العمل مع أشخاص من ثقافات متنوعة وقيادتهم
مثلما تساعد الثقةُ القادةَ على المُضي قُدمًا في المساحات البيضاء، فإن التعاطُف يُمكِّنهم من التنقُّل بكفاءةٍ في الثقافات المتنوعة. وسواءٌ أكان القادة يعملون مع مجموعةٍ متنوعةٍ من الزملاء في إحدى المؤسسات، أم كانوا يقودون فريق أحد المشروعات في الصين، فإن القادة المتعاطفين يمتلكون قدرةً لا تُقدَّر بثمنٍ على تفهُّم احتياجات الآخرين وقِيَمهم ومعتقداتهم، بطريقةٍ تنمُّ عن فهمٍ لأساليب الحياة الأخرى واحترامها. واليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، يُزَجُّ بالقادة في مواقفَ لا بد أن يعملوا فيها مع أشخاصٍ مختلفين عنهم ويقودوهم. والتعامل مع هذه المواقف على أساسٍ معرفيٍ بحت (أيِ الشرح دون التمكُّن من التواصُل عاطفيًّا على الإطلاق)، لن يكون مجديًا.
إن الأشخاص أذكياء فيما يتعلَّق بأمور القلب؛ فهم يستطيعون أن يعرفوا متى يصطنع القادة التعاطف، أو متى يتظاهرون به أو يُظهِرونه بغرض الاستغلال. أما التعاطف الحقيقي، فهو واضح وضوح الشمس، ومعظمُ المرءوسين المباشِرين يمكنهم استشعار ما إذا كان القادة يفهمون أقوالهم ومخاوفهم. إنهم يشعرون بالارتباط مع الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يفهمونهم ويحترمونهم، وهذا الارتباط لُحْمتُه العواطفُ.
وكما سنرى، فإن التعاطف (الذي يُعَدُّ مكونًا أساسيًّا من مكونات الذكاء العاطفي) لا يعني أن يكون المرء لينًا أو سهلًا؛ فبعضٌ من أكثر القادة الذين نعرفهم صرامةً كان لديهم جانب عطوف للغاية، وهذا ساعَدَهم على تكوين علاقاتٍ قويةٍ عبر الحدود الجغرافية والعمرية والعِرْقية. وبصرف النظر عن هوية الشخص أو المكان الذي جاء منه، فإنه يتجاوب بإيجابيةٍ مع القائد الذي يبذل مجهودًا في الاستماع إليه، وتفهُّمه، والشعور بما يُحسه. وحتى إذا كان لكلٍّ منهما توجُّه مختلف تجاه العمل، وجاءا من خلفياتٍ مختلفةٍ جذريًّا، فإن التعاطُف يمكن أن يكون أرضيةً مشتركة. إن القادة المتعاطفين قادرون على تحقيق الولاء والالتزام على المدى الطويل، حتى في هذا العصر الذي تتسم فيه العلاقاتُ بقِصَر الأجل إلى حدٍّ كبير. كذلك يستطيعون الحصول على أعلى قدرٍ من الإنتاجية من جميع أنواع الأشخاص.
وتتَّضِح طريقة تحقيقهم لذلك عندما نحدِّد مفاهيمنا فيما يلي:
(١) التعاطُف والصرامة ليسا خيارين متعارضين
كثير من القادة في المؤسسات يشعرون بضرورة الاختيار بين إبداء التعاطف وإظهار الصرامة. وتحت الضغط الشديد من أجل الأداء، أو تحت ضغط السرعة من أجل إنجاز المهام، أو خوفًا من الاقتراب الشديد من الموظفين، فإنهم يختارون خيارَ «الصرامة» ويكبتون اللُّطفَ والرغبةَ في الاستماع إلى الآخرين والتعاطُف معهم، تلك المشاعر التي غالبًا ما تكون متأصِّلةً فيهم. وعلى الرغم من أنهم قد يعاملون جيدًا الأشخاصَ المقاربين لهم في العُمْر أو الخبرة أو المنظور (فالتوافق يوجد بين الأشخاص الذين نَشَئوا في المنطقة نفسها، أو لديهم الخبرة الجامعية نفسها، أو تدرَّجوا في المناصب في إحدى الوظائف أو وحدات العمل معًا)، فقد يراهم الآخَرون لا مبالين بأولئك القادمين من خلفياتٍ مختلفةٍ عنهم. وتزداد هذه النظرة سوءًا عندما يعجزون عن إظهار العطف ويعتمدون فقط على صرامتهم؛ وتنتهي بهم الحال وهم لا يفهمون إلا قطاعًا صغيرًا من موظفي الشركة.
