العلامات في التراث: دراسة استكشافية
قد يبدو العنوان — لأول وهلة — غريبًا لما يتضمنه من مُفارَقة، فعلم العلامات — السيميوطيقا — علم جديد يزعم لنفسه القدرة على دراسة الإنسان دراسة متكاملة، وذلك من خلال دراسة أنظمة العلامات التي يبتدعها الإنسان ليدرك بها واقعه ويدرك بها نفسه، فكيف نربط هكذا هذا العلم الجديد وبين التراث العربي؟ وما قيمة هذا الربط؟ وما جدواه؟ أهو وهم التأصيل الذي يتنازعنا، فكلما أتتنا صيحة من الغرب هرعنا إلى تراثنا نلوذ به ونحتمي كأن المعرفة لا تستقر في وعينا إلا إذا كان لها سند من تراثنا حقيقي أو وهمي؟
تلك أسئلة لا مَفرَّ من مواجهتها ونحن نعيد من حين إلى حين النظر في تراثنا ونعود إلى تأمله وتفسيره وتقويمه. وهذه العودة المستمرة ليست نزقًا طائشًا نابعًا من عدم النضج وعدم الاستقلال، ولكنها عودة نابعة من ضرورة وجودية وضرورة معرفية في نفس الوقت. فليس التراث في الوعي المعاصر قطعة عزيزة من التاريخ فحسب، ولكنه — وهذا هو الأهم — دعامة دعامات وجودنا، وأثر فاعل في مكونات وعينا الراهن، وأثر قد لا يبدو للوهلة الأولى بَيِّنًا واضحًا، ولكنه يعمل فينَا في خفاء ويُؤثِّر في تصوراتنا شئنا ذلك أم أبينا. لذلك يتعين علينا أن نتحرك دائمًا حركة جدلية تأويلية بين وعْيِنا المعاصر وبين أصول هذا الوعي في تراثنا. هذه الحركة يتحتم عليها ألا تغفل المسافة الزمنية التي تفصلنا عن التراث، وعليها في نفس الوقت ألا تقع في أسر هذا التراث رفضًا أو قبولًا غير مشروط، فالتراث — في النهاية — مِلك لنا، تَرَكه لنا أسلافنا لا ليكون قيدًا على حريتنا وعلى حركتنا، بل لِنتمَثَّله ونعيد فهمه وتفسيره وتقويمه من منطلقات همومنا الراهنة.
وإذا كان هذا هو الموقف الذي يتعين علينا أن ندرس التراث من خلاله، فهذا الموقف نفسه هو الذي يتعين علينا أن نفهم تراث الآخرين من خلاله. والآخرون هنا الأغيار الذين يتحتم أن نواجههم ونناقشهم مستهدفين من هذا الحوار مزيدًا من الفهم لأنفسنا أولًا ولهم ثانيًا. والذات الثقافية لا تدرك نفسها عادة إلا في مواجهة الآخر وبالحوار معه. هكذا كان شأن أسلافنا مع حضارات عصرهم والحضارات التي سبقتهم، فاستطاعوا من خلال هذا الحوار أن يصوغوا حضارتهم وثقافتهم، وأن يُضِيفوا لمجمل الحضارة الإنسانية زادًا جديدًا وطاقة فريدة.
من هذا المنطلَق يصبح هذا الحوار الذي ننوي إقامته بين السيميوطيقا — ذلك العلم الغربي — وبين التراث العربي حوارًا مشروعًا. وتنبع مشروعية هذا الحوار أيضًا من حقيقة وضعيتنا الثقافية الراهنة، تلك الوضعية التي يحكمها اتجاهان لا ثالث لهما، فهي في جانب منها تتعامل مع ثقافة الغرب بوصفها ثقافة التقدم والحضارة التي يتحتم تقليدها في كل جوانبها، ويتحتم تقليد منهجها تقليدًا أعمى واستيرادها دون وعي بحقيقة التميز الثقافي وأبعاده، ودون إدراك لتميز الهموم التي يواجهها الفكر والثقافة في الواقع العربي. وفي هذا الاتجاه يصبح «الانفتاح الثقافي» مستوى من مستويات «الانفتاح الاقتصادي» وتبريرًا له وتكريسًا لقوى التَّخلُّف المستفيدة منه. والاتجاه الثاني في ثقافتنا اتجاه يأخذ رد الفعل النقيض فيلوذ بالتراث محتميًا ويكرر مقولاته ويتبنى بعض مفاهيمه دون وعي بأن هذه المقولات وتلك المفاهيم لم تكن إلا صياغة لهموم العصر ومواجهة لتحديات الواقع الذي كان يحياه الأسلاف. ولا يقف هذان الاتجاهان دائمًا موقف التقابل والتضاد، فأحيانًا ما نجد لممثلي الاتجاه الأول نظرات في التراث: نظرات سطحية تنتهي أحيانًا إلى الإعلاء من شأنه كنوع من التكفير غير الواعي عن ذنب الاغتراب، وأحيانًا أخرى نجد عند ممثلي الاتجاه الثاني نزوعًا إلى الظهور بمظهر المتفتحين على تراث الغرب وفهم مقولاته وتصوراته ويحلو لهم أحيانًا مقارنة التراث بما فهموه عن الغرب فيبدو لهم التراث حاملًا لكل ما جاء به فكر الغرب سابقًا للغرب بقرون عديدة.
إن كلا الاتجاهين في ثقافتنا له خطره الأكيد والواضح في أنهما يهدران ظروف الواقع الموضوعي الراهن ويؤديان إلى تجاهل الحاضر، إما بالاتجاه إلى قبلة الغرب، أو بالالتفات صوب الماضي في التراث. ولا خلاص من هذا المأزق إلا بأن يكون الحوار النابع من موقفنا الراهن هو وسيلتنا للتعامل مع الغرب وثقافته من ناحية، وللتعامل مع مفاهيم تراثنا وتصوراته من ناحية أخرى. وعلينا أن ندرك أن مستويات التعامل قد تختلف، فالغرب، رغم معاصرتنا له في الزمان، ورغم ما تؤدي إليه أجهزة الاتصال الحديثة من إيهام بالتقارب في المكان يجب النظر إلى ثقافته بوصفها تراثًا مغايرًا له ظروفه الموضوعية التي لا يُفْهَم هذا التراث إلا بفهمها. ورغم تباعدنا في الزمان عن تراثنا فإن له حضورًا في وعينا الراهن لا نستطيع أن نتجاهله ولا يمكن أن نغفله.
ليس الهدف من هذه الدراسة إذنْ إثبات ندية التراث للفكر الغربي، وليس أيضًا تفسير التراث في ضوء مفاهيم الغرب عن طريق التأويلات المستكرهة التي تغفل طبيعة التراث وتتجاهل ظروفه الموضوعية ومنطقة الداخلي الخاص. وإنما الهدف مزيد من الوعي بهذا التراث واستكشاف بعض جوانبه التي يمكن أن تساعدنا السيموطيقا على اكتشافها. وإعادة اكتشاف بعض جوانب التراث أمر مشروع ومرهون بحركة وَعْيِنا المعاصر طالما أن علاقتنا بالتراث لا تساوي العلاقة بالآخر. وإعادة اكتشاف بعض جوانب التراث تُصحِّح علاقتنا بالآخَر وتقيمها على أساس النِّديَّة وتنفي عنها التبعية، تمامًا كما أن علاقتنا بالآخر وحوارنا معه يعصمنا من التبعية الكاملة للتراث.
ومن الطبيعي أن تبدأ دراستنا بالبحث عن مفهوم اللغة وعلاقتها بالأنظمة الدلالية الأخرى عند القدماء، وذلك على أساس أن هذه العلاقة ومقارنة اللغة بنظم العلامات الأخرى كانت هي المقدمة التي تنبأ على أساسها دي سوسير بقيام عِلْم للعلامات يكون علم اللغة فرعًا منه، وإن يَكُن هو الفرع الذي يُحدِّد منهج العلم الجديد ويُمثِّل في نفس الوقت أهم جزء فيه.
(١) مفهوم اللغة وعلاقتها بالأنظمة الدلالية الأخرى
وليست هذه النظرة للإنسان بوصفه كائنًا قادرًا على التعرف على العالم وتكوين تصورات ومفاهيم عنه نظرة خاصة بالتراث العربي الإسلامي، بل يمكن القول إنها نظرة ارتبطت بوعي الإنسان بذاته في كل الثقافات والحضارات وذلك حين انفصل عن الطبيعة وتَميَّز عنها بالعمل الجماعي. وتتميز النظرة الإسلامية لهذه القضية بأنها اتَّخذَت دروبًا خاصَّة نابعة من خصوصية الهموم التي طرحها الواقع على علماء المسلمين.
الإنسان في التصور الإسلامي كائن مُكلَّف (بفتح اللام) استخلَفه الله لتعمير الأرض وزوَّده بكل الإمكانيات التي تساعده على القيام بهذه المهمة وتسهلها له، فمنحه العقل ليميز به بين الخير والشر، ومنحه قبل ذلك القدرة والاستطاعة ليتمكن من تنفيذ أوامر الله ومن اجتناب نواهيه. والعقل — بدون القدرة والاستطاعة — لا فاعلية له؛ لأنه يحتاج للقدرة على الفعل لكي يتوصل للمعرفة، وقدرة العقل على الفعل ليست إلا قدرته على الاستدلال والانتقال من مستوى المعرفة البديهية إلى مستويات معرفية أعقد عن طريق القياس والنظر في الأدلة. هذا النظر في الأدلة فعل ذهني لا يَتحقَّق إلا بالاستطاعة والقدرة، وهذا هو ما يُعبِّر عنه الجاحظ بقوله:
«إن الفرق الذي بين الإنسان والبهيمة، والإنسان والسبع والحشرة، والذي صير الإنسان إلى استحقاق قول الله عز وجل: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ليس هو الصورة، وأنه خُلِق من نطفة وأن أباه خُلِق من تراب، ولا أنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه؛ لأن هذه الخصال كلها مجموعة في الْبُلْه والمجانين، والأطفال والمنقوصين. والفرق إنما هو في الاستطاعة والتَّمكين. وفي الاستطاعة وجود العقل والمعرفة. وليس يوجب وجودهما وجود الاستطاعة.»
وإذا كانت الاستطاعة والتمكين شرطًا للمعرفة، فإن اللغة طالما أن «حاجة الناس إلى بعض صفة لازمة في طبائعهم وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم» (الحيوان، ١: ٤٢). وإذا كانت وظيفة المعرفة هي الانتقال «من معرفة الحواس إلى معرفة العقول، ومن معرفة الروية من غاية إلى غاية، حتى لا يرضى «الإنسان» من العلم والعمل إلا بما أداه إلى الثواب الدائم ونجاة من العقاب الدائم» (الحيوان، ٢: ١١٦)، فإن أدوات التواصل ونقل المعرفة يجب أن تتعدد طبقًا لتعدد المعارف وتَنوُّعها من ناحية، وطبقًا لتنوع حاجات البشر النابعة من اجتماعهم من ناحية أخرى «فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا» (الحيوان، ١: ٤٣). ولذلك فإن الله لم يرضَ للبشر من البيان بصنف واحد، «وجعل آلة البيان التي بها يتعارفون معانيهم، والترجمان الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء. هي: اللفظ والخط الإشارة والعقد.» (الحيوان، ١: ٤٥). وهكذا ارتبطت اللغة في تراثنا بوضعية الإنسان في الكون وبوظيفته فيه. وليست اللغة هي آلة البيان الوحيدة فيما يشير الجاحظ، فالإشارة والعقد آلتان للبيان أيضًا، ناهيك عن الخط الذي يُعدُّ شكلًا آخر من أشكال اللفظ معبرًا عنه. وما يقصده الجاحظ «بالإشارة» هو تلك الإشارة الجسدية والإيماءات التي قد تصاحب الكلام فترتبط دلالتها بدلالة الملفوظ اللغوي وقد تنفصل عن الكلام فتكون دالة بذاتها. وهذه مسألة يسهب الجاحظ في شرحها وتحليلها في كتابه «البيان والتبيين» خاصة عند حديثه عن الخطباء وفصاحتهم. أما «العقد» فالمقصود به عند الجاحظ حركة تتم بأصابع اليد تعني الاتفاق والموافقة على أمر ما. لا يتوقف الجاحظ طويلًا أمام الفروق التي تتوقف أمامها السيميوطيقا المعاصرة بين هذه الآلات أو العلامات الدالَّة، ولكن هذا الربط بين وظيفة اللغة وبين المعرفة العقلية من جانب، وبين هذه الأخيرة وبين القدرة والاستطاعة من جانب آخَر كان مقدمة أتاحت لمن جاءوا بعد الجاحظ أن ينظروا لهذا الترابط بمزيد من العمق، وأن يُحدِّدوا للغة وظيفة خاصة في إطار نظرية المعرفة وفي إطار تصورهم لوضعية الإنسان في الوجود.
إن العقل في نظر علماء الكلام والفلاسفة المسلمين هو الوسيلة التي يتعرف بها الإنسان على الكون من حوله، وهو الوسيلة التي يعقل بها الأشياء، فيتأمل هذا العامل الظاهر بجزئياته المتعددة، وعن طريق هذا التأمل والتفكر يصل إلى ما في بناء العالم من نظام، وإلى ما وراءه من حكمة، ويصل من ثم إلى معرفة الله سبحانه وتعالى وأنه مفارق لكل صفات هذا العالم ومنزه عنها. وهذه المعرفة العقلية تصل إلى ضرورة شكر هذا الخالق المنعم المتفضل بطريقة ما. هذا تصور المعتزلة والفلاسفة لحركة العقل المعرفية في تصاعدها من جزئيات العالم المدرك الحسي وصولًا إلى الكليات العقلية والمفاهيم المجردة. ولا تكتمل جوانب المعرفة إلا بالعمل الذي يتطلب القدرة والاستطاعة، وينتهي بالإنسان إلى النجاة من العقاب والفوز بالنعيم الدائم في جنات الخلد عند المعتزلة، أو في خلود النفس عند الفلاسفة. هكذا وصل «حَيُّ بن يقظان» عند ابن طفيل للمعرفة والعمل بعقله المجرد وتأمله الخالص دون أن يعرف لغة من اللغات أو يتواصل مع غيره من البشر بأي وسيلة من وسائل الاتصال. وهكذا أيضًا يتصور المعتزلة أن التكليف العقلي سابق على التكليف الشرعي، وأن المعرفة العقلية شرط لفهم الشرع وهو ما عبروا عنه بأسبقية العقل على النقل.
وإذا كان الأشاعرة والظاهرية ومن أطلقوا على أنفسهم أهل السنة والجماعة يخالفون المعتزلة والفلاسفة في هذا الترتيب المعرفي فيقدمون النقل على العقل، ويقدمون التكليف الشرعي على التكليف العقلي، فإن هذا الخلاف رغم أهميته من حيث مغزاه الاجتماعي والفكري لم يُؤدِّ إلى تغايُر في نظرة الجميع إلى اللغة — التي هي أساس التكليف الشرعي وأداته — بوصفها نظامًا دالًّا في النسق المعرفي يرتبط بغيره من الأنظمة الدلالة ولا ينفصل عنها. هكذا أكَّد المعتزلة الحاجة إلى الشرع على أساس أن الشريعة تشير إلى «مقدرات الأحكام ومُؤقِّتات الطاعات التي لا يتطرق إليها عقل ولا يهتدي إليها فكر» (الشهرستاني، الملل والنحل، ١: ٨١). وهكذا احتاج حيُّ بن يقظان إلى مَن يعلمه الشريعة فيعلمه كيفية العبادة وطرائقها. ولا تعارض في النهاية بين العقل والنقل، أو بين المعرفة العقلية والمعرفة الشرعية إذ ليس في القرآن إلا ما يوافق العقل «ولو جعل ذلك دلالة على أنه من عند الله من حيث لا يوجد في أدلته إلا ما يسلم على طريقة العقول ويوافقها، إما على جهة الحقيقة، أو على المجاز لكان أقرب» (المغني، ١٦: ٤٠٣).
وإذا كانت السيميوطيقا المعاصرة تتعامل مع اللغة باعتبارها نظامًا من العلامات الدالة تقارن بينها وبين غيرها من أنواع العلامات (كإشارات المرور والأزياء ونظام الأطعمة والصور الأيقونية وغيرها) فإن مفهوم العلامة وطبيعتها يعد هو المفهوم الأساسي في هذا العلم. ويقابل مفهوم العلامة في التراث مفهوم الدلالة، ولعل في نظرة المسلمين للعالم بوصفه دلالة على وجود الخالق — وهي نظرة يؤيدها القرآن — ما يؤكد تفسيرنا لمفهوم الدلالة في الفكر الإسلامي بما يوازي العلامة في المفهوم السيميوطيقي. هذا إلى جانب أن الجذر اللغوي للعلامة «علم» يؤكد الارتباط الدلالي بين «العلامة» و«العلم» و«العالم» في كل المعاجم، وهو الارتباط الذي لاحظنا وجوده بين المعرفة واللغة من جانب، وبينهما وبين وضعية الإنسان في العالم من جهة أخرى.
ولعل في كل ذلك ما يبرر لنا القول بأن وضع اللغة بين أنواع الدلالات العقلية — كما سنرى فيما بعد — يَشِي بأن العقل العربي لم ينظر للغة بمعزل عن نظم الدلالات الأخرى. ولسنا نذهب من وراء ذلك إلى القول بأسبقية العقل العربي في ذلك للعقل الأوروبي، بل شأن العقل العربي في ذلك شأن الفكر اليوناني الذي تعامل مع الدلالة اللغوية بوصفها مدخلًا للمنطق الذي هو ميزان التفكير العقلي والاستدلال الذي يؤدي إلى المعرفة. هذه النظرة للغة بوصفها نظامًا من الدلالات نجدها عند كل المفكرين المسلمين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ونِحَلهم. نَجدُها عند أهل السُّنة كما نجدها عند المعتزلة والأشاعرة، ونجدها كذلك عند الفلاسفة والمتصوفة.
يقول الحارث بن أسد المحاسبي (ت.٢٤٣ﻫ) الذي يعده الأشاعرة أساس مدرستهم إن الأدلة نوعان:
«عيان ظاهر، أو خبر قاهر. والعقل مضمن بالدليل، والدليل مضمن بالعقل. والعقل هو المُستدِل. والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله. ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. فالعيان شاهد يدل على الغيب. والخبر يدل على صدق، فمَن تناوَل الفرع قبل إحكام الأصل سفه.»
إن هذا الربط بين «العيان» و«الخبر» واعتبارهما معًا «دلالة» وربطهما بالعقل عند الحارث المحاسبي يجعل من الوجود الخارجي، نصًّا يمكن أن يُقْرأ ويُفْهم تمامًا كما تُقْرأ النصوص اللغوية وتُفْهَم. ولم يكن الحارث المحاسبي بهذا الفهم بعيدًا بأي حال من الأحوال عن إطار الثقافة الدينية التي تصر في أهم نصوصها — القرآن — على ضرورة قراءة «الوجود الخارجي» وتأمله والاعتبار به وصولًا إلى الإيمان بالخالق. وإذا كان الحارث المحاسبي فيما سبق يكتفي بالإلماح للفكرة والإيماء بها، فإن المعتزلة والمتكلمين سيتوسعون فيها، ثم يأتي المتصوفة فيعمقون هذا الربط ويتحدثون عن كلام الله اللغوي (القرآن)، كما يتحدثون عن كلمات الله المنشورة في رق الوجود، ويوازون بين الكلام اللغوي والكلام الوجودي وضرورة قراءتهما معًا وفهم كل منهما في ضوء الآخر.
