إعادة ترسيم الحدود
الحدود هي ما يحدد هوية الشركات. وعلى الرغم من تزايد إدراك المؤسسات أن الحدود الملزمة الصارمة أصبحت من الماضي، فإن الأفراد العاملين في معظم المؤسسات لا يزالون عاجزين عن التفكير في الحدود القائمة بطرقٍ جديدة. ويتمسك المديرون بالخطوط التي تفصل إحدى الوظائف عن غيرها أو تفصل العملاء عن المورِّدين، بسبب التقاليد الثقافية من ناحيةٍ، وبسبب الضغط عليهم لتحقيق نتائجَ فوريةٍ من ناحيةٍ أخرى؛ فإذا كانت إعادة ترسيم الحدود لا تُسفِر عن نتائجَ فورية، فإنها لا تستحق عناء بذل الوقت والجهد.
كذلك تُوهمنا الحدود بوجود نظامٍ في عالمٍ تتزايد فيه الفوضى. في الأوقات المعقدة المتقلبة يتمسك الناس بالنظام السائد، وربما يرغبون لا شعوريًّا في الحفاظ على طرق الارتباط التقليدية؛ على سبيل المثال: إن تكوين شراكةٍ مع منافسٍ محتملٍ يتطلَّب التفكير في العلاقات داخل المجال بطرقٍ باعثةٍ على التهديد. ومزاولة الأعمال التجارية في الدول النامية تتطلَّب تعديلاتٍ مربكة. ومَن يرغب في إعادة ترسيم الحدود واستدعاء قدرٍ إضافيٍّ من التشوش والتعقيد إلى حياته؟
القادة الكاملون يرغبون في ذلك؛ فهم لا يعيدون ترسيم الحدود فحسب، بل يتقبَّلون عاطفيًّا التشكُّك الذي يصاحب القيام بالمهام بطريقةٍ جديدة؛ ويمكنهم أيضًا الإقدام على مخاطرة تكوين علاقاتٍ «غير تقليدية» والحفاظ عليها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن فهم فكرة الحدود المتحركة هي الخطوة الأولى، وما يساعد قادة المؤسسات في اتخاذ تلك الخطوة هو الوعي بالأنواع الخمسة المختلفة من الحدود التي يجب عليهم إعادة ترسيمها.
(١) الحدود التي توجد في اتجاهاتٍ وأبعادٍ مختلفة
جزء من تحدي إعادة ترسيم الحدود يعود إلى وجود نطاقٍ عريضٍ من الحدود؛ ونتيجةً لذلك، فأي مسئولٍ تنفيذيٍّ قد يكون قادرًا على التكيُّف مع العلاقات الجغرافية الجديدة، لكنه يجد صعوبةً في مشاركة المعلومات والموارد مع أفرادٍ في وظائفَ أخرى خلافًا لوظيفته. والحدود بطبيعتها هي خطوط فاصلة، وفي بعض الأحيان لا نتجاوزها إلا بمخاطرةٍ لا يُستهان بها. غالبًا ما تكون هذه الحدود نفسية، وأحيانًا يفترض القادة عواقب لتجاوز الحدود، ويتخيلون مشكلاتٍ لا يمكن أن تتحقَّق أبدًا في واقع الأمر. من الأسهل على القائد تجاوز أحد الحدود دون أن يعترض الخوفُ سبيلَه، على الرغم من ذلك قد يجد قدرًا أكبر من الصعوبة في تجاوز حدٍّ آخَر دون الشعور بالتهديد.
إن المعرفة تساعد في التخلص من جزءٍ من هذا الخوف المرتبط بتعديل الحدود، ودعونا نستعرض ما يتضمنه كل نوعٍ من الأنواع الخمسة للحدود المتمثلة في الحدود الخارجية، والرأسية، والأفقية، والجغرافية، والشخصية.