إن التمتُّع بصفة التعاطُف لا يعني أن تتهاون في المعايير، أو أن تصبح سهل الانقياد. ووفقًا لتعريف القاموس، فإن مصطلح «تعاطف» يتضمَّن وضْعَ نفسك في مكان الشخص الآخَر تمامًا بحيث تستطيع أن «تشعر بما يشعر». إن التعاطف يتجاوز مجرد الشعور بالأسف تجاه معاناة الآخرين، الذي يصبحه غالبًا الرغبة في مساعدة الشخص الذي يعاني. وإذا شرحنا التعاطف في سياق مجال الأعمال، فإنه يعني تجاوز الإدراك العقلي لمشكلات الشخص أو مخاوفه، واتخاذ إجراءٍ ينمُّ عن التفهُّم الصادق. و«التفهُّم» ها هنا كلمة أساسية؛ فهي ما يريده معظم الموظفين من قادتهم. إن التفهُّم لا يعني القَبول، وهذه هي النقطة التي تلتبس فيها الأمور على القادة فيما يتعلَّق بتوقُّعات الآخرين؛ فمعظم الأفراد في المؤسسات لا يعملون وهم متوهمون أن مديريهم سوف يذعنون لكل طلباتهم أو حتى معظمها؛ ولا يتوقَّعون أن يرضخوا لنزواتهم أو أن ينخرطوا حتى في حوارٍ لا ينتهي حول موضوعٍ معين. أما ما يتوقَّعونه ويُقدِّرونه فعلًا فهو التفهُّم المتعاطف؛ فعندما يشعر الموظفون بأن قادتهم «يفهمونهم» حقًّا، وعندما يُصدِّقون أن القادة يُقدِّرون موقفَهم، ليس فقط عقلانيًّا، بل عاطفيًّا كذلك، فإنهم يردُّون على ذلك بالعمل الجاد والالتزام والابتكار. ومعظم الموظفين يتوقَّعون من قادتهم أن يهتمُّوا بكلٍّ من نتائج العمل وسلامتهم كموظفين، وإذا عبَّر القادة عن الأمر الأخير على نحوٍ ناجح، فسوف يشعر الموظفون بالانتماء والتقدير؛ وهذا يؤدي إلى مزيدٍ من الالتزام والولاء.
توجد أمور كثيرة يمكن إبداء التعاطف إزاءها في بيئة العمل العادية؛ فالآباءُ والأمهات يكافحون من أجل تحقيق التوازن بين العمل والمشكلات الأسرية، والزملاءُ ينافس بعضهم بعضًا من أجل الموارد والترقيات الوظيفية التي تقل على نحوٍ متزايد، والأقلياتُ (من حيث العِرْق والنوع والتوجُّه الجنسي والعُمْر) تحاول أن تجد مكانها في مؤسسةٍ تسيطر عليها الأغلبية. وفي المؤسسات العالمية، تزداد الحاجة إلى التعاطف كذلك؛ إذ ينتقل الموظفون إلى بلدانٍ ذات أساليب حياةٍ وقِيَمٍ مختلفةٍ جذريًّا.