«العلم المبتدأ في النفس لا عن درك ببعض الحواس وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة والألم، والغم، والفرح، والقدرة والعجز، والصحة والسقم. والعلم بأن الضدين لا يجتمعان، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق وكل معلوم بأوائل العقول.»
أما العلم النظري فهو:
«علم يقع عقيب استدلال وتَفكُّر في حال المنظور فيه أو تَذكُّر لما نظر فيه، فكل ما احتاج من العلوم إلى تَقدُّم الفكر والروية وتأمُّل حال المعلوم فهو الموصوف بقولنا علم نظري. وقد يجعل مكان هذه الألفاظ أن نقول: العلم النظري هو ما بُنِي على علم الحس والضرورة، أو ما بني على العلم لصحته عليهما. ومعنى قولنا في هذا العلم إنه كسبي أنه مما وجد بالعالم وله عليه قدرة محدثة.»
فالعلاقة بين العلم الضروري والعلم النظري أن الأول يُعَدُّ مقدمة للثاني وتمهيدًا له، فإدراك الحواس هو الذي يعرفنا على العالم الخارجي، وإدراك الذات (الطريق السادس) والوعي بوجودها وأحوالها هو الذي يؤدي إلى العلم بالبديهيات. ولا يمكن الانتقال من حال العلم الضروري إلى حال العلم النظري (المعرفة المكتسبة) إلا عن طريق النظر في الأدلة. هذا إلى جانب أن العلم النظري يتطلب وجود القدرة الحادثة؛ لأن النظر فعل يتطلب القدرة والاستطاعة، وبدون هذه القدرة يظل الإنسان في مرحلة العلم الضروري والاضطراري. ولذلك يصر الباقلاني على إطلاق صفة «الكسبي» على العلم النظري، وهي صفة الفعل الإنساني عند الأشاعرة التي وصلوا إليها خروجًا من مأزق «خلق الإنسان لفعله» عند المعتزلة ومأزق «جبر الله الإنسان على الفعل» عند الجبرية، فقال الأشاعرة إن الفعل الإنساني مخلوق لله ويُكْتَسب من جهة العبد بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه مقارنة للفعل «فهي منه (الله) خلق وللعباد كسب».
هذا العلم النظري الكسبي يتطلب النظر في الأدلة، والاستدلال هو «نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس.» (الإنصاف، ١٤) والدليل:
«وهو ما أمكن أن يتوصل به بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطرار، وهو على ثلاثة أَضرُب: عقلي له تَعلُّق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله وما يجب كونه عليه من صفاته نحو حياته وعلمه وقدرته وإرادته، وسَمْعي شرعي دالٌّ من طريق النطق بعد المواضعة ومن جهة معنى مستخرج من النطق، ولغويٌّ دالٌّ من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ.»
وليس هذا الترتيب للأدلة عند الباقلاني ترتيبًا عفويًّا اعتباطيًّا، فالدليل العقلي مقدَّم على الدليل السمعي الشرعي لأن الدلالة السمعية الشرعية تُعَد «فرعًا لأدلة العقول وقضاياها» (التمهيد، ٣٩). وتأخر الدليل اللغوي عن الأدلة السمعية الشرعية رغم اشتراكهما معًا في وجه الدلالة من جهة النطق والمواطأة والمواضعة لا يُفسِّره إلا إصرار الأشاعرة على أن مصدر المواطأة اللغوية في الأساس الأول أو في المواضعة الأولى هو الله — عز وجل — وذلك خلافًا لما ذهب إليه المعتزلة من أن كلام الله يجب أن يكون مسبوقًا بالمواضَعة اللغوية التي لا يصح بدونها وقوع كلام الله دلالة، وهو خلاف لا يعنينا هنا على أي حال. وليس معنى هذا الترتيب التدرجي للأدلة عند الباقلاني أنها لا تتداخل وتتساند في الوصول إلى المعرفة، ذلك أنه قد «يستدل أيضًا على بعض القضايا العقلية وعلى الأحكام الشرعية بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس الشرعي المنتَزَع من الأصول المنطوق بها».
وإذا كان الدليل السمعي الشرعي والدليل اللغوي يشتركان معًا في أن وجه دلالتهما «النطق بعد المواضعة والمواطأة» فإن الدليل العقلي يتميز بأن وجه دلالته ذاتية أو لنقل إن وجه الدلالة يقوم على وجود نوع من العلاقة الدال والمدلول ضرب لها الباقلاني مثلًا بدلالة الفعل على الفاعل. ألا يذكرنا ذلك بما نقلناه عن الحارث المحاسبي من أن الأدلة عيان ظاهر أو خبر قاهر؟ أوَلَيست دلالة الفعل على الفاعل (الدلالة العقلية) تشير إلى العالم بوصفه فعلا لله — عز وجل — يشير إلى فاعله ويدل عليه؟ إن كلام الباقلاني يؤكد ذلك حين يقول إن الدليل العقلي له تعلق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله وما يجب كونه عليه من صفات نحو حياته وعلمه وقدرته وإرادته.
وما يضيفه الباقلاني إلى ما قاله الحارث المحاسبي يتركز في أمرين: الأول أنه جعل أنواع الأدلة ثلاثة، وواضح أنه فصل «الخبر القاهر» إلى دلالة سمعية شرعية ودلالة لغوية، أما الأمر الثاني فهو أن الباقلاني يكشف عن وجه الدلالة، أو لِنَقُل يكشف عن علاقة الدالِّ بالمدلول في كل نوع من هذه الأدلة. وإذا كان ثمة علاقة بين الدالِّ والمدلول في الأدلة العقلية — ولْنَقُل إنها علاقة الارتباط السببي — فإن العلاقة والمدلول في الأدلة السمعية الشرعية وفي الأدلة اللغوية معًا هي علاقة وضعية اصطلاحية، ذلك أنها تدل من جهة التواطؤ أي الاتفاق، وعلى ذلك فقد:
«يستدل بتوقيف أهل اللغة لنا على أنه لا نار إلا حارة ملتهبة، ولا إنسان إلا ما كانت له هذه البنية، على أن كل من خبرنا من الصادقين بأنه رأى نارًا أو إنسانًا، وهو من أهل لغتنا، يقصد إلى إفهامنا أنه ما شاهد إلا مثل ما سُمِّي بحضرتنا نارًا أو إنسانًا، لا تحمل بعض ذلك على بعض، لكن بموجب الاسم وموضوع اللغة، ووجوب استعمال الكلام على ما استعملوه ووضعه حيث وضعوه.»
«فمنها ما يدل على الصحة والوجوب، ومنها ما يدل في الدواعي والاختيار، ومنها ما يدل بالمُواضعة والقصد. ورتَّبْنا كل واحد من هذه الوجوه بأن بَيَّنَّا: أن المقدم على ما يدل من حيث الصحة، وهو الذي يتطرق به إلى معرفة التوحيد، ثم يتلوه ما يدل بالدواعي، وهو الذي يعرف به العدل، ثم يتلوه ما يدل بالمواضعة وتعرف به النبوات والشرائع.»
والنوع الثاني من الأدلة هو ما يدل بالدواعي والاختيار، ويتوصل به إلى معرفة صفات العدل الإلهي. وهذا النوع الثاني من الأدلة يترتب على النوع الأول، بمعنى أنه لا يكون في ذاته دليلًا إلا بمعرفة صفات الفاعل وما يصح عليه وما لا يجوز من الصفات الذاتية. ذلك أن الصفات الذاتية تُحدِّد طبيعة الأفعال التي يجوز صدورها عن هذا الفاعل، بمعنى أننا إذا كنا قد توصَّلْنا بالنوع الأول من الأدلة التي تدل بالصحة والوجوب إلى أن الله ليس جسمًا ولا عرَضًا فمعنى ذلك أنه ليس بحاجة للأفعال التي تحتاجها الأجسام من غذاء أو نوم أو راحة ولا يصيبه تعب ولا نصب ولا إرهاق. وما دُمْنا علمنا أنه عالم فلا بد أنه عالم بقبح القبيح ومستغنٍ عنه، وعالم باستغنائه عن فعله. ومن شأن هذا العلم أن يكون «داعيًا له» لاختيار الأفعال الحسنة دون القبيحة. وهذا كله يدلنا على «العلم بكونه عدلًا حكيمًا، لا يفعلُ القبيح ولا يُخِل بالواجب، ولا يأمر بالقبيح ولا ينهى عن الحسن، وأن أفعاله كلها حسنة. فبهذه الطرق يحصل المرء لنفسه علوم التوحيد والعدل» (شرح الأصول الخمسة، ٦٦).
وهكذا تكتمل للإنسان — عن طريق النظر في أدلة العالم — المعرفة بالله وبصفاته وبأفعاله، وهذه المعرفة في نظر المعتزلة تكليف عقلي سابق على التكليف الشرعي وأساس له بحيث لا يصح التكليف الشرعي دونه. ويعتبر المعتزلة أن هذا التكليف العقلي مَناطٌ للثواب والعقاب؛ وذلك لأن الإخلال بهذه المعرفة يشوش علينا معرفة الوحي ذاته، ذلك أن الوحي لا يدل على شيء مما يدل عليه إلا بسبق هذه المعرفة. ولذلك نصب الله أمام أعيننا العالم دلالة، وزودنا بالمعارف الضرورية التي تمكننا من النظر والاستدلال. ويكاد القاضي عبد الجبار أن يفصل فصلا تامًا بين الدلالة اللغوية — دلالة الوحي والسمع والشرع — وبين الدلالة العقلية. وفي هذا الفصل بين أنواع الأدلة يختلف القاضي عن كل من الباقلاني والحارث المحاسبي والجاحظ ويكاد يقترب من مفهوم ابن طفيل في حي بن يقظان، يقول:
«أن العلم بالمدح والذم واستحقاقهم على الأفعال … من كمال العقل، وليس بموقوف على أن ذلك قد وقع، بل لو خالط الناس ولم يقع من أحد معصية لما وقع الذم، ولو لم يقع منهم طاعة لما وقع المدح على جهة، ولم يؤثر ذلك في كون ما ذكرناه من كمال العقل. وكذلك القول فيه لو خلق في أرض فلاة في أنه يحسن أن يكلف متى كمل عقله وعلم مكان الحمد والذم، وإن لم يعلم فاعلًا لهما.»
ومعنى ذلك أن التكليف العقلي والمعرفة لا ترتبط بوجود الإنسان في جماعة أو بحياته في مجتمع، إنما هي معرفة تكليفية يقف فيها العقل الإنساني — وحده — في مواجهة الدلائل التي نصبها الله له لكي يعرفه فيحقق الغاية من وجوده.
وإذا كانت الأدلة السابقة — أدلة التوحيد وأدلة العدل — أدلة عقلية تقوم على نوع من الارتباط بين الدالِّ والمدلول (الفعل والفاعل) فإن النوع الثالث والأخير من الأدلة وهو الدلالة اللغوية التي توسل بها الوحي والشرع تدل من جهة المواضعة والقصد ولا تدل لذاتها. ويشير مصطلح «المواضعة» عند القاضي عبد الجبار إلى العلاقة بين الدالِّ والمدلول على مستوى المفردات اللغوية أو الألفاظ، أما مصطلح «القصد» فيشير إلى العلاقة بين الدالِّ والمدلول على مستوى التركيب اللغوي أو الجملة سواء كانت خبرًا أو استفهامًا أو طلبًا أو أمرًا أو نهيًا. إن دلالة الألفاظ على ما تدل عليه من مُسمَّيات أو صفات أو معانٍ إنما هي دلالة إشارية وضْعِيَّة بحتة، أما دلالة العبارة أو التركيب اللغوي على ما يدل عليه فلا يقع إلا بالقصد. وهذا المفهوم للقصد — وهو الشرط الثاني من شروط الدلالة اللغوية — يعيدنا مرة أخرى للنوع الثاني من الأدلة، وهو الذي يدل بالدواعي والاختيار. أليس القصد نوعًا من الاختيار؟ ولا يتركنا القاضي عبد الجبار للاستنباط بل يذهب في نص آخر إلى أن الأدلة ضربان:
«أحدهما يدل على ما يدل عليه، لوجه يختصه لا يتعلق باختيار الفاعل له أو ما جرى هذا المجرى فهذا لا يجوز أن تتغير حاله في الدلالة، وذلك كدلالة الأعراض على حدوث الأجسام. والثاني يدل على مدلوله، لوقوعه على وجه له تَعلُّق باختيار فاعله، كدلالة الكلام على ما يدل عليه؛ لأن الخبر إنما يدل على المخبَر عنه من حيث قصد به الإخبار عما هو خبر عنه، ومن حيث كان فاعله على صفة ولا يدل بجنسه.»
وهكذا ترتبط دلالة اللغة على مستوى التركيب بالنوع الثاني من الأدلة الذي يدل بالدواعي والاختيار، ولكنها تختلف عن هذا النوع الثاني من الأدلة من زاوية أن المواضعة على معاني الألفاظ شرط أساسي وأوَّلي في وقوعها دلالة.
إن الفارق بين القاضي عبد الجبار والباقلاني يكمن في تفصيل القاضي للدلالة العقلية إلى نوعين، وفي جعله الشرع متضمنة في الدلالة اللغوية، وهما نوعان فصل بينهما الباقلاني. وليس السبب في ذلك إلا الإصرار من جانب المعتزلة على الفصل بين الدلالات العقلية والدلالة اللغوية، ذلك الفصل النابع من رغبتهم في إقامة المعرفة الشرعية على أساس عقلي مَكين. إن الشرع والوحي هما خطاب الله للبشر بلغة مخصوصة «هي اللغة العربية في الإسلام» «والقول إذا كان بلغة مخصوصة فقد وُضِع ليدل على المراد، فمتى خاطَب به الحكيم الذي لا تصح عليه الحاجة لا ليفيد به المخاطب، فقد خاطب به على وجه يقبح» (المغني، ١٢: ١٧٦). فكلام الله إذن لا بد أن يقع دلالة، ذلك أنه فعل، وكل أفعال الله حسنة (دليل الدواعي والاختيار)، ولكن دلالة الكلام لا يمكن أن تستبين إلا بمعرفة قصد المتكلم، أو لِنَقُل بمعرفة المتكلم وصفاته الذاتية وصفات أفعاله (المعرفة العقلية)، أما أن يقع كلام الله دلالة قبل تلك المعرفة العقلية، فذلك من المُحال الذي لا يتصوره المعتزلة:
«إن المتعلق بمثل ذلك لا يخلو من أن يزعم أن القرآن دلالة على التوحيد والعدل، أو يقول: لا نعلم صحة دلالته إلا بعد العلم بالتوحيد والعدل، وبيَّنا فساد القول بالأول، بأن قلنا: إن من لا يعرف المتكلم، ولا يعلم أنه ممن يتكلم إلا بحق أن يستدل بكلامه؛ لأنه لا يمكن أن يعلم صحة كلامه إلا بما قدمناه، لأنه لا يصح أن يعلمه بقوله: إن كلامه حق لأنه إذا جَوَّز في كلامه أن يكون باطلًا ويجوز في هذا القول أيضًا أن يكون باطلًا، وإذا وجب تقدم ما ذكرناه (العلم بالتوحيد والعدل) من المعرفة ليصح أن يعرف أن كلامه تعالى حق ودلالة.»
وليس معنى ذلك أن المعتزلة — كما قد يتوهم البعض — لا يعطون النص، بقطع النظر عن قائله، أيَّ دور في المعرفة والدلالة. لقد كان ذلك منهج علماء الحديث الذين تَحدَّدتْ مصداقية النص عندهم تبعًا لصدق رجال السند من ناحية (علم الجرح والتعديل) وتبعًا لدرجة اتصال السند أو انقطاعه من ناحية أخرى، بمعنى أن النص في ذاته غير دالٍّ ولا تتحقق دلالته إلا بتحقيق مصداقية رواته فردًا فردًا من ناحية، وبتحقيق اتصالهم التاريخي ولقائهم وروايتهم عن بعضهم البعض من ناحية أخرى. وعلماء الحديث من هذه الزاوية يحققون، وبطريقة نموذجية، تصور المعتزلة الذي أشَرْنَا إليه آنفًا من أن النص لا يدل إلا بعد معرفة قائله ومعرفة قصده. ولكن هذا التصور النظري عند المعتزلة لم يكن دائمًا على هذا المستوى من النَّقاء، فآياتُ القرآن المُحكَمات التي استشهد بها المعتزلة على صِدق مقولاتهم العقلية ومبادئهم الخمسة قد تبدو في مثل هذا التصور من قبيل الدلالة المكررة؛ لأنها لا تدل في رأيهم إلا على ما يمكن الوصول إليه بالأدلة العقلية. من هنا كان لا بد للمعتزلة أن يحددوا لهذا النمط من النصوص القرآنية دورًا وأن يبحثوا لورودها في القرآن عن حكمة. وكانت الحكمة التي وصلوا إليها أن هذه النصوص تقوم بوظيفة إثارة العقل ودفعه للنظر والاستدلال:
«إنه — عز وجل — إنما خاطب بذلك ليبعث السائل على النظر والاستدلال بما ركب في العقول من الأدلة أو لأنه علم أن المكلف عند سماعه والفكر فيه يكون أقرب إلى الاستدلال عليه منه لو لم يسمع بذلك، فهذه الفائدة تخرج الخطاب من حد العبث.»
إن دور النص هنا دور مزدوج فهو يمثل الباعث المحرك لحركة الذهن المعرفية للنظر والاستدلال، ومن هذه الزاوية يمكن اعتباره دالًّا، ويتساوى النص هنا بالدلائل العينية المنصوبة في العالم من حيث كونها دلائل يؤدي النظر العقلي فيها إلى المعرفة بالتوحيد والعدل. النص يحرك العقل للنظر أولًا فيكون دالًّا لا بالمعنى اللغوي بل بالمعنى السيميوطيقي، بمعنى أن النص يقوم بدور العلامة، وبعد المعرفة العقلية التي تصل إلى التوحيد والعدل يتحوَّل النص إلى دالٍّ لغوي. في حالة الدلالة الأولى للنص تكون المُواضعة هي أساس الدلالة ومحورها، والمواضعة هي أساس الدلالة في كل الأنظمة الدالة. أما في حالة الدلالة الثانية — الدلالة اللغوية — فإنها لا تتحقق إلا بالشرط الثاني للدلالة اللغوية عند القاضي وهو «القصد».
