الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص

القضية الأساسية التي تتناولها «الهرمنيوطيقا» بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء كان هذا النص نصًّا تاريخيًّا، أم نصًّا دينيًّا، والأسئلة التي نحاول الإجابة عنها — من ثم — أسئلة كثيرة معقَّدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة، وعلاقته بمؤلِّفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنها تركز اهتمامها بشكل لافت على علاقة المفسِّر (أو الناقد في حالة النص الأدبي) بالنص. هذا التركيز على علاقة المفسر بالنص هو نقطة البدء والقضية المُلِحَّة عند فلاسفة الهرمنيوطيقا. وهي — في تقديري — الزاوية التي أُهمِلَت إلى حدٍّ كبير في الدراسات الأدبية منذ أفلاطون حتى العصر الحديث. ومصطلح الهرمنيوطيقا مصطلح قديم بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسِّر لفهم النص الديني (الكتاب المقدَّس). والهرمنيوطيقا — بهذا المعنى — تختلف عن التفسير الذي يشير إليه المصطلح Exegesis على اعتبار أن هذا الأخير يشير إلى التفسير نفسه في تفاصيله التطبيقية بينما يشير المصطلح الأول إلى «نظرية التفسير». ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام ١٦٥٤م، وما زال مستمرًّا حتى اليوم خاصة في الأوساط البروتستانتية.١

وقد اتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية كالتاريخ، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجي، وفلسفة الجمال، والنقد الأدبي، والفولكلور. وإذا كان هذا الاتساع في مفهوم المصطلح وتطبيقاته يجعل من الصعب — في مثل هذه الدراسة — الإلمام بكل التفاصيل، فإن علينا أن نقنع بالخطوط العامة لتطور هذا العلم مركزين على مغزاه بالنسبة لنظرية تفسير النصوص الأدبية.

الهرمنيوطيقا — إذن — قضية قديمة وجديدة في نفس الوقت. وهي في تركيزها على علاقة المفسِّر بالنص ليست قضية خاصَّة بالفكر الغربي، بل هي قضية لها وجودها المُلحُّ في تراثنا العربي القديم والحديث على السواء. وينبغي أن نكون على وعي دائم — في تعاملنا مع الفكر الغربي في أي جانب من جوانبه — بأننا في حالة حوار جدلي، وأننا يجب ألَّا نكتفي بالاستيراد والتبني، بل علينا أن نُنطلِق من همومنا الراهنة في التعامل مع واقعنا الثقافي بجانبيه التاريخي والمعاصر. من هنا يكتسب حوارنا مع الفكر الغربي أصالته وديناميته، ومن هنا أيضًا نكف عن اللهث وراء كل جديد ما دام قادمًا إلينا من الغرب «المتقدم». هذا الوعي بعلاقتنا الجدلية بالفكر الغربي — من جانب آخر — يخلصنا من الانكفاء على الذات والتقوقع داخل أسوار «تراثنا المجيد» و«تقاليدنا الموروثة». ومن الغريب أن واقعنا الثقافي — وكذلك الاجتماعي والسياسي — يتسع لشِعارَي «الانفتاح الكامل» و«الاكتفاء الكامل» دون أدنى إحساس بالتعارض الجذري بين الشعارين. إن صيغة «الحوار الجدلي» ليست صيغة تلفيقية تحاول أن تتوسط بين نقيضين، بل هي الأساس الفلسفي لأي معرفة، ومن ثَمَّ لأي وعي بصرف النظر عمَّا نرفعه من شعارات أو نتبناه من مَقولات ومواقف. إن أي موقف يقوم على الاختيار، والاختيار عملية مُستمِرَّة من القبول والرفض؛ أي عملية مستمرة من الحوار التي تبدأ من الموقف. وسواء اخْتَرْنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم على الحوار الذي يدعم موقفنا. إن إدراك جدلية الحوار في عملية الاختيار يُعمِّق الوعي ويخلصنا من الفوضى الفكرية التي لا يستطيع أي متأمل لحياتنا الثقافية أن ينكرها. من هذا المنطلق نتعرض لفلسفة الهرمنيوطيقا في الفكر الغربي الحديث آملِين أن تضيء لنا بعض جوانب القصور في رؤيتنا الثقافية عامة، وفي رؤيتنا للعمل الأدبي خاصة. ولكن علينا قبل ذلك — لكي نكون مُتَّسِقِين مع منهجنا — أن نشير إلى معضلة تفسير النص في تراثنا القديم والحديث.

١

هناك في تراثنا القديم، وعلى مستوى تفسير النص الديني (القرآن) تلك التفرقة الحاسمة بين ما أطلق عليه «التفسير بالمأثور» وما أطلق عليه «التفسير بالرأي» أو «التأويل»، وذلك على أساس أن النوع الأول من التفسير يهدف إلى الوصول إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية واللغوية التي تساعد على فهم النص فهمًا «موضوعيًّا»، أي كما فهمه المعاصرون لنزول هذا النص من خلال المُعطَيات اللغوية التي يتضمنها النص وتَفهَمُها الجماعة. أما التفسير بالرأي أو «التأويل» فقد نظر إليه على أساس أنه تفسير «غير موضوعي»، لأن المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل يبدأ بموقفه الراهن محاولًا أن يجد في القرآن (النص) سندًا لهذا الموقف. وقد أطلق على أصحاب الاتجاه الأول أهل السنة والسلف الصالح. ونظر إلى هذا الاتجاه — غالبًا — نظرة إجلال واحترام وتقدير، بينما كانت النظرة إلى أصحاب الاتجاه الثاني — وهم الفلاسفة والمعتزلة والشيعة والمتصوفة — نظرة حذر وتوجس، وصلت في أحيان كثيرة إلى التكفير وحرق الكتب.

ومن الضروري الإشارة إلى أن التمايز بين الاتجاهين — في الواقع العملي — لم يكن حاسمًا بمثل هذا الوضوح الذي تطرح به القضية على المستوى النظري، فلم تَخْلُ كُتب التفسير بالمأثور من بعض الاجتهادات التأويلية حتى عند المفسرين القدماء الذين عاصروا في بواكير حياتهم نزول النص كابن عباسٍ مثلًا.٢ ومن جانب آخَر لم تتجاهل كُتب التفسير بالرأي أو «التأويل» الحقائق التاريخية واللغوية المتصلة بالنص. وللمعضلة بُعدُها الميتافيزيقي الذي لم يتنبه له القدماء تنبُّهًا واضحًا، وإن مسُّوه مسًّا غير مباشر. هذه المعضلة هي: كيف يمكن الوصول إلى المعنى «الموضوعي» للنص القرآني؟ وهل في طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى «القصد» الإلهي في كماله وإطلاقه؟! لم يزعم أي من الفريقين إمكان هذا، غاية الأمر أن المُؤَوِّلة كانوا أكثر حرية في الفهم وفتح باب الاجتهاد، بينما تمسَّك أهل السلف — وإن لم يُقرِّروا ذلك صراحة — بإمكانية الفهم الموضوعي على التغليب.

ولا شك أن الخلاف بين الاتجاهين كانت له أصوله الاجتماعية والفكرية التي لا يعنينا التَّعرُّض لها في مثل هذا المقال. ويكفينا هنا الإلماح إلى وُجُود المعضل في تراثنا الديني والإشارة إلى وجود اتجاهين يُمثِّل كل منهما زاوية في النظر إلى علاقة المفسر بالنص: الاتجاه الأول يتجاهل المُفسِّر ويُلْغي وجوده لحساب النص وحقائقه التاريخية واللغوية، بينما لا يتجاهل الاتجاه الثاني مثل هذه العلاقة، بل يُؤكِّدُها على خلاف في مستويات هذا التأكيد وفاعليتها بين الفِرَق والاتجاهات التي تَتبنَّى هذه الزاوية. ومن الجدير بالذكر أن اختلاف مناهج المفسرين في العصر الحديث فيما يَتَّصل بتفسير النص القرآني ما تزال تدور حول هذين المحورين، وإن تكن الغلبة — على المستوى الإعلامي — كما كانت في الماضي لأصحاب المنهج التاريخي الموضوعي.

ويتجلى وجود المعضلة في تراثنا النقدي الحديث على المستوى العملي التطبيقي؛ إذ الوعي بها على المستوى النظري ليس واضحًا كل الوضوح. فالنص الأدبي يتسع للعديد من التفسيرات التي تتنوع بتنوع اتجاهات النقاد ومذاهبهم. هذه الاتجاهات ليست في حقيقتها سوى صياغة لموقف الناقد الاجتماعي والفكري من واقعه. وتتمثل المعضلة الحقيقية في أن كل ناقد يزعم أن تفسيره للنص هو التفسير الوحيد الصحيح، وأن مذهبه النقدي هو المذهب الأمثل للوصول إلى المعنى «الموضوعي» للنص كما قصده مؤلفه. ولا أدلَّ على ذلك من كثرة التفسيرات التي طُرِحَت على أدب كاتب معاصر هو نجيب محفوظ «فنحن نلتقي به عند باحث وقد صوره كاتب الاشتراكية الأول الذي وقف حياته وإنتاجه للدفاع عنها، كما نلتقي به عند باحث آخر وقد أصبح كاتب الإسلامية الروحية.»٣ وهكذا لا يكتفي الناقد بتجاهل العلاقة بين موقفه الذاتي من الواقع وبين المنهج الذي يتبناه لتحليل النص الأدبي، بل يُوحِّد بشكل صارم بين تفسيره للنص والنص نفسه، كما أنه يُوحِّد بين النص بكل علاقاته وتشكيلاته اللغوية والجمالية وبين قصد المؤلف. إن ثلاثية (المؤلف/النص/الناقد) أو (القصد/النص/التفسير) لا يمكن التوحيد الميكانيكي بين عناصرها، ذلك أن العلاقة بين هذه العناصر تُمثِّل إشكالية حقيقية، وهي الإشكالية التي تحاول الهرمنيوطيقا — أو التأويلية إذا شئنا استخدام مصطلح عربي — تحليلها والإسهام في النظر إليها نظرة جديدة تزيل بعض صعوبات فهمها، وبالتالي تُؤسِّس العلاقة بينها على أساس جديد.

ما هي العلاقة بين المؤلف والنص؟ وهل يُعَدُّ النص الأدبي مساويًا حقيقيًّا لقصد المؤلف العقلي؟ وإذا كان ذلك صحيحًا، فهل من الممكن أن يَتمكَّن الناقد أو المفسر النفاذ إلى العالَم العقلي للمؤلِّف من خلال تحليل النص المبدع؟ وإذا أنكرْنَا التطابق بين قَصْد المؤلف والنص، فهل هما أمران مُتمايزان منفصلان تمامًا؟ أم أن ثمة علاقة ما؟ وما هي طبيعة هذه العلاقة؟ وكيف نقيسها؟ وبالتالي ما هو نوع العلاقة بين النص والناقد أو المفسر؟ وما هي إمكانية الفهم «الموضوعي» لمعنى النص الأدبي؟ ونقصد «بالفهم الموضوعي» الفهم العلمي الذي لا يختلف عليه؛ أي فهم النص كما يفهمه مُبدِعُه أو كما يريد أن يفهم. وتتزايد المعضلة تعقيدًا إذا تساءلنا عن علاقة ثلاثية (المؤلف/النص/الناقد) بالواقع الذي تتم فيه عمليَّتَا الإبداع والتفسير. وتزداد حدة التعقيد إذا كان النص ينتمي إلى زمن مغاير وواقع مختلف لزمن التفسير وواقعه؛ أي إذا كان المؤلف والناقد ينتميان إلى عصرين مختلفين وواقعين متمايزين.

لقد حاولت نظرية الأدب — في مسار تَطوُّرِها التاريخي — أن تعالج جوانب مختلفة من هذه المعضلة، وتَوقَّفَت كل نظرية — في إطار ظروفها التاريخية — عند جانب أو أكثر من هذه الجوانب مؤكدة أهميته على حساب الجوانب الأخرى. واستعراض سريع لهذه النظريات يؤكد أن جانب علاقة النص بالمفسر ظَل جانبًا مُهملًا حتى في الواقعية الاشتراكية التي عَالجَت الزوايا المتعددة للمعضلة علاجًا حاسمًا مستفيدة — دون شك — من كل الإنجازات الأصيلة للنظريات التي سبقتها. ورغم ما في مقولاتها الأساسية — خاصة مقولة الجدل — من أساس صالح للنظر إلى علاقة المفسر بالنص، فإن هذا الجانب ظل — على مستوى الوعي النقدي — مُهملًا أو غائمًا في أحسن الأحوال.

