وإذا كانت هذه الدراسات الحديثة تكاد تجمع على أن مفهوم المجاز
قد نشأ ونضج من خلال سعي علماء الكلام المسلمين — خاصة المعتزلة —
لتأويل آيات القرآن تأويلًا يتفق مع أصولهم العقلية، فإنها لا تكاد
تتجاوز ذلك إلى الدخول في طبيعة التصورات والمفاهيم الكلية
المتعددة التي تمثل البطانة الحقيقية التي تَشكَّل على أساسها
مفهوم المجاز في كتب البلاغيين، خاصة المتأخرين منهم؛ مثل: عبد
القاهر الجرجاني، والسكاكي، والخطيب القزويني. والدخول إلى مثل هذه
التصورات اللغوية والدينية يمكن أن يضيء لنا كثيرًا من الجوانب
التي نلمح أحيانا آثارها السطحية وننتقدها دون أن نكون قادرين على
تحليل جذورها وأسبابها العميقة.
ومن البديهي أن أي تَصوُّر لمفهوم المجاز لا بد أن يستند إلى
تصور ما — مَهْما كان غموضه — لطبيعة اللغة ووظيفتها. ولا بد أن
يستند هذا التصور — بدوره — إلى تَصوُّر أعم للدور المعرفي المنوط
بالدلالة اللغوية والذي يُمَيِّزها عن غيرها من أنواع الدلالات،
ولا ينفصل مثل هذا التصور الأخير عن تصور كلي شامل للعالَم والله
والإنسان. وهذه التصورات كلها تمثل انعكاسًا ديناميًّا يتوازى مع
موقف الإنسان أو الجماعة من الواقع بشروطه الموضوعية. وعلى ذلك يجب
أن تفهم التصورات ذات الطبيعة النوعية في ضوء علاقتها بالمفاهيم
والأطر الفكرية التي أفرزتها. ولم يكن مفهوم المجاز بما ارتبط به
من معضلة تأويل النص القرآني بمعزل عن مثل هذه التصورات الكلية،
وإن كنا نحتاج في فهمها إلى الربط بين أفكار ورؤى وردَت مُبدَّدة
متناثرة فيما وصل إلينا من آراء المتكلمين. وذلك كله يؤكد الحاجة
إلى منهج تفسيري مغاير للمنهج النقدي التقييمي.
ولا تزعم هذه الدراسة لنفسها إمكانية التفسير الشامل الدقيق لكل
جوانب المفهوم النوعي الذي نتعرض له وهو مفهوم المجاز، بل بحسبها
الكشف عن الأسس الدينية والعقائدية وما يسندها من تصورات فلسفية عن
طبيعة المعرفة ووسائلها، وطبيعة اللغة ووظيفتها، وتأثير هذه
التصورات في مفهوم المجاز بين الفِرَق الرئيسية في علم الكلام خاصة
المعتزلة والأشاعرة وأهل السُّنة أو الظاهرية. أما الربط بين هذه
التصورات وما تعكسه من مواقف من الواقع فيكفي الإشارة دون التفصيل
الذي يحتاج لدراسات مستقلة ذات طبيعة خاصة.
١
يمكن التمييز فيما يرتبط بقضية المجاز بين ثلاثة اتجاهات
أساسية: الاتجاه الأول هو اتجاه المعتزلة الذين اتخذوا من
المجاز سلاحًا لتأويل النصوص التي لا تتفق مع أصولهم الفكرية.
والاتجاه الثاني هو اتجاه الظاهرية الذين وقفوا بشِدَّة وحسم
ضد أي فَهْم للنص يتجاوز ظاهره اللغوي، ورفضوا تأويل
المُبهَمات في النص القرآني، واعتبروها مما استأثر الله بعلمه.
وقد ذهب هؤلاء إلى مدى بعيد في إنكار وجود المجاز لا في القرآن
فحسب، بل في اللغة كلها. أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه
الأشاعرة الذين حاولوا أن يقفوا موقفًا وسطًا بين المُغالِين
في استخدام المجاز لتأويل النص وبين الرافضين لوجود
المجاز.
ويرتد هذا الخلاف حول وجود المجاز، وبالتالي في حدود التأويل
ومداه، إلى تصور كل فريق منهم لأصل اللغة ومصدرها فذهب
المعتزلة إلى أن اللغة اصطلاح بشري محض. بينما ذهب الظاهرية
إلى أن اللغة توقيف من الله عَلَّمَها آدمَ وانتقلت إلى بَنِيه
من بعده. وحاول الفريق الثالث أيضًا أن يتوسط بينهما ويحل
التعارض بين التوقيف والاصطلاح. وقد ارتبطت قضية اللغة وأصلها
عند كل فريق بتصوره لأصل المعرفة هل هي من الله أم من العقل؟
أم أن للعقل حدوده ومجاله وللوحي حدوده ومجاله؟ ومن المنطقي أن
يذهب المعتزلة في المعرفة إلى أسبقية العقل على النَّقْل،
بينما يؤمن الظاهرية أن الوحي هو أساس المعرفة، ويحاول
الأشاعرة التوفيق بين العقل والوحي كما سنعرض له
بالتفصيل.