(١-١) الحدود الخارجية
تُحدَّد الحدود الخارجية بالخط غير المرئي الموجود بين المؤسسة وبيئتها؛ فلم يَعُدْ باستطاعة القائد تبنِّي عقليةٍ محليةٍ منعزلة، تعتمد فقط على مقارنة أداء الشركة هذا العام مع نظيره في العام الماضي. ولم يَعُدْ مهمًّا أن يكون أحد الأفراد أفضل الموظفين أداءً في الشركة، أو أن تتفوق إحدى الوحدات في أدائها على جميع الوحدات الأخرى؛ فكل شيءٍ الآن يجب الحكم عليه وفقًا للمعايير العالمية، وهذا يعني النظر إلى العالَم الموجود فيما وراء حدود المؤسسة.
قد يخلق ذلك خوفًا؛ فمن المُطَمْئن إلى حدٍّ كبيرٍ أن تعلم أن معدلات دوران المخزون أو أن مدد دورة العمل زادت بمعدل خمسةٍ بالمائة عن العام الماضي، مقارَنةً بأن تعرف أن أداءك أقل بكثيرٍ من أداء أفضل الشركات في المجال. إن الخوف من الاعتراف بوجود فجوةٍ بين الأداء الحالي والمعايير العالمية يجعل التركيز منحصرًا داخل المؤسسة. وقد بيَّن توماس فريدمان هذه النقطة على نحوٍ غايةٍ في الوضوح في كتاب «العالم مسطح»؛ فنظرًا للتكنولوجيا، وتدفُّق المعلومات، وحواجز دخول الأسواق التي انخفضت، أصبح ملعب المنافسة مسطحًا وأصغر حجمًا؛ فمعظم الأعمال الاحترافية أصبح الآن من الممكن إنجازه في أي مكانٍ في العالم على مدار الساعة؛ ولذلك فإن المنافسين المحتملين المتلهفين في الهند والصين وأفريقيا، أصبحوا الآن يضعون معايير جديدة للإنتاجية وفعالية التكلفة.
على الرغم من أن الشركات في مجملها تعترف بأن العالم مسطح، فإن هذا الوعيَ لا يتحول بالضرورة إلى عقليةٍ تتبنَّاها كلُّ شركةٍ على حدة. وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يبدو غريبًا، فلقد قابلنا الكثير من القادة الذين يعترفون بأن المنافسة أصبحت الآن تأتي من كل حدبٍ وصوبٍ بالمعنى الحرفي، وأن السبيل الوحيد للبقاء هو التحدي المستمر للأداء وزيادته، لكنهم «يعتبرون ذلك الأمر مسئوليةَ شخصٍ آخَر»، ولا يُحوِّلون هذا الإدراك إلى مقتضياتٍ عليهم الوفاء بها.
(١-٢) الحدود الرأسية
لطالما كانت العلاقة بين المدير والمرءوس المباشر ذاتَ حدودٍ غايةٍ في الوضوح، سواءٌ أكانت من جانب المرءوس أم من جانب المدير. وفي اليوم الحاضر، لم تَعُدْ مصطلحات «من جانب المرءوس» و«من جانب المدير» غير مناسبةٍ فحسب، بل إن العلاقة بين المرءوس والمدير تغيَّرت وسوف تستمر في التطوُّر؛ فالمديرون لا بد أن يكونوا مُوجِّهين، وكذلك معلِّمين للآخرين، وهذا يتطلَّب إظهار قدرٍ أكبر من الشفافية والذكاء العاطفي. وبصفتهم مُوجِّهين ومعلِّمين، أصبح لزامًا عليهم تمكين مرءوسيهم باستمرار. وفي الاتجاه الآخر، يتحمَّل المديرون أمام رؤسائهم مسئولية تقديم معلوماتٍ بالغة الدقة (فالرؤساء يتوقَّعون من المديرين أن يكونوا مُلِمِّين بلوحات المتابعة والقياسات إلمامًا عميقًا)، وهذا المطلب يسبِّب في الغالب الحيرة للمديرين الذين مكَّنوا مرءوسيهم؛ ومن ثَمَّ أصبحوا غير مُلِمِّين عن كثبٍ بتفاصيل المشروع.