ولقد بدأت دراسة الفن عامة، والأدب خاصة بتحليل العلاقة بين الإبداع والعالم الواقعي الذي نعيش فيه، وانتهت على يد كل من أفلاطون وأرسطو — وحتى العصر الحديث فيما عرف بالكلاسيكية — إلى تأكيد دور الواقع الخارجي على حساب الفنان أو المبدع فيما عرف بنظرية المحاكاة. وانتهت هذه النظرية في تفسير العمل الفني والأدبي إلى محاولة البحث عن الدلالات الخارجية التي يشير إليها العمل. واتحدت هذه الدلالات الخارجية عند أفلاطون مع «الحقيقة» الفلسفية المتوارية وراء عالَم الظواهر، والمتعالية على الوجود المادي. وإذا كان أرسطو لم يسلم بالموازاة الحرفية بين الفن والواقع كما فعل أفلاطون، فإنه لم يُرِد هذا الانحراف في العمل الفني إلى دور المبدع وموقفه من الواقع، بل رده إلى قيم مطلقة معيارية يقاس على أساسها جودة العمل أو رداءته فيما عُرِف بنظرية التطهير الأخلاقية.٤
وعلى الجانب المقابل أكَّدَت الرومانسية دَور المبدع على حساب الواقع، وأخْلَت السبيل لمشاعر الفنان وانفعالاته الداخلية، ونظرت إلى العمل الأدبي على أساس أنه تَعْبِير عن العالم الداخلي للفنان ومُوازٍ له. وصارت مهمة الناقد أو المفسِّر هي أن يفهم الفنان بُغْيَة فَهْم العمل نفسه، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التي يمكن له تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية. غير أن الرومانسية — من جانب آخر — قد حوَّلَت عملية نقد العمل الفني إلى إبداع جديد فيما عرف بالانطباعية، وأكدت حرية الناقد في تفسير العمل الأدبي، وجعلته عنصرًا فاعلًا يحتكم إلى معاييره الخاصة في فهم العمل وتفسيره. إن ما أضافته الرومانسية — من وجهة نظر التأويلية — أنها أفسحَتْ مجالًا لذاتية الناقد في فَهْم النص، طالما أن ما يشير إليه النص — وهو ذات الفنان ومشاعرها وانفعالاتها — منطقة غامضة يصعب الوصول إليها بموضوعية علمية من خلال النص الذي تتعدد دلالاته بتعدد القارئين. هذا التعدد يرجع إلى خصوصية الأداة — اللغة في حالة الأدب — التي تتفاعل مع مشاعر الفنان — في حالة التعبير — فتتغير بنيتها بقدر ما تُغَيِّر هي مِن طبيعة هذه الانفعالات التي كانت في حالة تَشوُّش وغموض قبل تجسدها في العمل الأدبي.٥
وفي مرحلة الجَزْر الرومانسي، خَطَت الدراسة الأدبية على يد ت. س. إليوت خطوة جديدة جعلت «النص» هو محور اهتمامها، منكرة أي علاقة بين «النص، ومبدعه أو الواقع الذي تَمَّت فيه عملية الإبداع. إن للنص عند إليوت وجودًا مستقلًّا لا ينتمي فيه إلى أي شيء خارجه، ولا يَجِب على الناقد البحث عن دلالات للعمل الأدبي خارج إطاره اللغوي. إن مهمة الناقد هي تحليل النص بتشكيلاته اللغوية وبيان عناصرها ودلالتها الجمالية. وإلى جانب التحليل يجب عليه مقارنة النص بنصوص أخرى تنتمي لنفس النوع الأدبي بهدف الكشف عن دور هذا النص في دائرة التقاليد الأدبية. ماذا أخذ منها؟ وماذا أضاف إليها؟ وتُقاس عظمة العمل الأدبي بمدى إسهامه في طرح تقاليد أدبية جديدة يغير بها من نظام التقاليد السائدة. إن مهمة الناقد يجب أن تقوم على أساس موضوعي محايد وأن تستخدم وسائل مُحايدة، هي التحليل والمُقارَنة، كما أن الفنان يجب عليه أن يتجنب مشاعره الشخصية في عملية الإبداع ويخلق بدلًا منها معادلًا موضوعيًّا «محايدًا» هو العمل الأدبي.٦
وقد قُدِّر لمثل هذه النظرة — التي تَتزيَّا بالعِلْمِيَّة والموضوعية — لأسباب ليس هنا مجال شرحها — أن تسود مجال النقد الأدبي بدرجات متفاوتة من الاعتراف بعلاقة النص بمبدعه أو علاقته بالواقع بمعناه الواسع. وصار التركيز أساسًا — في هذه المناهج — على تحليل النص باعتباره نقطة البدء والمعاد في «علم الدراسات الأدبية». وترك مجال علاقة النص بمبدعه أو علاقته بالواقع لمجالات أخرى غير النقد الأدبي؛ مثل علم النفس أو علم اجتماعية الأدب. ولم تَنجُ من سطوة هذا التصور بعض الاتجاهات الواقعية، خاصَّة الواقعية المطبقة في كل من إنجلترا وأمريكا. هذه الواقعية «تميل إلى افتراض أن العمل الأدبي هناك، قائم — ببساطة — في العالم مستقل بشكل أساسي عن متلقيه. ويُعْتَبر تلقي العمل عملية منفصلة عن العمل نفسه، ومهمة التفسير الأدبي هي الكلام عن «العمل نفسه». ومن ناحية أخرى يعتبر قصد المؤلف منفصلًا بشكل حادٍّ عن العمل. إن للعمل الأدبي كينونة لها قوتها وديناميكيتها. والناقد النَّمَطي الحديث يُدافِع عامة عن «استقلال وجود» العمل الأدبي، ويرى أن مهمته هي النفاذ إلى هذا الوجود من خلال تحليل النص. هذا الفصل المبدئي بين الذات والموضوع، وهو فصل محوري في الواقعية، يصبح الأساس الفلسفي وإطار التفسير الأدبي.»٧

وقد حاولت البنائية — مستفيدة من مناهج علم اللغة — التغلب على هذه المعضلة بتركيز اهتمامها — في تحليل العمل الأدبي — في البحث عن البنية التي تؤدي إلى اكتشاف النظام الذي يقوم على أساسه العمل الأدبي. واعتبرت أن هذا النظام — أو اكتشافه — يحل معضلة ثلاثية (القصد/النص/التفسير) على أساس أن هذه العناصر ليست إلا تجليات بمستويات مختلفة لظاهرة النظام كما تتجلى في الفكر (القصد) والتشكيل (النص) والتحليل (التفسير). ووحدت البنائية بين هذه المستويات الثلاث (أو التجليات) للنظام وبين مستويات أخرى في الواقع بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نزولًا إلى نظام الطعام والأزياء وكافة الممارسات اليومية من أدناها إلى أرقاها. إن الناقد البنيوي يتجاوز ثنائية الذات والموضوع. بإخضاعهما معًا لفكرة النظام، وهو بالتالي يجعل الأدب مشيرًا إلى مُعطًى خارجي مُحدَّد سلفًا، ويشل من ثم فاعلية الفنان والناقد معًا، لأنهما يخضعان لنوع من الجبرية الصارمة. وسنعود — فيما بعد — لمناقشة اعتراضات بعض مفكري الهرمنيوطيقا على البنائية، لنرى بعض الإضافات التي أجريت عليها استجابة لهذه الاعتراضات.

٢

يمثل المفكر الألماني شليرماخر (١٨٤٣م) الموقف الكلاسيكي بالنسبة للهرمنيوطيقا. ويَعُود إليه الفضل في أنه نَقَل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتي ليكون «علمًا» أو «فنًّا» لعملية الفهم وشروطها في تحليل النصوص. وهكذا تباعَد شليرماخر بالتأويلية بشكل نهائي عن أن تكون في خدمة علم خاص، ووصل بها إلى أن تكون علمًا بذاتها يُؤسِّس عملية الفهم، وبالتالي عملية التفسير.

وتقوم تأويلية شليرماخر على أساس أن النص عبارة عن وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ. وبالتالي فهو يشير — في جانبه اللغوي — إلى اللغة بكاملها. ويشير — في جانبه النفسي — إلى الفكر الذاتي لمبدعه. والعلاقة بين الجانبين — فيما يرى شليرماخر — علاقة جدلية. وكلما تقدم النص في الزمن صار غامضًا بالنسبة لنا، وصرنا — من ثم — أقرب إلى سوء الفهم لا الفهم. وعلى ذلك لا بد من قيام «علم» أو فن، يعصمنا من سوء الفهم ويجعلنا أقرب إلى الفهم. وينطلق شليرماخر لوضع قواعد الفهم من تَصوُّره لجانبي النص، اللغوي والنفسي. يحتاج المفسر للنفاذ إلى معنى النص إلى موهبتين، الموهبة اللغوية، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية، «الموهبة اللغوية وحدها لا تكفي؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يعرف الإطار اللامحدود للغة، كما أن الموهبة في النفاذ إلى الطبيعة البشرية لا تكفي؛ لأنها مستحيلة الكمال؛ لذلك لا بد من الاعتماد على الجانبين، ولا يوجد ثمة قواعد لكيفية تحقيق ذلك.»٨
ولكن ما هي طبيعة العلاقة بين فِكْر المؤلِّف (أو نفسيته) وبين الإطار اللغوي (الوسيط) الذي يتم فيه التعبير؟ يرى شليرماخر — أن اللغة تحدد للمؤلف طرائق التعبير التي يسلكها للتعبير عن فكره. وللغة وجودها الموضوعي المتميز عن فكر المؤلف الذاتي، وهذا الوجود الموضوعي هو الذي يجعل عملية الفهم ممكنة. ولكن المؤلف — من جانب آخر — يعدل من معطيات اللغة تعديلًا ما. إنه لا يغير اللغة بكاملها، وإلا صار الفهم مستحيلا، إنه — فحسب — يعدل بعض معطياتها التعبيرية، ويحتفظ ببعض معطياتها التي يكررها وينقلها، وهذا ما يجعل عملية الفهم ممكنة «إنني أفهم المؤلف بقدر توظيفه للغة، فهو — من جانب — يقدم في استعماله للغة أشياء جديدة، ويحتفظ — من جانب آخر — ببعض خصائص اللغة التي يكررها وينقلها.٩
هناك إذن في أي نص جانبان: جانب موضوعي يشير إلى اللغة، وهو المشترك الذي يجعل عملية الفهم ممكنة، وجانب ذاتي يشير إلى فكر المؤلف ويتَجلَّى في استخدامه الخاص للغة. وهذان الجانبان يشيران إلى تجربة المؤلف التي يسعى القارئ إلى إعادة بنائها بغية فَهْم المؤلف أو فهم تجربته. والقارئ يمكن له أن يبدأ من أي الجانبين شاء، ما دام كل منهما يؤدي به إلى فهم الآخر. وكلا الجانبين — في رأي شليرماخر — صالحان كنُقطة بداية لفهم النص. البدء بالجانب اللغوي يعني القارئ يقوم بعملية إعادة بناء تاريخية موضوعية للنص، وهي عملية يطلق عليها شليرماخر Objective Historical Reconstruction وهي تعتد بكيفية تصرُّف النص في كلية اللغة، وتعتبر المعرفة المتضمنة في النص نتاجًا للغة. ولهذه البداية جانب آخر، وهو ما يطلق عليه شليرماخر Objective Divinatory Reconstruction إعادة البناء التنبؤي الموضوعي، وهي تحدد كيفية تطوير النص نفسه للغة.

وللبدء من الجانب الذاتي — كذلك — جانبان: الأول هو إعادة البناء الذاتي التاريخي، وهو يعتد بالنص باعتباره نتاجًا للنفس، أما الجانب الثاني وهو الذاتي التنبؤي فهو يُحدِّد كيف تؤثر عملية الكتابة في أفكار المؤلف الداخلية.

هذان الجانبان — الموضوعي والذاتي، أو اللغوي والنفسي — بفرعيهما التاريخي والتنبؤي، يمثلان القواعد الأساسية، والصيغة المحددة لفن التأويل عند شليرماخر. وبدونهما لا يمكن تجنب سوء الفهم. إن مهمة الهرمنيوطيقا هي فهم النص كما فهمه مؤلفه، بل حتى أحسن مما فهمه مبدعه.١٠ ورغم تسوية شليرماخر بين الجانبين — اللغوي والنفسي — من حيث صلاحيتهما كنقطة بداية لفهم النص، فإنه يعود ليلمح إلى أن البدء بالمستوى اللغوي — التحليل النحوي — هو البداية الطبيعية. وهذا يقوده إلى مفهوم «الدائرة التأويلية»:

لكي نفهم العناصر الجزئية في النص، لا بد — أولًا — من فهم النص في كليته. وهذا الفهم للنص في كليته لا بد أن ينبع من فهم العناصر الجزئية المكونة له. ومعنى ذلك — فيما يرى شليرماخر — أننا ندور في دائرة لا نهاية لها هي ما يطلق عليه الدائرة الهرمنيوطيقية. ومعنى ذلك أن عملية تفسير النص — على المستوى اللغوي الموضوعي — بجانبيه التاريخي والتنبؤي — تدور في دائرة، ولا بد أن تستند إلى معرفة كاملة باللغة من جانب، وبخصائص النص من جانب آخر. ويمكن بنفس الدرجة تطبيق مفهوم الدائرة التأويلية على المستوى الذاتي النفسي بجانبيه التاريخي والتنبؤي.