ولا شك أن الخلاف حول المجاز ووجوده في القرآن واللغة لم
يَقْتَصِر على علماء الكلام والفِرَق المختلفة، بل ساهَم فيه
كثير من علماء اللغة والبلاغة والنُّقَّاد. ومع ذلك فإن الأصول
الكلامية كان لها تأثير ضخم لا يمكن تَجاهُله في كتب البلاغة
المتخصصة. يطالعنا هذا التأثير في دفاع عبد القاهر عن المجاز
وعن وجوده في القرآن واللغة. ومن الواضح أنه كان يرد على كل من
الظاهرية والمعتزلة حين يقول: «من قدح في المَجاز وهَمَّ أن
يصفه بغير الصدق فقد خبط خبطًا عظيما وتهدف لما لا يخفى. ولو
لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به حتى تحصل ضروبه
وتُضْبَط أقسامه إلا السلامة من مثل هذه القالة، والخلاص ممَّا
نحا نحو هذه الشُّبهة، لكان من حق العاقل أن يتوفر عليه، ويصرف
العناية إليه، فكيف وبطالِب الدين حاجة ماسَّة إليه من جهات
يطول عدها، وللشيطان من جانب الجهل به مداخل خفية يأتيهم منها
فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنوا
أنهم يهتدون؟ وقد اقتسمه البلاء فيه من جانِبَي الإفراط
والتفريط، فمن مَغرُور مُغرًى بنفيه دفعه، والبراءة منه جملة،
يشمئز من ذكره، وينبو عن اسمه، يرى أن لزوم الظاهر فرض لازم،
وضرب الخيام حولها حتم واجب، وآخَر يغلو فيه ويفرط، ويتجاوز
حده ويخبط، فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويسوم نفسه التعمق
في التأويل ولا سبب يدعو إليه».
٢
وإذا كان عبد القاهر في هذا النص يتهم الظاهرية بالتفريط؛
لأنهم أنكروا المجاز، ويتهم المعتزلة بالإفراط؛ لأنهم تجاوزوا
في تأويل النص القرآني، فإن مثل هذه النظرة إلى المَجاز وحدود
التأويل تَرتدُّ إلى مفكر سُنِّي هو ابن قتيبة (ت.٢٧٦ﻫ). ويكاد
ابن قتيبة في رَدِّه على منكري المجاز في القرآن واللغة يصل
إلى أن المجاز ضرورة لغوية حيث يقول: «وأما الطاعنون على
القرآن بالمجاز فإنهم زعموا أنه كذب لأن الجدار لا يريد
والقرية لا تسأل. وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلها على سوء نظرهم
وقلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبًا، وكل فعل ينسب إلى غير
الحيوان باطلًا كان أكثر كلامنا فاسدًا، لأننا نقول: نبت
البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر،
ونقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا، والفعل لم يَكُن
وإنما كون. ونقول: كان الله. وكان بمعنى حدث والله — عز وجل —
قبل كل شيء بلا غاية، لم يحدث: فيكون بعد أن لم يكن … ولو قلنا
للمنكر لقوله:
جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ: كيف كنتَ أنت قائلًا في جدار رأيتَه
على شفا انهيار: رأيت جدارا ماذا؟ لم يجد بُدًّا من أن يقول:
جدارًا يهم أن ينقضَّ أو يكاد أن ينقض، أو يقارب أن ينقض.
وأيًّا ما قال فقد جعله فاعلًا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى
في شيء من لغات العجم، إلا بمثل هذه الالفاظ.»
٣
ويَفْتُر مثل هذا الحماس للمجاز عند ابن قتيبة حين يَتعرَّض
للرد على تأويلات المعتزلة خاصة ما يتصل منها بتأويل كلام
السموات والأرض، وكلام جهنم، وشهادة الجوارح على ذنوب الإنسان.
٤ ويزداد إنكار ابن قتيبة للمجاز حين يتعرض للرد على
تأويل المعتزلة للآيات المتصلة بقضية العدل الإلهي وحرية
الإنسان وقدرته على الفعل.
٥ ومعنى. ذلك أن كُلًّا من ابن قتيبة، وعبد القاهر
الجرجاني يؤكدان وجود المجاز في اللغة وفي القرآن، ويريان أن
إنكار وجود المجاز في القرآن بدعوى أنه قائم على الكذب يؤدي
إلى الضلال وإفساد العقائد. ولكنهما — من جانب آخر — لا يتفقان
مع دعوى المعتزلة بمجازية كثير من العبارات القرآنية خاصة تلك
الآيات التي ترتبط بالقضايا الخلافية بين المعتزلة
والأشاعرة.
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن خلاف المعتزلة والأشاعرة حول
قضية التوحيد، أو ما عُرِف بقضية الصفات الإلهية، وهل هي عين
الذات أم أنها زائدة على الذات؟ كان خلافًا شكليًّا حله
الباقلاني (٤٠٣ﻫ) — متأثرًا بأبي هاشم الجبائي (ت.٣٠ﻫ) — وإذا
كان أبو هاشم قد ذهب إلى أن الله «عالم لذاته، بمعنى أنه ذو
حالة هي صفة معلومة وراء كونه موجودًا، وإنما تُعْلَم الصفة
على الذات لا بانفرادها.»
٦ فقد ذهب الباقلاني إلى القول بأن «الحال الذي
أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة خصوصًا إذا أثبت حالة أوجبَت
تلك الصفات.»