إن المحرك للنظر والباعث على الاستدلال مسألة هامة جدًّا في الفكر الاعتزالي لأنها مناط التكليف العقلي وبدونها يسقط هذا التكليف. وهذا الباعث قد يكون كلامًا يجده الإنسان في نفسه وقد يكون خاطرًا يسيطر عليه، وهذه مسألة اختلف فيها الجبائيان فذهب أبو علي (ت.٣٠٣ﻫ) إلى أن الباعث «ليس بكلام وأنه اعتقاده» بينما ذهب أبو هاشم (ت.٣٢١ﻫ) إلى أنه «كلام إما أن يفعله الله تعالى أو يأمر بعض الملائكة بفعله» (المغني، ١٢: ٤٠١–٤٠٣). وسواء كان الباعث كلامًا أم خاطرًا فإن مهمته مهمة دلالية يطلق عليها القاضي اسم «الأمارة» والأمارة والعلامة من المترادفات اللغوية:
«وتلك الأمارة هي تنبيه الداعي والخاطر؛ لأنهما يفيدانه ما يخاف عنده من العقاب بترك النظر، ويدلانه على ما ترتب في عقله من الخوف الذي يجده فاعل القبيح والنقص الذي يختص به، فإنه لا يأمن من مضرة عظيمة تستحق به فيخاف عند ذلك.»
وهذه الأمارة — العلامة — مهمتها إثارة الخوف الذي يدفع إلى الفعل الذي هو النظر والاستدلال. وسواء كانت تلك الأمارة خاطرًا أم كانت كلامًا فإن مهمتها لا تتغير، أو لنقل إن وجه دلالتها يظل كما هو. هذا ما يؤكده أبو هاشم الجبائي الذي يجعل كلام الداعي — سواء كان من فعل الله أو من فعل أحد ملائكته عن أمره تعالى — على الوجه التالي:
«انظر لتعلم أن لك صانعًا صنعك ومدبرًا دبرك، وتعلم استحقاق الثواب من جهته على فعل الواجب والعقاب على فعل القبيح. ومتى لم تعرفه وتعرف هذا الثواب والعقاب كنتَ إلى فعل القبيح أقرب؛ لأنك تجد شهوته فيك، وأنت إذا عرفته كنت إلى التباعد منه أقرب؛ لأنك تجد استحقاق الذم على القبيح مع ما يؤثر فيك من غمٍّ ونقيصة فلا تأمن أن تستحق به المضار العظيمة.»
عند ذلك يخاف المكلف من ترك النظر وحتى لو لم يخف البتة لم يكن مكلفًا ولا عاقلًا؛ إذ العاقل إذا خوف بأمارة صحيحة خاف لا محالة.
وإذا كان النص القرآني في جانب منه — الآيات المحكمات عند المعتزلة — يقوم بهذا الدور، دور الأمارة أو العلامة، فإن هذا يمثل أحد وجهي دلالته، الدلالة السيميوطية، أما الوجه الثاني من دلالته — الدلالة اللغوية — فلا يتحقق إلا بعد تحقق المعرفة العقلية التي تؤدي إلى معرفة القصد. ولهذا كان شرطَا الدلالة هما المواضَعة والقصد: المواضعة شرط لدلالة الألفاظ، أما القصد فهو شرط لدلالة التركيب. وإذا كان النص القرآني، أو الداعي اللغوي، أو الخاطر، يقوم بدور الحث على النظر والاعتبار الذي يؤدي بدوره إلى المعرفة العقلية، فمن حقنا أن نستنتج من ذلك أن الأنظمة الدالة في النسق المعرفي عند المعتزلة ليست أنظمة متعارضة أو منفصلة انفصالًا تامًّا. وإن كنا في هذا الاستنتاج لا نستطيع أن نتجاوزه إلى القول بأنها أنظمة متفاعلة. إذ إن إصرار القاضي عبد الجبار — ومثله ابن طفيل — على عزل المعرفة العقلية عن إطار المجتمع واللغة والحاجات البشرية — تلك الأطر التي ربط بينها الجاحظ — يعوقنا عن ذلك. وهذا فارق هام بين القاضي عبد الجبار والباقلاني.
إن دور النص — القرآن — عند المعتزلة دور مزدوج كما قلنا، وليس كذلك دوره عند الأشاعرة وعند الظاهرية، ناهيك عن دوره عند المتصوفة. ولا نريد أن نسبق الأحداث ونقفز إلى نتائج قبل أوانها، ويكفينا هنا أن نؤكد أن اللغة قد نظر إليها في سياق نظم دلالية أخرى تحددت فيه اللغة باعتبارها نظامًا دالًّا مقترنًا بدلالات أخرى أهمها الدلالات العقلية. إن الفارق بين اللغة من حيث وظيفتها الدلالية وبين الدلالة العقلية أن العلاقة بين الدالِّ والمدلول في اللغة علاقة اصطلاحية، بينما العلاقة بين الدالِّ والمدلولِ في الدلالة العقلية تقوم على صلة ما. من هذا الفارق يمكن لعلماء المسلمين المقارنة بين الدلالة اللغوية وبين أنظمة دلالية أخرى تعتمد العلاقة فيها بين الدالِّ والمدلول على الاصطلاح والمواطأة أيضًا. ومن هذه المقارنة يتضح دور اللغة من حيث هي ألفاظ بوصفها علامات، وذلك موضوع الفقرة التالية.
(٢) العلاقة بين الدال والمدلول على مستوى الألفاظ
ينقل السيوطي عن الفخر الرازي حصره لأنواع العلاقات الممكنة والمحتملة — منطقيًّا — — بين الدال والمدلول في اللغة:
«الألفاظ إما أن تدل على المعاني بذواتها، أو وضع الله إياها، أو بوضع الناس، أو يكون البعض بوضع الله والباقي بوضع الناس، والأول مذهب عباد بن سليمان، والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك، والثالث مذهب أبي هاشم. وأما الرابع فإما أن يكون الابتداء من الناس والتتمة من الله، وهو مذهب قوم. أو الابتداء من الله والتتمة من الناس، وهو مذهب ابن إسحاق الإسفراييني.»
يمكن أن نتغاضى عن هذه التفريعات مؤقتًا، وسنعود إليها بعد قليل فنجد أننا أمام اتجاهين: اتجاه عباد بن سليمان الذي يرى أن الألفاظ تدل على معانيها بذواتها، والاتجاه الآخر الذي يضم الاتجاهات الفرعية كلها وهو الاتجاه الذي يرى أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها علاقة وضعية. والعلاقة الذاتية تستدعي لأذهاننا العلاقة في الدلالة العقلية وهي علاقة التلازم العقلي حيث يدل وجود الفعل بمجرده على وجود فاعل. وكان من شأن هذا الرأي المساواة بين أنواع الدلالات التي جهد المتكلمون والفلاسفة في التفرقة بينها. ولذلك لم يكتب لهذا الاتجاه أن يكون تيارًا، بل رفضه كل من تعرض لبحث الدلالة اللغوية. وكان أساس الرفض الواقع الإمبريقي الفعلي من جهة وواقع تعدد اللغات والألسن والتفرقة بين الدلالات الذاتية والدلالات الوضعية من جهة أخرى، ودليل فساده — رأي عباد بن سليمان — أن «اللفظ لو دل بالذات لفهم كل واحد منهم كل اللغات، لعدم اختلاف الدلالات الذاتية» (المزهر، ١: ١٦).
والذي يهمنا هنا أن الذين نفوا أن تكون المواضعة من جانب الله وأكدوا أن المواضعة بشرية، حين حاولوا الاستدلال على صدق رأيهم قرَّروا أن اللغة ترتبط في دلالتها بالإشارة الحسية والإيماءة الجسدية، بمعنى أن اقتران الصوت بما يدل عليه — خاصة في الأسماء — هو الشرط الذي تقوم على أساسه المواضعة، وذلك على حسب ما نجد الطفل ينشأ عليه فيتعلم لغة والديه، إذا تكررت منهما الإشارات (المغني، ١٥: ١٠٦). وهذا ما يقرره ابن جني حيث يقول:
«والقديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع أحدًا من عباده على شيء، إذ قد ثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء وإشارة بالجارحة، نحو المومأ إليه، والمشار نحوه، والقديم — سبحانه — لا جارحة له، فيصح الإيماء والإشارة بها منه، فبطل أن تصح المواضعة على اللغة منه.»
ويؤكد القاضي عبد الجبار نفس الفكرة بقوله:
«وأما أول المواضعات فلا بد فيه من تقدم الإشارة التي تخصص المسمى ولذلك جوزنا من القديم تعالى تعليمه لغة «آدم» بعد تَقدُّم المواضعة على لغة، ولم نُجَوِّز أن يُبتدى بالمواضعة لاستحالة الإشارة عليه سبحانه.»
ولم يكن مفهوم اقتران المواضعة اللغوية بالإشارة الحسية والإيماءة الجسدية مفهومًا قاصرًا على المعتزلة وحدهم، بل أغلب الظن أن الذين ذهبوا إلى أن المواضعة أصلها إلهي وأنها تعتمد على «التوقيف» لم ينكروا ذلك وإن اكتفوا بالقول بأن مواضعة الله آدم على اللغة كانت بلا كيفية وسكتوا شأنهم في ذلك شأنهم في الصفات الإلهية كافة، آمنوا بها فقط واعتبروا التساؤل عن كيفيتها بدعة مستندين في ذلك إلى قول مالك: «الاستواء معروف والكيف مجهول والحديث عنه بدعة.» لذلك لا نعجب أن نجد ابن جني وقد حيرته المعضلة — معضلة أصل المواضعة — يذهب أحيانًا إلى التوقيف محاولًا في الوقت نفسه أن ينفي عن الله الإشارة الحسية الجسدية وذلك حيث يقول إن ذلك ممكن:
«بأن يحدث في جسم من الأجسام، خشبة أو غيرها، إقبالًا على شخص من الأشخاص تحريكًا لها نحوه ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتًا يضعه اسمًا له، ويعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشخص دفعات، مع أنه — عز اسمه — قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرة الواحدة، فتقوم الخشبة في هذا الإيماء، وهذه الإشارة، مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المواضعة.»
إن هذا الإصرار من جانب ابن جني على ربط المواضعة بالإشارة الحسية إنما يعني أن المواضعة على مستوى الألفاظ لا بد أن تقترن بالإشارة الحسية، حيث تصور المفكرون المسلمون أن الاسم بديل للإشارة، ويقوم بوظيفتها خاصة حالة غياب الشيء الذي يراد الإشارة إليه. الاسم في هذه الحالة نوع من الإشارة اللفظية استبدل بالإشارة الحسية وحل محلها، هذا إذا كان الاسم يدل على شيء موجود في الواقع الخارجي؛ كالشجرة والحصان وزيد، فإذا كانت هناك أشياء ليس لها وجود في الواقع الخارجي كالمجردات الذهنية؛ مثل الفناء والعدم والحق والخير والجمال — وهي المعاني الكلية الذهنية التي ليس لها أعيان في الوجود الخارجي — فإن الإخبار عن مثل هذه الأشياء يستلزم التسمية؛ أي يستلزم المواضعة. من هنا كانت المواضعة ضرورة لتحقيق التواصل الذي عبر عنه أحيانًا بالبيان وأحيانًا بالإنباء أو الإخبار.
«إذا ثبت أنه يحسن من العاقل أن يشير إلى ما علمه ليعرف به حاله، لم يمتنع أن يعبر عنه ببعض … الأسماء ليعرف غيره حاله — ويدل على ذلك أن هذه الأسماء إنما احتيج إليها ليقع بها التعريف، ويصح بها الإخبار عند غيبة المسميات؛ لأن الإشارة تتعذر إليه والحال هذه، فأقيم الاسم عند ذلك مقام الإشارة عند الحضور، فكما نحسن الإشارة عند الحضور، إذا حضر المشار إليه لوقوع الفائدة به للمشير والمشار إليه فكذلك يحسن الاسم لهذا الغرض عند غيبة المسمى، أو يكون المسمى مما لا يظهر للحواس لأن ذلك في أن الإشارة لا تصح إليه على كل وجه بمنزلة المشاهد إذا غاب.»
وهكذا تصبح المواضعة بديلًا للإشارة، وتكون وظيفة الألفاظ الإشارة للأشياء أو للمسميات حالة غيابها عن الحواس، وذلك بهدف الإخبار عنها والتعريف بها. وإذا كانت الأشياء مما لا تظهر للحواس أصلًا تصبح المواضعة ضرورية. ولنلاحظ إصرار القاضي عبد الجبار على التسوية بين إطلاق الأسماء والإشارة «فأقيم الاسم عند ذلك مقام الإشارة عند الحضور». ولذلك يمكن القول إن العلاقة بين الدالِّ والمدلول في الألفاظ، يستوي في ذلك أسماء المعاني وأسماء الذوات، علاقة إشارية بحتة عند القاضي عبد الجبار. يؤكد ذلك أن القاضي عبد الجبار يساوي أيضًا في مستوى الكلام (التركيب) بين الإشارة والعبارة حيث يقول: «لذلك نجد أحدنا يستدعي من غلامه سقي الماء بالإشارة، على حد ما يستدعيه بالعبارة، لِعادةٍ تَقدَّمت، يعرف بها أن الإشارة تحل محل العبارة التي تقدمت معرفة فائدتها» (المغني، ١٥: ١٦١).
والدلالة الإشارية التي تقدمت عليها المواضعة إذا كانت تدل كدلالة اللغة، فإن الدلالة اللغوية تتميز عنها باتساع الأصوات وتعددها في تراكيبها اللفظية في حين إن الإشارة محدودة بأعضاء الجسد، وبذلك استطاعت الدلالة الصوتية المسبوقة بالمواضعة أن تحل محل الإشارات.
«إن حاجة العقلاء لمَّا دعت إلى الإنباء عمَّا في النفس، لما فيه من النفع، ودفع الضرر، وعلموا أن ذلك وإن صح بالمواضعة على الحركات وغيرها فلا يتَّسع ذلك اتساع الكلام. اقتضى ذلك المواضعة على الكلام الذي عند التأمل نعرف أنه أشد اتساعًا من كل ما تصح فيه المواضعة. وليس يمتنع أن يعرفوا ذلك إلهامًا، أو بالتأمُّل، أو الاختبار، وللاجتماع في ذلك من التأثير ما ليس للانفراد؛ لأن جميعهم إذا تعارَفوا على المراد قَلَّ فيه اللبس وظهر فيه الغرض.»
وإذا كانت دلالة الكلام لا تختلف عن دلالة الإشارات والحركات إلا من حيث اتساع الأصوات وضيق الحركات والإشارات، فإن دلالة الأصوات — على الأقل فيما يرى القاضي عبد الجبار — بسبب اتساعها قابلة للغموض بحكم ما يمكن أن يدخل في دلالتها من الاشتراك والمجاز والاستعارة. من هذا الجانب يقارن القاضي بين دلالة الكلام ودلالة المعجزات على صدق الأنبياء، ويرى أن المعجزة أشد في دلالتها وأوضح من الكلام خاصة وأنها أيضًا تكون مسبوقة بالمواضعة. المواضعة إذًا شرط أساسي في كل أنواع الدلالات، تستوي في ذلك المعجزات أو الحركات والإشارات أو الأصوات.
«وعلى هذا الوجه تنزل المعجزات منزلة التصديق بالقول فنقول: إذا صح لو صدقه تعالى، عند ادعائه النبوءة والرسالة كونه نبيًّا، فكذلك إذا فعل ما يحل هذا المحل من المعجزات؛ لأن مجموع قوله: «اللهم إن كنت صادقًا فيما ادعيت من الرسالة فاقلب العصا حية.» ثم وقوع مما سأل عنه مطابقًا لمسألته بمنزلة المواضعة المتقدمة على التصديق، بل ذلك أقوى في بابه؛ لأن من حق التصديق بالقول أن يقع فيه، والحال هذه، المجاز والاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام، وصحة هذه الطريقة فيه. ولا يتأتى ذلك في الفعل المخصوص إذا التمسه الرسول من المرسل للمرسل إليه.»
يمكن أن نقول — في مجال مناقشة القاضي — إن دلالة الفعل مع سبق المواضعة لم تنفصل عن دلالة الكلام، وإننا لا نستطيع بالتالي أن ننظر للمعجزة بوصفها دلالة في ذاتها، بل ينبغي النظر إلى دلالتها من واقع أن الكلام جزء أصيل في هذه الدلالة، ذلك أن المعجزة تستلزم اتفاقًا سابقًا بين النبي وقومه — اتفاقًا كلاميًّا أو مواضعة كلامية — على أن وقوع الفعل دالٌّ على صدقه. ولكن هذا الرد من جانبنا لم يكن يعني القاضي في كثير أو قليل، ذلك أنه كان بصدد التفرقة بين المعجزة ودلالتها على صدق النبي، وبين أفعال أصحاب الخوارق التي تخلو من الدلالة عند المعتزلة. وعلينا من جانب آخر ألا نغفل أن كل جهود المعتزلة التي صاغوا من خلالها مفهوم اللغة ودلالتها كانت جهودًا جدلية كلامية تستدعي — على سبيل الاستطراد — في أغلب الأحيان، مناقشة بعض المشكلات اللغوية. لذلك لم ينتبه القاضي لوجوه الترابط الدلالي بين الأنظمة الدلالية الأخرى التي قارن اللغة بها سواء في ذلك الإشارات والحركات أو دلالة الفعل معجزة كان أو غير معجزة. ولكن يكفينا ذلك التنبه الهام والأصيل لشرط المواضعة باعتباره شرطًا أساسيًّا في الدلالة، أي دلالة. وهذا الشرط هو الذي يسمح لنا الآن بالزعم بأن الفكر الإسلامي — بمختلف اتجاهاته — لم ينظر للغة باعتبارها نظامًا وحيدًا من العلامات، ولم ينظر إليها منفصلة عن أنظمة أخرى من العلامات.
وكان على الأشاعرة في جدلهم مع المعتزلة وإصرارهم على أن الله متكلم لذاته، وأن كلامه صفة أزلية قديمة كعلمه وقُدْرَته وحياته، كان عليهم أن يُعَرِّفوا الكلام تعريفًا آخر مغايرًا، تعريفًا يتباعد به عن «الأصوات» التي هي أعراض لا يتصور وجودها في ذات البارئ، ولذلك لجأ الأشاعرة إلى القول بأن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه أمارات تدل عليه، فتارة تكون قولًا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى به وجعل لغة لهم» (الإنصاف، ٩٤). وهذا التعريف للكلام يفرق بين الكلام والقول، فالكلام هو المعنى النفسي، والقول أمارة — علامة — تدل عليه. القول في هذا التعريف هو الدلالة الصوتية الوضعية التي تدل على الكلام، ولكن الكلام من جانب آخر — المعنى النفسي — يمكن أن يدل عليه بأمارات وعلامات أخرى، وإن حقيقة الكلام على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس، لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقًا، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده، وتارة إشارة ورمزًا دون الحروف والأصوات ووجودهما» (الإنصاف، ٩٥).