إن الدائرة التأويلية تعني أن عملية فهم النص ليست غاية سهلة، بل عملية معقدة مركبة، يبدأ المفسر فيها من أي نقطة شاء، لكن عليه أن يكون قابلًا لأن يعدل فهمه طبقًا لما يسفر عنه دورانه في جزئيات النص وتفاصيله وجوانبه المتعددة التي أشار إليها شليرماخر. وما دامت مهمة الهرمنيوطيقا هي وضع المعايير والقواعد، فإن شليرماخر يكتفي بوضع المعايير العامة التي يراها ضرورية لتجنب سوء الفهم. ولكنه من جانب آخر يرى أن نظرية التأويل — رغم كل التقدم الذي أصابته — ما تزال بعيدة عن أن تكون فنًّا مكتملًا، ويؤكد بنفس الدرجة استحالة أن يستطيع أي تفسير لعمل ما استهلاك كل إمكانيات معنى هذا العمل. وكل ما يطمح إليه المفسر أن يصل إلى أقصى طاقته في تفسير النص.١١

ورغم النقلة الهامة للهرمنيوطيقا على يد شليرماخر لتكون «فنًّا» مستقلًّا بذاته عن أي مجال، فإن كلاسيكيته تتبدى في حرصه على وضع قوانين ومعايير لعملية الفهم، ومن ثم لعملية تفسير النصوص. إنه يحاول أن يتجنب «سوء الفهم المبدئي» في أي عملية تفسير، ولكنه في هذه المحاولة لتجنب «سوء الفهم» يطالب المفسر — مهما كانت الهوة التاريخية التي تفصل بينه وبين النص — أن يتباعد عن ذاته وعن أُفقه التاريخي الراهن ليفهم النص فهمًا موضوعيًّا تاريخيًّا. إنه يطالب المفسر — أولًا — أن يساوي نفسه بالمؤلف، وأن يحل مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتي والموضوعي لتجربة المؤلف من خلال النص. ورغم استحالة هذه المساواة من الوجهة المعرفية فإن شليرماخر يعتبرها الأساس الهام للفهم «الصحيح». وثم نغمة رومانسية تغلف كلاسيكية شليرماخر تتجلى في اعتباره النص تعبيرًا عن «نفس» المؤلف، وفي مطالبته المفسر أن يكون ذا طاقة تنبؤية، إلى جانب معرفته باللغة، حتى يمكنه اكتشاف الجوانب المتعددة للنص. وبهذه الطاقة التنبؤية يسعى الإنسان لفهم الكاتب إلى درجة أن يحول نفسه تمامًا إليه؛ أي أن يكون هو الكاتب.

لقد كان شليرماخر — رغم ذلك كله — ممهدًا لمن جاءوا بعده خاصة ديلثي وجادامر، إذ بدأ ديلثي مما انتهى إليه شليرماخر من البحث عن تفسير وفهم «صحيحين» في مجال العلوم الإنسانية، بينما بدأ جادامر من معضلة سوء الفهم المبدئي التي حاول شليرماخر — في تأويليته — أن يتجنبها. وبهذا يعد شليرماخر — بحق — أبًا للهرمنيوطيقة الحديثة، وللمفكرين الذين جاءوا بعده، سواء بدَءُوا من الاتفاق أو الاختلاف معه.١٢

٣

تركزت محاولة ويلهلم ديلثي (١٨٣٣–١٩١١م) في التفرقة بين العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية والإنسانية، وفي الرد على الوضعيين الذين وحدوا بينهما من حيث المنهج؛ مثل: أوجست كومت، وجون ستيوارت مل. لقد رأى الوضعيون أن الخلاص الوحيد لتأخُّر العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية يكمن في ضرورة تطبيق نفس المنهج التجريبي للعلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية؛ سعيًا للوصول إلى قوانين كلية يقينية، وتجنبًا للذاتية وعدم الدقة في مجال الإنسانيات. لقد آمنوا أن كلًّا منهما يخضع لنفس المعايير المنهجية من الاستدلال والشرح، ورأوا أن الحقائق الاجتماعية مثلها مثل الحقائق الفيزيقية، واقعية وعملية، ويمكن بالمثل قياسها.١٣ وهذا هو ما عَبَّر عنه جون ستيوارت مل بقوله: «إذا كان علينا أن نهرب من الفشل المحتم للعلوم الاجتماعية بمقارنتها بالتقدم المستمر للعلوم الطبيعية، فإن أملنا الوحيد يتمثل في تعميم المناهج التي أثبتت نجاحها في العلوم الطبيعية لجعلها مناسبة للاستخدام في العلوم الاجتماعية.»١٤
ولقد حاول ديلثي أن يقيم العلوم الاجتماعية على أساس منهجي مختلف عن العلوم الطبيعية. لقد كان صارمًا في فلسفته ورفضَ كُلًّا من الوضعية وميتافيزيقا الكانتية الجديدة. إن الفارق بين العلوم الاجتماعية والطبيعية يكمن — عنده — في أن مادة العلوم الاجتماعية — وهي العقول البشرية — مادة معطاة، وليست مشتقة من أي شيء خارجها، مثل مادة العلوم الطبيعية التي هي مشتقة من الطبيعة. إن على العالم الاجتماعي أن يجد مفتاح العالم الاجتماعي في نفسه وليس خارجها، إن العلوم الطبيعية تبحث عن غايات مجردة، بينما تبحث العلوم الاجتماعية عن فهم آني من خلال النظر في مادتها الخام. إن الإدراك الفني والإنساني هما غاية العلوم الاجتماعية وهذان يمكن الوصول إليهما من خلال التحديد الدقيق للقيم والمعاني التي ندرسها في عقول الفاعلين الاجتماعيين، وليس من خلال مناهج العلوم الطبيعية، وهذه هي عملية الفهم الذاتي أو التفسير، نصل إلى مثل هذا الفهم من خلال «العيش مرة أخرى» Reliving في الأحداث الاجتماعية.
إن الفشل الذي تعانيه العلوم الاجتماعية، خاصة المدرسة التاريخية، فيما يرى ديلثي، يكمن في «أن دراستها وتقييمها للظاهرة التاريخية لم يَقُم على أساس من الصلة بتحليل حقائق الوعي، ولم يكن من ثم مؤسَّسًا على معرفة يقينية هي ملاذها الأخير. لم يكن للمدرسة التاريخية — باختصار — أساس فلسفي، ولم تنشأ لها علاقة صحيحة بنظرية المعرفة وعلم النفس. ولهذا فشلت في تطوير منهجها.»١٥ وهذه هي نقطة البدء في تأسيس ديلثي للإنسانيات، وهي إقامتها على أساس معرفي وأساس سيكولوجي.
الأساس المعرفي يتحدد عند ديلثي في أن كل معرفة قائمة على التجربة، ولكن الوحدة الأصلية للتجربة ولنتائجها الصحيحة مشروطان بالعوامل التي تشكل الوعي وما ينشأ عنه؛ أي محكومان بطبيعتنا الكلية. ويجب أن نفهم التجربة Experience عند ديلثي على أساس أنها التجربة المعاشة. هي عملية الإدراك الحسي، وليست الخبرة باعتبارها موضوعًا للتأمل العقلي؛ أي إنها التجربة السابقة على ثنائية الذات والموضوع، هذه الثنائية تكون عادة من صنع الوعي المفكر في تأمله للتجربة بعد مرورها.١٦ من هذا المنطلق فإن رؤيتنا للعالم الطبيعي تصبح مجرد ظل لحقيقة مختفية عنا إذا أهملنا حقائق الوعي التي تعطيها تجربتنا الداخلية، إذ من خلال هذه الحقائق نمتلك الواقع كما هو. وتحليل حقائق الوعي هو مركز اهتمام الدراسات الإنسانية، ومن خلالها تستطيع تشكيل استقلالها الذاتي عن العلوم الطبيعية.
إن التجربة الذاتية هي أساس المعرفة، أساس المعرفة، وهي الشرط الذي لا يمكن تجاوزه لأي معرفة. وطالما أن هناك مشترَكًا بين الآحاد من البشر، فإن التجربة تصبح هي الأساس الصالح لإدراك الموضوعي القائم خارج الذات، إذ هذا الموضوعي — في العلوم الإنسانية، خاصة التاريخ — إنساني يحمل تشابهات من ملامح التجربة الأصلية عند الذات المدركة. وهذا ما يشير إليه ديلثي بإعادة اكتشاف «الأنا» في «الأنت»، أو إسقاط Projection الذات في شخص أو عمل، أو بعبارة أخرى «نفاذ ذات المدرك إلى معطى معقد من التعبيرات.»١٧ وعلى أساس هذا الإسقاط أو النفاذ تنشأ أعلى أشكال الفهم في الحياة العقلية ونعني بها الحياة مرة أخرى في الموضوع أو الشخص.
ولكن كيف تتحول التجربة الذاتية عند الآخر الذي نسعى لفهمه، أو نسعى لفهم أنفسنا من خلاله، إلى موضوع؟ يتم ذلك — فيما يرى ديلثي — خلال عملية التعبير، سواء تمثل هذا التعبير في سلوك اجتماعي أو نص مكتوب. إن التعبير هو ما يعطي للتجربة موضوعيتها، إنه يحولها من حالة الذاتية، «التجربة الداخلية المعاشة» إلى حالة خارجية موضوعية يمكن المشاركة فيها. إن التعبير — عند ديلثي — في تعبيره عن التجربة الداخلية لمبدعه، ليس تدفقًا عشوائيًّا للمشاعر والانفعالات بالمعنى الرومانسي، ولكنه تحديد موضوعي Objectification لعناصر هذه التجربة — التي قد تكون مختلفة ومتباعدة — في كلٍّ مُوحَّد. هذا التحديد الموضوعي للتجربة هو ما يُؤسِّس — عنده — موضوعية العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويتباعد بها عن الذاتية التي يتهمها بها الوضعيون. وهذا التعبير الموضوعي لا يعبر — بالضرورة — عن ذات المبدع، بقدر ما يعبر عن تجربة الحياة في تجربة المبدع. إن تجربة المبدع — حالة تخلقها في تعبير موضوعي — تتجاوز إطار ذاتيتها، وذلك لأنها تتجسد من خلال أداة موضوعية هي اللغة في حالة التعبير الأدبي. وهي من ثم تعبر عن تجربة الحياة. إن ديلثي يعتبر أن التعبير عن تجربة الحياة يأخذ أرقى أشكاله في الفن عمومًا والأدب خصوصًا. إن التعبير في الفن والأدب — على خلاف هذا التعبير نفسه في الفكر أو الفعل الإنسانيين — ينصب على التجربة المعاشة وينبع من التعبيرات الحرة للحياة الداخلية. إن التعبير في الفكر أو الفعل — على خلاف ذلك — أكثر تحددًا. إنه — في حالة الفكر — يقوم على الدقة ويعتمد على وظيفة اتصالية سهلة. وفي حالة الفعل يصعب جدًّا تحديد العوامل الفاعلة في القرار المؤدي إلى الفعل. وعلى ذلك يعتبر ديلثي أن الفن والأدب تعبير عن التجربة المعاشة للحياة، بينما يعبر الفكر والفعل عن تجربة الحياة فقط، وليس التجربة الحية المعاشة. وإذا كان كل من الفكر والفعل والفن تجليات مختلفة لتجربة الحياة، فإن التجلي لهذه التجربة في الفن والأدب أكثر حيوية وخصوبة وقابلية للمشاركة الفعالة ولذلك يحتفظ لها ديلثي بتعبير Expressions of Lived Experience … وتعتبر التعبيرات الأدبية — التي تتخذ من اللغة أداة لها — أعظم قدرة من التعبيرات الفنية الأخرى على الإفصاح عن الحياة الداخلية للإنسان.١٨ ويؤكد ديلثي أن مبادئ الهرمنيوطيقا يمكن أن تنير لنا السبيل إلى نظرية عامة في الفهم؛ لأن إدراك بناء الحياة الداخلية يقوم — قبل كل شيء — على تفسير الأعمال الأدبية، حيث يصل نسيج الحياة الداخلية إلى أقصى أشكال اكتماله في هذه الأعمال. وبذلك تأخذ الهرمنيوطيقا — عند ديلثي — بُعدًا جديدًا، وتنصب على معنًى اوسع من مُجرَّد النص، إنها تدل على فهم التجربة كما يفصح عنها — بشكل كامل — العمل الأدبي، طالما أنه يتجسد من خلال وسيط مُشترَك هو اللغة التي يخرج بها من إطار الذاتية إلى الموضوعية.١٩

الهرمنيوطيقا — في ظل هذا الفهم — لا تعني مجرد عملية الفهم لشيء مُعطًى مُحدَّد سلفًا، له وجود خارجي محايد عن المتلقي الذي يحاول أن يفهم هذا الشيء أو النص. إن هناك بين المتلقي والنص الأدبي شيئًا مشتركًا هو تجربة الحياة. هذه التجربة ذاتية عند المتلقي، ولكنها تحدد له الشروط المعرفية التي لا يستطيع تجاوزها. وهذه التجربة — من جانب آخر — موضوعية في العمل الأدبي. وعملية الفهم تقوم على نوع من الحوار بين تجربة المتلقي الذاتية والتجربة الموضوعية المتجلية في الأدب، من خلال الوسيط المشترك. وهكذا يتغير مفهوم «الفهم» نفسه من أن يكون عملية تعرف عقلية، إلى أن يكون مواجهة تفهم فيها الحياة نفسها. الفهم — بهذا المعنى — هو الخصيصة المميزة للدراسات الإنسانية، بعكس العمليات العقلية التي تسعى إلى شرح الظواهر في العلوم الطبيعية. ولكن كيف تتم عملية الفهم هذه — فهم الحياة لنفسها — من حلال العمل الأدبي؟!