إن هذا النوع من تغيير الحدود صعب بصفةٍ خاصةٍ على المديرين الذين اعتادوا إخبار موظفيهم بما يجب القيام به وما يتوقَّعون منهم إنجازه. وكما قال أحد المديرين المحنكين: «أنا لم أنضم إلى المؤسسة لأكون معلمًا مثل السيد روجرز مذيع الأطفال.» وفي أغلب الأحيان يكون من الصعب على المديرين المركزين على النتائج أن يعترفوا بأهمية هذا الجانب الليِّن من شخصيتهم، خاصةً في ظل الحاجة الملحة إلى إنجاز المهام بسرعة؛ فهم يرَوْن أن التوجيه والتعليم والتزام الشفافية قِيَمٌ معلنة، لكن سلوكهم لا يتبع تلك القِيَم، والسبب عادةً يرجع إلى أنهم يُعْلُون من قدر ردود الأفعال. وفي قرارة أنفسهم يقولون: «أعلم أن هذا مهم، لكن المتطلبات الفورية لدوري لها الأولوية.» يبدو كذلك أن التزام المديرين بإمداد قادتهم بالمعلومات المفصلة يُشتِّتهم عن مهمة إيجاد العملاء أو الزبائن والبيع لهم والحفاظ عليهم. وإذا لم يتبعوا أسلوب الإدارة التفصيلية، فكيف يكون من المفترض أن يعلموا كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في المشروع؟
(١-٣) الحدود الأفقية
منذ ظهور إدارة الجودة الشاملة في ثمانينيات القرن العشرين، تزايدت أهمية العلاقات الأفقية. إن فهْمَ إدارة سلسلة التوريد وتقديمَ حلولٍ تتكامل مع احتياجات العملاء تطلَّبَا مستوًى من الشراكة مع العملاء والموردين لم يكن له مثيل في فترةٍ سابقة. وعلى الرغم من مرور ما يزيد على عشرين عامًا منذ ظهور إدارة الجودة الشاملة، وتَحوُّل شركاتٍ مثل وول مارت وفيدرال إكسبريس وديل وغيرها الكثير إلى روَّاد التكامل الشامل مع الموردين؛ فإنه لا تزال توجد حتى اليوم نسبةٌ كبيرة من المديرين الذين يقاوِمون فكرةَ الشراكات العميقة مع الموردين، أو يُكوِّنون شراكاتٍ دون حماس، أو التزام، أو انفتاحٍ حقيقي. وبالمثل، فإن نمو الفرق و«مجموعات المصالح» كلتَيْهما في المؤسسات جعَلَ العلاقات مع الأقران أكثر أهميةً من أي وقتٍ مضى، لكن فكرة إنجاز المهام من خلال تأثير الأقران بدلًا من السلطة الوظيفية ليست فكرة يتبناها كل المديرين.
وعلى الرغم من أن المديرين يعلمون أن عليهم إدارة هذه الحدود الأفقية، فإنهم في أغلب الأحيان لا يقومون بذلك على نحوٍ جيد. ومثلما اعتادوا على التفكير في العلاقات الرأسية المتمثلة في علاقة الرئيس بالمرءوس على أنها علاقاتُ غالبٍ ومغلوب، فإنهم يرَوْن العلاقات مع الموردين والزملاء غيرَ متكافئةٍ بطبيعتها؛ إذ تبدو لهم فكرةُ الشراكة فكرةً غيرَ طبيعية. وعلى الرغم من أن عددًا كبيرًا منهم كان مجبرًا على الشراكة، فإنهم كثيرًا ما يفعلون ذلك اسميًّا فحسب. إن الأشخاص الذين يقاومون إعادة ترسيم الحدود يكونون في الغالب غير مساهمين في فِرَقهم، وغير مستعدين لمشاركة المعلومات والأفكار، أو يفشلون في توجيه الآخرين إلى المشاركة.