كان عبد القاهر مشغولًا بالبحث عن العلة الكامنة وراء إعجاز القرآن أساسًا، وكان عليه من أجل الوصول إلى هذه العلة أن يحدد الخصائص الفارقة بين كلام وكلام، تلك الخصائص التي تقوم على أساسها المفاضلة. ولم يكن عبد القاﻫر ليقنع كما قنع سابقوه بالتهويمات الفضفاضة التي تتحدث عن الجزالة والرصانة وجودة السبك وكثرة الماء والرونق والبهاء وما شابه ذلك من أوصاف، بل إنه لم يقنع بما قنع به سابقوه من أمثال الآمدي، والقاضي الجرجاني من أن هناك من الكلام «ما تحيط به الصفة ولا تدركه العبارة» مكتفين بالوقوف في منطقة اللاتعليل. لم يقنع عبد القاهر بذلك كله ورد الخصائص الفارقة بين كلام وكلام إلى قانون لغوي هو قانون «النَّظْم». وكان على عبد القاهر لكي يُؤصِّل هذا القانون أن ينفي عن الفكر اللغوي والبلاغي والنقدي ما ساده من ثنائية اللفظ والمعنى، تلك الثنائية التي وضع الجاحظ أصولها حين قال قولته المشهورة: «المعاني مطروحة في الطريق.» فتلقفها البلاغيون والنقاد بعده وقسموا الكلام الأدبي على أساسها إلى ما حسن لفظه ومعناه، وإلى ما ساء لفظه ومعناه، وما حسن لفظه دون معناه، وما ساء لفظه وحسن معناه. وفي سبيل نفي هذه الثنائية حاول عبد القاهر أن ينفي عن الألفاظ، من حيث هي ألفاظ مفردة خارج التركيب — أيْ من حيث هي أصوات دالة — أيَّ وصف من صفات القبح أو الحسن. فذهب إلى أن الألفاظ «تجري مجرى العلامات والسمات. ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلًا عليه وخلافه» (أسرار البلاغة، ٢: ٢٨٠).
وإذا كانت ألفاظ اللغة فيما يرى عبد القاهر ليست إلا مجرد علامات وسمات دالة على المعاني فإن العلامة من حيث هي علامة لا يمكن أن توصف بقبح أو حسن، إنما يكفيها القيام بوظيفتها الدلالية. من هذا المنطلق ليست كلمة «فرس» أدل على معناها من كلمة «أسد» على معناها في العربية، بل ليست كلمة «فرس» أدل على معناها في العربية من مقابلها الفارسي، أو من مقابلها في أي لغة من اللغات. ولا بأس في هذه الحالة من استبدال علامة بعلامة للدلالة على نفس المعنى إذا اتفق أهل اللغة على ذلك، فلو أن أهل اللغة قد استخدموا العلامة الصوتية «قصير» للدلالة على ما نطلق عليه اليوم «طويل» لم يكن ذلك ليغير شيئًا وكانت العلامة الأولى تدل على معنى «الطول». إن العلاقة بين الدال والمدلول في هذا الفهم علاقة اعتباطية اتفاقية اصطلاحية، والألفاظ من حيث هي علامات وسمات لا تغير من المدلول ولا تضيف إليه، بل هي تشير إليه فقط وتدل عليه «إن الألفاظ أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأما أن يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها فمما لا يقوم في عقل ولا يتصور في وهم» (دلائل الإعجاز، ٤٨٣).
هذا الترابط الدلالي بين الألفاظ وبين معانيها، أو بين العلامات الصوتية ومدلولاتها يقوم في ذهن عبد القاهر على تصور لأسبقية المعاني الذهنية على الدلالات الصوتية، فالمعاني تعرف أولًا، أو تُدرَك أولًا، ثم يتواضع أهل اللغة على الأصوات للدلالة على تلك المعاني الذهنية:
«وليت شعري هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني؟ وهل هي إلا خدم لها، ومُصرَّفة على حكمها؟ أوليست هي سمات لها، وأوضاعًا قد وضعت لتدل عليها؟ فكيف يتصور أن تسبق المعاني وأن تتقدمها في تصور النفس؟ إن جاز ذلك جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن عرفت الأشياء وقبل أن كانت، وما أدري ما أقول في شيء يجر الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المُحال ورديء الأحوال.»
إن المعاني الذهنية تُدرَك أولًا، ثم تُقام الدلالات الصوتية علامات على هذه المعاني. ومن حقنا في هذه الحالة أن نقرر أن عبد القاهر يفهم العلاقة بين الدالِّ والمدلول على أساس أنها علاقة بين الصوت وبين المفهوم الذهني الذي يشير إليه وليس هذا الفهم من جانبنا لأفكار عبد القاهر غريبًا عن التراث الذي ينتمي إليه عبد القاهر والذي ربط الدلالة اللغوية — كما أسهبنا من قبل — بالمعرفة وبأنواع أخرى من الدلالات العقلية. ولم يكن حرص علماء المسلمين وحرص عبد القاهر معهم على أسبقية الدلالات العقلية على الدلالة اللغوية إلا حرصًا نابعًا من إرادة تثبيت الواقع الخارجي — العالم — الدالِّ على وجود الخالق والدالِّ على كل صفاته. ولكن هذا الحرص ذاته هو الذي جعل فهمهم لعلاقة اللغة بالعالم — علاقة الدالِّ بالمدلول — فهمًا يقوم على الفصل والتمييز. وليست المعاني التي تعبر عنها الألفاظ عند عبد القاهر إلا المفاهيم الذهنية المدركة عن العالم الخارجي، وهي مفاهيم قد ترتبط بأشياء عينية حسية ذات وجود عيني في العالم الخارجي، وقد ترتبط بمفاهيم قائمة على التجريد والتعميم. ويمكن القول في هذه الحالة إن وظيفة العلامات الصوتية الدالة لا تكمن في ذاتها؛ أي في حقيقة كونها علامات، بل تكمن في إمكانية إدخال هذه العلامات في علاقات هدفها الإنباء أو الإخبار أو البيان:
إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد. وهذا علم شريف وأصل عظيم.
والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماء التي وضعوها لها لتعرفها بها حتى كأنهم لو لم يكونوا قالوا: «رجل» و«فرس» و«دار» لما كان يكون لنا علم بهذه الأجناس ولو لم يكونوا وضعوا أمثلة الأفعال لما كان لنا علم بمعانيها وحتى لو لم يكونوا قالوا: «فعل» و«يفعل» لما كنا نعرف الخبر في نفسه ومن أصله، ولو لم يكونوا قالوا: «افعل» لما كنا نعرف الأمر من أصله ولا نجده في نفوسنا، وحتى لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها فلا نعقل نفيًا ولا نهيًا ولا استفهامًا ولا استثناء. كيف؟ والمواضعة لا تكون ولا تتصور إلا على معلوم، فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم؛ لأن المواضعة كالإشارة فكما أنك إذا قلت: «خذ ذاك»، لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها. كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشك أنَّا لم نعرف «الرجل» و«الفرس» و«الضرب» و«القتل، إلا من أساميها؟ لو كان ذلك مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل «زيد» أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون شاهدته أو ذكر لك بصفة.»
المعاني إذن التي تُدْرَك أولًا، ثم تُوضَع الأصوات، اتفاقًا للدلالة عليها، يستوي في هذا المعاني الذهنية المعقولة والمعاني اللغوية التي يشير إليها عبد القاهر بمعنى الخبر والأمر أو معاني النفي والنهي والاستفهام، وهي المعاني التي يطلق عليها اسم «معاني النحو». قد نختلف مع عبد القاهر في تلك التسوية بين المعاني العقلية وبين المعاني اللغوية — معاني النحو — ولكننا لا شك لا نملك إلا أن نتفق معه في إصراره على أن العلامات اللغوية لا تنبئ بذاتها عن المعاني العقلية، بل تدل عليها وتشير بالمواضَعة والاصطلاح. وقد ينفر حِسُّنا المعاصر من ذلك الفصل الحاسم عند عبد القاهر بين الدالِّ والمدلول اللذين نعتبرهما وجهَي عملة واحدة، لكن هذا النفور لا يجب أن يحجب عنا طبيعة المشكلات التي كان يواجهها عبد القاهر، والتي كانت تحتاج لمثل هذا الحسم والوضوح والتمييز.
إن المعاني التي يتحدث عنها عبد القاهر بوصفها مدلولًا تدل عليه العلامات اللغوية هي — فيما يذهب حازم القرطاجني (٦٨٤ﻫ) — «الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان.» (المنهاج، ١٨). وهذه الصور الحاصلة في الأذهان — المفاهيم الذهنية — ليست إلا محصلة لعملية إدراك الواقع الخارجي، وليست العلامات اللغوية إلا عبارات عن هذه الصور الذهنية المدركة. من هذه الزاوية تتساوى العبارات اللغوية الصوتية بالرموز الكتابية الدالة على الأصوات؛ ذلك لأن الرموز الكتابية تدل على هيئات الألفاظ، وهذه تدل بدورها على المعاني الحاصلة في الأذهان، وهذه الأخيرة تدل على المُدرَكات العينية الخارجية وَلْنَقُل بعبارة أخرى إن العالم يتحول في الذهن إلى مجموعة من الصور والمفاهيم؛ أي يتحول من وجود عيني محسوس إلى وجود ذهني مُتخيَّل، ثم يتحول من هذا الوجود الذهني المتخيَّل إلى دلالات صوتية فرموز كتابية.
«كل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه، فإذا عَبَّر عن تلك الصور الذهنية الحاصلة عن الإدراك، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ. فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ لمن لم يتهيَّأ له سمعها من المتلفظ بها، صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيئات الألفاظ، فتقوم بها في الأذهان صور المعاني، فيكون لها أيضًا وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليه.»
إن ما يطرحه حازم في هذا النص يقيم العلاقة بين الدلالات الصوتية والرموز الكتابية على أساس من الترابط الدلالي، حيث تقيم الرموز الخطية الكتابية هيئات الألفاظ — الصورة السمعية عند دي سوسير — في الأفهام. فإذا قامت هيئات الألفاظ في الأفهام استدعت — بطريقة الدلالة الإشارية — الصور الذهنية. والصور الذهنية بدورها تشير إلى المدرك العيني الخارجي. وهكذا نجد أنفسنا في علاقات دلالية قائمة على الترابط بين كل طرفين، وهذه العلاقات الدلالية عند حازم يمكن التعبير عنها على النحو التالي:
الرموز الكتابية (دالٌّ) | — الصور السمعية للألفاظ (مدلول) |
الصور السمعية للألفاظ (دالٌّ) | — الصور الذهنية (مدلول) |
الصور الذهنية (دالٌّ) | — الأعيان المُدرَكة (مدلول) |
ونجد أن كل مدلول يتحول بدوره إلى دال، فالصور السمعية للألفاظ (هيئات الألفاظ) تكون مدلولًا في علاقتها بالرموز الخطية الكتابية، ولكنها تصبح دالًّا في علاقتها بالصورة الذهنية. والصور الذهنية تكون مدلولًا في علاقتها بالصور السمعية، ولكنها تَتحوَّل إلى دالٍّ في علاقتها بالمدركات الخارجية.
وهذا التصور الذي يطرحه حازم على مستوى الدلالات وعلاقاتها ليس بعيدًا عن التصورات التي ناقشناها قبل ذلك ابتداء من الجاحظ، غاية الأمر أن حازم يتميز بدقة المصطلح الذي أفاده، ولا شك، من قراءاته الفلسفية، تلك القراءات التي زوَّدَته بتصوُّر الفلاسفة لمستويات الوجود ومراتبه بدءًا من الوجود العيني مرورًا بالوجود الذهني وانتهاء إلى الوجود اللفظي والرقمي.
وإذا انتقلنا من إطار المتكلمين والبلاغيين إلى المتصوفة واجهنا تصورًا مغايرًا في بعض جوانبه، وإن انتهى إلى نتائج قريبة من حيث ربط الدلالة اللغوية بأنماط دلالية أخرى في العالم. الوجود عند المتصوفة من أرقى مراتبه إلى أدناها، من عالم الموجودات المجردة الروحية الخالصة إلى عالم المادة بكل عناصره وتشكلاته ليس إلا تجليات ومظاهر لحقيقة واحدة باطنة، هي الحقيقة الإلهية.
وإذا كان ابن عربي (ت.٦٣٨) قد قسَّم مراتب الوجود الكلية إلى ثمانٍ وعشرين مرتبة تبدأ بالعقل الأول أو القلم وتنتهي إلى مرتبة «المرتبة» فإنه قد وازى بين كل مرتبة من هذه المراتب الثمانية والعشرين وبين حرف من حروف اللغة العربية، فجعل المرتبة الأولى توازي حرف الألف (الحركة الطويلة) وجعل آخر المراتب توازي حرف الواو. والأساس الذي يستند إليه ابن عربي في مثل هذه الموازاة أن هذه المراتب الوجودية ظهرت عن التمثل الإلهي في «العماء» الذي يشبه من حيث تكوينه النفس الإنساني الذي تتشكل من خلاله حروف اللغة. وإذا كانت تلك المراتب الوجودية الكلية تتدرج من حيث الصفاء والنورانية والروحانية في مجموعات، فإن حروف اللغة كذلك تترتب طبقًا للمخارج، فتبدأ بالألف (الحركة الطويلة) التي تمثل أقصى درجة من درجات حرية مرور الهواء في النفس الإنساني؛ لذلك تتوازى الألف بمرتبة العقل الأول من حيث إن العقل الأول أول الموجودات النورانية، ومن حيث إن الألف تمثل التحرر الكامل للهواء في مجرى النفس من أي احتكاك. هذه الموازنة بين مراتب الوجود وحروف اللغة يعبر عنها ابن عربي على الوجه التالي:
«فأوجد العالم على عدد الحروف من أجل النفس في ثمانية وعشرين لا تزيد ولا تنقص. فأول ذلك العقل وهو القلم. ثم النفس وهو اللوح، ثم الطبيعة، ثم الهباء، ثم الجسم ثم الشكل، ثم العرش، ثم الكرسي، ثم الأطلس، ثم فلك الكواكب الثابتة، ثم السماء الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، ثم كرة النار، ثم كرة الهواء، ثم كرة الماء، ثم كرة التراب، ثم المعدن، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الملك، ثم الجن، ثم البشر، ثم المرتبة، والمرتبة هي الغاية في كل موجود، كما أن الواو غاية حروف النفس.»
هذه الموازنة التي يقيمها ابن عربي بين حروف اللغة وبين مراتب الوجود الكلية ليست موازاة على سبيل الشرح والتوضيح والتبسيط، ولكنها موازاة تعتمد على إيمان فعلي كشفي بهذا الترابط. إن مراتب الوجود الكلية توجهت على إيجادها الأسماء الإلهية، وارتبط بكل مرتبة من هذه المراتب حرف من حروف اللغة. وهذه الحروف التي ترتبط بمراتب الموجودات الكلية — وترتبط من ثم بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد تلك المراتب — ليست هي حروف لغتنا الإنسانية البشرية — الحروف الصوتية — ولكنها حروف اللغة الإلهية التي تعد حروف لغتنا الإنسانية ظاهرًا لها وجسدًا.
ومن هنا يمكننا القول إن ابن عربي يتعامل مع حروف اللغة كما يتعامل مع كل الموجودات وينظر إليها — كما ينظر للوجود بأسره — من خلال ثنائية «الباطن والظاهر» فيرى أن لحروف اللغة جانبًا باطنًا هي الحروف الإلهية التي تتوازى مع مراتب الوجود من جهة، وتتوازى مع الأسماء الإلهية من جهة أخرى، ويرى أيضًا أن لحروف اللغة جانبًا ظاهرًا هي الحروف الإنسانية الصوتية التي يتلفظها الإنسان في كلامه. إن الجانب الباطني للحروف أرواح هي أرواح الأسماء الإلهية، أما جانبها الظاهر فهو إما أن يكون الصوت في حالة «النطق» أو الخط في حالة «الكتابة» يقول ابن عربي:
«وجميع الأسماء الإلهية المختصة بهذا الإنسان … معلومة محصاة، وهي الرفيع الدرجات، الجامع، اللطيف، القوي، المذل، رازق، عزيز، مميت، محيي، حي، قابض، متين، محصي، مصور، نور، قاهر، عليم، رب، مقدر، غني، شكور، محيط، حكيم، طاهر، (آخر)، باطن، باعث، بديع، ولكل اسم من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه وتقوم به وتحفظها، لها صورة في النفس الإنساني تُسمَّى حروفًا في المخارج عند النطق، وفي الخط عند الرقم، فتختلف صورها في الكتابة ولا تختلف في الرقم (كذا وأظنها في الصوت).
وتسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح بأسماء هذه الحروف، فلنذكرها على ترتيب المخارج حتى نعرف رتبتها، فأولهم ملك الهاء، ثم الهمزة (المفروض أن تكون الهمزة أولًا حسب سياق ابن عربي) وملك العين المهملة، وملك الحاء المهملة، وملك الغين المعجمة، وملك الخاء المعجمة، وملك القاف وهو ملك عظيم رأيت من اجتمع به، وملك الكاف، وملك الجيم، وملك الشين المعجمة، وملك الياء، وملك الضاد المعجمة، وملك اللام، وملك النون، وملك الراء، وملك الطاء المهملة، وملك الدال المهملة، وملك التاء المعجمة باثنتين من فوقها، وملك الزاي، وملك السين المهملة، وملك الصاد المهملة، وملك الظاء المعجمة، وملك الثاء المعجمة بالثلاث، وملك الدال المعجمة، وملك الفاء، وملك الباء، وملك الميم، وملك الواو، وهذه الحروف أجساد تلك الملائكة لفظًا وخطًّا بأي قلم كانت. فهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها، أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر المتصورة بالخيال، فلا يُتَخَيَّل أن الحروف تعمل بصورها، وإنما تعمل بأرواحها، ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد، يعظم بذلك كله، خالقه ومظهره، وروحانيته لا تفارقه. وبهذه الأسماء يسمون هؤلاء الملائكة في السموات، وما منهم ملك إلا أفادني.»
حروف اللغة الإنسانية إذن — سواء المنطوق منها أم المرقوم — ليست إلا اجسادًا لأرواح ملائكة، هذه الملائكة هي التي تحفظ الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد مراتب الوجود الكلية الثمانية والعشرين. من هذه المراتب الكلية — أو بالأحرى من تفاعلها — تظهر الموجودات المركبة في الوجود. وبالمثل تظهر كلمات اللغة من تركيب هذه الحروف البسيطة. لذلك يمكن أن نطلق على «الممكنات» أنها «كلمات الله» كما نطلق على القرآن أنه «كلام الله» وبذلك يكون للكلام الإلهي مستويان: مستوى الكلام الوجودي الذي يتجلى في ظهور أعيان الممكنات، ومستوى الكلام اللغوي الذي يتجلى في النص القرآني.
وليس هذا التصور الذي يطرحه ابن عربي للكلام الإلهي بعيدًا عن معطيات النصوص الدينية التي ينطلق منها المسلمون على مختلف اتجاهاتهم واهتماماتهم، فالقرآن يشير كثيرًا إلى كلمات الله التي لا تنفد قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا. (الكهف: ١٠٩)، وقوله: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ (لقمان: ٢٧). والقرآن يسمي (عيسى) كلمة الله. ومعنى ذلك أنَّ المتصوفة لم يُغالُوا كثيرًا — كما يحلو لخصومهم أن يتهموهم — حين نظروا للوجود مثل هذه النظرة التي تربط بين أجزائه وتوحد بين عناصره.
