن ثَمَّ سيتعلَّمون العمل بكفاءةٍ في عوالم لم تَعُدِ القواعد القديمة تنطبق عليها.
إن الحاجة إلى قادةٍ قادرين على إعادة التفكير لن تتلاشى؛ بل على العكس من ذلك، سوف تشتد في السنوات القادمة مع تزايُد معدل سرعة التغيير، وابتعاد المبادرات العالمية عن الأسواق الآسيوية والأوروبية واتجاهها إلى الدول النامية التي لا تُطبَّق فيها الأساليب التقليدية لإدارة الأعمال.
(٣) كيف تحفِّز وجهات نظر جديدة؟
ممَّا لا شكَّ فيه أن بعض الأشخاص لن يكونوا مستعدين مطلقًا لتغيير وجهات نظرهم وإعادة تقييم معتقداتهم. وبناءً على أسبابٍ كثيرة (منها مَيْلهم الفطري إلى النزعة المحافظة، أو أن لهم مصالح في الوضع القائم) يرفضون التفكير في طريقةٍ جديدةٍ لرؤية الأمور أو للقيام بها؛ ونتيجةً لذلك، فإنهم إما يرفضون إعادة التفكير وإما يتظاهرون فحسب بأنهم يعيدون التفكير.
حريٌّ بنا أن نضيف أن هذه الطرق الثلاث تحقِّق أدنى مستوًى من الفاعلية في المؤسسات «المهذبة» الفائقة النجاح؛ حيث لا يوجد برنامجٌ مُلِحٌّ للتغيير، وحيث يُجمَّل النقد السلبي؛ أيْ في المؤسسات التي يمنعها التهذيب من مواجهة المشكلات. تفتقر هذه المؤسسات إلى محفزات إعادة التفكير المتمثِّلة في المعلومات والأفكار الجديدة؛ ونتيجةً لذلك، يتشجَّع الأفراد على الاحتفاظ بعقلياتهم وتجنُّب تقديم مفاهيمَ مثيرةٍ للجدل أو استفزازيةٍ إلى ثقافة الشركة. وفي هذه البيئة، تكون إعادةُ التفكير فكرةً منغصة.
كارل أحد كبار المسئولين في مؤسسةٍ كبرى للسلع المعبَّأة، ويتمتع بنقاطِ قوةٍ مهمة؛ فهو قائد على قدرٍ عالٍ من الذكاء العاطفي، شقَّ طريقه عبر إدارة الموارد البشرية. وعلى مدار سنواتٍ كان معلمًا وموجِّهًا للكثير من الأفراد، إلا أنه في السنوات الأخيرة انخفض أداء الشركة، وفقًا لمقياس الحصة السوقية وسعر السهم. ومع أن الشركة لا تزال ناجحةً إلى حدٍّ كبير، فإنها تحاول أن تُنمِّيَ بين قادتها منهجًا جديدًا أكثر اهتمامًا بالأداء. وكجزءٍ من هذه التنمية، عمل أحد الموجهين مع كارل كي يساعده على أن يصبح قائدًا مبتكرًا أكثر اهتمامًا بالأداء، خاصةً فيما يتعلَّق بخلق بيئةٍ معينةٍ لفِرَق العمل يزدهر فيها الابتكار. ولسوء الحظ، عندما جمع الموجِّه تعقيباتِ الآخرين، كان معظم الانتقادات لأسلوب إدارة كارل مغلفًا بالمديح؛ ولذلك كان من الصعب ملاحظة أي سلبيات. كان الجميع يعلمون أن رغبة كارل في أن يكون محبوبًا تعترض أحيانًا طريقه عند مواجهة الصراع، والوفاء بالمواعيد النهائية لإنجاز المهام، وتحقيق النتائج، لكن لا أحد في هذه الثقافة البالغة التحضُّر كان مستعِدًّا لإخباره بذلك. بل إن مدير كارل كان متردِّدًا في مصارحته؛ ونتيجةً لذلك، رفض كارل مقترحات الموجِّه القائلة بضرورة النظر إلى أسلوب قيادته للفريق بطريقةٍ مختلفة، وأنه ربما لا يُسدِي إلى أصحاب الأداء الهامشي معروفًا بإبقائهم في أماكنهم، وأن رغبته في إثارة إعجاب الجميع والانتماء إليهم تمنعه في بعض الأحيان من اتخاذ قراراتٍ صعبةٍ لكنها ضرورية. إن كارل عاجز عن إعادة التفكير في هذه الموضوعات لأن ثقافة شركته لا توفِّر الحافزَ اللازم لفعل ذلك.