إنها تتم من خلال معايشة التجربة التي يعبر عنها النص. وفي هذه المعايشة يثير فينا النص الأدبي — عن طريق العرض التخيلي الحي للتجربة — أحاسيس وأفكارًا، ومواقف واتجاهات، متضمنة في تجربتنا الذاتية. وفي هذه الإثارة يكمن الجانب الأعظم من الكنز الذي نحصل عليه من الشاعر. إنها تفسح المجال للكشف عن مدى تحدد تجربتنا الذاتية وعدم اتساعها، وهي — من ثم — تفتح المجال واسعًا لإدراك حاجتنا للانفتاح على عالم النص. إنها بكلمات أخرى — ومن خلال إثارة ما هو متضمن في تجربتنا الخاصة — تعتمد على المشترك، ولكنها تكشف في نفس الوقت عن الإمكانيات المحددة لهذا المشترك، لتفتح الباب لإمكانيات أوسع، توسع أفق تجربتنا الذاتية، فتشرى بمعايشة تجربة النص. إنها تبدأ من المعلوم في تجربتنا لتنفذ إلى المجهول، تبدأ من «الأنا» لتغوص في «الأنت» لا بالمعنى السيكولوجي، بل بالمعنى العام للتجربة الحية المعاشة. هذا الأفق من الاحتمالات الذي تفتحه لنا معايشة النص الأدبي لا يمكن أن ينفتح بطريقة أخرى. وهذا الانفتاح ضروري جدًّا لتعميق تجربة حياتنا، بل هو أساس لتطور الحياة نفسها في حركتها المستمرة. وهذا يقودنا إلى المفهوم التاريخي عند ديلثي لأهميته في نظريته التأويلية.

الإنسان كائن تاريخي، بمعنى أن الإنسان يفهم نفسه — لا خلال التأمل العقلي — بل من خلال التجارب الموضوعية للحياة. إن ماهية الإنسان وإرادته ليست أشياء مُحدَّدة سلفًا، إن الإنسان ليس مشروعًا جاهزًا مصممًا من قبل، ولكنه مشروع في حالة تخلق. إنه يفهم نفسه بطريق غير مباشر، إنه يقوم بجولة هرمنيوطيقية (تأويلية) من خلال التعبيرات الثابتة التي تنتمي للماضي. وبهذا المعنى فهو كائن تاريخي. إن التاريخ — إذن — ليس مُعطًى موضوعيًّا في الماضي، قائمًا هناك، ولكنه مُعطًى متغير. إننا في كل عصر نفهم الماضي فهمًا جديدًا من خلال التعبيرات الباقية لنا، ويكون فهمنا للماضي أفضل كلما توافرت شروط موضوعية في الحاضر شبيهة بما كان في الماضي،٢٠ إن فهمنا للنصوص الأدبية — سواء تلك التي تنتمي للماضي أم تلك التي تنتمي للحاضر — عن طريق معايشة تجربة الحياة فيها يؤدي بنا إلى فهم أفضل للماضي والحاضر معًا. وهذا بدوره يعدل من فهمنا الآني لأنفسنا. وهكذا يفهم الإنسان نفسه من خلال التاريخ باعتباره عملية مستمرة من الفهم والتأويل، وهكذا يتغير ويتقدم ويتعدل. وكما تَمَّت المعايشة في النص الأدبي على أساس البدء من المشترك بين تجربتنا وتجربة النص، كذلك على أساس المشترك بين الماضي والحاضر، نعيش تجربة النص الذي ينتمي للماضي، ذلك أن للماضي وجودًا مستمرًّا في الحاضر، والحاضر يدرك الماضي من خلال تجربته الذاتية.

يرفض ديلثي — بناء على فهمه العمل الأدبي باعتباره تعبيرًا عن التجربة الحية للحياة، وبناء على فهمه لمعنى التاريخ — فكرة المعنى الثابت، سواء في العمل الأدبي أو الحدث التاريخي. إن المعنى — عنده — يقوم على مجموعة من العلاقات. ونحن في العمل الأدبي نبدأ بتجربتنا الذاتية في لحظة مُعيَّنة من التاريخ، تُحدِّد لنا المعنى الذي نفهمه من العمل في هذه اللحظة من الزمن. ولكن تجربتنا نفسها تتغير وتكتسب أبعادًا جديدة — من خلال الآفاق الجديدة من الاحتمالات التي يفتحها لنا العمل — قد تغير — مرة أخرى — من فهمنا للعمل نفسه. وهكذا نَدُور في دائرة هي «الدائرة التأويلية».

وهذه الدائرة تنطبق بنفس الدرجة على معنى الماضي. إن المعنى — في الأدب والتاريخ — ليس شيئًا موضوعيًّا تمامًا ولكنه أيضًا ليس ذاتيًّا، إنه في حالة تَغيُّر مستمر طالما أن العلاقة بين المفسِّر والموضوع المفسَّر علاقة مُتغيِّرة في الزمان والمكان. إن ديلثي في هذا المفهوم للدائرة الهرمنيوطيقية يعتمد على ما سبق أن أشرنا إليه عند شليرماخر من العلاقة بين الجزء والكل في النص وضرورة فَهْم كل منهما في ضوء الآخَر في دائرة لا تنتهي، ولكنه يتسع بمفهوم الجزء والكل إلى أن يشمل تجربة الحياة نفسها. إن تجربة ما جزئية في حياتنا تكتسب معناها من خلال تجربتنا الكلية، وليست تجربتنا الكلية في حقيقتها إلا حصاد تجارب جزئية متراكمة، ولكن الجزء يُؤثِّر في الكل ويُغيِّر من معنى التجربة الكلية، بنفس القدر الذي يؤثر فيه المعنى الكلي في فَهْمِنا لتجربة جزئية. وما دام ديلثي قد وحَّد بين النص وتجربة الحياة، فمِنَ المنطقي أن يؤمن بتغير المعنى مع تَغيُّر أفق تجربة المفسر باعتباره نقطة البداية للفهم، سواء في الأدب أو التاريخ.

الذي لا شك فيه أن ديلثي بتركيزه في النص على التجربة الحية المعاشة، وبمفهومه للتاريخ، ولعملية الفهم، قد وضع بذورًا صالحة لمن أَتَوا بعده خاصة مارتن هيدجر وهانز جادامر، وكان مؤثرًا فيهم بشكل أبعد مما تَخيَّلوا. والذي لا شك فيه أنه أفاد من جهود شليرماخر وطورها وأضاف إليها. لقد لَفتَ ديلثي الاهتمام بشدة إلى الأفق الراهن (تجربة الحياة) للمفسر، ولكن علينا ألَّا نَنْسى أنه ضحى في سبيل ذلك بذاتية المبدع. إن التوحيد بين العمل الأدبي وتجربة الحياة بالمعنى الواسع الفضفاض — رغم نبرة الحماس العالية للأدب باعتباره المجلي الأكمل للتجربة — يعتبر الأدب وثيقة إنسانية مثلها مثل أي نتاج فكري إنساني، ويغفل الخصوصية النوعية للأدب. ومن جانب آخَر فإن إهدار ذاتية المبدع لحساب التجربة الإنسانية يُوحِّد بين تجربة مبدع وتجربة مبدع آخر، طالما أن كلتيهما تعبير عن تجربة «الحياة». ولكن علينا ألَّا ننسى أن ديلثي فيلسوف من فلاسفة الحياة يحاول جاهدًا أن يقيم أساسًا موضوعيًّا مختلفًا ومنهجًا مختلفًا للعلوم الإنسانية في مُواجَهة إخضاعها — على أيدي الفلاسفة الوضعيين — لموضوعية ومناهج العلوم الطبيعية. ومن هذا المُنطَلق وحده أقام عملية الفهم كسِمَة مميزة للإنسانيات، وكان مجال الأدب مجالًا خصبًا ليطبق عليه مفاهيمه عن الفهم والتاريخ. ولكنه من جانب آخر — وفي مجال دراسة الأدب — لفتَنا إلى دور المفسِّر الإيجابي لعملية فهم النص والتفسير، وهو دور ظل غائبًا عن مجال الدراسات الأدبية، حتى عن النظريات التي نلمس بينها وبين فكر ديلثي نوعًا من التشابه مثل نظرية «المعادل الموضوعي» عند النقاد الجدد وعلى رأسهم ت. س. إليوت. صحيح أن دور المفسر هنا يعتمد على الذاتية والانطلاق من التجربة الخاصة، ولا يعتمد على موقف فكري في مجتمع، كما أن التعبير الأدبي تحديد موضوعي للتجربة الحية، لا تشكيل رؤية الفنان لواقع محدد في إطار تاريخي محدد. ولكن يكفي ديلثي في إطار فلسفته التأكيد على أن تفسير العمل الأدبي عملية من التفاعل الخلَّاق بين النص وأفق المفسر، ينفتح فيه أفق المفسر لإمكانيات من التجربة لم تكن متاحة قبل ذلك، فتتغير من ثم تجربته وتعمق، وتكون — بالتالي — قادرة على إثراء معنى النص والنظر إليه من زاوية جديدة.

كان لتركيز ديلثي على تجربة الحياة وعلى دَوْر المُفسِّر في عملية الفهم أثرٌ هام في فكر كل من مارتن هيدجر وجادامر اللذين تأثَّرَا به إلى حد كبير، وإن اختلفا معه في نقطة البداية وكثير من النتائج، فيما يرتبط بمفهوم الهرمنيوطيقا وأبعادها.