وإذا كانت مراتب الوجود الكلية البسيطة توازي الأسماء الإلهية الثمانية والعشرين التي توجهت على إيجادها، فإن الموجودات المركبة قد ظهرت للوجود بفعل الأمر الإلهي «كن»، أي إنها ظهرت بالكلمة الإلهية. وهذا دليل آخر يجعل من إطلاق اسم «الكلمات» على «الموجودات» مسألة حقيقية فعلية وليست مجرد تسمية «مجازية».
اعلم أن الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد وبها يظهر سلطانها الذي لا يبعد، وهي مركبات لأنها أتت للإفادة فصدرت عن تركيب يعبر عنه باللسان العربي بلفظة «كن» فلا يتكون منها إلا مركب من روح وصورة، فتلتحم الصور بعضها ببعض لما بينها من المناسبات، والمادة التي ظهرت فيها الكلمات هي نفس الرحمن ولهذا عبر عنه بالكلمات.
وإذا كان ابن عربي — كما أسلفنا — نظر لحروف اللغة من خلال ثنائية الظاهر والباطن ورأى أن حروف لغتنا البشرية — منطوقة ومكتوبة — ليست إلا أجسادًا لأرواح الأسماء الإلهية، فمن الطبيعي كذلك أن ينظر للكلمات التي تكونها الحروف من خلال نفس الثنائية. وبما أن الكلمات تنتج عن تركيب الحروف للإفادة — كما يقول ابن عربي في النص السابق — فإن دلالة الكلمات اللغوية لها جانبان: جانب دلالتها الإلهية. القديمة، وجانب دلالتها البشرية الحادثة، الدلالة في الحالة الأولى — من حيث الباطن — دلالة ذاتية بمعنى أن الدالَّ هو المدلول، أما الدلالة في الحالة الثانية — من حيث الظاهر — فهي دلالة عُرْفية وضعية اعتباطية.
قد يمكن لنا أن نقول إن ابن عربي في سياق الثقافة الإسلامية العربية يحاول أن يحل التعارض بين ثنائية «القدم والحداثة» في جميع مظاهرها وتجلياتها بدءًا من مشكلة العالم وانتهاء بمشكلة المواضعة اللغوية، ولكن مثل هذا القول لا يشرح لنا كل جوانب نظرة ابن عربي للغة، تلك النظرة التي تتسع للدخول في آفاق لم يتعرض لها سابقوه ولم تخطر على بالهم.
إن الدلالة التي تجعل الدالَّ هو المدلول بعينه وذاته تتعلق بالكلمات الوجودية التي هي الممكنات. هذه الممكنات دالة بذاتها على معانٍ ودلالات قائمة فيها لا تفارقها، فهي لا تدلُّ على شيء خارجها. ولكن دلالة هذه الممكنات لا تنكشف ولا تفصح عن نفسها إلا لقلب العارف الصوفي الذي يَتَّحِد بالوجود فيكتشف معناه ودلالة عناصره المختلفة ومكوناته المتعددة، أو لنقل بعبارة أخرى إن الصوفي العارف هو القادر وحده على قراءة كلمات الله الوجودية.
العالم كله لا يعرف من الموجودات التي هي كلمات الله إلا وجود أعيانها خاصة. ولا يعلم ما أريدت له هذه الموجودات سوى أهل الفهم عن الله. والفهم أمر زائد على كونه مسموعًا، فكما ينوب العبد الكامل الناطق عن الله في إيجاد ما يتكلم به بالفصل بين كلماته. إذ لولا وجوده هناك لم يصح وجود عين الكلمة — كذلك ينوب في الفهم مناب الحق.
وإذا كانت الدلالة في اللغة الإنسانية دلالة عرفية اتفاقية اصطلاحية، فإن هذا هو الظاهر الذي يدركه كل إنسان، والحقيقة التي يدركها الصوفي بقلبه، ومعراجه الصوفي تنبئ أن هذه الدلالة العرفية الظاهرة للغة البشرية الإنسانية خادعة، فالله هو المتكلِّم من خلال كل إنسان ومن خلال كل صورة وجودية. وما دام الوجود كله متضمنًا الإنسان ليس سوى تجليات مختلفة ومظاهر متعددة لحقيقة واحدة، فإن الدلالة الذاتية هي الأصل والدلالة العرفية هي الفرع، الدلالة الذاتية هي الباطن الحقيقي، والدلالة العرفية هي الظاهر الخادع. والصوفي وحده هو الذي يدرك الحقيقة، ويقرأ الوجود، ويربط بين الظاهر والباطن.
«وإذا تحلل الإنسان في معراجه إلى ربه، وأخذ كل كون منه في طريقه ما يناسبه، لم يبقَ إلا هذا السر الذي عنده من الله فلا يراه إلا به، ولا يسمع كلامه إلا به، فإنه يتعالى ويتقدس أن يدرك إلا به، وإذا رجع الشخص من هذا المشهد، وتركَّبَت صورته التي كانت تَحلَّلت في عروجه، ورد العالم إليه جميع ما كان أخذه منه مما يناسبه — فإن كان عالم لا يتعدى جنسه — فاجتمع الكل على هذا السر الإلهي واشتمل عليه، وبه سَبَّحَت الصورة بحمده، وحَمدتْ ربها إذن لا يحمده سواه. ولو حمدته الصورة من حيث هي لا من حيث هذا السر لم يظهر الفضل الإلهي والامتنان على هذه الصورة … فالكلمة عن الحروف، والحروف عن الهواء، والهواء عن النفس الرحماني.»
إن هذا الربط بين الوجود واللغة عند المتصوفة يذكرنا بما نقلناه عن الحارث المحاسبي من أن أنواع الأدلة «عيان ظاهر» أو «خبر قاهر»، ويذكرنا أيضًا بوضع المتكلمين للغة داخل إطار الأدلة العقلية، وهذا يؤكد أن المفكرين المسلمين — على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم — قد انطلقوا في نظرتهم للغة من منطلق سيميوطيقي واضح يتناسب مع معتقداتهم ومفاهيمهم الدينية. ويرجع للمتصوفة — وعلى رأسهم ابن عربي — الفضل في صياغة هذه النظرة صياغة نهائية حولت الوجود كله إلى نص ماثل أمام الإنسان، نص دال يشير إلى قائله ويدل عليه، وهو نص يتجلى في كل المظاهر التي تعد اللغة — في بعدها الإنساني البشري — إحداها.
(٣) البعد الدلالي للغة
إذا كانت العلامات اللغوية (الكلمات) يمكن أن تتساوى من حيث دلالتها مع غيرها من أنواع العلامات، فإن للغة الطبيعية بعدها الدلالي الذي تتميز به وتفارق به غيرها من أنواع العلامات. وهذا هو قابلية العلامات اللغوية للدخول في علاقات مكونة جملًا، ثم قابليتها بعد ذلك للتَّنامي بالجمل لكي تُكوِّن نصًّا. إن للغة الطبيعية أجرومية خاصة تفتقدها اللغات السيميوطيقية، أو لِنَقُل إن أجهزة الاتصال الحديثة التي تعتمد على العلامات الأيقونية أساسًا كالسينما والتليفزيون تحاول أن تضع هذه العلامات في علاقات مُستمَدة من حيث بناؤها من أجروميات للغة الطبيعية. وهذا معناه أن للغة الطبيعية بُعْدها السيمانطيقي الذي تستعيره أنظمة العلامات الأخرى في أجهزة الاتصال الحديثة.
وثمة خاصية أخرى للعلامات اللغوية نابعة من خاصيتها السيمانطيقية، وهي قدرتها على التحول على مستوى المدلول لكي يصبح بدوره علامة من نوع آخَر تشير إلى مدلول آخَر فيما يعرف بالتَّحوُّل الدلالي في أنماط المجاز المختلفة. وهذا التحول الدلالي لا يحدث في العلامة اللغوية في حالة أفرادها، ولكنه يتحقق من خلال التركيب الذي يكسب العلامة دلالة لا تكون لها في حالة أفرادها. وهذا التحول الدلالي أيضًا هو الذي ينقل النص اللغوي من وظيفة «الإنباء الاجتماعية» ويجعله يحقق وظائف أخرى «أدبية».
وإذا كان أسلافنا في مناقشتهم لدلالة اللغة على مستوى الألفاظ المفردة قد تنبهوا لأنواع العلامات الأخرى الدالة، فإنهم في مناقشتهم لدلالة اللغة على مستوى التركيب قد تنبهوا أيضًا لهذه الفروق التي أشرنا إليها بين دلالة اللغة ودلالة غيرها من أنظمة العلامات. ولا تثريب عليهم — في هذه الحالة — أن تختلف لغتهم عن لغتنا، أو أن تختلف مصطلحاتهم عن مصطلحاتنا. لقد تنبهوا — مثلًا — لخاصية الدلالة التركيبية في اللغة، وإن كانوا قد ناقشوها من خلال منظورهم الديني، وكذلك تنبهوا لخاصية التحول الدلالي للعلامات داخل التركيب، ولم تفارق هذه الفكرة أيضًا — إلا قليلًا — إطار المنظور الديني. ويتبدى إحساسهم بمفارقة العلامات اللغوية لغيرها من أنواع العلامات في قول القاضي عبد الجبار:
«إن حاجة العقلاء لما دعت إلى الإنباء عمَّا في النفس، لما فيه من النفع ودفع الضرر، وعلموا أن ذلك وإن صح بالمواضعة على الحركات وغيرها فلا يتسع اتساع الكلام، اقتضى ذلك المواضعة على الكلام الذي عند التأمل نعرف أنه أشد اتساعًا من كل ما تصح فيه المواضعة.»
إن مفهوم «الاتساع» الذي تتميز به اللغة الطبيعية يقابل — بالتضاد — مفهومًا آخر لم يُشِر إليه القاضي عبد الجبار فيما يتصل بأنواع العلامات الأخرى، وهو مفهوم «الضيق». وكلا المفهومين يرتبطان بتحقيق الوظيفة التي حددها القاضي للغة، وهي وظيفة «الإنباء». هذه الوظيفة يحققها «الكلام» بحكم «اتساعه» ولا تحققها العلامات الأخرى بحكم «ضيقها». وإذا كان القاضي عبد الجبار قد قصر دور العلامة اللغوية — كما سبقت الإشارة — على وظيفة «الإشارة» فإن حديثه هنا عن وظيفة «الإنباء» ينصرف إلى الاحتمالات التركيبية التي يمكن أن تدخلها العلامات اللغوية.
وإذا كانت العلامات اللغوية في حالة إفرادها لا ترتبط بمدلولاتها إلا ارتباط مواضَعة واصطلاح، فإن التركيب اللغوي «لا ينبئ» عن مدلوله بمجرد «المواضعة» بل لا بد من اعتبار «قصد» المتكلم، فالكلام:
«قد يحصل من غير قصد فلا يدل، ومع القصد فيدل ويفيد. فكما أن المواضَعة لا بد منها، فكذلك المقاصد التي بها يصير الكلام مطابقًا للمواضعة.»
ومفهوم «القصد» الذي يطرحه القاضي هنا مفهوم هام جدًّا بالنسبة للإطار الديني الذي ينطلق منه القاضي، ذلك أنه مفهوم يربط دلالة الكلام — على مستوى التركيب — بالمتكلم. وتتبدَّى أهمية هذا الربط في أنه يمكن المعتزلة — والقاضي بصفة خاصة — من إعطاء مشروعية دينية لتأويلاتهم للنص القرآني من حيث إن قصد المتكلم به — الله عز وجل — يمكن الوصول إلى معرفته بالاستدلال العقلي وحده. ولا معنى والحالة هذه لأن نرد على القاضي أو نناقشه من خلال مفهومنا المعاصر لجدلية العلاقة بين عناصر «القصد/النص/التأويل». ويكفي أن نفهم أفكاره في إطارها الثقافي والفكري:
«وإنما اعتبر حال المتكلم لأنه لو تكلم به ولا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤديه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير قصد لم يدل. فإذا تكلم به، وقصد وجه المواضعة فلا بد من كونه دالًّا، إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده ولا يريد القبيح ولا يفعله. فإذا تكاملت هذه الشروط فلا بد من كونه دالًّا، ومتى لم تتكامل فموضوعه أن يدل، وإن كان متى وقع ممن ليس هذا حاله لم يصح أن يستدل به.»
إن هذا الربط بين قابلية العلامات اللغوية — دون غيرها — «للاتساع» وبين مفهوم «القصد» عند المتكلم هو الذي يجعل اللغة — على مستوى التركيب — تحقق وظيفة «الإنباء» وهذا هو ما يميز اللغة الطبيعية عن غيرها من أنظمة العلامات الأخرى. وإذا كان الأشاعرة لم يَتوقَّفوا أمام مثل هذا التمييز بين اللغة وغيرها من أنواع العلامات بحكم تسويتهم بين «الكلام» و«المعنى النفسي» كما سبقت الإشارة فإن عبد القاهر الجرجاني الذي أفاد دون شك من جهود المعتزلة عامة، والقاضي عبد الجبار بصفة خاصة؛ قد عمق هذا التمييز تعميقًا يثير الإعجاب.
إذا كانت ألفاظ اللغة فيما يذهب عبد القاهر «تجري مجرى العلامات والسمات»، كما سبقت الإشارة، فإن دلالة اللفظ على ما يدل عليه تظل دلالة عامة إشارية بحتة، وهي إلى جانب ذلك دلالة عُرفية اجتماعية لا يتفاضل الناس في معرفتها. إن العلاقة بين الدالِّ والمدلول في العلامات/الألفاظ لا تضيف إلى خبرتنا شيئًا جديدًا، بل هي تشير إلى ما نعرفه بالفعل. وهذه العلامات/الألفاظ قد وُضِعت أساسًا لكي تدخل في علاقات تركيبية تجعلها تؤدي وظيفة دلالية.
«إن الألفاظ المفرَدة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد، وهذا علم شريف وأصل عظيم.»
وإذا كان القاضي عبد الجبار قد اكتفى بالتركيز على «قصد المتكلم» الذي بدونه لا يقع للكلام دلالة، فإن عبد القاهر قد صاغ نظرية للدلالة في التراث العربي تعرف بنظرية «النَّظْم»، وضع فيها قوانين كلية للدلالة اللغوية على مستوى التركيب، وأدخل علم «معاني النحو» أساسًا صلبًا لهذه النظرية. والفارق بين عبد القاهر وغيره من اللغويين والبلاغيين أنه تَنبَّه لدلالات العلاقات النحوية وتنبَّه لتأثيرها على الدلالة الوضعية للعلامة اللغوية في سياق بعينه. ولذلك نظر عبد القاهر لدلالة التركيب لا بوصفه حاصل جمع العلامات اللغوية المتضمنة فيه، بل بوصفه حاصل تفاعُل دلالات العلامات ودلالات التركيب معًا:
«واعلم أن مثل واضع الكلام من يأخذ قطعًا من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنك إذا قلت: «ضرب زيدٌ عَمرًا الجمعة ضربًا شديدًا تأديبًا له» فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معانٍ كما يتوهمه الناس، وذلك لأنك لم تأتِ بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب، وبين ما عمل فيه: والأحكام التي هي محصول التعلق.
وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن ننظر في المفعولية من «عمرو» وكون «يوم الجمعة» زمانًا للضرب وكون «الضرب» ضربًا شديدًا وكون «التأديب» علة للضرب. أيتصور فيها أن تفرد عن المعنى الأول الذي هو أصل الفائدة وهو إسناد «ضرب» إلى «زيد» وإثبات «الضرب» له حتى يعقل كون «عمرو» مفعولًا وكون «يوم الجمعة» مفعولًا فيه وكون «ضربًا شديدًا» مصدرًا، وكون «التأديب» مفعولًا له، من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلًا للضرب؟
وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصور لأن «عمرا» مفعول لضرب وقع من «زيد» عليه «ويوم الجمعة» زمان لضرب وقع من زيد، «وضربًا شديدًا» بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته، و«التأديب» علة وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان ذلك كذلك بان منه وثبت أن المفهوم من مجموع الكلم معنًى واحد لا عدة معانٍ، وهو إثباتك زيدًا فاعلًا ضربًا لعمرو في وقت كذا وعلى صفة كذا ولغرض كذا، ولهذا المعنى نقول: إنه كلام واحد.»
إن هذه العلاقات التي يسهب عبد القاهر في تحليلها في عبارة «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربًا شديدًا تأديبًا له» هي العلاقات النحوية التي تجعل العلامات اللغوية ذات دلالة محددة، وهي علاقات يمكن أن توضع على النحو التالي. والذي يكشف أن معنى العلامة الأولى «ضرب» لا يتضح إلا بالعلامة الأخيرة في الجملة:
إن هذه العلاقات «النحوية» هي التي تضفي على العلامات دلالتها من جانب، وهي التي تميز الدلالة اللغوية عن غيرها من الدلالات من جانب آخر. ولذلك يرى عبد القاهر أن اختلاف العلاقات النحوية يؤدي إلى تغيير المعنى رغم اتفاق العلامات المستخدمة في سياقين. أو لنقل بلغة عبد القاهر إن اختلاف «النَّظْم» يؤدي إلى تغايُر في المعنى، ولذلك يفرق عبد القاهر بين «الغرض» و«المعنى» ويعتبر أن «المعنى» هو حاصل تفاعل علاقات السياق. والفارق مثلًا بين قولنا «زيد كالأسد» وقولنا «كأن زيدًا الأسد» هو فارق في «المعنى» وإن كان «الغرض» واحدًا وهو تشبيه زيد بالأسد. والفارق في «المعنى» هو الذي يفصل عند عبد القاهر بين عبارة وعبارة.
«لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها.
فإن قلت: فإذا أفادت هذه ما لا تفيده تلك، فليستا عبارتين عن معنى واحد، بل هما عبارتان عن معنيين اثنين.
قيل لك: إن قولنا «المعنى» في مثل هذا يراد به الغرض، والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه، نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول: «زيد كالأسد» ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: «كأن زيدًا الأسد»، فتفيد تشبيهه أيضًا بالأسد، إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأول، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يقصر عنه، حتى يتوهم أنه أسد في صورة آدمي.
وإذا كان هذا كذلك، فانظر هل كانت الزيادة وهذا الفرق إلا بما توخى في نظم اللفظ وترتيبه، حيث قدم «الكاف» إلى صدر الكلام وركبت مع «إن»؟ وإذا لم يكن إلى الشك سبيل أن ذلك كان بالنظم، فاجعله العبرة في الكلام كله، ورُضْ نفسك على تَفهُّم ذلك وتتبعه.»