(١-٤) الحدود الجغرافية
تبدو التغييرات الحدودية واضحةً هنا بالفعل؛ فعندما تتجه الشركات إلى قدرٍ أكبر من اللامركزية، وتشترك في مشاريعَ مشتركة، وتُكوِّن تحالفاتٍ غيرَ رسميةٍ للتسويق أو لتطوير المنتجات، وتشترك في عمليات الاندماج والاستحواذ حول العالم، فإن الحدود القديمة لا يعود لها وجود. إن العملَ في ثقافاتٍ غير مألوفةٍ، والتحليَ بالمرونة عند مواجهة أساليبَ ثقافيةٍ مختلفةٍ في التعامل مع الأعمال، والقيادة، والمفاوضات؛ يمكن أن تمثِّل تحديًا.
يجد بعض المديرين صعوبة في إدارة العلاقات المتعددة الثقافات التي تتجاوز مستوى الحوار السطحي. ومن الصعب عليهم كذلك التأقلم مع القيم الثقافية السائدة لدى دولةٍ أخرى، ويتساءلون لماذا لا يمكن إجراء علاقات العمل بالطريقة نفسها في كل مكان، أو بالأحرى، بالطريقة التي اعتادوا عليها. والبعض الآخر من المديرين يحاولون فرض أسلوبهم على الآخرين، مفترضين أن أسلوب الإدارة الأمريكي هو الأسلوب الأفضل. وفي أيٍّ من الحالتين، فإن هؤلاء الأفراد لا يقبلون ضرورة إعادة ترسيم تلك الحدود في ذلك العالم الدولي المتشابك.
(١-٥) الحدود الشخصية
عندما كانت المؤسسات أصغر نطاقًا في أزمنةٍ أكثر بساطةً، كانت الصفات الغريبة للقادة، بل حتى عيوبهم الوظيفية، مسموحًا بها. وأكثر من واحدٍ من الرؤساء التنفيذيين الذين يحظَوْن بتقديرٍ بالغٍ — حتى أولئك الذين ألَّفوا الكتب عن فلسفتهم ونجاحهم — كانوا في أغلب الأحيان طغاة أو مستأسدين على موظفيهم تحت ذريعة الأداء. واليوم، أصبح لزامًا على الناس إدارة الجانب المظلم من شخصيتهم وضعفهم الشخصي، من أجل العيش في بيئةٍ معقدةٍ أكثر شفافيةً ولا ترحم. إن المعوقات التي ناقشناها في كتاب «لماذا يفشل الرؤساء التنفيذيون؟» — مثل العزلة والغرور والتقلب — يمكن أن تُقلِّل من نجاح الأفراد ونجاح المؤسسة إذا لم تصبح محلَّ اعترافٍ وتفهُّمٍ ومعالجة. وقد استشهدنا ببحث بوب هوجان في أحد الفصول السابقة، الذي أشار بوضوحٍ إلى أهمية الصفات الشخصية في نجاح القائد. إن صفاتٍ مثل الأمانة والنزاهة، والحافز والطموح، والانفتاح على الأفكار الجديدة، والطاقة والشغف والذكاء العاطفي؛ كلها تؤثِّر على النجاح في القيادة بالقدر نفسه الذي يؤثِّر به الذكاء المعرفي. ومن الأهمية القصوى إدراك أن السمات الشخصية لم تَعُدْ موضوعًا يحظر التحدُّث عنه، وأن طبيعتك كشخصٍ تؤثِّر على أدائك كمديرٍ وكقائد.
بعض الناس يرفضون بعنادٍ الاعترافَ بأن شخصيتهم القيادية تخلق المناخ الذي يقودون فيه الآخَرين. ومن المحتمل أن يكونوا في حالة إنكارٍ لهذا التأثير، أو ربما يعتقدون أن هذا النوع من التحليل الذاتي ليس له مكان في عالم الأعمال. ولكي يكونوا قادةً أكْفاءً، لا بد أن يدركوا باستمرارٍ أن نقاط ضعفهم وميول الجانب المظلم من شخصيتهم تقلل من كفاءتهم، ويجب أن يتعلموا كيفية إدارتها.