٤

يُقيم مارتن هيدجر الهرمنيوطيقا على أساس فلسفي، أو يقيم الفلسفة على أساس هرمنيوطيقي. وكلا العبارتين صحيح، طالما أن الفلسفة فَهْم الوجود، وأن الفهم هو أساس الفلسفة وجوهر الوجود في نفس الوقت. لقد حاوَل هيدجر — مثل ديلثي — أن يبحث عن منهج يكشف عن الحياة من خلال الحياة نفسها. وقد وجد في ظاهرية أستاذه إدموند هوسرل بعض المفاهيم التي لم تكن متاحة لديلثي. وجد منهجًا يمكن أن يفسر عملية الوجود Being في الوجود الإنساني Human Existence بطريقة تكشف عن الوجود نفسه، لا عن التصور الأيديولوجي للوجود. لقد رفض هيدجر في نظرية الوجود في الفلسفة الغربية اعتبارها الإنسان هو محور الوجود، وهو العنصر الفاعل في المعرفة، وإعطاءها للوجود دورًا ثانويًّا يخضع فيه للذاتية ويستجيب لمقولاتها، وإذا كانت الفلسفة الظاهرية Phenomenology قد كشفت في مجال المعرفة أهمية الإدراك القائم على مفاهيم قبلية للظاهرة، فقد اعتبر هيدجر هذا المجال هو الوسيط الحيوي للوجود التاريخي للإنسان في العالم. ولكن هذه المفاهيم القبلية يختلف عن المقولات العقلية التي اعتد بها الفلاسفة قبله. إن هذا المجال الحيوي هو إدراك الإنسان لوجوده في شكله الأكمل، هذا الإدراك هو ما يشكل المجال الحيوي للمعرفة وللوجود عند هيدجر. ولذلك رفض هيدجر في فكر أستاذه هوسرل فكرة الوعي الذاتي واعتبرها هي الذاتية الكانتية نفسها. لقد رأى هيدجر — في وعي لوجوده — مفاتيح لفهم طبيعة الوجود كما يفصح عن نفسه في تجربة حية. وهذا الفهم تاريخي وآني في نفس الوقت، بمعنى أنه ليس فهمًا ثابتًا، ولكنه يتشكل من خلال تجارب الحياة الحية التي يواجهها الإنسان. هذا الوعي — في نظر هيدجر — يتجاوز مقولات الزمان والمكان ومفاهيم الفكر المثالي. لقد كان الوجود — عند هيدجر — هو السجين المختفي والمنسي تمامًا في المقولات الاستاتيكية للفلسفة الغربية، السجين الذي كان كل أمل هيدجر أن يخلي سبيله.٢١
إن حقيقة الوجود — عند هيدجر — تتجاوز الوعي الذاتي وتعلو عليه، وبما أن هذا الوعي تاريخي وإن بدأ بالإدراك الذاتي للوجود، فهو عملية فَهْم مستمرة. ومما له دلالة — بالنسبة للهرمنيوطيقا — أن هيدجر — يعتبر الهرمنيوطيقا — وهي كلمة لم تَرِد في كتابات هوسرل — هي الظاهرية بكل أبعادها الأصيلة، ويعتبر أن مهمته في كتاب «الوجود والزمن» Being and Time هي إقامة هرمنيوطيقا للوجود Hermeneutic of Being. ولكي يحدد هيدجر فلسفته الظاهرية، يعود إلى الأصل اليوناني للمصطلح Phenomenology ويري أنه مكوَّن من جزئين Phenomenon وLogos. يشير الجزء الأول من الكلمة إلى مجموع ما هو مُعرَّض لضوء النهار، أو «ما يمكن أن يظهر في الضوء». هذا التجلي أو الظهور للشيء لا يجب التعامل على أساس أنه أمر ثانوي يشير إلى شيء آخر وراءه. إنه ليس عرضًا من أعراض الشيء، ولكنه ظهور الشيء كما هو.٢٢ وبكلمات أخرى ليس وجود الشيء — أو تجليه للإدراك — أمرًا ثانويًّا غير الشيء ذاته، بل هو ماهيته الأصلية. وينتهي هيدجر إلى أن المنهج الظاهري يقوم على أساس ترك الأشياء لتتجلى أو تظهر كما هي دون فرض مقولاتنا عليها. لسنا نحن الذين نشير للأشياء أو ندركها، بل الأشياء نفسها تكشف لنا نفسها. إن الأصل الحقيقي للفهم الصحيح هو أن نستسلم لقوة الشيء ليكشف لنا عن نفسه. ولكن كيف تكشف الأشياء عن نفسها؟
في تحليل هيدجر للجزء الثاني Logos يرى أنها لا تدل على الفكر، لكنها تدل على الكلام، ووظيفته التي تجعل الفكر ممكنًا. إن الأشياء تكشف نفسها من خلال اللغة (الكلام Speaking). واللغة — هنا — ليست أداة للتوصيل اخترعها الإنسان ليعطي للعالم معنى، أو ليعبر عن فهمه «الذاتي» للأشياء. اللغة تُعبِّر عن المعنوية Meaningfulness القائمة بالفعل بين الأشياء. إن الإنسان لا يستعمل اللغة، بل اللغة هي التي تتكلم من خلاله، العالم ينفتح للإنسان من خلال اللغة. وبما أن اللغة مجال الفهم والتفسير، فالعالم يكشف نفسه للإنسان من خلال عمليات مستمرة من الفهم والتفسير. ليس معنى ذلك أن الإنسان يفهم اللغة، بل الأخرى القول إنه يفهم من خلال اللغة. اللغة ليست وسيطًا بين العالم والإنسان، ولكنها ظهور العالم وانكشافه بعد أن كان مستترًا، إن اللغة هي التجلي الوجودي للعالم.
مثل هذه الظاهرية هرمنيوطيقية، بمعنى أنها تتضمن أن الفهم لا يقوم على أساس المقولات والوعي الإنسانيين، ولكنه ينبع من تَجلِّي الشيء الذي نواجهه، من الحقيقة التي ندركها٢٣ ولكن هل يبدأ إدراكنا للشيء، وبالتالي فهمه، من فراغ؟ إن الإنسان — فيما يقول هيدجر — يجد في وجوده، وعلى مدى هذا الوجود، فهمًا محددًا لماهية الوجود المكتمل. هذا الفهم — كما أشرنا — ليس فهمًا ثابتًا، ولكنه فهم يتكون تاريخيًّا، وينمو في مواجهة الظواهر. إن الوجود الإنساني — الوجود في العالم — في ظل هذا الفهم عملية مستمرة في فهم الظواهر والوجود في نفس الوقت. وهكذا تصبح الظاهرية عند هيدجر هرمنيوطيقية، وتصبح الهرمنيوطيقا — عملية الفهم — وجودية. إن الفهم هو القدرة على إدراك الاحتمالات الوجودية للفرد في سياق حياته ووجوده في العالم. إن الفهم ليس طاقة أو موهبة للإحساس بموقف شخص آخر، كما أنه ليس القدرة على إدراك معنى بعض تعبيرات الحياة بشكل عميق. إن الفهم ليس شيئًا يمكن تحصيله وامتلاكه، بل هو شكل من أشكال الوجود في العالم، أو عنصر مؤسس لهذا الوجود. وعلى هذا يعتبر الفهم — من الناحية الوجودية — أساسيًّا وسابقًا على أي فعل وجودي.
ولكن إذا كان الفرد يبدأ من خلال وجوده — وعلى مدى هذا الوجود — بفهم المعنى المكتمل للوجود، فكيف يفهم وجوده في العالم؟ إن العالم — عند هيدجر — ليس مجموعة من الكليات Entities المنفصلة، ولكنه مجموعة من العلاقات تعلو على الذاتية والموضوعية. إن الإنسان وحده هو الذي يمتلك العالم، لا بمعنى أن العالم يوجد من خلال الإدراك الإنساني، وألا تناقض هيدجر مع نفسه، وعاد إلى الذاتية التي يرفضها في الكانتية الجديدة. الإنسان يمتلك العالم بمعنى أنه يعيش فيه، ولا يدرك إلا من خلاله. إنه يبدأ من خلال إدراك وجوده الذاتي إدراك العالم حين يكشف له العالم عن نفسه، أو حين يسمح للأشياء أن تظهر. وظهور العالم وانكشافه إنما يكون من خلال اللغة (الكلام).
من الطبيعي — في ظل هذه النظرة — ألَّا يكون النص الأدبي تعبيرًا عن «حقيقة داخلية» كما أن الشعر لا ينقل لنا داخل الشاعر أو أحاسيسه أو تجربته، بل الأحرى أن يكون تجربة وجودية. وكما أن اللغة — وكذلك العالم — ليست موضوعية أو ذاتية، فكذلك النص لا يمكن النظر إليه على أنه تعبير ذاتي كما في الرومانسية، أو على أساس أنه تعبير موضوعي كما هو عند إليوت وديلثي، بل هو مشارَكة في الحياة «تجربة وجودية» تتجاوز — بالمثل — إطار الذاتية والموضوعية.٢٤ وفي فهم النص وتفسيره لا نبدأ من فراغ، بل نبدأ — كما في فهم الوجود — من معرفة أولية عن النص ونوعه. حتى أولئك الذين لا يتصورون وجود مثل هذه المعرفة أو ينكرونها يبدءُون من تصور أن هذا النص — مثلًا — قصيدة غنائية. ومن جانب آخر فنحن لا نلتقي بالنص خارج إطار الزمان والمكان، بل نلتقي به في ظروف محددة، نحن لا نلتقي بالنص بانفتاح صامت، ولكننا نلتقي به متسائلين. مثل هذه الأسئلة تمثل الأساس الوجودي لفهم النص، ومن ثم لتفسيره، تمامًا كما أن إدراكنا للوجود المكتمل من خلال وجودنا الذاتي يؤسِّس فهمنا للوجود في العالم.

ولكن كيف يتجاوز النص الأدبي خاصة — والعمل الفني عامة — إطار الذاتية والموضوعية؟

يعطي هيدجر في كتاباته المتأخرة تصورًا أوسع لطبيعة الفن وماهيته، وطابعه الوجودي٢٥ يرفض هيدجر التعامل مع العمل الفني باعتباره شيئًا لا علاقة له بالعالم، ولكنه من جانب آخر يؤمن بأن العمل الفني يستقل بنفسه، وهذه خاصيته الأساسية. وهو — في هذا الاستقلال — لا ينتمي للعالم، بل العالَم ماثِل فيه، وهو الذي يفصح عن نفسه. وفي محاولة هيدجر لفهم البنية الوجودية للعمل الفني بعيدًا عن مبدعه ومتلقيه، يستخدم مفهومًا مقابلًا لمفهوم العالم هو «الأرض». وإذا كان العالم يعني الظهور والانكشاف والوضوح، فإن الأرض — في المقابل — تعني الاستتار والاختفاء. والعمل الفني قائم على التَّوتُّر الناشئ عن التعارض بين الظهور والانكشاف من جهة، والاستتار والاختفاء من جهة أخرى. إنه — من الوجهة الوجودية — يتضمن الجانبين في حالة توتر مثل الوجود تمامًا الذي يفصح عن نفسه للإنسان من خلال تعارضات الوجود والعدم. الانكشاف والإفصاح، والاختفاء والغموض جانبان كلاهما موجود في العمل الفني. إن العمل الفني لا يشير إلى معنى خارجه عند المبدع أو في العصر. إنه يمثل نفسه في وجوده الخاص. ولكن كيف يفصح العالم عن نفسه من خلال العمل الفني؟ يرى هيدجر أن العمل الفني يتشكل من خلال أشياء العالم مثل الأحجار أو الألوان أو الأنغام أو اللغة. ولكن هذه الأشياء — في العمل الفني — تكشف عن وجودها الحقيقي، لا باعتبارها أشياء منفصلة خاضعة للمقولات الذاتية للعقل البشري. إن الأنغام التي تُؤسِّس العمل الموسيقي العظيم هي أنغام حقيقية أكثر من مُجرَّد الأنغام والأصوات الأخرى. وكذلك الألوان في الرَّسْم ألوان بمعنى أعمق من ألوان الطبيعة الثرية. إن عمود المعبد — كذلك — يكشف — بعبقرية — خاصية الحجر في ارتفاعه مدعمًا سقف المعبد، وذلك بشكل أعمق من مجرد وجوده الطبيعي. هذا التجلي للأشياء في العمل الفني يعني دخولها في شكل منتظم، في بناء وجودي، هو ما يمثل الشكل في العمل الفني. وإذا كان الشكل يُمثِّل تجلي العالم وظهوره وانكشافه في العمل الفني، فالعمل — من خلال التشكيل — يتجاوز الذاتية والموضوعية؛ لأن العالم نفسه — باعتباره مجموعة من العلاقات — يتجاوز — بالمثل — إطار الذاتية والموضوعية. وإذا كانت اللغة — وسيط العمل الأدبي — هي الأخرى تتجاوز إطار الذاتية والموضوعية باعتبارها الوسيط الذي يتجلى الوجود من خلاله، فإن العمل الأدبي — مثله مثل العمل الفني — يعلو على الذاتية والموضوعية.

إن ثنائية الذات والموضوع التي تَختفي في الظاهرية الوجودية عند هيدجر، تجعل مفاهيم الشكل والمضمون — والقائمة على نوع من الثنائية — غير كافية — باعتبارها مفاهيم تأملية قائمة على أولية الذات على الموضوع — لتحليل البنية الوجودية للعمل الفني. وحين نقول إن العالم يظهر في الأدب، فإن ظهوره يُعَد — في نفس الوقت — دخوله في شكل منتظم. وحين يتحقق الشكل فإن العمل يُحقِّق وجوده الأرضي ومعنى ذلك أن للعمل الفني بناءه الخاص، وأن هذا البناء هو وجوده المتميز. إن هذا الوجود لا يعني انتماء العمل الفني إلى «أنا» ذات تجربة تعني شيئًا تريد أن تُقدِّمَه من خلال العمل. إن وجود العمل الفني لا يتأسَّس على أي تجربة، بل الأحرى القول إنه حدث أو دفعة تبدد كل شيء يمكن أن يكون سابقًا عليها. إن وجود العمل الفني — أو تشكله — دفعة تفتح عالمًا لم ينفتح من قبل. هذه الدفعة تحدث بطريقة تجعلها ثابتة.

من خلال هذا الوصف للبنية الوجودية للعمل الفني، يحاول هيدجر أن يتجنب أهواء الأستطيقا التقليدية، ومفهوم الذاتية في فلسفة الجمال الغربية. وهو يحاول — من جانب آخر — تَجنُّب مفاهيم علم الجمال التأملية التي ترى أن العمل الفني تَجلٍّ حسي للمطلق. وحين يُؤسِّس هيدجر وجودية العمل الفني على التعارض Conflict بين العالم والأرض (كبديلين للشكل والمضمون) ويؤسِّس بناءه على التوتر Tension القائم بينهما، فإنه يكون بذلك قد وضع أساسًا لعملية الفهم وهرمنيوطيقية الفن. إن هذا التوتر الناشئ عن التعارض بين العالم والأرض (المضمون والشكل) يمثل التوتر بين الانكشاف والوضوح من جهة، والاستتار والغموض من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل دخولنا لفهم العمل الفني عملية وجودية، يفصح فيها الوجود عن نفسه لنفسه، ما دام المتلقي يبدأ من إدراكه لوجوده الذاتي. إن العمل الفني دفعة من خلالها تَتجلَّى الحقيقة. إنه تجلٍّ متميز للحقيقة في العمل الفني، يختلف عن الحقيقة التي تتجلى في الفلسفة. هذا التحليل للعمل الفني يدعم اهتمام هيدجر الفلسفي الذي يهتم بفهم الوجود نفسه.٢٦

وإذا كان العالم ينفتح من خلال العمل الفني، فإن الانفتاح الوجودي عند المتلقي — من خلال وعيه بوجوده الذاتي — يجعل عملية الفهم ممكنة. إن الوجود الذاتي للمتلقي لحظة من لحظات الوجود الحقيقي، والعمل الفني — بالمثل — لحظة وجودية. وحين تلتقي اللحظتان يبدأ الحوار، يبدأ السؤال والجواب الذي تنكشف به حقيقة الوجود، وتتطور — من ثم — تجربتنا الوجودية في العالم. فإذا انتقلنا للنص الأدبي الذي يتجلى فيه العالم من خلال اللغة، وجَدْنا أنه — مثل العمل الفني — يقوم على التوتر بين الانكشاف والوضوح من جهة، والاستتار والغموض من جهة أخرى. ومهمة الفهم هي السعي لكشف الغامض والمستتر من خلال الواضح والمكشوف، اكتشاف ما لم يَقُلْه النص من خلال ما يقوله بالفعل، وهذا الفهم للغامض والمستتر يتم من خلال الحوار الذي يقيمه المتلقي مع النص.