وبطبيعة الحال، فإن التعاطف يأتي مرتبطًا بمعضلة العقل والشجاعة؛ فالقادة الذين يبالغون في التعاطف معرَّضون لخطر تجاوز الحدود؛ فهؤلاء يصبحون مِعْطَائين وداعمين للغاية لدرجة أنهم يُضَحُّون بمعاييرهم الشخصية، وبمعايير المؤسسة أيضًا. من زاوية العقل، فإنهم يجب أن يُقيِّموا أين يجب أن يتوقَّف التعاطف، وأين يجب أن تبدأ المطالبة بالأداء. ومن زاوية الشجاعة، فإنهم قد يحتاجون إلى إظهار العطف إزاء العقوبات السلبية المرتبطة بالنتائج، أو ربما يحتاجون إلى إظهار الشجاعة لإخفاء التعاطف نظرًا للحاجة الملحة إلى الأداء.
تصبح «معضلة التعاطف» واضحة عند التفكير في الطريقة التي يتأقلم بها الناس عادةً مع الوظائف في الثقافات الأجنبية؛ فبعض الناس عندما يكونون في مهمةٍ خارج الوطن لا يرَوْن الحاجةَ إلى الانخراط في الثقافة المحلية؛ فيعزلون أنفسهم في مجتمعاتٍ منغلقةٍ مكونةٍ من بني وطنهم، ويختلطون فقط مع آخرين من بلدهم أو من بلدانٍ صناعيةٍ شبيهة؛ ويعزلون أنفسهم عن أبناء وعملاء البلد الجديد. على طرف النقيض، بعضهم «يتحوَّل إلى مُواطِنٍ من المواطنين الأصليين»؛ فلا يقبلون الثقافة فحسب، بل يغمسون أنفسهم فيها أيضًا، ويتبنَّوْن كلَّ سمات الثقافة الجديدة، ويُظهِرون تعاطفًا كبيرًا مع مواطنيها. إلا أنهم في الوقت نفسه يعرِّضون أنفسهم لخطر تجاهُل مسئوليات المؤسسة التي يعملون لصالحها، والاضطلاع بدور الممثلين للبلد الذي أُرسِلوا إليه بدلًا من أن يكونوا ممثلين للشركة.
في الوضع المثالي، يتعلَّم الأشخاص القيادة والإدارة وسط الثقافات المتنوعة، من خلال موازنة دافعهم المتأصِّل نحو الأداء بالتعاطف الصادق مع الآخرين. وفي جوهر الأمر، فإنهم يحتاجون إلى تعلُّم الموازنة بين عوامل معضلةٍ أخرى، من خلال تذكُّر أنهم بشر ومسئولون تنفيذيون أيضًا؛ أيْ إنهم مسئولون عن التجاوب مع الزملاء والعملاء أصحاب القِيَم المختلفة، لكنهم مسئولون أيضًا عن تنفيذ الأهداف وتمثيل قِيَم شركتهم، التي قد تتعارض في بعض الأحيان مع احتياجات البلد المحلية. إن إدارة هذه المعضلة «المحلية-العالمية» تعني في الغالب وضع حدودٍ على التعاطف، وفي الوقت نفسه تجنُّب التعامُل القاسي مع المخاوف المحلية.
إن تحديد قدر التعاطُف اللازم إظهاره قد يصبح معقَّدًا بفعل عوامل كثيرة؛ فعلى صعيد المواقف، في بعض الأحيان يتطلَّب الأمر إظهار قدرٍ أكبر من التعاطف؛ على سبيل المثال: يستحق الموظف الذي كان أداؤه عاليًا على مدار سنواتٍ أن نُحْسِن الظنَّ به، وإذا بدأ أداؤه في الانخفاض، فربما يرغب المدير في منحِه مساحةً من الحرية، ومحاولةِ فهم ما يحدث، ودعمِه عاطفيًّا قبل مواجهته. إلا أنه في الوقت نفسه عندما يكون المدير تحت ضغطٍ شديدٍ من أجل تحقيق أهدافٍ طموحةٍ، ولا يوجد متسع لعدم تحقيق أي فردٍ لأهدافه، فقد يضطر إلى التصرُّف على نحوٍ أسرع ممَّا يودُّ. وفي ظل هذه الظروف، لا مجالَ للتهاون ولو لقدرٍ قليلٍ منه. وفي كثيرٍ من الشركات في وقتنا الحاضر يكون هذا هو بالضبط الموقف الذي يواجهه معظمَ القادة.