(٢) إعادة الترسيم، لا التدمير
نريد أن نؤكِّد على أن الواجب المعرفي في هذا الصدد هو إعادة ترسيم الحدود لا إزالتها؛ فمع كل ما كُتِب عن المؤسساتِ التي ليس لها حدود والمؤسساتِ المصفوفية، أصبح من السهل أن يتشوش المرء؛ فالقائد الشامل ليس أناركيًّا يتجاهل الحدود كما لو كانت صنائعَ نظامٍ شرير. وبدلًا من ذلك، فالقائد الشامل يتقبَّل إشكالية الحدود؛ فهي من ناحيةٍ تساعد الأشخاص على تحديد الهدف ونقطة التركيز، ومن ناحيةٍ أخرى عندما تصبح الحدود صارمةً للغاية وراسخةً في أذهان الناس، فإنها تَحُدُّ خيارات التصرُّف. في الوضع المثالي، سوف يتعلَّم الناس أن يرَوْا أن هذه الحدود من الممكن اختراقها وأنها متغيرة. وهذا يعني أنهم سيصبحون ماهرين في اجتياز الحدود الحالية عندما تقتضي الضرورة، وسوف يقبلون بتغيُّر الحدود الرأسية، والأفقية، وغيرها من الخطوط الفاصلة عند تغيُّرها.
في بعض المؤسسات المصفوفية يكون اتخاذُ القرار على نحوٍ جماعيٍّ مطلوبًا، وتُبذَل الجهود من أجل إشراك أكبر عددٍ ممكنٍ من الأشخاص في هذه العملية. ويتجاهل الأفراد الحدودَ من أجل تسهيل مشاركة وجهات النظر المختلفة، ودفع عملية اتخاذ القرار إلى المستويات الصحيحة. وعلى الرغم من ذلك، فمن دون وجود تلك الحدود من الممكن أن تكون الفوضى هي النتيجة؛ ففي الشركات المصفوفية يوجد في الغالب نظامُ الاستشارة دون مساءَلة؛ أيْ لا بد من استشارة الجميع قبل إنجاز أي مهمة، لكن لا أحد يعرف مَن الشخص الذي يمكن مساءلته. إن الحدود تُمكِّن من المساءلة، بالإضافة إلى أنها تمدُّنا بالنظام والبروتوكولات الضرورية للإدارة الناجحة.
ولذلك، فإن إعادة ترسيم تلك الحدود تبدو خَطِرةً؛ فعندما تصبح الحدودُ بين المدير والمرءوس المباشِر، أو الشركة والمورد غيرَ واضحة، وتصبح الأدوارُ (ومن ثَمَّ المساءلة) غيرَ واضحة؛ فإنك تلمح فوضى المؤسسات عديمة الحدود، التي وصفناها للتو. وتَرِد على أذهان المديرين أسئلة مثل: «كيف سأجعل الموظفين ينفذون ما يلزم إنجازه إذا تضاءل نفوذي الوظيفي؟» أو «كيف يمكن أن آتَمِن المورد على معلوماتٍ تخص الشركة؟» أو «كيف يمكن أن أتشارك مع إحدى الشركات في إحدى المناطق وأنافسها في منطقةٍ أخرى؟»
كل هذه الأسئلة أسئلة مشروعة، لكن إعادة ترسيم الحدود لا تعني تجاهُل الأجوبة؛ إنها تعني احترام الحدود لكن مع الاستعداد لتجاوزها عندما يتطلَّب الموقف. وفي بعض الأحيان، يكون لزامًا على المدير أن يُعطيَ فريقه تعليماتٍ مفصَّلة. وفي أحيانٍ أخرى، يحتاج المدير إلى توجيه المرءوسين والتأثير عليهم والسماح لهم بالحرية لتحقيق الأهداف بطرقهم الخاصة.
وتوجد طريقة أخرى للنظر إلى هذه الإشكالية تتضمَّن الصوامع الموجودة داخل المؤسسات. لقد وجَّه الجميع، من خبراء الأعمال وحتى الإعلام، نقدًا قاسيًا للمديرين الذين يظلون محبوسين ذهنيًّا داخل صوامعهم الوظيفية. وعلى الرغم من أنه يجب على القادة خَلْق شعور بالالتزام تجاه وحدة عملٍ أو صومعةٍ معينة؛ فإنه يجب على الأشخاص أن يتوحَّدوا مع وظيفتهم ويشعروا بالفخر بما يقومون به، وأن يرتبطوا بروح الصداقة مع الأشخاص الذين يتشاركون معهم في مجال الخبرة. وفي الوقت نفسه، يجب أن يشجِّع القادةُ موظفيهم على تجاوُز تلك الصوامع، وأن يصبحوا جزءًا من المؤسسة الأوسع نطاقًا. يجب أن يُعلِنوا أن على الموظفين ألَّا يجدوا حرجًا في تجاوز الحدود والمشاركة بالأفكار والمعلومات مع الوظائف الأخرى، إذا كان هذا يساعد في تحقيق أهداف المؤسسة.