إن عملية فهم النصوص عملية هرمنيوطيقية تدور في دائرة، هي الدائرة الهرمنيوطيقية، تتسق مع التصور الهرمنيوطيقي للوجود عند هيدجر، طالما أن النص الأدبي — مثله مثل العمل الفني — يقوم على التوتر الناشئ عن التعارض بين العالم والأرض، أو بين التجلي والاختفاء، أو بين الوجود والعدم.٢٧
ولقد كان لمقولات هيدجر الفلسفية وتصوراته الأساسية — دون شك — أثرها في تشكيل مفاهيمه عن الفن والأدب وفهمهما. لقد بدأ بإنكاره فكرة الوعي الذاتي كأساس لنظرية المعرفة في الفلسفة الغربية، وأراد أن يؤسس نظرية ظاهرية في المعرفة أقامها على أساس وجُودي. وفي هذا التأسيس الوجودي للمعرفة اعتبر أن الفهم والوجود أمران مُترابطان أو مُتوحدان إن شِئنَا الدقة. في مثل هذا التصور فَقدَت اللغة طابعها الإنساني، وتَحوَّلت إلى طاقة وجودية تنتظم وجود العالم والإنسان معًا، وكان من الطبيعي — في ظل هذه النظرة — أن يستقل العمل الفني عن مبدعه، وأن يكون مُجلًّى وجوديًّا، ويصبح فهم العمل الفني والأدبي — بالتالي — مهمة وجودية تُثري الوجود الإنساني في العالم وفَهْم الإنسان لهذا الوجود. إن النص الأدبي — والعمل الفني عامة — لا يفصح عن رؤية المبدع لواقع محدد في لحظة تاريخية محددة تتجاوز — في الفن العظيم — إطار الخاص للعام، ولكنه يفصح عن الوجود بمعناه الفلسفي. وهكذا يتوحد الفن بالفلسفة في مهمتهما الوجودية. إن ربط الفن بالحقيقة بالمعنى الوجودي يغفل الخاصية المميزة للفن، ويهدد — من ثم — التمايز القائم بين الفكر والفن. ومن جانب آخَر فإن إهدار ذاتية المبدع في سبيل «التجربة الوجودية» يقرب هيدجر — أكثر مما يظن — من ديلثي الذي ضَحَّى بها في سبيل «تجربة الحياة». ومن جانب آخر فإن الدفعة التي ينطلق منها العمل الفني للوجود والتي تؤدي إلى ثباته، يمكن أن تتساوى مع تصور ديلثي للنص على أنه تحديد موضوعي Objectification لتجربة الحياة والتي تجعل عملية الفهم ممكنة. إن الفارق بين هيدجر وديلثي هو فارق من حيث الإطار العام حيث ينطلق هيدجر من مفهوم فلسفي، بينما ينطلق ديلثي من محاولة تأسيس منهج موضوعي للإنسانيات. وكان الإطار الفلسفي الذي انطلق منه هيدجر هو ذات الإطار الذي انطلق منه جادامر مع بعض التعديلات الهيجلية.
يركز جادامر بشكل أساسي على معضلة الفهم باعتبارها معضلة وجودية. يبدأ جادامر في كتابه «الحقيقة والمنهج Truth and Method بطرح تاريخي نقدي للهرمنيوطيقا منذ شليرماخر وحتى عصره مرورًا بديلثي. ويرى أن تركيز شليرماخر كان على وضع القواعد والقوانين التي تعصمنا من سوء الفهم الذي نكون أقرب إلى الوقوع فيه، خاصة إذا تباعد النص عنا في الزمان، وصارت لغته غامضة بالنسبة لنا. إن نقطة البدء — فيما يرى جادامر — ليست هي هي ما يجب أن نفعل أو نتجنب في عملية الفهم، بل الأحرى الاهتمام بما يحدث بالفعل في هذه العملية بصرف النظر عما ننوي أو نقصد.٢٨ إنه يبدأ من سؤال فلسفي — كما فعل هيدجر — عن علاقة الفهم بتجربتنا الكلية التي تتجاوز إطار المنهج بمعناه العلمي. إنه مهتم بالبحث عن تجربة الحقيقة التي تتجاوز إطار المنهج العلمي المنظم، والتي تتجلى في الفلسفة والتاريخ والفن. إن هرمنيوطيقية جادامر لا تسعى — مثل هرمنيوطيقية ديلثي — للبحث عن منهج للإنسانيات، ولكنها محاولة لفهم العلوم الإنسانية على حقيقتها بصرف النظر عن المنهج، ولفهم علاقتها بتجربتنا الكلية في العالم. إن ديلثي في بحثه عن منهج موضوعي مستقل للإنسانيات في مقابلة مناهج العلوم الطبيعية قد وقع — فيما يرى جادامر — فيما حاول الهرب منه. إن عملية الفهم — في الإنسانيات وفي العلوم الطبيعية أيضًا — عملية تتجاوز إطار المنهج، إذ المنهج لا ينتج في النهاية إلا ما يبحث عنه أو لا يجيب إلا على الأسئلة التي يطرحها. إن أي منهج يتضمن إجاباته، ولا يوصلنا إلى شيء جديد. هرمنيوطيقية جادامر — إذن — تتجاوز إطار المنهج لتحليل عملية الفهم نفسها.
من هذا المنطلق يبدأ جادامر في تحليل مفهوم الحقيقة في الفن والتاريخ والفلسفة. إن الفن — فيما يرى جادامر — لا يهدف فحسب إلى المتعة الجمالية التي تَنصبُّ غالبًا على الشكل عند فلاسفة الأستطيقا. ونحن في تجربة تَلقِّي العمل الفني لا تنفصل عن وعينا العادي لندخل في دائرة الوعي الأستطيقي الذي نحتكم إليه في رفض أو قبول العمل الفني. إن التفرقة بين الوعي الأستطيقي والوعي غير الأستطيقي — فيما يرى جادامر — تقوم على أساس من اعتبار الوعي الذاتي هو أساس كل معرفة في الفلسفة الغربية. وهي تقوم من جانب آخَر على التفرقة بين مجالات الإدراك في الفن وغيره كالتاريخ والفلسفة. إن الفن لم يُوجَد لنقبله أو نرفضه على أساس من وعينا الجمالي الذاتي، والأعمال الفنية — بالمعنى الهيجلي الواسع الذي ينتظم معابد الإغريق — لم تبدع لأغراض جمالية خالصة، فقد كان قصد منشئيها أن يتلقى هذا الإبداع على أساس ما يقوله أو يمثله من معانٍ. إن الوعي الجمالي — فيما يرى جادامر — له مكانة ثانوية إذا قورن بالادعاء الآني للحقيقة الذي ينبع من العمل الفني نفسه. ونحن حين نتلقى العمل الفني على أساس وعينا الجمالي نغترب عنه؛ ذلك لأننا ننكر الحقيقة الكامنة في هذا العمل.٢٩ وهنا يعلن جادامر اتفاقه مع الاشتراكيين في أن الفن مرتبط بالناس، ويرى أنها فكرة أصيلة. ولكن جادامر يعني بذلك — بالطبع — شيئًا مختلفًا عمَّا يعنيه الاشتراكيون. إنه يعني بها أن الفن يتضمن داخل إطاره الجمالي الشكلي حقيقة، هي المعنى الذي يدعيه الفن، إنه يحاول الرد على الجماليين الذين لا يرون للفن أي غاية خارج إطار المتعة الجمالية مؤكدًا أن الفن — مثل الفلسفة والتاريخ — يتضمن نوعًا من الحقيقة لا توجد إلا في غيره.

ولكن ما هي خصوصية الحقيقة في الفن، وكيف تُغاير مثيلتها في التاريخ أو الفلسفة؟

الإجابة التي يطرحها جادامر أن الحقيقة في الفن تتجلى من خلال وسيط له استقلاله الذاتي، هذا الوسيط هو الشكل الذي يستطيع الفنان من خلاله أن يُحوِّل تجربته الوجودية إلى مُعطًى ثابت. هذا التثبيت للتجربة الوجودية للفنان — من خلال الشكل — يجعل تَلقِّي هذه التجربة مفتوحًا للأجيال القادمة، ويجعله عملية متكررة. إن مادة الفن — في عملية تشكيل التجربة وتثبيتها — تتغير وتتحول تَحوُّلًا حقيقيًّا. إن ما كان موجودًا من قبل لم يَعُد له وجود، ولم يبقَ إلا ما هو موجود الآن بشكل ثابت. إن جادامر — على عكس هيدجر — لا يعني بمادة الفن الأنغام والحجارة والألوان، ولكنه يعني بها الحقيقة الوجودية التي يشكلها الفنان في العمل الفني. هذه الحقيقة تَتغيَّر وتتحول تحوُّلًا كاملًا وتنصهر في الشكل وتصبح مُعطًى جديدًا ثابتًا قابلًا للمشاركة «إن انصهار الحقيقة أو الوجود المائل في الشكل يكون كاملًا لدرجة أن الناتج يكون شيئًا جديدًا. وهذا الاستقلال الواضح للعمل الفني ليس استقلالًا معزولًا بلا هدف سوى الجمالية، ولكنه وَسيط للمعرفة بالمعنى العميق. وتجربة المُتلقِّي للعمل الفني تجعل هذه المعرفة مُمكنة ويمكن المشاركة فيها.»٣٠
إن عملية التلقي — في هذا التصور — ليست متعة جمالية خالصة تنصب على الشكل، ولكنها عملية مشاركة وجودية تقوم على الجدل بين المتلقي والعمل. إن عملية التلقي تفتح لنا عالمًا جديدًا، وتوسع — من ثم — أفق عالمنا وفهمنا لأنفسنا في نفس الوقت. إننا نرى العالم «في ضوء جديد، كما لو كنا نراه للمرة الأولى. حتى الأشياء العادية والمألوفة في الحياة تظهر في ضوء جديد في العمل الفني. ومعنى ذلك أن العمل الفني ليس عالمًا منفصلًا عن عالمنا الذاتي، إننا في تلقي العمل الفني لا نواجه عالمًا جديدًا غريبًا، ننفصل فيه عن أنفسنا خارج الزمن، أو ننفصل فيه عن غير. الأستطيقي. إننا — على العكس — نكون أكثر حضورًا. ونحقق فهمًا أعمق لأنفسنا حين ندخل — من خلال العمل الفني — إلى وحدةِ وذاتِيَّة الآخر باعتبارها عالمًا. إننا حين نفهم عملا فنيًّا عظيمًا نستحضر ما سبق أن جرَّبْنَاه في حياتنا، ويتوازن — من ثم — فهمنا لأنفسنا. إن عملية الجدل في فهم العمل الفني تقوم على أساس من السؤال الذي يطرحه علينا العمل نفسه، السؤال الذي كان سبب وجوده.٣١ هذا السؤال يفتح عالم تجربتنا الوجودية لتلقي العمل، وتنصهر التجربتان في ناتج جديد هي المعرفة التي يثيرها فينا العمل. وهذه المعرفة ليست كامنة في العمل نفسه، أو في تجربتنا وحدها، ولكنها مُركَّب جديد ناتج عن التفاعل بين تجربتنا والحقيقة التي يجسدها العمل. هذه المعرفة لم تكن مُمكِنة لولا تَجسُّد تجربة المبدع الوجودية في وسيط ثابت هو الشكل وهو الذي يجعل عملية المشاركة ممكنة.
ولكي يؤكد جادامر دور العمل الفني كوسيط ثابت يستشهد بظاهرة اللعب ويحللها، هذا التحليل يكشف لنا بشكل أوضح بعض جوانب تَصوُّر جادامر لدور المبدع والمتلقي والعمل نفسه في ظاهرة الفن. إن اللعب ليس مجرد نشاط إبداعي للتسلية والمتعة. إنه يتضمن نوعًا من الجِدِّيَّة، إذا تجاهلها أحد المشاركين يفسد اللعبة. وللعبة أيضًا ديناميكيتها المستقلة وأهدافها المنفصلة عن وعي اللاعبين المشاركين فيها. إن اللعبة ليست موضوعًا في مواجهة ذات اللاعب ولا تخضع لذاتيته. إن اللاعب يختار أي نوع من اللعب يريد أن يشارك فيه، ولكنه حين يدخل اللعبة يصبح محكومًا بقوانينها الذاتية. وتصبح اللعبة هي السيد المتحكم في اللاعبين والمُوجِّه لحركاتهم. إن مشاركة اللاعبِين في اللعبة هي التي تمثلهم في الوجود. ولكن ما هو ماثل أمام المتفرجين ليس ذاتية اللاعبين، ولكنها اللعبة نفسها بقوانينها التي تتجاوز ذاتية اللاعبين والمتفرجين معًا. إن روح اللعبة يصبح هو المسيطر، وهدفها هو نَقْل الحقيقة التي تمثلها، الحقيقة التي تَحوَّلَت إلى شكل هو اللعبة نفسها. إن دور اللاعب يصبح دورًا هامشيًّا يتمثل في اختياره المبدئي للعبة التي يريدها، ويتمثل في مدى الحرية التي يستطيع ممارستها داخل قانون اللعبة. واللعبة بقوانينها الذاتية وروحها الأساس الذي يتجاوز اللاعبين. وتمثل اللعبة في شكل يجعل إمكانية المشاركة فيها — من جانب المتفرج — ممكنة بشرط أن يكون عند المتفرج وعي ما سابق على حدث «الفرجة».٣٢

دور المبدع في العمل الفني كدور اللاعب في اللعب. إنه يبدأ بمحاولة تشكيل تجربته الوجودية. ولكن هذه التجربة تستقل — في تشكلها — عن ذاتية المبدع، لتتحوَّل إلى وسيط له دينامياته وقوانينه الداخلية. هذا الوسيط الماثل في الوجود — الشكل الفني أو اللعبة — هو الذي يجعل عملية التلقي ممكنة. ولكنَّ التلقي بدوره لا يبدأ من فراغ. بل يبدأ من تجربة العمل الفني، كما أن المُتفرِّج لا بد أن يكون على وعي ما بقوانين اللعبة وأهدافها حتى يمكنه المشاركة فيها. إن العمل الفني — وكذلك اللعبة — يبدأ من المبدع (أو اللاعب) وينتهي إلى المتلقي (أو المتفرج) من خلال وسيط — هو الشكل — مُحايِد إلى حدٍّ كبير. هذا الوسيط ثابت مما يجعل تلقيه عملية ممكنة ومتكررة في نفس الوقت من جيل إلى جيل. وبالتالي فالحقيقة التي يتضمنها العمل الفني — كمثيلتها في الفلسفة والتاريخ — حقيقة ليست ثابتة، ولكنها تتغير من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر طبقًا لتغير أفق التلقي وتجارب المتلقين، ولكن الوسيط أو الشكل الفني الثابت هو الذي يجعل عملية الفهم ممكنة.