كارول بارتس، الرئيس التنفيذي لشركة أوتوديسك، بارعة في إعادة التفكير في طريقة إنجاز الأمور في شركتها. ومنذ أن أصبحت الرئيس التنفيذي للشركة عام ١٩٩٢، ساعَدَتِ المؤسسة في إعادة التفكير في مفاهيمها الأساسية أكثر من مرة. عندما انضمَّتْ إلى الشركة — المتخصِّصة في برمجيات التصميم المعتمِد على الكمبيوتر — كان لها منتجٌ أساسي واحد وسوقٌ ضيقة من المصمِّمين والمعماريين. بدأت بارتس على الفور في التوسيع والتنويع، وفي نهاية المطاف أعادَتْ ترتيب قاعدة العملاء لتضمَّ شركاتِ التصنيع، وصناعة البناء والتشييد، وشركات البنية التحتية (الطرق والجسور). وفي عام ١٩٩٩، أخذت الشركة في اتجاهٍ جديد؛ حيث اشترتْ شركةَ ديسكريت لوجيك مقابل ٤١٠ ملايين دولارٍ أمريكيٍّ، واستحوذت على تكنولوجيا تُستخدَم في أفلام الرسوم المتحركة والمؤثرات الخاصة في هوليوود. وخلال فترةٍ من الزمن قصيرةٍ نسبيًّا، أصبحت شركة أوتوديسك لاعبًا مهمًّا في مجال الإعلام، وأصبحتْ منتجاتُ ديسكريت تُستخدَم في أفلامٍ مثل «تيتانيك» و«لورد أوف ذا رينجز»، محقِّقةً ١٥ بالمائة من إيرادات أوتوديسك. وعقب بضع سنوات، واجهَتِ الشركة انكماشًا اقتصاديًّا؛ فأعادت بارتس تصوُّرَ الشركة مرةً أخرى، وفي هذه المرة ركَّزت على بيع البرمجيات بنظام الاشتراك؛ ممَّا مكَّنَ العملاءَ من استخدام البرمجيات خلال فترةٍ زمنيةٍ محدَّدة، وسمح لهم بالتحديثات المجانية أثناء تلك الفترة. إن هذه الخطوة التي أعادَتْ تشكيلَ نموذج عمل شركة أوتوديسك جذريًّا، لم تحقِّق فحسب تدفُّقَ إيراداتٍ يمكن توقُّعه بدرجةٍ أكبر، لكنها أدَّتْ أيضًا إلى دورةٍ زمنيةٍ أسرع لإنتاج برمجياتٍ جديدة.
وفي مقابلةٍ أجرَتْها مع مجلة «فورتشن»، تصف بارتس قدرتَها على إعادة التفكير على النحو التالي: «لقد غيَّرتُ هذه الشركة تغييرًا جذريًّا ثلاثَ مرات. إن الأمر يُشبِه ركوبَ قاربٍ شراعيٍّ يجب تغيير وجهته مع تغيُّر اتجاه الريح. لقد تغيَّرَ الاقتصاد، وتغيَّرَتِ التكنولوجيا، ولحسن الحظ كان لديَّ مجلسُ إدارةٍ صبورٌ.»
(٤) إعادة التفكير أمر نسبي
ربما يوجد قادة يُعِيدون التفكيرَ باستمرارٍ في عملهم، ومستعِدُّون لإعادةِ النظر حتى في أنجح أفكارهم ومناهجهم، ثم التخلُّصِ منها لصالح مفاهيمَ جديدةٍ ومحسنة. إلا أننا وجدنا من خلال تجربتنا أن هذا النوع من القادة الذين يتمتعون بعقليةٍ متفتحةٍ للغاية؛ هو نوع استثنائي. ولحسن الحظ، فإننا لا نحتاج إلى قادة يُعِيدون التفكير باستمرارٍ في طريقة إنجاز الأمور؛ فتحدِّي المرء لنموذج العمل الخاص به، أو قِيَمه، أو افتراضاته حول ما هو صحيح، يتطلَّب قدرًا كبيرًا من مهارات الشجاعة والقلب، والقادةُ الذين يستطيعون تحقيقَ هذا الهدف سوف يُعزِّزون كفاءتهم إلى حدٍّ كبير.