تجني المؤسسات فوائدَ هائلةً عندما يستطيع القادة ملاحظة الحدود وإعادة ترسيمها أيضًا؛ فعلى سبيل المثال: بعض القادة يستطيعون وضع أهداف الشركة الداخلية نُصبَ أعينهم مع النظر أيضًا إلى الأمور بعين العميل؛ ونتيجةً لذلك، فإنهم يصمِّمون أنظمةً وعملياتٍ تجعل الحياة أيسر لمَن في داخل الشركة، وتُركِّز أيضًا على احتياجات العملاء. إنهم قادرون على تجاوُز الحد القديم الذي ينصُّ على ضرورة تصميم الشركة أفضلَ العمليات التي تخدم أهدافها، وتسمح لهم إعادةُ ترسيمِ هذا الحد برؤية كيف تؤثر تلك العمليات على المساهمين الخارجيين.
وبالمثل، فإن القادة الذين يستطيعون إعادة ترسيم الحدود الأفقية هم أكثر قدرةً على إحداث تكاملٍ بين سلاسل التوريد وبين مؤسساتهم؛ مما يقلل من تكاليف المخزون ويزيد سرعة التسليم. هذه ميزة تنافسية كبيرة، لكنها تتطلَّب قَبول الموظفين حقيقة أن ما يعرفه العميل يعرفه المورد. وبعض التنفيذيين يتبنَّوْن نظرية الشراكة مع الموردين، لكن عندما يتعلَّق الأمر بتمكينهم من الدخول المباشِر إلى معلوماتٍ حساسة من خلال موقع ويب مشتركٍ، فإنهم يتردَّدون. وعلى الرغم من الفائدة الكبيرة لهذه الفكرة، فإن الاحتمالية السيئة المتمثلة في إمداد الموردين للمنافسين بمعلوماتٍ تخصُّ الشركة، تجعل هؤلاء التنفيذيين يرفضون الفكرة.
ربما تأتي الفائدة الكبرى من إعادة ترسيم الحدود الرأسية؛ ففي وقتٍ يشهد أكثر من أيِّ وقتٍ مضى ازديادَ أهمية تطوير المواهب الداخلية بدلًا من الاعتماد على توظيف المواهب، يجب على المديرين التركيز على مسئولياتهم في التوجيه والتعليم. وكلما زاد عدد المديرين الذين يعيدون ترسيم هذا الحد، زادت المواهب التي ستظفر بها المؤسسة، وسوف تظفر بها في وقتٍ أسرع. وعلى الرغم من ذلك، فإن كان المديرون غير قادرين على التوفيق بين مسئوليات التوجيه والتعليم وبين ضغط تحقيق النتائج القصيرة المدى، فإن هذه الفائدة ستظل صعبة المنال.
(٣) الأمور التي تجعل الحدود ثابتة وباعثة على الرهبة
وعلى الرغم من أن هذه العقبات باعثة على الرهبة، فإنه من الممكن التغلب عليها من خلال مجموعةٍ متنوعةٍ من الأساليب. ومن واقع تجربتنا توجد ثلاثة أفعال محددة تحفِّز استجابة إعادة ترسيم الحدود.
(٤) المحفزات الثلاثة
وكما سنرى في الفصل القادم، فإن إعادةَ ترسيم الحدود وممارسةَ السلوكيات المعرفية الأخرى التي ناقشناها تمهِّدان الطريقَ أمام المهارة المعرفية التالية المتمثِّلة في: التنفيذ أو إنجاز المهام.