٧ وهكذا تم التقارب بين المعتزلة والأشاعرة فيما
يتصل بتأويل آيات الصفات على أساس من القول بأنها تعبيرات
مَجازية عن حقائق إلهية.
وفي ظل هذا التقارب يمكن لنا أن نفهم الأساس الديني الذي
يطرحه عبد القاهر لتفرقته بين نوعين من الاستعارة هما:
الاستعارة التحقيقية أو التصريحية كما سيطلق عليها بعد ذلك،
والاستعارة التخييلية أو المَكنية. يقوم النوع الأول من
الاستعارة على المُشابهة الواضحة الصريحة، بينما يؤخذ الاسم في
النوع الثاني عن حقيقته ويوضع موضعًا لا يبين فيه شيء يشار
إليه، فيقال هذا هو المراد بالاسم، والذي استعير له وجعل خليفة
لاسمه الأصلي ونائبًا منابه.»
٨ بمعنى أن الاسم المستعار في هذه الحالة لا يشير
إلى شيء ثابت معلوم كما هو الحال في النوع الأول. وإذا كانت
كلمة «الأسد» في قولنا: «رأيت أسدًا» تعني رجلًا شجاعًا، فإن
كلمة «اليد» في قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
لا تشير إلى معلوم مُشار إليه كما تشير كلمة «أسد» في المثال
السابق، وهذه التفرقة بين هذين النوعين في الاستعارة أمر
يُؤدِّي إغفاله إلى الوقوع في التشبيه على مستوى العقيدة
«واعلم أن إغفال هذا الأصل الذي عرَّفْتُك من أن الاستعارة لا
تكون على الوجه الثاني كما تكون على الأول مما يدعو إلى مثل
هذا التعمُّق وأنه نفسه قد يصير سببًا إلى أن يقع قوم في
التشبيه، وذلك أنهم إذا وضَعوا في أنفسهم أن كل اسم يُستعار
فلا بد أن يكون هناك شيء يمكن الإشارة إليه يتناوله في حال
المَجاز كما يتناوَل مُسمَّاه في حال الحقيقة، ثم نَظَروا في
مخرج قوله تعالى
وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِيوَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنَا فلم يجدوا للفظة العين ما يتناوله
على حدِّ تناوُل النور مثلًا للهدى والبيان، ارتَبَكُوا
وحامُوا حول الظاهر، وحملوا أنفسهم على لزومه حتى يُفْضي بهم
إلى الضلال البعيد وارتكاب ما يقدح في التوحيد.»
٩
ومن الواضح أن هذه التَّفرِقة بين نوعين من الاستعارة تستهدف
حلَّ مُعضِلَة الصفات الإلهية حلًّا يتباعد بها عن الوقوع في
التشبيه، كما أنها تَستهدف الرد على الظاهرية الذين يسلمون
بظواهر آيات الصفات وينكرون وقوع المجاز فيها ومن ثَمَّ
تأويلها. ومن هذه الزاوية يتفق الأشاعرة مع المعتزلة، ولكنهم
يختلفون معهم في تأويل آيات خلق الأفعال وآيات الوعيد. ومن
الضروري لكي نفهم موقف الأشاعرة من المَجاز والتأويل أن
نَتعرَّض لطرفي النقيض اللذين تَوسَّط بينهما الأشاعرة حتى
يمكن فَهْم المؤثرات التي حَدَّدتْ للمجاز دروبه وأبعاده.
ونعني بطرفي النقيض المعتزلة والظاهرية.
٢
ارتبط نفي المجاز — كما سبقت الإشارة — بوهم مؤداه أن المجاز
قَرين الكذب، «وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به
الحقيقة فيستعير، وذلك مُحال على الله تعالى.»
١٠ ولذلك يجب أن يُنزَّه القرآن عن وقوع المجاز فيه.
وليس معنى ذلك أن المجاز واقع في اللغة منفي عن القرآن، وإلا
أدَّى مثل هذا التصور إلى نقض أحد المُسلَّمات الأساسية وهي أن
القرآن نزل على لغة العرب وعلى طُرُقِهم في التعبير عن أغراضهم
«وهي صفة يؤيدها القرآن الكريم نفسه، كما يُؤيِّدها الكثير من
تصريحات اللغويين.»
١١ ولذلك يذهب ابن قيم الجوزية (ت.٧٥١ﻫ) إلى إنكار
تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز، ويرى أن الذين قَسَّموا الكلام
إلى حقيقة ومَجاز لا يستندون إلى أساس عقلي أو شرعي أو لغوي
«فإن العقل لا مدخل له في دلالة اللفظ وتخصيصه بالمعنى المدلول
عليه، حقيقةً كان أو مَجازًا؛ فإن دلالة اللفظ على معناه —
وليست كدلالة الانكسار على الكسر، والانفعال على الفعل — لو
كانت عقلية لما اختلفَتْ باختلاف الأمم، ولَمَا جَهِل أحدٌ
معنى لفظ. والشرع لم يَرِد بهذا التقسيم ولا دلَّ عليه ولا
أشار إليه. وأهل اللغة لم يُصرِّح أحد بأن العرب قسمت لغاتها
إلى حقيقة ومجاز، ولا وُجِد في كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة
ولا بواسطة ذلك.»