ولا يتركنا عبد القاهر لاستنتاج أن هذه الخصيصة — خصيصة إنتاج خلال العلاقات التركيبية — قاصرة على اللغة دون غيرها من أنواع العلامات، بل يصرح بذلك تصريحًا كاشفًا وهو بصدد المقارنة بين «صناعة الكلام» وغيرها من أنواع الصناعات. وإذا كان الفكر البلاغي والنقدي قبل عبد القاهر قد اعتمد دائمًا على المقارنة بين «صناعة الكلام» وبين صناعات الوشي والنسج والصباغة، فإن عبد القاهر أيضًا يعتمد في كثير من نصوصه على تلك المقارنات، كأن يقول مثلا:
«إن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي، كالخاتم والشنف والسوار، فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غُفلًا ساذجًا، لم يعمل فيه صانعه شيئًا، أكثر من أن أتى بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتمًا، والشنف إن كان شنفًا، وأن يكون مصنوعًا بديعًا قد أغرب صانعه فيه. كذلك سبيل المعاني، أن ترى الواحد منها غُفلًا ساذجًا عامًّا موجودًا في كلام الناس كلهم، ثم تراه في نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصَّنَع الحاذق، حتى يُغْرِب في الصنعة، ويدق في العمل، ويبدع في الصباغة. وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت، وأمثلته نصب عينيك من أين نظرت.»
ولكن عبد القاهر — خلافًا لأسلافه — يدرك أن هذه المقارنة بين «الكلام» وغيره إنما هي مقارنة على سبيل الشرح والتوضيح، مقارنة لا تعني التماثل أو التطابق، ذلك أن باقي الصناعات يصح فيها التقليد والمحاكاة التي لا تنكشف من خلالها خصوصية «المبدع» أو «المتفنن»، وهذا أمر لا يقع في «الكلام»، وذلك بحكم خصوصية «النَّظْم» التي تميز كلامًا عن كلام، وبالتالي تؤثر في «المعنى». بهذه الطريقة يكشف لنا عبد القاهر عن وعيه بخصوصية الدلالة اللغوية، تلك الخصوصية التي تتميز بها من جهة قابلية علاماتها للدخول في علاقات هي التي تنتج «المعنى» أو «الدلالة». يقول عبد القاهر:
«وإنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية كنسج الديباج، وصوغ الشنف والسوار وأنواع ما يصاغ، وكل ما هو صنعة وعمل، بعد أن يبلغ مبلغًا يقع التفاضل فيه، ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت، ويدخل في حد ما يعجز عنه الأكثرون.
وهذا القياس وإن كان قياسًا ظاهرًا معلومًا، وكالشيء المركوز في الطباع، حتى ترى العامة فيه كالخاصة، فإن فيه أمرًا يجب العلم به: وهو أنه يتصور أن يبدأ هذا فيعمل ديباجًا ويبدع في نقشه وتصوره، فيجيء آخر ويعمل ديباجًا آخر مثله في نقشه وهيئته، وجملة صفته حتى لا يفصل الرائي بينهما، ولا يقع لمن لم يعرف القصة ولم يخبر الحال إلا أنهما صنعة رجل واحد وخارجان من تحت يد واحدة. وهكذا الحكم في سائر المصنوعات كالسوار يصوغه هذا، ويجيء ذلك فيعمل سوارًا مثله، ويؤدي صنعته كما هي. حتى لا يغادر منها شيئًا البتة.
وليس يتصور مثل ذلك في الكلام، لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر، أو فصل من النثر فتؤديه بعينه وعلى خاصيته وصنعته بعبارة أخرى، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك لا يخالفه في صفه ولا وجه ولا أمر من الأمور. ولا يغرنك قول الناس: «قد أتى بالمعنى بعينه، وأخذ معنى كلامه فأدَّاه على وجهه»، فإنه تسامح منهم، والمراد أنه أدى الغرض، فأما أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأول حتى لا تعقل ههنا إلا ما عقلته هناك، وحتى يكون حالهما في نفسك حال الصورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين والشنفين ففي غاية الإحالة، وظن يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة، أن تكون الألفاظ مختلفة المعاني إذا فُرِّقَت ومُتَّفِقَتها إذا جُمِعَت وأُلِّف منها كلام، وذلك أن ليس كلامنا فيما يفهم من لفظتين مفردتين نحو «قعد» و«جلس» ولكن فيما يفهم من مجموع كلام ومجموع كلام آخر نحو أن تنظر في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وقول الناس «قتل البعض إحياء للجميع» فإنه وإن كان قد جرت عادة الناس بأن يقولوا في مثل هذا: «إنهما عبارتان معبرهما واحد»، فليس هذا القول قولًا يمكن الأخذ بظاهره أو يقع لعاقل شك أن ليس المفهوم من أحد الكلامين المفهوم من الآخر.»
ليس أدل من هذا الفهم كشفًا عن إدراك عبد القاهر لخصوصية الدلالة اللغوية، وارتباطها بقابليتها للدخول في علاقات نحوية هي التي تنتج دلالة العلامات اللغوية. إن الفرق بين «نَظْم» و«نَظْم» أو بين «كلام» و«كلام» فارق يعود إلى مقدرة «المتكلم» ومهارته وكفاءته الخاصة في استخدام «القوانين» التي يتيحها «نحو» اللغة المعينة. وإذا كان المتكلم، لا يملك حيال العلامات/الألفاظ شيئًا من الحرية بحكم وضعيتها وعرفيتها، فإنه يمتلك حرية لا يستهان بها إزاء «قوانين النحو» التي «ينظم» من خلال قواعدها العلامات اللغوية. من هنا يعطي عبد القاهر للمتكلم دورًا هامًّا في النَّظْم، دورًا قد يتجاوز — في بعض الأحيان — حدود دور المتكلم في التصورات التراثية، ولكن هذا الدور يتضاءل — في معظم الأحيان — إذا كان الحديث عن الشِّعر وعن الإبداع الأدبي. يقول عبد القاهر:
واعلم أنا إذا أضفنا الشعر — أو غير الشعر من ضروب الكلام — إلى قائله، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كَلِم وأوضاع لغة، ولكن حيث توخى فيها «النَّظْم» الذي بيَّنَّا أنه عبارة عن تَوخِّي معاني النحو في معاني الكلم … وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختص منها الشعر بقائله. وإذا نظرنا وجدناه يختص به من جهة توخيه في معاني الكلم التي ألفه منها، ما توخَّاه من معاني النحو، ورأينا أنْفس الكلم بمعزل عن الاختصاص، ورأينا حالها معه حال الإبريسم (خيوط الحرير) مع الذي ينسج منه الديباج وحال الفضة والذهب مع من يصوغ منهما الحلي. فكما لا يشتبه الأمر في أن الديباج لا يختص بناسجه من حيث الإبريسم، والحلي بصائغها من حيث الفضة والذهب، ولكن من جهة العمل والصنعة، كذلك ينبغي ألَّا يشتبه أن الشعر لا يختص بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة.
وهذا الدور الذي يمنحه عبد القاهر للمتكلم فيما يتصل بالنَّظْم يؤكد وعي عبد القاهر بخصوصية الأداء اللغوي. وعلينا دائمًا ألا ننسى أن منطلقات عبد القاهر النظرية لا تختلف كثيرًا عن منطلقات القاضي عبد الجبار، ولذلك فحرصه على دور المتكلم لا يقل عن حرص القاضي خاصة وأن مدخله في دراساته كلها هو البحث عن «علة» لإعجاز القرآن، ومحاولته الدائبة لربط «الإعجاز» بمفارقة المتكلم — الله عز وجل — مفارقة تامَّة لسواه من المتكلمين. ولكن عبد القاهر يختلف عن القاضي بعمق قدرته التحليلية النابعة من وعيه اللغوي والبلاغي.
لذلك استطاع عبد القاهر أن يقارب تخومًا لم يُتَحْ لأسلافه الاقتراب منها، ولا يقلل من قدر عبد القاهر بأي حال من الأحوال أنه ظل واقفًا عند حدود هذه التخوم، ولم تُتِح له ظروف ثقافته آنذاك أن يتجاوز حدود المقارَبة من هذه التخوم التي قاربها عبد القاهر الواعي بدور المتلقي في «فهم» النص. ولا شك أن خلاف الفرق حول تفسير النص القرآني كان بمثابة واقع إمبريقي أمام عبد القاهر يساعده على اكتشاف معضلة «الفهم» وعلى الوعي بها. ولكن وعي عبد القاهر بالمعضلة لم يتجاوز حدود بعض اللمحات المتناثرة هنا وهناك في كتبه — وهي لمحات كان عبد القاهر طرفًا فيها بحكم انتمائه الأشعري — وبالتالي لم يمكنه هذا التورط في قلب الخلاف بلورة وعيه بالمعضلة. ومع ذلك لا نعدم عند عبد القاهر — في أحيان قليلة — بعض العبارات التي تشي بمقاربته لتخومها. يقول وهو بصدد تأكيد أولية «المعاني النفسية» وأسبقيتها على «النَّظْم» في «الكلام»:
واعلم أنه إنْ نظَر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه ظن لذلك أن المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها، فإن هذا الذي بيَّنَّاه يريه فساد هذا الظن. وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعًا للألفاظ في ترتيبها، لكان محالًا أن تتغير المعاني، والألفاظ بحالها لم تزل. فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ وتزول عن أماكنها، علمنا أن الألفاظ التابعة، والمعاني هي المتبوعة.
واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبرًا، ثم يقدم الذي هو الخبر، إلا أشكل الأمر عليك فيه فلم تعلم أن المقدم خبر، حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبر، أنشد الشيخ أبو علي في «التذكرة»:
«نَمْ وإنْ لم أنم كراي كراكا.»
ثم قال: ينبغي أن يكون «كراي» خبرًا مقدمًا، ويكون الأصل: «كراك كراي» أي نم وإن لم أنَمْ فنومُك نومي كما تقول: «قم» وإن جلست فقيامك قيامي، هذا هو عرف الاستعمال في نحوه ثم قال: «وإذا كان كذلك» فقد قدم الخبر وهو معرفة، وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبرًا، قال: فهو كَبَيْت الحماسة:
«فقدم خبر المبتدأ وهو معرفة، وإنما دل على أنه ينوي التأخير المعنى، ولولا ذلك لكانت المعرفة، إذا قدمت، هي المبتدأ لتقدمها، فأفهم ذلك» هذا كله لفظه.
واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام، إذا أنت أحسنتَ النظر فيما ذكرتُ لك، من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه من صورة إلى صورة، من غير أن تغير من لفظه شيئًا، أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر، وهو الذي وسَّع مجال التأويل والتفسير، حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير. وهو على ذلك الطريق المزلة الذي ورط كثيرًا من الناس في الهلكة، وهو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم، وينكشف معه عوار الجاهل به، ويفتضح عنده المظهر الغني عنه.
إن عبد القاهر في هذا النص يلمح إلى إمكانية تعدد «المعاني» مع «النَّظْم» وذلك من خلال استشهاده بما قاله أبو علي الفارسي تعليقًا على قول الشاعر:
حيث تصلح كل من الكلمتين «كراي» و«كراكا» للابتداء بها، ويقرأ أبو علي البيت على أساس أن «كراي» خبر مقدم، وذلك اعتمادًا على سياق «المعنى» وبذلك يجب أن يفهم البيت على أساس أن «كراكا» مبتدأ مؤخر. والبيت — فيما يقول عبد القاهر — يحتمل قراءة أخرى لا تقديم فيها ولا تأخير. ولكن عبد القاهر يعود — بعد أن قرر إمكانية تعدد المعنى — ليهاجم المُؤَوِّلين مقررًا أن هذا العلم — «علم البلاغة» — هو العاصم من زَلَل التأويل وما يرتبط به من جهل. وفي النص — خاصة في أوله — مقاربة أخرى لم يتأملها عبد القاهر ولا بأس من الإلمام بها في هذا السياق.
يتحدث عباد القاهر عن «الترتيب» في الألفاظ والمعاني من وجهة نظر المتلقي، ويرى أن النظر إلى حال السامع ينبئ أن الألفاظ تقع في السمع أولًا، ثم تليها المعاني في النفس. وإذا كان عبد القاهر يقارب هذه الفكرة بهدف نفيها عن مفهوم «النَّظْم» الذي يحرص عبد القاهر على أن يجعل ترتيب الألفاظ فيه تابعًا لترتيب المعاني النفسية، فإن عبد القاهر لو جمع بين الزاويتين — زاوية المتكلم وزاوية المتلقي — لاستطاع ببساطة أن يرسم لنا الدائرة الكلامية التي رسمها دي سوسير بعده بقرون عديدة.
إن «أشعرية» عبد القاهر، وطبيعة المعضلات الدينية التي كان يواجهها حجبته عن الانطلاق داخل التخوم التي وقف عند حدودها، لذلك كان حريصًا أن يعطي «للمعاني النفسية» مركز الصدارة على «النَّظْم» المعبر عنها، وذلك انصياعًا للمفاهيم التي رسخها أسلافه الأشاعرة — كما رأينا — خاصة توحيدهم بين «الكلام» و«المعاني النفسية» خروجًا من مأزق حدوث الكلام الإلهي. ولذلك أيضًا لم يستطع عبد القاهر — رغم لفتاته الدالة — أن يعمق إمكانية تعدد المعنى في فهم النص الواحد. لقد كانت هذه كلها مشكلات قاربها عبد القاهر، فهل استطاع المتصوفة سبر بعض أغوارها؟
نظرة ابن عربي — كما أسلفنا — للعلامات اللغوية نظرة خاصة لا تفصل بين العلامة اللغوية وغيرها من أنواع العلامات، فهي كلها علامات تحيل إلى بعضها البعض، فالوجود بكل مراتبه يحيل إلى أصوات اللغة، كما تُحِيل أصوات اللغة إلى تلك المراتب الوجودية. فإذا تاوزَنَ مستوى المراتب الكلية والحروف إلى مستوى الموجودات المركبة والكلمات أو العلامات اللغوية وجدْنَا أن الكلمات تُحيل إلى الموجودات كما تحيل الموجودات إلى الكلمات. هكذا يستطيع ابن عربي أن يوحد العلامات اللغوية بغيرها من أنواع العلامات، وتظل التفرقة بين العلامات تفرقة اعتبارية لا حقيقية. وكل ما يمكن أن يقوله ابن عربي عن علاقة «الظاهر والباطن» بقوله عن علاقة العلامات اللغوية بغيرها من أنواع العلامات. إن الوجود كله سواء بموجوداته العينية أم الخيالية أم اللفظية أم الكتابية وجود دال على حقيقته الباطنية العميقة، الحقيقة الإلهية. هذه الحقيقة الإلهية سارية في كل جزئيات الوجود وتفاصيله مرئية أم مسموعة أم معقولة أم مُتخَيَّلة أم ملفوظًا بها أم مكتوبة.
من هذا المنطلق لا بد أن يكون الكلام — على مستوى التركيب — مساويًا لمجمل الوجود، وإذا كان التركيب اللغوي — في أبسط صوره — يقوم على علاقة مسند ومسند إليه، فمعنى ذلك أنه يقوم على علاقة تفاعل بين ثلاثة عناصر — أو علامات — هي الذات والحدث والرابطة، أو هي المسند والمسند إليه والرابطة، والوجود كله بالمثل — يقوم على ثلاثة عناصر هي الذات الإلهية الغنية بذاتها، والحدث هو العالم كله بكل مراتبه، أما الرابطة التي تربط بين الذات والحدث فهي «الألوهة» أو مجموع الأسماء الإلهية التي تمثل وسيطًا بين الذات الإلهية والعالم.
إن جوامع الكلم من عالم الحروف ثلاثة: ذات غنية قائمة بذاتها، وذات فقيرة إلى هذه الغنية غير قائمة بنفسها، ولكن يرجع منها إلى الذات الغنية وصف تتصف به يطلبها بذاته، فإنه ليس من ذاتها إلا بمصاحبة هذه الذات لها، فقد صح أيضًا الفقر للذات الغنية القائمة بنفسها كما صح للأخرى. وذات ثالثة رابطة بين ذاتين غنيتين، أو ذاتين فقيرتين، أو ذات فقيرة وذات غنية. وهذه الذات الرابطة فقيرة لوجود هاتين الذاتين ولا بد، فقد قام الفقر بجميع الذوات من حيث افتقار بعضها إلى بعض — وإن اختلفت الوجوه — حتى لا يصح الغني على الإطلاق إلا لله تعالى الغني الحميد من حيث ذاته. فلنسم الغنية ذاتًا، والذات الفقيرة حدثًا، والذات الثالثة رابطة، فنقول الكلم محصور في ثلاث حقائق ذات وحدث ورابطة. وهذه الثلاثة جوامع الكلم فيدخل تحت جنس الذات أنواع كثيرة من الذوات، وكذلك تحت جنس كلمة الحدث والروابط.
ولكن هذه العلاقات الوجودية/اللغوية ليست علاقات ثابتة ساكنة، فابن عربي لا يتصور الوجود مشروعًا قد تم وانتهى، ولكنه مشروع في حالة تَخلُّق دائم مستمر جديد أبدًا. ولنقل إن الوجود — وكذلك اللغة المعبرة عنه — في حالة توتر دائم من حيث طبيعة العلامات، المكونة له من جانب، ومن حيث طبيعة العلاقات القائمة بين هذه «العلامات» من جانب آخر. هذا التوتر يتجلَّى في جانب الذات الإلهية في «شئون» الحق التي لا تنتهي كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، ويتجلى هذا التوتر أيضًا في جانب العالم في حالة «الخلق الجديد» التي يخضع لها العالم بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهذا التوتر القائم في بنية الوجود ينعكس بالضرورة في بنية اللغة الدالَّة على هذا الوجود والمُعبِّرة عنه، ينعكس في مفرداتها أو «علاماتها» كما ينعكس في «علاقاتها» أو «تراكيبها».
وإذا كان فهم «النصوص» اللغوية — على مستوى دلالتها الوضعية الظاهرة — أمرًا يتفاوت فيه البشر، فما بالنا بفهم «النصوص» اللغوية على مستوى دلالتها الوجودية الباطنة؟ وابن عربي يدرك — أولًا — معضلة الفهم على مستوى الكلام الوضعي وذلك حيث يقول:
«إن الإنسان ينطلق بالكلام يريد به معنًى واحدًا مثلًا من المعاني التي يتضمنها ذلك الكلام. فإذا فُسِّر بغير مقصود المتكلم من تلك المعاني فإنما فسر المفسر بعض ما تعطيه قوة اللفظ، وإن كان لم يصب مقصود المتكلم، ألا ترى الصحابة كيف شقَّ عليهم قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ فأتى به نكرة فقالوا: «وأيُّنا لم يلبس أيمانه بظلم»، فهؤلاء الصحابة وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ما عرفوا مقصود الحق من الآية والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور، فقال لهم النبي ﷺ ليس الأمر كما ظننتم وإنما أراد الله بالظلم هنا ما قال لقمان لابنه وهو يعظه: يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فقوة الكلمة تعم كل ظلم، وقصد المتكلم إنما هو ظلم مخصوص. ولذلك تتقوى التفاسير في الكلام بقرائن الأحوال، فإنها المميزة للمعاني المقصودة للمتكلم.»