والأهم من ذلك، لا بد أن يتعلَّم القادةُ اختيارَ النقاط التي تتطلَّب إعادة التفكير؛ فإذا تطرَّفوا في إعادة التفكير، فقد يؤدِّي ذلك إلى نتائج عكسية؛ فالأشخاص الذين يُعِيدون التفكير في معتقداتهم الشخصية لا إراديًّا، يراهم الناسُ أشخاصًا متهوِّرين أو متقلِّبين أو حتى غرباء الأطوار. وإذا استمرَرْتَ في الإتيان بمنهجٍ جديدٍ في كل يوم، فسرعان ما سيتعلَّم فريقك أن يتخلَّص جديًّا من آخِر فكرةٍ توصَّلت إليها. على الجانب الآخَر، تظهر الفرص عندما يكون من الحكمة رؤية الأشخاص والمواقف بطريقةٍ مختلفة. وقد تسنح الفرصةُ في أحد برامج تطوير القيادة أو أثناء التوجيه، وهذا هو الهدف الأساسي من كلتا العمليتين. وربما تأتي الفرص عندما يُعاني القائد من إخفاقٍ ما، ويصبح منفتحًا على طرقٍ جديدةٍ لإنجاز المهام. وقد تأتي عندما تنتكس الشركة أو يتراجع أداؤها، ويصبح النظام «متحرِّرًا من القيود» أو منفتحًا على أسلوبِ تفكيرٍ جديد. وفي أي وقتٍ تُقدِّم فيه تلك الفرصُ نفسَها (ونزعم من واقع خبرتنا أنها لا تُقدِّم نفسَها بانتظام)، يصبح لزامًا على القائدِ الاستعدادُ لتحليل تلك الفرص من منظورٍ جديدٍ ومركَّز.
توجد، أيضًا، أمثلة أخرى لا تصبح فيها إعادة التفكير بالضرورة علامةً على قائدٍ يمزج بين مهارات العقل والقلب والشجاعة. فذات مرةٍ قدَّمْنا اقتباساتٍ مباشِرةً من أقوال خمسة عشر شخصًا أوضحوا أن قائدهم ينتهج استراتيجيةً خاطئةً، وأنه معانِد ومنعزِل وغير قادرٍ على التحلِّي بالمرونة عندما تصبح المرونةُ ضروريةً. قرأ القائد هذه الاقتباسات ورفضها على الفور، وأصَرَّ على أنها أقوال صادرة عن خمسة عشر شخصًا غير متفقين مع رؤيته.
هل كان هذا الشخص غبيًّا لأنه تجاهل الدليل الموجود أمامه، ورفض إعادة التفكير في استراتيجيته؟ أم كان قائدًا شجاعًا يتبع حَدْسه بدلًا من البيانات وتدريجيًّا سيُقنِع مؤسسته المقاوِمة لنهجه؟
وأخيرًا، يجب أن نعترف أنه في كثيرٍ من الأحيان تستأجر المؤسسات مستشارين لتولِّي إعادة التفكير نيابةً عنها. وحقيقة الأمر تكمن في أن الشركات تَوجُّهُها مُنصبٌّ في المقام الأول على الأنشطة، ومواردُها شحيحة، وتريد قيادة الموظفين نحو إنهاء المهام؛ فهي تفتقر إلى الوقت أو حرية التفكير اللازمة لإجراء تغييرات تختلف ١٨٠ درجةً عن ممارساتها المتبعة. وفي الوقت نفسه، تدرك الشركات أنها من الممكن أن تستفيد من التفكير الجديد، وفي هذه الحالة يستعينون بالمستشارين الذين يحفزونهم ويحثونهم على سلوك اتجاهاتٍ جديدة.
نحن لا نقترح إمكانية تجاهُل قادة المؤسسات لهذه المهارة إذا استعانوا بالمستشارين، بل نأمل أن يسمح القادة للمستشارين بتحفيزهم على إعادة التفكير وتقديم عناصرَ جديدةٍ إلى الثقافة تُجبِر الشركات على رؤية الأمور بطريقةٍ جديدة.
•••
أحد الجوانب التي لزامًا على القادة إعادة التفكير فيها هو كيفية ترسيم الحدود حول دورهم، وحول عملهم، وحول المؤسسة. وفي الفصل التالي سوف نستعرض الطرق المختلفة التي من خلالها يفرض العالَمُ المتغير على القادة إعادةَ ترسيم الحدود التي حدَّدوا بها أنفسهم وأدوارهم في العالَم.