١٢
وإذا كان تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لا يستند إلى العقل
أو الشرع أو اللغة، فهو — فيما يرى ابن القيم — محضُ اصطلاح
حادثٍ أحدثه وقال به بعض المتأخرين «وكان مَنشؤه من جهة
المعتزلة والجهمية ومَن سلك طريقهم من المتكلمين.»
١٣ وفي هذا ما يكفي عند ابن القيم لعدم الاعتداد بمثل
هذا التقسيم واعتباره من قَبِيل البدع الطارئة التي لا
تَستَنِد إلى معقول أو منقول. وعلى هذا الأساس يهاجم ابن القيم
هذا التقسيم كما يهاجم ما يسنده من تصورات سواء ما يرتبط منها
بطبيعة اللغة وأصلها، أو ما يرتبط منها بطبيعة المعرفة
الإنسانية ودَوْر العقل فيها.
إن القول بالمجاز يفترض بالضرورة نوعًا من التطور التاريخي
في تَطوُّر دلالة اللغة، كما يفترض أسبقية وأولية للدلالة التي
تُسمَّى «حقيقة» على الدلالة التي تسمى «مجازًا»، كما يفترض —
أيضًا — علاقة ما بين الدلالة «الحقيقية» والدلالة «المجازية».
وهذه كلها افتراضات أو دعاوى لا يسلم ابن القيم بصحتها، فهو
ينكر أولًا البعد الاصطلاحي للغة، ويرى أن القول به «مُجاهرة
بالكذب وقول بلا علم، والذي يعرفه الناس استعمال هذه الالفاظ
في معانيها المفهومة منها.»
١٤ ولا يعقل عنده «أن قومًا من العقلاء اجتمعوا
واصْطَلَحوا على أن يُسمُّوا هذا بكذا وهذا بكذا، ثم استعملوا
تلك الألفاظ في تلك المعاني، ثم بَعْد ذلك اجتمعوا وتواطَئُوا
على أن يستعملوا تلك الألفاظ بعينها في معانٍ أُخَر غير
المعاني الأُوَل لعلاقة بينها وبينها، وقالوا هذه الألفاظ
حقيقة في تلك المعاني مَجاز في هذه وهذه.»
١٥
ولا يكتفي ابن القيم برفض الأساس الاصطلاحي للغة، بل ينكر
دعوى أسبقية الحقيقة على المَجاز وينظر إلى آنية الاستخدام
اللغوي، فألفاظ اللغة لا يتصور فيها أسبقية وضع على استعمال،
أو أسبقية حقيقة على مجاز. وادِّعاء مُثْبِتي المجاز أن
التقسيم إلى حقيقة ومجاز في ألفاظ اللغة إنما يَصِح بحسب
الاستعمال ينكره ابن القيم على أساس أن ألفاظ اللغة لا تعرى عن
الاستعمال. وما دامت الألفاظ قد اسْتُعْمِلَت لتدلَّ على معانٍ
مختلفة، فدعوى الحقيقة والمَجاز فيها لا تقوم على دليل «ولا
يعرف تجرد هذه الألفاظ عن الاستعمال بل تجردها عن الاستعمال
مُحال، وهو كتجرد الحركة عن المُتحَرِّك. نَعَم إنما تَتجرَّد
في الذهن وهي حينئذٍ ليست ألفاظا، وإنما هي تقدر ألفاظًا لا
حكم لها.»
١٦ وما دامت ألفاظ اللغة مرتبطة باستعمالها، وما دام
الاستعمال قائمًا فيما أطلق عليه «حقيقة» قيامه فيما يطلق عليه
«مجاز» فإن التفرقة بين «الحقيقة» و«المجاز» من حيث الاستعمال
مَحْض تَحكُّم باردٍ لا أصل له، إن أهل اللغة قد تَكلَّموا
بهذه الألفاظ في هذه المعاني المتعددة، وافتراض النقل في
الألفاظ أو الاستعارة افتراض فاسد؛ لأن القائل بذلك «قد ادعى
أن المتكلم وضَع هذه اللفظة في غير موضعها ولا سيما في
الاستعارة … وإن قُلْتُم إنما كانت أصلًا مستعارًا منها لأن
العرب تَكلَّمَت بها واستعمَلَتْها في خطابها، قيل لكم فهذه
العلة بعينها موجودة في الكلمة التي ادَّعَيْتُم أنها مُستعارة
وأنها مجاز، والعرب تَكلَّمتْ بهذا وهذا، فإما أن تكونَا
مُستعارَتين أو تكونَا أصليتين، وإما أن تجعل إحداهما أصلًا
للأخرى ومُعِيرَة لها الاستعمال فهذا تَحكُّم بارد.»
١٧
ومن الواضح أن ابن القيم يُوحِّد بين مستويات الاستعمال
اللغوي: مستوى اللغة العادية، ومستوى اللغة الأدبية، وينظر إلى
الاستعمال اللغوي من خلال منظور آنِي. وهو يختلف — من هذه
الزاوية — عن التيار العام للبحث البلاغي الذي قام فيما يرى
بعض الباحثين على أساس من التفرقة بين مستويين في اللغة، مستوى
اصطلاحي سابق جمعي، ومستوى مُنحَرِف لاحق فردي.