إن ابن عربي هنا، وإن كان يمهد لفكرته الأساسية، يقترب اقترابًا شديدًا من فهم معضلة «القصد/النص/الفهم» حيث يرى أن للغة قوة دلالية في ذاتها تجعلها قابلة لتعدد التفسيرات على مستوى الدلالة الوضعية الظاهرة للغة. ولا بد أن يكون الأمر أكثر تعقيدًا في فَهْم المستوى الوجودي الباطن لدلالة اللغة، أكثر تعقيدًا بحكم توتر العلاقة بين الدالِّ والمدلول من جهة، وبحكم توتر العلاقة بين المسند والمسند إليه على مستوى التركيب من جهة أخرى:
وإياك أن تتوهم تكرار هذه الحروف في المقامات، إنها شيء واحد له وجوه كثيرة. إنما هي مثل الأشخاص الإنسانية، فليس زيد بن علي هو عين أخيه زيد بن علي الثاني، وإن كانَا قد اشتركَا في البنوة والإنسانية ووالدهما واحد. ولكن بالضرورة نعلم أن الأخ الواحد ليس عين الأخ الثاني، فكما يفرق البصر بينهما والعلم، كذلك يفرق بينهما في الحروف عند أهل الكشف من جهة الكشف، وعند النازلين عن هذه الدرجة من جهة المقام التي هي بدل عن حروفه. ويزيد صاحب الكشف على العلم من جهة بأمر آخر لا يعرفه صاحب علم المقام المذكور، وهو مثلًا إذا كررته بدلًا من الاسم بعينه فنقول لشخص بعينه وقلت كذا، فالتاء عند صاحب الكشف التي في قلت الأولى غير التاء التي في قلت الثاني — لأن عين المخاطب تتجدد في كل نفس، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، فهذا شأن العالم مع أحدية الجوهر، وكذلك الحركة الروحانية التي عنها أوجد الحق تعالى التاء الأولى غير الحركة التي أوجد عنها التاء الأخرى بالغًا ما بلغت فيختلف معناها بالضرورة، فصاحب علم المقام يتفطن لاختلاف علم المعنى، ولا يتفطن لاختلاف التاء أو أي مع حرف آخر ضميرًا كان أو غير ضمير، فإنه صاحب رقم ولفظ لا غيره.
إن هذه المقارنة التي يعقدها ابن عربي بين علم صاحب المقام وعلم صاحب الكشف مقارنة تستهدف التفرقة بين العلم بالمعنى اللغوي الوضعي، وبين العلم الكشفي الذي يقرأ «اللغة» قراءة وجودية في مستواها الباطني العميق، في المستوى اللغوي الوضعي يشير الضمير وكذلك الاسم إلى مدلول مُعيَّن ثابت، يظل هو هو مهما تَكرَّرت العلامة اللغوية الدالة عليه. ولكن هذا التكرار — في القراءة الوجودية — ينمحي ويزول، فالمشار إليه في حالة تَخلُّق جديد نحن — أهل الظاهر — في لَبْس منه، وهذا التخلق يدركه الصوفي العارف صاحب الكشف، فيدرك أن الضمير المكرَّر أو الاسم المكرر لا يدل على نفس المدلول ولا يشير إليه، بل يدل على مدلول جديد، وهذا الكشف شأنه أن يرى للعبارات اللغوية — التي تبدو ثابتة — معاني جديدة في كل لحظة.
في مثل هذا الفهم لا يكون «النص» اللغوي في حالة ثبات ما دام المدلول في حالة تَغيُّر دائم وخلق جديد، يستوي في ذلك النص اللغوي العادي والنص القرآني الدال — بحكم مصدره — على حركة الوجود الدائبة. من هذا المنطلق أيضًا لا تكون «المعرفة» ثابتة، بل يصيبها نفس التوتر الذي يكمن في موضوعها. وهذه الحركة الدائمة المتوترة في «الوجود» و«المعرفة» و«النص» هي التي تمكن ابن عربي من طرح مفاهيم جديدة مغايرة وتجعل «التأويل» أمرًا مشروعًا على مستوى الوجود وعلى مستوى النص، وتجعل فعل «القراءة» فعلًا شاملًا لا يقصر مفهوم «النص» على النص اللغوي، بل يمتد به ليشمل «الوجود» فيحيل الوجود كله إلى «نص» بالمعنى السيميوطيقي.
وليس هذا الفهم الذي نجده عند ابن عربي وعند الصوفية عمومًا غريبًا كما قد يبدو لأول وهلة عن التراث الثقافي والديني الذي ينتمي إليه ابن عربي، فالقرآن نفسه يشير إلى «الآيات» التي بثَّها الله في الكون بوصفها «علامات» دالة على وجود الله، ويحض البشر على «تأمُّل» هذه الآيات وعلى اكتشاف دلالتها لتُقرِّبَهم إلى الإيمان به والتسليم بوجوده وبوحدانيته. وقد نخرج هنا عن حدود هذه الدراسة التمهيدية لو استعرضنا «النصوص» القرآنية في هذا الصدد والتي تحتاج لدراسة مستقلة. وقد سبقت لنا الإشارة إلى أن القرآن قد استخدم ألفاظ «كلمة» و«كلمات» للدلالة على بعض الموجودات. والفارق بين المتصوفة وبين المفكرين الذين حاولنا تحليل مفاهيمهم في هذه الدراسة فارق في الدرجة لا في النوع، حيث استطاع ابن عربي — بحكم ذاتية التجربة الصوفية — أن ينطلق إلى آفاق حَوَّم حولها غيره ولم يَكَد يشارفها.
(٤) «المجاز» والتحول الدلالي في اللغة
هذه هي الخاصة الثانية التي تميز العلامات اللغوية عن غيرها من أنواع العلامات. وما دام المفكرون المسلمون قد تَنبَّهوا للخاصية الأولى للعلامات اللغوية، فمن الطبيعي أن يتنبهوا أيضًا لحقيقة أن العلامات اللغوية تتميز بقابليتها — دون غيرها من أنواع العلامات — للتحول الدلالي فيما يعرف بالاتساع والاشتراك والتضاد والمجاز … إلخ.
وسيكون تركيزنا في هذه الفقرة الأخيرة — بهدف الايجاز والاختصار — على التحول الدلالي في علاقة «المجاز» دون غيرها من العلاقات. ومن الطبيعي أن يخرج عن نطاق دراستنا أولئك المفكرون الذين أنكروا — لأسباب دينية — وجود المجاز في اللغة، تمهيدًا لنفي «المجاز» عن القرآن، وذلك للوقوف ضد «تأويل» النص القرآني والاكتفاء بدلالته الظاهرة.
ولقد سبقت لنا الإشارة إلى مقارنة القاضي عبد الجبار بين دلالة «المعجزات» ودلالة «الكلام» ورأينا أنه اعتبر المعجزة أشد دلالة:
«لأن من حق التصديق بالقول أن يصح فيه … المجاز والاستعارة لأمر يرجع إلى ذات الكلام.»
والذي يهمنا أن نلاحظه هنا أن القاضي عبد الجبار جعل «المجاز» و«الاستعارة» سمة خاصة بالكلام تقع له على مستوى التركيب. ويكفينا هذا التنبه لهذه الخاصية، ذلك أن القاضي — بحكم مدخله العقلي — جعل هذه الخاصية اللغوية بمثابة «عيب» في الدلالة اللغوية يقلل من شأنها إذا قورنت بغيرها من الدلالات العقلية.
ولكي يتجاوز القاضي عبد الجبار هذا التهوين الضمني من شأن اللغة ودلالتها حاول أن يربط التحول المجازي في اللغة بجانبي الدلالة اللغوية اللذين ناقشناهما فيما سبق وهما: جانب المواضعة وجانب قصد المتكلم. وإذا كانت «المواضعة» نوعًا من العرف الاجتماعي في دلالة اللغة هو الذي يربط الدالَّ بالمدلول، فإن القاضي عبد الجبار جعل لهذه «المواضعة» الاجتماعية دورًا في التحول المجازي على مستوى «المفردات» اللغوية.
«وبذلك جوَّزْنا نقل الألفاظ إلى الأحكام الشرعية، وجوَّزْنا انتقال حكم اللفظ بالتعارف عن المجاز إلى الحقيقة وعن الحقيقة إلى المجاز، وكل ذلك لا يوجب قلب المعاني.»
إن هذا الانتقال في دلالة الألفاظ من المجاز إلى الحقيقة ومن الحقيقة إلى المجاز انتقال يتم «بالتعارف». وهذا التعارف هو الذي يؤدي إلى تثبيت الدلالة اللغوية، ويمنحها — في نظر القاضي — مشروعيتها الدلالية، ولو قلنا للقاضي عبد الجبار إن التحول من الحقيقة إلى المجاز إنما يبدأ في اللغة في نصوص لها طابع فردي — أولًا — ثم يشيع هذا الاستخدام وينتقل من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي فيصبح عرفًا نطلق عليه حينذاك «المجاز الميت» أو «الاستعارة الميتة»، لو قلنا مثل هذا الكلام فلا أظن أن القاضي عبد الجبار يمكن أن يتفق معنا. إن ردَّ التحول المجازي في العلامات اللغوية إلى «التعبير الفردي» من شأنه أن يشوش على القاضي مفهومه للدلالة اللغوية.
وليس معنى ذلك أن القاضي ينكر على المتكلم الفرد إنكارًا تامًّا أن يكون له دور في الاستخدام المجازي، بل يقصر دوره — على مستوى الألفاظ — في اتباع مواضعة «الجماعة» في استعمالاتها للألفاظ في الحقيقة أو المجاز. ويتجلى دور المتكلم على مستوى التركيب الخاص به حيث يمكن له أن ينقل دلالة التركيب كلها من مستوى إلى مستوى آخر. فيتحول الأمر — مثلًا — إلى التهديد كما في قوله تعالى مثلًا للشيطان واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهم بِصَوْتِكَ وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجْلِكَ وشارِكْهم في الأمْوالِ والأوْلادِ وعِدْهم وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلَّا غُرُورًا حيث تحولت الصيغة اللغوية — الأمر — عن معناها الوضعي إلى معنى مجازي هو «التهديد»، وذلك أن المتكلم هنا — الله — لا يمكن أن «يقصد» أمر «إبليس» بغواية البشر؛ لأن هذا الأمر — لو فهمت الصيغة اللغوية على حقيقتها — هو بمثابة أمر بفعل «القبيح» الذي يتنزه الله بصفاته عن الأمر بفعله، وذلك الأمر لا يكون أمرًا إلا بالإرادة وكذلك الخبر.
هكذا نجد أن القاضي يتعامل مع التحول المجازي في دلالة اللغة تعامله مع دلالتها الوضعية الحقيقية، فيجعل التحول على مستوى المفردات عرفيًّا خاصًّا بالاستعمال الاجتماعي ويجعل التحول على مستوى التركيب فرديًّا خاصًّا بالمتكلم ومرهونًا بقصده وإرادته. وعلينا ألا ننسى أبدًا أن القاضي كان مشغولًا أساسًا بقضية الكلام الإلهي، ولو قلنا له مثلًا: إن معرفتنا بقصد المتكلم العادي لا تتحقق إلا عبر دلالة ملفوظة، فكيف تشترط علينا أن نعرف قصد المتكلم قبل معرفة دلالة كلامه؟ إن هذا إن صح أن يتحقق في فهم دلالة الكلام الإلهي لأننا نفهم قصد المتكلم بالعقل كما تقول، فإنه لا يصح في حالة الكلام البشري. لو اعترضنا على القاضي بمثل ذلك فإن رده سيتضمن التفرقة بين أمرين: مستويات المتكلمين من جهة، ومستويات الكلام من جهة أخرى.
إذا نظرنا في مستويات المتكلمين يمكن لنا أن نميز مع القاضي بين المتكلم الذي ثبتت حكمته — الله — وبين المتكلم الذي لم يثبت لنا ذلك عنه، في الحالة الأولى لا بد أن يقع للكلام دلالة، ويكون فهمنا لدلالته نابعًا من إدراكنا لصفات المتكلم وحكمته، فندرك مراده أو «قصده» ونفرق بين الحقيقة والمجاز. أما في حالة المتكلم العادي فإن كلامه «يدل» بمعنى آخر هو أن يكون طريقًا للنظر في «قصد» هذا المتكلم. وإذا نظرنا في مستويات الكلام أمكن لنا أن نميز بين مستويين: مستوى الكلام المجرد من قرينة لفظية تكشف عن تحوله الدلالي من الحقيقة إلى المجاز، ومستوى الكلام المتضمن لمثل هذه القرينة. وهذه التفرقة بين المتكلمين والكلام من جهة، وبين مستويات كل منهما من جهة أخرى إنما تستهدف في النهاية الدفاع عن «دلالة» الكلام وإن كانت تظل مع ذلك كله تضع دلالة الكلام في مستوى أدنى من مستوى الدلالات الأخرى:
«فأما من يقول: إن المعجز، إذا كان إنما يدل كدلالة التصديق، وكان الكلام لا يدل على شيء لصحة وقوعه مجملًا ومشتركًا، ولدخول الاتساع والمجاز (فيه)، فما يحل محله، بألا يدل أولى، فقوله في ظاهر السقوط؛ لأنه جعل ما نصب منصب الأدلة خارجًا عن أن يكون دلالة، لأن الكلام نصب هذه النصبة، ليدل بالمواضعة، على ما لا يدل عليه الفعل، وعلى ما لا يعلم بالمشاهدة. لكن المتكلم قد يكون حكيمًا، فيجب في كلامه أن يكون دالًّا، وقد لا نعلم حكمته، فكلامه يكون طريقًا للنظر، لا لأنه ليس بدلالة، لأنا لو علمنا من حالة أنه حكيم، لكان دلالة، وإنما لا نعده دلالة، إذا وقع من جهة (من) لم تثبت حكمته، لأمر يرجع إلى أنه لم يقع منه على الوجه الذي يدل، من حيث لا نعلم أن مقاصده صحيحة، وذلك أمر لا يُقْدَح في دلالته.
يبين ذلك أن الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالمًا، إذا وقع مرتبًا على طريقة مخصوصة، ومتى وقع على طريقة الاحتذاء، أو على غير جهة الترتيب، لم يَدلَّ. ولا يخرج ذلك الفعل المحكم من أن يكون دلالة، فكذلك القول في الكلام.
«فإن كان ما ظنه السائل من الاشتراك ودخول المجاز يمنع من كون الكلام دلالة، فلما قلناه في الفعل المحكم المخصوص وصحة وقوعه ممن ليس بعلم على بعض الوجوه، يجب أن يمنع من كونه دلالة … فكذلك القول فيما ذكرناه من دلالة الكلام؛ لأنا نقول إنه يدل، إذا تجرد وعُرِّي من قرينة على خلاف الوجه الذي يدل عليه إذا ضامه قرينة ولم يَتجرَّد. ونقول: إنه يدل، إذا وقع من الحكيم الذي مقاصده صحيحة، على خلاف الوجه الذي يدل ممن لم تثبت حكمته. فقد صار افتراق هذين الوجهين اللذين على أحدهما يدل، وعلى الآخر لا يدل، أو يدل على أحد الوجهين بخلاف دلالته على الوجه الآخر، بمنزلة افتراق الجنسين … لأن الكلام إنما يدل — متى تجرد — على ما وضع له؛ لأنه يخالف حاله إذا قارنه غيره، فقد صار باختلاف هاتين الحالتين، تختلف دلالته.»
إن معضلة القاضي هي أن حرصه الدائم على ربط اللغة بغيرها من أنواع الدلالات ربطًا وثيقًا لم يمكنه من إدراك آليات الدلالة اللغوية التي تفصلها عن غيرها. ورغم تنبهه الذي أشرنا إليه لخواص الدلالة اللغوية على مستوى التركيب ومستوى التحول الدلالي، فإنه ظل — بحكم مدخله الديني العقلي — يتعامل مع الدلالة اللغوية داخل إطار الدلالة العقلية بشكل عام. من هنا نفهم سر هذا الحرص على التمييز بين المتكلم والكلام من جهة، وسر هذا الحرص على التمييز في اللغة الدلالة اللفظية والدلالة التركيبية من جهة أخرى.
وإذا كانت اللغة على مستوى المفردات تقوم بوظيفة «إشارية» بحتة حيث يقوم الاسم مقام الإشارة حالة غياب المشار إليه عن الحواس، أو حالة ما إذا كان المدلول مما لا يجوز الإشارة إليه أصلًا، فإن القاضي يعود — وهو بصدد الحديث عن المجاز — إلى التفرقة بين نوعين من الدوال اللغوية أو الأسماء: الألقاب المَحْضة وأسماء الصفات، ويرى أن الألقاب المحضة — كأسماء الأعلام مثلًا — ذات طبيعة إشارية بحتة بحيث تكاد تكون خالية من معنى زائد على وظيفتها الإشارية إلى ما تدل عليه، ويقابل هذه الأسماء الألقاب أسماء الصفات التي تشير إلى معانٍ يمكن إدراكها عقليًّا وفهمها. النوع الأول من الأسماء — الألقاب — لا نقله إلى المجاز وإن صح أم يستخدم اللقب للإشارة لأكثر من مُسمًّى، والنوع الثاني وهو أسماء الصفات هو الذي يصح أن يقع المجاز فيه. يقول القاضي مُفرِّقًا بين هذين النوعين من الأسماء:
اعلم أن الاسم على ضربين: أحدهما لا يفيد في المسمى به، وإنما يقوم مقام الإشارة في وقوع التعريف به من غير أن يقع التعريف بما يفيده، وهو الذي سمَّيناه بأنه لقب محض. ومنه ما يفيد في المسمى به جنسًا أو صفة … وهو الذي يسميه شيوخنا صفات، ولا يجعلون الفارق بين الاسم والصفة ما يقوله أهل العربية في ذلك. ومثال اللقب المحض هو قولنا: «زيد» «وعمر» إلى ما شاكله. والقول في أن ذلك لا يفيد بَيِّن؛ لأنه يقع موقع الإشارة، فكما أن الإشارة تعرف ولا تفيد في المشار إليه حالًا أو صفة، فكذلك ما أقيم مقامها، ولذلك يصحُّ تبديل اللقب وصفة المُلقَّب واحدة، وتختلف الألقاب والصفة واحدة، وتتفق والصفة مختلفة.
ورغم أهمية هذه التفرقة فإن القاضي لم يدرك إمكانية التحول الدلالي في أسماء الأعلام أو الأسماء الألقاب كما يطلق عليها. إن عبارة مثل «قضية ولا أبا حسن لها» أو «لا يُفْتَى ومالك في المدينة»، وغيرها من العبارات قد استخدمت اسم العلم استخدامًا خاصًّا نقله من وظيفته الإشارية إلى «شخص» بعينه ليكون دالًّا على الوظيفة، التي يمثلها ذلك الشخص، والتي يمكن أن يقوم بها «آخر» في زمان مختلف. إن اسم العلم في مثل هذه العبارات لا يفيد فقط ولكنه «يعني» أيضًا، وذلك بحكم تحول «الاسم» في ثقافة بعينها إلى «رمز» دالٍّ، وهذا التحول «الرمزي» إنما تم عبر تحول «مجازي».
ومثل هذه الأسماء ذات الدلالة الرمزية في الثقافة يمكن أن يعاد توظيفها في النصوص الشعرية توظيفًا متميزًا يتجاوز دلالتها «المجازية» أو «الرمزية» المباشرة إلى أبعاد وآفاق سيميوطيقية تشكل النص الشعري وتربطه بسياق الثقافة التي ينتمي إليها، كما يمكن أن تكشف عنه الدراسات مستقبلًا في شعرنا الحديث والمعاصر.