ومن نفس المنطلق ينقد جادامر فكرة الوعي التاريخي الذي يقوم على أساس منهجي فحواه التخلص من النوازع والأهواء الذاتية لتجربتنا الحاضرة، والتي تلون حكمنا على التاريخ. وبالتالي لا تجعلنا قادرين على رؤية الماضي رؤية موضوعية. يرى جادامر — على العكس — أن الأهواء والنوازع — بالمعنى الحرفي — هي التي تُؤسِّس موقفنا الوجودي الراهن الذي تنطلق منه لفهم الماضي والحاضر معًا. إن المنهج العلمي الصارم حين يُطالِب المؤرخ بالتخلص من أهوائه ونوازعه وكل ما يُشكِّل أفق تجربته الراهن لا يفعل أكثر من أن يترك مثل هذه النوازع تُمارِس فعلها في الخفاء بدلًا من مواجهتها باعتبارها عوامل أصيلة في تأسيس عملية الفهم. إن هذا المنهج — مثله مثل الوعي الأستطيقي — يجعلنا في حالة غربة عن الظاهرة التاريخية التي ندرسها. ويُبَرهِن جادامر على أن هذا المنهج لم يَتحقَّق في الأعمال التاريخية التي كتبها مُعتنقوه حيث نجد في تأريخهم دومًا صدًى للاتجاهات السياسية للعصر الذي كُتِبَت فيه هذه التواريخ.٣٣
إن التاريخ — فيما يرى جادامر — ليس وجودًا مستقلًّا في الماضي عن وعينا الراهن وأفق تجربتنا الحاضرة. ومن جانب آخَر فإن حاضرنا الراهن ليس معزولًا عن تأثير التقاليد التي انتقلَتْ إلينا عَبْر التاريخ. إن الوجود الإنساني تاريخي ومعاصر في نفس الوقت، ولا يستطيع الإنسان تجاوُز أفقه الراهن في فَهْم الظاهرة التاريخية، لا يستطيع أن يَتحوَّل إلى الماضي ليكون مشاركًا فيه ويفهمه فهمًا موضوعيًّا. إن التقاليد التي انتقلت إلينا عَبْر الزمن هي المحيط الذي نعيش فيه، وهي التي تُشكِّل وعينا الراهن، ونحن — من ثم — حين نبدأ من أفقنا الراهن لفهم الماضي لا نَكون في غيبة عن التقاليد والتاريخ. إن الإنسان يعيش في إطار التاريخية Historicality. وهذه التاريخية هي المحيط غير الظاهر الذي يعيش فيه، تمامًا كالماء الذي يعيش فيه السمك دون أن يُدرِكَه لأنه غير ظاهر له. وعلى ذلك فإن فهمنا للتاريخ لا يبدأ من فراغ، بل يبدأ من الأفق الراهن الذي يعتبر التاريخ أحد مُؤسَّساته الأصيلة.

إن علاقتنا بالتاريخ — وفهمنا له — تقوم على الجدل والحوار، لا على الإنصات السلبي، تمامًا كما أنَّ تَلقِّينا للعمل الفني عملية جدلية تقوم على ما يَطرحه علينا من أسئلة هي التي شَكَّلَت وجوده. إن التاريخ مثله مثل الشكل في العمل الفني؛ وسيطٌ يمكن المشاركة في فهمه.

وكما يعيش الإنسان ويُحقِّق وجوده من خلال فهم التاريخ والفن بدءًا من وعيه الراهن، يعيش في إطار اللغة. إن جادامر يرفض — مثل هيدجر — الوظيفة الدلالية للغة، ويؤكد على العكس، أن اللغة لا تشير إلى الأشياء، بل الأشياء تُفصِح عن نفسها من خلال اللغة. وفهمنا لنص أدبي لا يَعني فَهم تجربة المؤلف، بل يعني فهم تجربة الوجود التي تُفصِح عن نفسها من خلال النص. النص الأدبي — والشكل الفني — وسيط ثابت بين المبدع والمتلقي، وعملية الفهم مُتغَيِّرة طبقًا لتغير الآفاق والتجارب. ولكن ثبات النص — كشكل — هو العامل الأساسي لجعل عملية الفهم ممكنة.

إن جادامر — كما سبقت الإشارة — ينطلق من أُسس هيدجر الفلسفية التي تقيم الوجود على أساس هرمنيوطيقي، وتقيم الهرمنيوطيقا على أساس وجودي، غير أن جادامر — متأثرًا بجدلية هيجل — أقام تأويليته على أساس جدلي سواء في الفلسفة أو التاريخ أو الفن. إن نظرته للفن واعتباره وسيطًا بين المتلقي والمبدع قد أهدرت — دون شك — جوانب كثيرة في عملية الإبداع. إن دور الفنان يتضاءل لكي يكون هامشيًّا، كما أن الشكل الذي تتجسد من خلاله تجربة الوجود في الفن يُصبِح مُجرَّد وسيط حامل للمضمون. واهتمام جادامر بقضية الحقيقة — في مواجهة النزعة الشكلية عند الجماليين — لم يمكنه من الكشف عن كيفية تجسد هذه الحقيقة الوجودية في الشكل. ومن جهة أخرى فإن التعامل مع العمل الفني، باعتباره تجسيدًا لتجربة وجودية، يغفل تاريخية المبدع الزمانية والمكانية. إن تجربة المبدع الوجودية — لو سلمنا بأسبقيتها على أي فعل من أفعال الوجود — تتم في إطار اجتماعي مُحدَّد، ولا تتم في العالم بمعناه الواسع الفضفاض. إن التاريخية عند جادامر وهيدجر، تاريخية الوجود الإنساني، تاريخية زمانية تعني تراكمًا لخبرة الوجود في الزمن، ولا تعني التاريخية المشروطة بالوجود المادي لجماعة إنسانية في ظروف اقتصادية واجتماعية مُحدَّدة. إن التاريخية — هنا — تاريخية مثالية متعالية، وفكرة الجدل التي يقوم على أساسها الفهم عند جادامر هي جدلية مثالية هيجلية.

إن ما أنجزه كل من هيدجر وجادامر — بحق — أنهما أسَّسَا عملية الفهم على أساس وجودي. ويبقى أن يفهم الوجود الإنساني نفسه بشكل أكثر تحددًا بعيدًا عن الميتافيزيقية المتعالية لفكرة الوجود عندهما. إن الوجود الإنساني مشروط بلحظة تاريخية مُعيَّنة، وبإطار اجتماعي يُحدِّد شروط هذا الوجود وآفاقه. هذه الشروط تُحدِّد نقطة البداية للإدراك والمعرفة. ليس الإنسان — بما هو ذات متعالية — هو مؤسس الوجود الخارجي في عملية الإدراك، وليس هناك أي أولية مسبقة في عملية المعرفة، بل كل من الذاتي والموضوعي في حالة علاقة جدلية محكومة بالشروط الموضوعية المادية والتاريخية التي تتم فيها المعرفة. ومن هذا المنطلق يمكن أن يتعدل تصورنا لطبيعة الفن، وننظر إليه باعتباره تعبيرًا عن رؤية ذات متميزة محددة. وبالتالي لا نسلم — مع هيدجر وجادامر — باستقلالية العمل الفني عن مبدعه، وإن كُنَّا نُسلِّم أن العمل العظيم يتجاوز إطار الجزئي والخاص والتاريخي إلى الكلي والعام والإنساني. ونسلم بالمثل مع هيدجر وجادامر أن موقف المفسر — لا بالمعنى الوجودي بل بالمعنى التاريخي — عامل في فهم العمل الفني، وشرط محدد لا غناء عنه في أي فهم. إن إقامة الهرمنيوطيقا — عند جادامر — على أساس جدلي إضافة حقيقية، ولكنها تحتاج لتأسيس هذا الجدل على أساس مادي يضيف لنظرية الفن في الواقعية الاشتراكية جدلية علاقة الناقد — كموقف من الواقع مُصاغ في شَكل مَذْهَب نقدي — بالنص الأدبي أو العمل الفني.

٥

في مواجهة هرمنيوطيقية جادامر الجدلية التي لا تهتم بالمنهج، كان المنهج هو رد الفعل في الجدل المعاصر جدًّا حول الهرمنيوطيقا. وإذا كان شليرماخر قد تعامل مع الهرمنيوطيقا باعتبارها علمًا أو فنًّا يصوغ قواعد وقوانين تعصمنا من سوء الفهم، وإذا كان ديلثي قد أقام الهرمنيوطيقا على أساس أنها الخاصية المميزة للإنسانيات في مواجهة المناهج الوصفية للعلوم الطبيعية — فإن مفكري الهرمنيوطيقا المعاصرين؛ مثل: بيتي Betti، وبول ريكور، وهيرش، الأول في إيطاليا، والثاني في فرنسا، والثالث في الولايات المتحدة الأمريكية، يسعون لإقامة نظرية «موضوعية» في التفسير. إنهم — مثل شليرماخر — يحاولون إقامة الهرمنيوطيقا علمًا لتفسير النصوص يعتمد على منهج موضوعي صلب، يتجاوز عدم الموضوعية التي أكدها جادامر. إن الهرمنيوطيقا عند هؤلاء المفكرين لم تَعُدْ قائمة على أساس فلسفي، ولكنها صارت — ببساطة — علم تفسير النصوص، أو نظرية التفسير.
يركز بول ريكور اهتمامه أساسًا على تفسير الرموز. وهو يفرق بين طريقتين للتعامل مع الرموز، الأولى هي التعامل مع الرمز باعتباره نافذة نطل منها على عالم من المعنى، والرمز في هذه الحالة وسيط شفاف ينم عَمَّا وراءه. هذه الطريقة يمثلها بولتمان Bultman في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير، وهذه الطريقة يطلق عليها ريكور Dymythologizing. والطريقة الثانية يمثلها كل من فرويد وماركس ونيتشه، وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق بها، بل يجب إزالتها وصولًا إلى المعنى المختبئ وراءها Dymystification. إن الرمز في هذه الحالة لا يَشفُّ عن المعنى بل يخفيه ويطرح بدلًا منه معنى زائفًا. ومهمة التفسير هي — المعنى الزائف السطحي وصولًا إلى المعنى الباطني الصحيح. لقد شَكَّكَنَا فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحيًّا يخفي وراءه اللاوعي. وفسر كل من ماركس ونيتشه الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة ووضَعَا نسقًا من الفكر يقضي عليها ويكشف عن زيفها.٣٤
وإذا كان تفسير الرموز عند بولتمان أو فرويد ونيتشه وماركس ينصبُّ على الرموز بمعناها العام اللغوي والاجتماعي، فإن تعريف ريكور للرَّمْز يشترط أن يكون الرمز مُعبرًا عنه باللغة، ومن ثم ينصب التفسير عنده على تفسير الرموز في النصوص اللغوية، وهذه هي غاية الهرمنيوطيقا. إن الرمز — فيما يقول ريكور — «أي بنية من الدلالة يدل فيها المعنى الحرفي والأوَّلِي والمباشر — بالإضافة إلى ذلك — على معنى ثانوي مَجازي غير مباشر، لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال المعنى الأول.»٣٥ ومعنى ذلك أنه يتابع بولتمان في اعتباره الرمز شفافًا عن معناه الباطن. إن المعنى الأول الظاهر والحرفي ليس زائفًا، ولكنه وسيلتنا الوحيدة للوصول إلى المعنى الباطن. وعلى هذا فهدف التفسير وغايته ليس هو تحطيم الرمز، بل البدء به. إن عملية التفسير تقوم «على حل شفرة المعنى الباطن في المعنى الظاهر، وفي كشف مستويات المعنى المتضمنة في المعنى الحرفي.»٣٦
إن عملية التفسير تَنْصبُّ على النصوص اللغوية، وتقوم على تحليل المعطيات اللغوية للنص، ولكنها تهدف إلى الكشف عن مستويات المعنى الباطني. وهذا يقودنا لمفهوم ريكور للدلالة اللغوية. ويرفض ريكور الفهم البنيوي للغة على أساس أنها نظام مُغلَق من العلاقات لا يدل على شيء خارجه. لقد انتهت البنيوية — فيما يرى ريكور — إلى أن جعلت اللغة تؤسس عالمًا بذاتها، عالما تشير فيه كل وحدة إلى وحدات أخرى داخل نفس النظام طبقًا للتفاعل بين التعارضات والخلافات المؤسِّسة للنظام. لم تَعُد اللغة باختصار شكلًا للحياة، ولكنها صارت نظامًا قائمًا على الاكتفاء الذاتي للعلاقات الداخلية.٣٧ لقد ركزت البنائية — في التحليل اللغوي — على اللغة Longe لا على الكلام Parole باعتبار أن اللغة تُمثِّل النظام، أما الكلام فيمثل حدثًا لغويًّا. النظام يمثل الثبات والقابلية للفهم، أما الحدث فهو فانٍ ويستعصي على الفهم. ومن هذا المنطلق يبدأ ريكور في تأسيس نظريته في المعنى. إن الحَدَث اللغوي يَتجلَّى في الجملة Predication، هذه الجملة ليست مجموع كلماتها، ولكنها كينونة مُستقِلَّة. إنها قد تشير إلى الحدث اللغوي ولكن هذا الحدث لا يفنى ويبقى في الجملة. والعلاقة بين المعنى والحدث اللغوي علاقة جدلية. إن اللغة لا تتكلم، ولكن الناس يتكلمون، والحدث اللغوي يشير في جانب منه إلى المتكلم، وفي جانب منه إلى الكلام، والعلاقة بينهما علاقة تأثير متبادَل. إن المتكلم يختار من بين الإشارات Sings اللغوية واحدة دون أخرى، ويقيم بينها وبين الإشارة الأخرى التي يختارها أيضًا علاقة. هذه العلاقة من صُنْع المتكلم … ويتجلَّى دور المتكلم في اللغة في أمثلة عديدة بسوقها ريكور. إن الضمير «أنا» مثلًا ليس مفهومًا لغويًّا، ولكنه يشير إلى المتكلم في الحدث اللغوي، ولا يمكن استبداله مثلًا بقولنا والذي يتكلم الآن، ذلك فإنه يكتسب معنى جديدًا في كل حدث لغوي ليشير إلى المتكلم في هذا الحدث الخاص. وهناك أدوات نحوية أخرى تشير إلى علاقة الحدث اللغوي بالمتكلِّم مثل استخدام صيغة المضارع للدلالة على «الآن».٣٨ وإذا كان الحدث اللغوي، والجملة من ثم، يشيران إلى المتكلم فهناك معنًى في الكلام يشير إلى المعنى عند المتكلم، ولكنه قد لا يتطابق معه.
ينتقل ريكور من مستوى الكلام إلى مستوى النص المكتوب، الذي يعد — من الوجهة الحضارية — تثبيتًا Fixation للكلام، أو تثبيتًا للحدث اللغوي، وينتهي إلى أن النص المكتوب — وإن أشار إلى كاتبه كما يشير الحدث اللغوي إلى المتكلم — يحمل في طياته استقلاله من حيث المعنى. هذا الاستقلال يحمل في طياته أهمية عظيمة بالنسبة للهرمنيوطيقا، حيث يبدأ التفسير من فضِّ مُغلَق هذا العالم من المعنى المستقل.٣٩