١٨ وقد كان يمكن لمثل هذه النظرة أن تكون مُتمَيِّزة
في تراثنا لو كان القائلون بها يرفضون مفهوم الاصطلاح من أساسه
على أساس أنه افتراض تَحكُّمي لا يمكن إثباته تاريخيًّا، أو
على أساس أن الاستعمال الآني للغة هو الأهم، وهي نتائج يَصِل
إليها ابن القيم فعلًا دون أن يستطيع أن يُبَلْوِر من خلالها
مفاهيم أكثر استنارة عن طبيعة اللغة ووظيفتها. لقد كانت
المُعْضِلة برُمَّتِها تبحث في إطار ديني خالص، وحين رفض
الظاهرية اصطلاحية اللغة كانوا يرفضون الاصطلاحية الاجتماعية
لحساب التوقيف الإلهي.
إن اللغة في تصور أصحاب «التوقيف» ليست نتاجًا بشريًّا،
ولكنها هبة إلهية وهبها الله للبشر لكي تكتمل لهم الوسائل التي
يستطيعون بها أداء التكاليف الشرعية والدينية. ولقد كان الإطار
الذي دار فيه البحث في أصل اللغة حول مشكلة «الكلام الإلهي» هل
هو صفة قديمة من صفات الذات الإلهية؟ أم أنه صفة من صفات الفعل
التي تتعلق بوجود العالَم والبشر؟ وقد أثارت هذه القضية فتنة
مشهورة في تاريخ الإسلام اضْطُهِد فيها أحمد بن حنبل وسُجِن
وعُذِّب لأنه رفض أن يصف «القرآن» — كلام الله — بالحدوث. وقد
أنكر الظاهرية بِشِدَّة حدوث الكلام الإلهي واعتبروا أن الكلام
صفة إلهية قديمة كسائر الصفات، وأنه «قد عُلِم بالاضطرار من
دين الرسول
ﷺ أن الله تعالى تَكلَّم حقيقة، وأنه تكلم
بالكُتُب التي أنزلها على رسله كالتوراة والإنجيل والقرآن
وغيرها، وكلامه لا ابتداء له ولا انتهاء، فهذه الألفاظ التي
تكلم الله بها، وفهم عباده مراده منها لم يضعها سبحانه لمعانٍ
ثم نقلها في كلامه إلا على أصول الجهمية والمُعَطِّلة الذين
يقولون كلامَه مخلوق من جملة المخلوقات.»
١٩
وإذا كان الله متكلمًا منذ القِدَم فهو الذي عَلَّم الإنسان
اللغة، وعلَّمَه البيان، وعلَّم البشر التعبير عن المعاني بتلك
الألفاظ. ولا شك أن أصحاب التوقيف قد استَندُوا إلى آيات كثيرة
في القرآن لا مجال لمناقشتها هنا
٢٠ والذي يهمنا التأكيد عليه أن تصورهم لأصل اللغة
ومَنْشئها الإلهي يتسق مع تصورهم العام لأصل المعرفة وتقديمهم
للنقل على العقل. ويصل الأمر بابن القيم لاعتبار أن الأصل الذي
اعتمد عليه المعتزلة: تقديمهم العقل على النقل يرجع لمعصية
إبليس الأولى حين استخدم عقله في إقامة قياس لتفضيل نفسه على
آدم بسبب أنه مخلوق من نارٍ وآدم مخلوق من طين.
٢١ وبذلك يُعَد الاستناد إلى العقل في معرفة الشريعة
وفهمها خطيئة كبرى لأنه بمثابة استخدام أداة قاصرة، والواجب هو
التسليم بما جاءت به الشريعة على مراد الله دون تأويل.
٣
يمثل المعتزلة الفكر النقيض والمُناهض لفكر الظاهرية على
جميع المستويات بدءًا من مُعضِلة المعرفة وانتهاء إلى إثبات
المجاز في اللغة والقرآن واستخدامه أداة لرفع التناقض الظاهري
بين الوحي والعقل. ولقد نشأَ الفكر الاعتزالي في مراحله الأولى
لمواجهة مقولتين أساسيتين هما مقولَتَا «الجبر» و«الإرجاء»
وهما مقولتان تَعكسان أبعادًا سياسية لا مجال لمناقشتها هنا
٢٢ وقد كان التصور العام الذي انتهى إليه المعتزلة
تصورًا يقوم على الفصل بين الله والإنسان على مستوى الصفات
الذاتية والأفعال معًا، وذلك في مواجهة التصورات النقيضة التي
ترى الله حاكمًا مُستبِدًّا لا يُسْأَل عمَّا يفعل، ولا يصح
لنا أن نَقِيس أفعاله على أفعالنا.
وإذا كان خصوم المعتزلة قد قدَّمُوا النقل على العقل، فقد
قدَّم المعتزلة العقل على النقل. وإذا كانت المعرفة عند
الظاهرية تأخذُ مسارًا هابطًا من الله للإنسان تتمثل في علاقة
المرسل -المُستقبِل، فإن المعرفة عند المعتزلة تَسير في خطٍّ
صاعدٍ بدءًا من العقل البشري تأمُّلًا في ذات الإنسان والكون
من حوله ووصولًا إلى معرفة الله بصفاته من التوحيد والعدل.