لم يمكن القاضي عبد الجبار أن يشارف هذه الآفاق — ولا تثريب عليه — ويكفيه أنه تَنبَّه لخصوصية الدلالة اللغوية كما أشرنا من قبل. وإذا كانت الألقاب المحضة لا يصحُّ وقوع المجاز فيها، فإن أسماء الصفات هي التي تخضع لهذا التحول الدلالي، وذلك بحكم دلالتها المعنوية من حيث إنها حاملة لمعنى يمكن أن يقارَن بمعنى غيره. لذلك يقصر القاضي عبد الجبار العلاقات المجازية على علاقة المشابهة والمُقارَنة، وهذه فكرة يمكن أن نستشفها من تحليلاته للكثير من «آيات الصفات» في القرآن في الجزء الخامس من كتابه المغني. إن المشابهة التي يقصر عبد الجبار علاقات المجاز عليها ترتبط في نظامه الفكري بالقياس المنطقي الذي ينقلنا من إطار المعروف إلى إطار المجهول، وهذا «القياس» يخضع لمبدأ عام أثير عند المعتزلة عمومًا هو مبدأ «قياس الغائب على الشاهد»، وهو المبدأ الذي يؤدي بهم تطبيقه إلى إثبات «التوحيد» و«العدل». وإذا كان «قياس الغائب على الشاهد» لا يصح أن يؤدي إلى «التسوية» بين العالمين: عالمي الغيب والشهادة، فكذلك المجاز القائم على المشابهة لا يصح أن يختلط طرفاه وإلا اختلطت الحدود بين العوالم:
«اعلم أن من حق المجاز إذا استعمل ألَّا يراعى معناه كما يراعى ذلك في الحقائق؛ لأن ذلك يوجب كونه في حكم الحقيقة؛ لأنه إن روعي وجعل تابعًا له، وأجري حيث يجري معناه، حل محل الحقيقة.»
وليس هذا الحرص على التمييز بين الحقيقة والمجاز خاصًّا بالقاضي عبد الجبار، بل لعل القاضي في النص السابق يكرر بألفاظ أخرى ما سبقه إليه الجاحظ من الحرص على عدم التداخل بين طرفي المجاز حيث يقول:
«وقد يشبه الشعراء والبلغاء الإنسان بالقمر والشمس، والغيث والبحر، وبالأسد والسيف، وبالحية وبالنجم، ولا يخرجون بهذه المعاني إلى حد الإنسان. وإذا ذموا قالوا: هو الكلب والخنزير، وهو القرد والحمار، وهو التيس، وهو الذئب، وهو العقرب، وهو العجل، وهو القرنبي، ثم لا يدخلون هذه الأشياء في حدود الناس ولا أسمائهم، ولا يخرجون بذلك الإنسان إلى هذه الحدود وهذه الأسماء.»
وليس هذا الحرص على التمييز بين طرفي المجاز عند الجاحظ والقاضي معًا إلا تأكيدًا منهما لطبيعة الوظيفة التي حدداها للغة، سواء كانت «البيان» عند الجاحظ أو «الإنباء» عند القاضي. من هذا المنطَلَق أيضًا يحرص كل منهما على جعل حق «التحويل المجازي» من حق الجماعة وينبغي أن يخضع — بدوره — للعُرف والمُواضعة. ويكاد الجاحظ — ويتابعه القاضي في ذلك — يمنع الشعراء والمبدعين من الخروج على الإطار العرفي المجازي في تعبيراتهم. فيقول:
وسموا الجارية غزالًا، وسموها أيضًا خشفًا، ومهرة، وفاختة، وحمامة، وزهرة، وقضيبًا، وخيزران على ذلك المعنى. وليس هذا مما يطرد لنا أن نقيسه، وإنما نقدم على ما أقدموا ونحجم عما أحجموا، وننتهي إلى حيث انتهوا. ونراهم يسمون الرجل جملًا ولا يسمونه بعيرًا، ولا يسمون المرأة ناقة، ويُسمُّون الرجل ثورًا، ولا يسمون المرأة بقرة، ويسمون الرجل حمارًا، ولا يسمون المرأة أتانًا، ويسمون المرأة نعجة، ولا يسمونها شاة.
وهذا ما يكرره القاضي عبد الجبار تقريبًا مستخدمًا أمثلة أخرى وذلك في قوله:
«ووصفهم للسهم إذ زال عن سَمْته بأنه جائر مجاز عندنا؛ لأنهم لا يصفون كل ما زال عن سمته بذلك، فلا يصفون الحجر المرمي بذلك ولا غيره، فعلم أنه مجاز، وإلا كان يشيع في هذه الفائدة. ألا ترى أنه لما أفاد وقوع الجور منه، استمر في كل من فعل الجور؟ وأما وصفهم للسحاب بأنها ظالمة، إذا جادت بالمطر في غير حينه، فمجاز؛ لأنه لو كان حقيقة لاستمر في كل ما له حكم وحصل له ذلك أو به في غير الوقت المعتاد، حتى يقال في الشجرة إذا تأخر نضج ثمارها، بأنها ظالمة، فعلم بذلك أنه استعمل فيها تشبيها بفاعل الظلم، لما كان المبتغى منها المطر في حين ما أخطأ به كما أخطأ الظالم طريق العدل، فأقدم على الظلم.»
ويبدو لنا — الآن — أن عبد القاهر قد طور أفكاره تطويرًا لافتًا في دلائل الإعجاز بحيث يتحتم علينا أن نعيد قراءته قراءة «تزامنية» لا تفصل بين الأسرار والدلائل وتتعامل معهما بوصفهما نصًّا واحدًا. وذلك — بالقطع — لا يتعارض مع القراءة «التاريخية» التي تهتم بتطور فكر عبد القاهر. وحسبنا الآن أن نشير إلى بعض ثمار القراءة «التزامنية» حيث نجد عبد القاهر في الدلائل يربط كل ضروب المَجاز بالنَّظْم ويجعلها من أحكام التركيب:
«هذه المعاني التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النَّظْم وعنها يحدث وبها يكون؛ لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد، لم يُتوخَّ فيها حكم من أحكام النحو، فلا يتصور أن يكون ها هنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غيره. أفلا ترى أنه إن قدر في «اشتعل» من قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا أن لا يكون «الرأس» فاعلًا له، ويكون «شيبًا» منصوبًا عنه على التمييز، لم يتصور مستعارًا؟ وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة فاعرف ذلك.»
وإذا كان عبد القاهر في الأسرار يحدد مفهوم «المجاز» بناء على تفرقته بين «اللغة» و«الكلام» فيرى للمجاز حدًّا في «المفرد» مغايرًا لحده في «الجملة»، فإنه في الدلائل يُرسِي للمجاز مفهومًا آخر يتجاوز به هذه الثنائية التي تفصل بين «الكلمة» و«الجملة». وإذا كان في الأسرار ينظر إلى «المجاز» من خلال مفهوم «النقل» غير اللازم عن المُواضعة الأصلية اللغوية، فإنه في الدلائل يتجاوز هذا المفهوم ليناقش المجاز من خلال فكرة «التحوُّل الدلالي»، إذا صح لنا استخدام هذا المفهوم. ولكي تتضح لنا هذه المفارقة علينا أن نقارن بين المفهومين. يقول في الأسرار:
واعلم أن كل واحد من وصْفَي المجاز والحقيقة إذا كان الموصوف به المفرد غير حده إذا كان موصوفًا به الجملة، وإنا نجدهما في المفرد: كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع — وإن شئت قلت: في مواضعه — وقوعًا لا تستند فيه إلى غيره فهي حقيقة … وأما المجاز، فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول فهو مجاز.
إن تفرقة عبد القاهر في هذا النص بين دلالة المواضعة — وضع واضع أو مواضعة — وبين دلالة المجاز تفرقة تحرص في الواقع على الربط بين الدلالتين. ويتجلى هذا الربط بين المُواضعة اللغوية — أو أي مُواضعة طارئة — وبين المجازية في اشتراط عبد القاهر أن يكون ثمة «ملاحظة» بين الدلالة المجازية والدلالة الحقيقية، أو لِنَقُل — بطريقة أخرى — إن عبد القاهر يحرص على ضرورة وجود «علاقة ما» — ملاحظة — بين الدلالتين. ولذلك قلنا إن عبد القاهر يعتمد هنا في مفهومه للمجاز على فكرة «النقل». صحيح أنه يفرق بين «النقل» المجازي وأنماط أخرى من «النقل» اللغوي الذي يعد بمثابة مُواضعة طارئة أو جديدة — كالنقل اللغوي في أسماء الأعلام أو في اللهجات المختلفة التي تنتمي إلى لسان واحد — إلا أن المجاز يظل يعتمد على «النقل» الذي يشترط فيه أن يكون غير لازم.
تتطور هذه الفكرة في الدلائل تطورًا لافتًا حتى يكاد عبد القاهر ينكر مفهوم «النقل» وينفيه عن المجاز حين يقول:
«وأما المجاز، فقد عول الناس في حده على حديث النقل، وأن كل لفظ نقل عن موضوعه فهو «مجاز» والكلام في ذلك يطول، وقد ذكرت ما هو الصحيح من ذلك في وضع آخر.»
والصحيح الذي يذكره عبد القاهر في «حده المجاز» ينفي اثنينية «اللغة» و«الكلام» من جهة، كما يطور مفهوم «النقل» من جهة أخرى. إن «المجاز» بأنواعه وأنماطه المختلفة لا يتصور وقوعه — كما سبق أن استشهدنا بعبد القاهر — في الكلم المفردة، ولا يتصور بعيدًا عن النظم والتركيب وعلاقات النحو. إن الكلم المفردة التي تتكون منها اللغة:
تجري مَجرى العلامات والسمات؛ ولا معنى للعلامة والسمة حتى يحتمل الشيء ما جعلت العلامة دليلًا عليه وخلافه.
ولكن هذه العلامات اللغوية كما تتميز بقابليتها للدخول في علاقات تركيبية، تتميز أيضًا بقابليتها للتحول الدلالي بحيث تتحول العلامة — في سياق بعينه — إلى علامة ذات دلالة مركبة، يتحول مدلولها إلى دالٍّ يشير إلى مدلول آخر. فإذا وصفت فتاة مثلًا في سياق معين بأنها نَئُوم الضحى، فإن الصفة «نَئُوم الضحى» تشير إلى مدلول حرفي هو أن الفتاة تنام حتى ترتفع الشمس في السماء. ولكن هذا المدلول الحرفي لا يعني في السياق شيئًا، ولذلك يتحول هذا المدلول إلى دالٍّ يشير إلى أن الفتاة مترفة ناعمة لها من يخدمها ويكفيها شئون نفسها وبيتها. وعبد القاهر وإن كان لا يتحدث عن «التحول الدلالي» كما نتحدث، فإنه يفرق بين «المعنى» و«معنى المعنى» وأحيانًا يفرق بين «المعاني الأُوَل» و«المعاني الثَّوانِي»:
«الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن «زيد» مثلًا بالخروج على الحقيقة، فقلت، «خرج زيد»، وبالانطلاق عن «عمرو»، فقلت: «عمرو منطلق»، وعلى هذا القياس. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل. أو لا ترى إنك إذا قلت: «نَئُوم الضحى»، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنًى ثانيًا، هو غرضك، كمعرفتك من «كثير رَمَاد القِدْر» أنه مِضْياف، ومن «طويل النجاد» أنه طويل القامة، ومن «نَئُوم الضحى» في المرأة أنها مُترَفة مخدومة لها من يكفيها أمرها … وإذا قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول: «المعنى» و«معنى المعنى»، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، و«بمعنى المعنى» أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسرتُ لك.»
إن العلاقة بين الدالِّ والمدلول — في العبارة المجازية — كما يفهمها عبد القاهر يمكن أن ترسم على النحو التالي:
-
العبارة اللغوية (دال) المعنى (المعنى الأول) مدلول.
-
المعنى الأول (دال) المعنى الثاني (معنى المعنى) مدلول.
وإذا كان عبد القاهر يرى أن الانتقال من «المعنى» إلى «معنى المعنى» — في حالة المتلقي — يقع على «سبيل الاستدلال»، فإن «الاستدلال» الذي يعنيه عبد القاهر هو دون شك الاستدلال العقلي الذي يجعل المتلقي طرفًا في عملية «صنع» النص عن طريق «التأويل». وليس هذا «الاستدلال» العقلي في عملية التأويل اللغوي في قراءة النص وفهمه إلا محصلة لربط الدلالة اللغوية بالدلالة العقلية في تراثنا:
«وإذا قد عرفت هذه الجملة، فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحدًا واحدًا، وتعرف محصولها وحقائقها، وأن تنظر أولًا إلى «الكناية»، وإذا نظرت إليها وجدتَ حقيقتها ومحصول أمرها أنها إثبات لمعنى، أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. ألا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم «هو كثير الرماد» وعرفت أنهم أرادوا أنه كثير القِرَى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك، فقلت: إنه كلام قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرَّماد، فليس إلا أنهم أرادوا أن يَدلُّوا بكثرة الرماد على أنه تُنْصَب له القدور الكثيرة، ويطبخ فيها للقِرَى والضيافة. وذلك لأنه إذا كثر الطبخ في القدور كثر إحراق الحطب تحتها، وإذا كثر إحراق الحطب كثر الرماد لا محالة. وهكذا السبيل في كل ما كان «كناية». فليس من لفظ الشعر عرفت أن ابن هرمة أراد بقوله:
ولا أبتاع إلا قريبة الأجل.
التمدح بأنه مِضْياف، ولكنك عرفته بالنظر اللطيف، وبأن علمت ألَّا معنى للتمدح بظاهر ما يدل عليه من قُربِ أجل ما يشتريه، فطلبت له تأويلًا، فعلمتَ أنه أراد أنه يشتري ما يشتريه للأضياف، فإذا اشترى شاة أو بعيرًا، كان قد اشترى ما قد دنا أجله؛ لأنه يذبح وينحر عن قريب. «وإذا قد عرفت هذا في «الكناية» «فالاستعارة» في هذه القضية. وذاك أن موضوعها على أنك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ، ولكن يعرفه من معنى اللفظ.»
إن عملية «الاستدلال» التي يقوم بها المتلقي «بالنظر اللطيف» وتؤدي به إلى «التأويل» أشبه بأن تكون عملية معاكسة لما يقوم به «الشاعر» أو «الكاتب» حين يعمد — في التعبير المجازي — إلى إثبات معنى فلا يختار الألفاظ الدالة عليه في اللغة، بل يختار ألفاظًا دالة على معنى آخر، وهذا المعنى الآخر من شأنه أن يكون تاليًا للمعنى الأول من الناحية الوجودية، فإذا أراد مثلًا أن يعبر عن صفة الطول في رجل فهو لا يلجأ للفظ الدال في اللغة على الطول، بل يعبر عن معنى آخر هو طول حمالة سيف الرجل — النجاد — وهو معنى تالٍ — وجوديًّا — لكون صاحب السيف طويلًا. وكذلك إن أراد الشاعر أن يعبر عن جمال جيد الفتاة فلا يأتي باللفظ الدال دلالة مباشرة على ذلك، بل يأتي بألفاظ دالة على معنى آخر — تالٍ وجوديًّا — وهذا المعنى الآخر يشير إلى «المعنى الأصلي» المراد، كأن يقول مثلًا «طويلة مهوى القرط» فيدل اللفظ — بدلالته المباشرة — على طول القرط الذي تتزين الفتاة به، وطول القرط تابع لكون جِيد الفتاة طويلًا. إن عملية الاختيار التي يقوم بها الشاعر أو الكاتب للتعبير المجازي تتم — بلغة عبد القاهر — على النحو التالي:
«والمراد بالكناية ها هنا أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة، ولكن يجيء إلى معنى هو تَالِيه وردفه في الوجود فيومئ به إليه، ويجعله دليلًا عليه. مثال ذلك قولهم: «هو طويل النجاد» يريدون طويل القامة، و«كثير رماد القِدْر» يَعْنون كثير القِرى، وفي المرأة: «نَئُوم الضحى»، والمراد أنها مُتْرَفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها، فقد أرادوا في هذا كله، كما ترى، معنى، ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به، ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يردفه في الوجود، وأن يكون إذا كان. أفلا ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد؟ وإذا كَثُر القرى كَثُر رماد القدر؟ وإذا كانت المرأة مترفة لها من يكفيها أمرها، ردف ذلك أن تنام إلى الضحى.»
إن هذا الحديث عن «المعنى» الذي يريده الشاعر، وعن «المعنى التالي وجوديًّا» الذي يأتي الشاعر باللفظ الدالِّ عليه، حديث يؤكد وعي عبد القاهر بعملية «التداخل الدلالي» أو «السمطقة» في الدلالة اللغوية، حيث يشير اللفظ — الدالُّ اللغوي — إلى مدلول يكون في ذهن المتلقي صورة — شبه أيقونية — تتحول بدورها إلى دالٍّ — غير لغوي في هذه الحالة — يشير إلى مدلول الشاعر، هذا المدلول هو «المعنى الأصلي» في تعبير الشاعر، وهو «المعنى الثاني» أو «معنى المعنى» من زاوية المتلقي.
وهذا الحديث يؤكد — من ناحية أخرى — ارتباط الدلالة اللغوية بغيرها من أنواع الدلالات «الوجودية». ويؤكد في نفس الوقت ارتباطها بالإطار المعرفي العام الذي انطلق منه الفكر التراثي في النظر إلى الدلالة اللغوية. وهذا يؤكد أن فكر عبد القاهر اللغوي والبلاغي — وإن تميز في إنجازاته التفصيلية — ينتمي في أصوله للتراث بمعناه الواسع الذي حاولنا أن نناقش بعض جوانبه في هذه الدراسة الاستكشافية. هذا التراث وإن تَعدَّدتْ مداخله وطرائق التفكير فيه يظل تراثًا ذا ملامح عامة على مستوى الفكر اللغوي والبلاغي، أو على مستوى النظر الفلسفي والكلامي، أو على مستوى التجربة الصوفية.
ولا شك أن ثمة جوانب أخرى أصيلة في التراث يمكن أن تدخل في إطار دراسة «العلامات»، جوانب أكثر اتساعًا وعمقًا من ذلك الجانب الذي تَعرَّضْنا له في دراستنا هذه، وحسبنا أن نشير على سبيل الحدس والتخمين إلى كتب تفسير الأحلام، التي تتعامل مع الحلم، بوصفه علامة دالة على مخزون ثقافي يمكن لنا أن نعيد — من خلالها — اكتشاف فهم القدماء لما نطلق عليه «آليات الثقافة» و«تداخل أنظمتها الدلالية».
ولعلنا في النهاية نكون قد لفتنا الأنظار — أنظار الباحثين والدارسين — إلى أهمية هذا العلم — علم العلامات — فيما يمكن أن يفتحه لنا من مداخل تمكننا من إعادة قراءة تراثنا بكل جوانبه قراءة جديدة، فنعيد اكتشاف ذاتنا الثقافية من خلاله، ونصحح في نفس الوقت علاقتنا بالتراث الغربي وننفي عنها التبعية. هذا حسبنا، وبالله التوفيق.