وهكذا ينتهي ريكور إلى ربط النص بالكاتب، ويؤكد في نفس الوقت استقلاله من حيث المعنى. وتصبح مهمة المفسر هي النفاذ إلى عالم النص، وحل مستويات المعنى الكامن فيه، الظاهر والباطن، الحرفي والمجازي، المباشر وغير المباشر. وتتساوى عند ريكور — من الوجهة الهرمنيوطيقية — النصوص الأدبية والأساطير والأحلام، طالما أن هذين الأخيرين قد تَجسَّدَا في شكل لغوي.

ومن تركيز ريكور على المعنى في الأساطير والأحلام يتحدى البنائية على أساس أنها — في بحثها عن البنية — تغفل معضلة المعنى الكامن وراء هذه الأساطير. ويستدل على ذلك بالتراث التلمودي العبري قائلًا إن المنهج البنائي لا يستطيع الكشف عن معاني الرموز الموجودة في هذا التراث، وتستطيع الهرمنيوطيقا وحدها الكشف عن هذا المعنى باعتباره معنى تاريخيًّا. ويرد ليفي شتراوس بأن المعنى ليس هو الظاهرة الأساسية؛ لأنه ظاهرة متحولة Reducable غير ثابتة، وأن اللامعنى كامن دومًا خلف كل معنى والعكس ليس صحيحًا،٤٠ ويقصد ليفي شتراوس بتحول المعنى وعدم ثباته أنه متغير من عصر لعصر، وأن الباحث الخارجي Outsider، بعكس ابن المجتمع Insider غير قادر على اكتشاف المعنى في الظاهرة، ومن ثم فعليه البحث عن بنيتها وصولًا إلى النظام.
وكان لهذا الهجوم على البنائية أثره في ربط جولدمان بين المعنى والبنية فهو يقرر أن المعنى مسألة ضرورية في البنية، ومن الواضح أننا حين نقول إن النشاط الإنساني له معنًى نُسلِّم أيضًا أن هذا المعنى جزء من البنية. ومن الضروري الإشارة إلى أن جولدمان عدل من مفهوم البنية نفسها وربطها بالوعي الإنساني. وليس الوعي الإنساني عند جولدمان مفارقًا لموقع الإنسان في طبقة مُحدَّدة في مجتمع مُعيَّن. إن الكاتب كما يراه جولدمان ذاتٌ متميزة يتجلى فيها وعي الطبقة، ولكن هذا الوعي يُعبَّر عنه — في الفن — من خلال البنية وليس في انفصال عنها.٤١

ولقد كان لتركيز ريكور على استقلال المعنى في النص وتَعدُّد مستوياته، مع التسليم بعلاقته بمؤلفه؛ أثره في نظريته في التفسير، حيث أغفل علاقة المفسر بالنص، واعتبر أن مهمة التفسير هي النفاذ إلى مستويات المعنى في النص بوسائل التحليل اللغوي. ومن الواضح أن ريكور كان ينطلق من رد فعل للبنائية، حاول فيه أن يؤسس نظرية لتفسير النص تركز اهتمامها على المعنى بدلًا من البنية، وكان هذا لقاءه مع الهرمنيوطيقا وبالتالي خلافه مع جادامر الذي رفض فكرة المنهج واعتبر عملية الفهم — الهرمنيوطيقا — مسألة تتجاوز إطار المنهج.

وتتزايد عند هيرش نغمة الدفاع عن المؤلِّف في مواجهة إهماله لحساب التجربة الحية عند ديلثي، أو تجربة الوجود عند هيدجر، أو لحساب النص في النقد المعاصر. ويرى أن إهمال المؤلف نابع من تصوُّر أن معنى العمل الأدبي يختلف من ناقد لناقد ومن عصر لعصر، بل يختلف عند المؤلف نفسه من مرحلة لأخرى. ولكي يَتغلَّب على هذه المعضلة يقيم تفرقة بين المعنى Meaning، والمغزى Significance، ويرى أن مغزى النص الأدبي قد يختلف، ولكن معناه ثابت. ويرى أن هناك غايتين منفصلتين تتصلان بمجالين مختلفين. مجال النقد الأدبي وغايته الوصول إلى مغزى النص الأدبي بالنسبة لعصر من العصور، أما نظرية التفسير فهدفها الوصول إلى معنى النص الأدبي. إن الثابت هو المعنى الذي يمكن الوصول إليه من خلال تحليل النص، أما المتغير فهو المغزى. إن المغزى يقوم على أنواع من العلاقة بين النص والقارئ، أما المعنى فهو قائم في العمل نفسه، وحين نزعم أن معنى النص قد تَغيَّر بالنسبة لمؤلفه، فإننا نقصد المغزى على أساس أن المؤلف — في هذه الحالة — تَحوَّل إلى قارئ ومن ثم تَغيَّرت علاقته بالنص.٤٢

ويقيم هيرش — من جانب آخر — تفرقة بين المعنى الذي أراده المؤلف (القصد) وبين المعنى الكامن في النص، ولا يهمنا — في النص الأدبي — ما يعنيه المؤلِّف، أو ما كان يقصده، أو ما أراد أن يعبر عنه، وإنما الذي يعنينا بحق هو المعنى كما يُعبِّر عنه النص. وهذا المعنى يمكن الوصول إليه من خلال فحص الاحتمالات العديدة التي يمكن أن يعنيها النص. ويجب على التفسير أو الهرمنيوطيقا أن تأخذ على عاتقها هذه المهمة، وأن تترك مجال مغزى النص بالنسبة للقارئ أو للعصر للنقد الأدبي. إن خطأ ديلثي وجادامر — عند هيرش — أنهما خلَطَا بين مجال الهرمنيوطيقا (نظرية التفسير) وبين مجال النقد الأدبي.

في هذا يتفق هيرش مع بيتي Betti في ضرورة أن تركز الهرمنيوطيقا مجال دراستها على معنى النص وصولًا إلى تفسير موضوعي لا يتدخل فيه المفسر ليفرض رؤيته على النص. إن بيتي يريد أن يعيد الهرمنيوطيقا إلى مجالها الطبيعي كما كانت عند شليرماخر في التركيز على فهم النصوص. ويرى كل من بيتي وهيرش أن المنهج الفيلولوجي المنهج الأمثل لتفسير النصوص. ويعد الجدل بين كل من بيتي وجادامر هو الصراع القائم في الفكر المعاصر في مجال الهرمنيوطيقا والذي يشدها إلى اتجاهين: اتجاه بيتي وهيرش في التركيز على النص والمؤلف، واتجاه جادامر في البدء من موقف المفسر الراهن باعتبار هذا الموقف «الوجودي» هو المؤسس المعرفي لأي فهم.٤٣

وهكذا بدأت الهرمنيوطيقا — عند شليرماخر — بالبحث عن القوانين والمعايير التي تؤدي إلى تفسير صحيح، وانتهت — في تطورها الأخير — إلى وضع نظرية في تفسير النصوص الأدبية. ولكنها بين البداية وتَطوُّرِها المعاصر فتحت آفاقًا جديدة من النظر، أهمها — في تقديرنا — لفت الانتباه إلى دور المفسر، أو المتلقي في تفسير العمل الأدبي والنص عمومًا. وتُعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعدلها من خلال منظور جدلي مادي، نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية، ونظرية الأدب، فحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن، لنرى كيف اختلفت الرؤى، ومدى تأثير رؤية كل عصر — من خلال ظروفه — للنص القرآني. ومن جانب آخر نستطيع أن نكشف عن موقف الاتجاهات المعاصرة من تفسير النص القرآني، ونرى دلالة تعدد التفسيرات — في النص الديني والنص الأدبي معًا — على موقف المفسر من واقعه المعاصر، أيًّا كان ادعاء الموضوعية الذي يدعيه هذا المفسر أو ذاك.

١  Palmer, Richard E., Hermeneutics, Northwestern University Press, Evanston, 1969, p. 34.
وانظر أيضًا في الهرمنيوطيقا وتطورها:
Grant Robert M., A Short History of Interpretation of the Bible, The Macmillan Company.
New York, 1963, Peter Szondi, Introduction to Library Hermeneutics, in “New Library History” trans. by Timothy Bohti, the University of Verginia, vol. x, Autumn 1978, No 1, pp. 17–29.
٢  انظر في ذلك: الطبري (محمد بن جرير): جامع البيان في تأويل آي القرآن، طبعة شاكر، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧١م، ج٣، ص١٢٠؛ وكذلك الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ط٣، مصطفى البابي الحلبي، ١٣٧٠ﻫ، ١٩٥١م، ج١، ص١٢٠ وما بعدها.
٣  عبد المحسن طه بدر: نجيب محفوظ، الرؤية والأداة (١) دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٨م، ص٧.
٤  انظر ديفيد دينشيس: مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ترجمة محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، ١٩٦٧م، ص٤١–٤٤، ٧١-٧٢.
٥  انظر جابر عصفور: نظرية التعبير محاولة للتأصيل، مجلة الأقلام العراقية، عدد ٤، السنة ١٢، كانون الثاني ١٩٧٧م، ص٥–١٨.
٦  انظر عبد المنعم تليمة: مقدمة في نظرية الأدب. دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٣م، ص١٩٩–٢٠٢.
٧  Palmer, p. 5.
٨  Shleirmacher, P. E. Outline of the 1814 Lectures, in New Literary History, trans. by Jan Wajcik and Roland Hass, pp. 3-4.
٩  Ibid., p. 13.
١٠  Ibid., p. 9.
١١  Ibid., p. 14.
١٢  Palmer, p. 97.
١٣  Liuzzi, Marcello (ed) Verstehen: Subjective understanding in the Social Sciences, Addison-Wesley Publications Company, 1974, p. 1.
١٤  Ibid., p. 8.
١٥  Dilthey, On the Special Character of the Human Sciences, in Verstehen, p. 10.
١٦  Palmer, p. 108.
١٧  Dilthey, p. 11.
١٨  Palmer, p. 111–114.
١٩  Dilthey, pp. 112-113.
٢٠  Ibid., p. 14, and Palmer, pp. 116–118.
٢١  Palmer, pp. 124-125.
٢٢  Ibid., pp. 127-128.
٢٣  Ibid, pp. 128-129.
٢٤  Ibid., p. 136.
٢٥  Gadamer Hans-George, Heideger’s Later Philosophical Hermeneutics, ed. by David E. Ling, University of California Press, 1976, pp. 213–228.
٢٦  Ibid., pp. 221–224.
٢٧  Palmer, pp. 148-149.
٢٨  Gadamer, Truth and Method, The Seaburg Press, New York, 1975, p. XVI.
٢٩  Gadamer, Philosophical Hermeneutics.
٣٠  Palmer, p. 170.
٣١  Ibid., pp. 167-168.
٣٢  Gadamer, Truth and Method, pp. 91–108.
٣٣  Gadamer, The Scope of Hermeneutical Reflection, in “Philosophical Hermeneutics”, p. 6.
٣٤  Palmer, p. 44.
٣٥  Ricoeur, Paul, Existence and Hermeneutics, in “The Philosophy of Paul Ricoeur” ed. by Charles E. Reagan and David Steward, Beacon Press, Boston, 1978, p. 98.
٣٦  Ricoeur, Paul, Existence and Hermeneutics, in “The Philosophy of Paul Ricoeur” ed. by Charles E. Reagan and David Steward, Beacon Press, Boston, 1978, p. 98.
٣٧  Ricoeur, Interpretation Theory, The Texas Christian University Press, 4th. Printing, 1976, p. 6.
٣٨  Ibid., p. 13.
٣٩  Ibid., p. 30.
٤٠  Wolf, Janet, Hermeneutic Philosophy and the Sociology of Arts, Routledge and Kegan Paul, London and Boston, 1975, pp. 74–78.
٤١  Ibid., pp. 77–88.
٤٢  Hirsch, E. D. Jr., Validity in Interpretation, Yale University Press, 1969, pp. 1–10.
٤٣  Palmer, pp. 46–66.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