والأساس الذي اعتمده المُعتَزِلة في المعرفة هو «قياس الغائب
على الشاهد»، وبناء على ذلك انقسمت الأدلة العقلية التي يصل
بها العقل إلى المعرفة إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول هو ما
يدلُّ بالصحة والجواب كدلالة الفعل على الفاعل، والنوع الثاني
ما يدل بالدواعي والاختيار، وذلك مثل أنَّ نستدل من حال شخصٍ
ما أنه لا يصح أن يكذب. والنوع الأول من هذه الأدلة هو الذي
يُوصِّلُنا إلى معرفة توحيد الله ووجوده. ويُوصِّلُنا النوع
الثاني إلى معرفة عدله. والنوع الثالث من الأدلة هو ما يدل
بالمواضَعة والقصد، وهذا النوع هو الذي يُؤدِّي بنا إلى معرفة
أوامر الله ونواهيه؛ أي يؤدي إلى معرفة الشرائع والنبوات.
٢٣
إن غاية المعرفة عند المعتزلة وغيرهم هي الوصول إلى معرفة
الله بكل صفاته، ثم الوصول إلى معرفة أوامره ونواهيه حتى يمكن
للإنسان أداء التكاليف الشرعية التي تؤدي به إلى الثواب
وتُنجِّيه من العقاب. والفارق بين المعتزلة وغيرهم هو وسيلة
المعرفة التي هي العقل الذي يَقِيس ما غاب عنه على ما يُشاهده
من العالم الحسي المدرَك. وأول حركة العقل الاستدلالية تبدأ
بالبديهيات، وأهَمُّها أن الفعل لا بد له من فاعل. ويرى
الإنسان أن العالَم حولنا مُكوَّن من أشياء نستطيع فعلها،
وأشياء لا نقدر على فعلها. وهذه الأشياء التي لا نقدر على
فعلها لا بُدَّ لها من فاعل مُغايِر لنا. وإذا كانت هذه
الأجسام لا تَخلو من الأعراض وهي الاجتماع والافتراق والحركة
والسكون، فهذا يدل على أنها مُحدَثة، ويدل بالوجوب على أن
فاعلها لا بد أن يكون قديمًا. وهكذا ينتهي العقل إلى إثبات
موجود قديم قادر عالم حي.
٢٤
وإذا وصلنا إلى معرفة الله بصفاته وتوحيده وأنه ليس جسمًا
ولا عرَضًا «ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود
والهُبوط والارتفاع والانحدار والانتقال من مكان إلى مكان، ولا
تَجوز عليه الزيادة والنقصان.»
٢٥ أمكن لنا أن نعرف ما يختاره من الأفعال وما لا يصح
أن يختاره. وما دمنا عَلِمْنا أنه عالم، فلا بد أنه عالِم بقبح
القبيح ومُستغْنٍ عنه وعالم باستغنائه عن فعله. ومن شأن هذا
العلم أن يكون داعيًا له إلى اختيار الأفعال الحسنة دون
القبيحة. وينتهي بنا هذا النوع من الأدلة إلى العلم «بكونه
عدلًا حكيمًا، لا يفعل القبيح ولا يُخِلُّ بالواجب، ولا يأمر
بالقبيح، ولا ينهي عن الحسن، وأن أفعاله كلها حسنة.»
٢٦
وإذا وصلنا إلى معرفة توحيد الله وعدله أمكن لنا أن نعرف
كلامه وأن نفهم وحيه. ولا يمكن في نظر المعتزلة الاستدلال
بالكلام وحده دون معرفة قصد المتكلم؛ لأن المُتكلِّم قد
يَتعمَّد الكذب، فكلامه وحده لا يمكن الاستدلال به بمعنى
الوصول إلى صدق مُحتواه «لأن الخبر إنما يدل على المخبر عنه من
حيث قصد به الإخبار عنه ومن حيث كان فاعله على صفة ولا يدل بجنسه.»
٢٧ إن المعضلة التي يطرحها المعتزلة هنا هي معضلة
الصدق والكذب في الكلام بصفة عامة، وفي الوحي بصفة خاصة. وعلى
ذلك فإن معرفة قَصْد المتكلم تُعَد معرفة أساسية حتى يقع كلامه
دلالة على صدق ما يخبر عنه. ويشترط المعتزلة لوقوع الكلام
دلالة — إلى جانب معرفة قصد المتكلم — المواضعة السابقة. وهذا
يقودنا إلى مناقشة قضية المُواضَعة من وجهة نظر
المعتزلة.
ولقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى أن قضية المواضعة ترتد إلى
الخلاف حول قِدَم الكلام الإلهي وحدوثه. وقد ذهب المعتزلة إلى
أن الكلام صفة من صفات الفِعْل لا من صفات الذات. والفارق بين
صفات الفعل وصفات الذات، أن صفات الفعل تتعلق بوجود العالَم.
ولا يمكن من وجهة نظرهم أن يكون اللهُ متكلِّمًا منذ الأزل،
وإلا كان كلامه عبثًا ينزه الله عنه. وإذا كان الكلام الإلهي
صفة من صفات الفعل، فلا بد أن تسبقه مواضَعة بين البشر، أو بين
الملائكة حتى يصح أن يُخاطِبَهم بما يفهمون وبما تواضَعوا
عليه. وتُعَدُّ فكرة الاصطلاح في اللغة — عند المعتزلة —
ضرورية من جانِب آخَر لنفي مُشابَهة الله للبشر. فالمُواضَعة
تستلزم الإشارة الحسية، بمعنى أن المواضعة بين شخصين مثلًا
تستلزم أن يشير أحدهما للشيء وينطق الاسم عدة مرات، وذلك «على
حسب ما نجد الطفل ينشأ عليه فيتعلم لغة والديه، إذا تَكرَّرَت
منهما الإشارات.»