وأخيرًا، لا تنسَ أن القدرة على إظهار التعاطف صفةٌ غريزية، وبعض القادة أكثر تعاطُفًا بطبيعتهم تجاه الآخرين مقارَنةً بالبعض الآخر؛ وهذا يعني أنه لا يمكن توقُّع قدرٍ مماثلٍ من التعاطف من الجميع. وعلى الرغم من أننا نعتقد أن أي شخصٍ تقريبًا يمكنه اكتساب القدر اللازم من التعاطف للتعامل مع معظم الظروف، فإن بعض الأشخاص سيكون لزامًا عليهم أن يبذلوا جهدًا أكبر من غيرهم في هذا الصدد.
(٢) طرق تأثير التعاطف على الأفراد والبرامج
(٣) مثال على قائدٍ متعاطفٍ على نحوٍ فريد
على مدار سنوات، شنَّتْ مؤسسة ذا بدي شوب الكائنة في المملكة المتحدة حملاتٍ ناجحةً ضد إجراء التجارب العلمية على الحيوانات، وأقامت في شركتها أول مركزٍ لرعاية الأطفال في مقر العمل في المملكة المتحدة، وساعدت في إطلاق شبكة المغامرة الاجتماعية؛ وهي تحالف مكوَّن من شركاتٍ تقدُّميةٍ هادفةٍ إلى «جعْل عالَم الأعمال أكثر رحمةً». وفي الحقيقة، كتبت روديك كتابًا بعنوان «ثورة في العطف».
لم يكن أيٌّ من هذه الإسهامات ليلفت هذا الانتباه الكبير لو لم تكن مؤسسة ذا بدي شوب على قدرٍ كبيرٍ من النجاح. إن النشاط الاجتماعي للشركة راقَ لمجموعةٍ متزايدةٍ من المستهلكين في تسعينيات القرن العشرين، ممَّن اهتموا بالبيئة وبغيرها من الموضوعات. وأرادوا شراء منتجاتٍ من شركةٍ كان واضحًا أنها تضع نُصْبَ عينَيْها ما سيحقِّق مصلحةَ العالَم بأسره. وعلى القدر نفسه من الأهمية، أراد تنفيذيون شباب مثاليون وبارعون للغاية العملَ لدى شركةٍ تفكِّر في الناس بقدر تفكيرها في الأرباح.
من الواضح أن روديك كانت لديها أيضًا شجاعةُ تكوينِ وبناءِ شركةٍ على أساس برنامج ثوري للحقوق الاجتماعية، وكانت تتمتع أيضًا بالذكاء الذي مكَّنها من تسويق تلك الفلسفة على نحوٍ ناجح. إن رؤيتها — المتمثِّلة في وجود سوقٍ متخصِّصةٍ قويةٍ لمنتجاتٍ تصنعها شركة مسئولة اجتماعيًّا — لم تكن صحيحةً فحسب، بل كانت سابقة لعصرها. لقد كانت شركة ذا بدي شوب رائدةً في مجال التنوُّع، وأظهرَتْ روديك القدرةَ على قيادة مجموعةٍ متنوعةٍ من الموظفين، إلى جانب القدرة على الشراكة مع كافة أنواع المؤسسات المهتمة بالمصالح الاجتماعية. وباختصار، لقد قادت روديك بقلبها، لكنها تلقَّتْ مساعداتٍ قويةً من عقلها وشجاعتها.
(٤) اكتساب التعاطف
عندما يدفع القادة أنفسهم خارج منطقة الراحة، لا بد أن يكونوا مستعِدِّين لمواجهة حقيقة أنهم قد يوجد لديهم بعض نقاط الضعف الخفية، التي من الممكن أن تظهر بفعل التوتر الإضافي المتمثِّل في الضغوط ووجهات النظر الجديدة. وفي الفصل التالي، سوف نتناول تأثير المعوقات الشخصية على القادة الذين يحاولون العمل بمزيدٍ من القلب.