٢٨ هذه الإشارة المادية لا تجوز على الله؛ لأنه ليس
جسمًا. وهكذا ينتهي المعتزلة إلى أن المواضعة على اللغات لا بد
ألا تسبق كلام الله حتى يقع مفيدًا، ولا يجوز أن يكون الله هو
البادئ بالمواضعة، وإن كان لا يمتنع عندهم أن يبدأ الله مواضعة
تالية على المواضعة الأولى؛ لأن هذه المواضعة التالية لا
تستلزم الإشارة الحسية، ويكفي فيها النَّقْل بالقول دون
الإشارة.
وتقودنا فكرة المواضعة التالية، أو نقل الاسم من معنى إلى
معنى، إلى مفهوم المجاز عند المعتزلة ويمكن القول إن مفهوم
المجاز قد تبلور من خلال جهود اللغويين والمفسرين لفهم آيات
القرآن وجعلها مفهومة لغير العرب من خلال الرد على المطاعن
التي وجَّهَها غير المسلمين للنص القرآني. وفي هذا المجال لا
يمكن تجاهُل كُتُب المعاني والإعراب والمجاز، وأهمها — من
زاوية التأويل — كتابَا «معاني القرآن» للفراء، و«مجاز القرآن»
لأبي عبيدة معمر بن المثنى الذي يُعَد أول من استخدم كلمة
«مجاز» عنوانًا لكتابه. وقد تَعرَّضْنا في غير هذا الموضع
لجهود هذين المفكرين وحلَّلْنا إنجاز كل منهما وإسهامه في
بلورة مفهوم المجاز.
٢٩
يُعدُّ الجاحظ (ت.٢٥٥ﻫ) أول مَن بلور لنا مفهوم المجاز
مستفيدًا دون شك من جهود سابقيه، وإن كانت المصطلحات عنده ما
تزال متداخِلَة يشوبها شيء من الغموض، فهو يستخدم مصطلحات
المجاز والمَثَل والاشتقاق للدلالة على مَعنًى واحد، وهو
استخدام اللفظ في غير ما وُضِع له، وكذلك يَستخدم مصطلحات
الكناية والتشبيه، يقول: «وللعرب إقدام على الكلام ثِقَة بفهم
أصحابهم عنهم … وكما جوَّزوا لقولهم أكَل وإنما عض، وأكل وإنما
أفنى، وأكَل وإنما أحاله وأكل وإنما أفنى عَيْنَه، جوَّزُوا أن
يقولوا: ذقت ما ليس بطعم ثم قالوا طَعمت لغير الطعام … وقد
يقولون ذلك أيضًا على المثل والاشتقاق وعلى التشبيه.»
٣٠ ويشترط الجاحظ في نقل اللفظ عن معناه إلى مَعنًى
آخَر شرطين؛ الأول: أن يكون بين المعنى الأول المنقول عنه
اللفظ والمعنى الثاني المنقول إليه علاقة ما، والشرط الثاني
أنه يعتبر النقل من حق الجماعة لا من حق الفرد. وقد استثنى
الجاحظ بالطبع من هذا الشرط الثاني شعراء العصر الجاهلي
باعتبارهم سَدَنة اللغة وأربابها الأوائل
٣١ ويُعَد هذان الشرطان أساسيين في نظَر الجاحظ وإلا
اختلَّت الوظيفة الأساسية للغة وهي الإبانة والتواصل.
وإذا كان القاضي عبد الجبار قد اشترط لدلالة الكلام
المُواضعة السابقة ومعرفة قَصْد المتكلم، فإنه كان ينطلق من
أساس آخَر — إلى جانب الأساس الديني الذي أشرنا إليه — فحواه
أن المجاز والاستعارة والاشتراك والاحتمال جزء من طبيعة اللغة
ذاتها. وإذا كانت المواضعة اللغوية مواضعة عشوائية، بمعنى أن
العلاقة بين الاسم والمسمَّى، أو الدالِّ والمدلول علاقة
إشارية بحتة، فقد كان من الضروري أن يشترط لنقل اللفظ عن معناه
الوضعي إلى معنًى آخر نفس الشرطين اللذين اشترطهما الجاحظ،
وهما وجود علاقة بين المعنيين، وضرورة اتباع الجماعة اللغوية
في النقل والتجاوز وإلا اختلَّتْ وظيفة اللغة وأدَّى ذلك إلى
قلب المعاني.
٣٢
ويُفرِّق القاضي عبد الجبار بين نوعين من المجاز: المجاز إذا
وقع من جهة المواضعة، والمجاز إذا وقع من جهة المتكلم. فالمجاز
الواقع من جهة المواضعة يعد بمثابة مواضعة طارئة على المواضعة
الأصلية. أما المجاز إذا وقع من جهة المتكلم فلا بد أن تكون به
قَرِينة تدلُّ على إرادة المجاز. وتفرقة القاضي بين هذين
النوعين من المجاز تَرتدُّ إلى تصوره للغة وتَفرِقَته بين
اللغة والكلام … ومن الضروري الإشارة إلى أن مثل هذه التفرقة
بين «اللغة» و«الكلام» لا يختص بها المعتزلة، بل كانت هي
المفهوم السائد في الفكر اللغوي؛ حيث نظر إلى اللغة على أساس
أنها مجموعة من الألفاظ في حالة تَفكُّك يدل كل منها على معنًى
خاصٍّ في حين نظر إلى الكلام — أو التركيب — على أساس أنه مِن
صنع المتكلم، ولذلك يكاد علماء اللغة يَتَّفِقون على أن
المواضعة — بصرف النظر عن أصلها — وقعت في المُفرَدات، ولم يقع
في التركيب اصطلاح أو تواضُع.
٣٣
وإذا كان المجاز في المفردات — أو في المُواضعة — لا بد فيه
من مراعاة علاقة بين المعنى المنقول عنه اللفظ والمعنى المنقول
إليه، فلا بد أن يراعي المتكلم — في هذه الحالة — عُرفِيَّة
المجاز وشيوعه. أما إذا وقع المجاز في التركيب فلا بد أن تتصل
بالكلام قرينة لفظية تدل على إرادة المجاز.
٣٤ وإذا صح اشتراط القرينة في كلام البشر، فليس هذا
الشرط ضروريًّا في كلام الله؛ لأننا نعرف قصده — عقلًا — ومن
ثم يمكن لنا أن نحمل كلامه على وجهه الصحيح، ومن ثم يمكن لنا
أن نُميِّز بين الحقيقة والمجاز في الوحي، وهكذا يصبح المجاز
واقعًا في الكلام عند المعتزلة إذا تعارَض ظاهِر النص مع
معرفتنا العقلية بقصد الله، وتُصبح القرينة في هذه الحالة
قرينة عقلية أشد في دلالتها من القرينة اللفظية المتصلة
بالكلام نفسه. ويتَّسِق مثل هذا التصور مع الإطار المعرفي الذي
انطلق منه المعتزلة والذي يُعلِي من شأن الأدلة العقلية، ويضع
الدلالة اللغوية في آخِر سُلَّم الأدلة.
٤
سبق أن أشرنا إلى أن الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة فيما
يرتبط بمعضلة الصفات الإلهية مجرد خلاف شكلي حله الباقلاني
متأثرًا في ذلك بأبي هاشم الجبائي. ولكن ظل خلافهم حول معضلة
الكلام الإلهي، فقد ذهب الأشاعرة إلى أن «كلام الله غير مخلوق».
٣٥ كما ذهبوا إلى تقديم النقل على العقل وقالوا: «لا
مدخل للعقل والقياس في إيجاب معرفته وتسميته، وإنما يعلم ذلك
بفضله من جهته.»
٣٦ وليس معنى تقديم النقل على العقل عند الأشاعرة
إلغاء دور العقل تمامًا، فدَوْر العقل عندهم قاصر على
الاستدلال على صحة الشَّرْع وصحة النبوة التي يأتي عن طريقها
الوحي، وإلى هنا ينتهي دوره الاستدلالي المعرفي ليتحول إلى دور
اجتهادي استنباطي لفهم الشريعة.
وقد رتَّب الباقلاني أنواع الأدلة «على ثلاثة أضرب: عقلي له
تَعلُّق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله وما يجب كونه عليه
من صفات؛ نحو: حياته وعلمه وقدرته وإرادته. وسمعي شرعي دال من
طريق النطق بعد المواضعة، ومن جهة معنى مُستخرَج من النطق.
ولغوي دال من جهة المواطأة والمواضعة، على معاني الكلام
ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ.»
٣٧ والذي يلفتنا في هذا الترتيب تفرقة الباقلاني بين
الدليل السمعي الشرعي والدليل اللغوي رغم أن كليهما يدل من جهة
المواضعة. ويبدو أن التفرقة هنا ضرورية عند الأشاعرة، فدلالة
الوحي دلالة قديمة، أما الدلالة اللغوية فقد تكون قديمة وقد
تكون طارئة. ويَعود سر التفرقة وأهميتها إلى موقف الأشاعرة من
قضية أصل الوضع والاصطلاح اللغوي، فقد ذهب مُتأخِّرُو الأشاعرة
إلى أن أصل اللغات توقيف من الله ثم لا مانع من أن يتواضع
البشر على لغات أخرى بعد ذلك.
٣٨
ورغم أن الباقلاني يضع الأدلة العقلية سابقة على الأدلة
الشرعية والدلالة اللغوية ويعتبر الدلالة السمعية «فرعًا لأدلة
العقول وقضاياها.»
٣٩ فإنه — من جانب آخر — يرى أنه «قد يستدل أيضًا على
بعض القضايا العقلية وعلى الأحكام الشرعية بالكتاب والسُّنَّة،
وإجماع الأمة، والقياس الشرعي المنتَزَع من الأصول المنطوق بها.»
٤٠ ويدل مسلكه العملي في تقرير قضايا مؤلَّفاته على
تقديم النقل على العقل، فهو يبدأ دائمًا بالأدلة النقلية من
القرآن والسُّنَّة والأخبار والآثار الواردة عن الصحابة
والتابعين، ثم ينتهي بالأدلة العقلية التي تؤكد هذه القضايا.
ويُقرِّر الباقلاني هذا المبدأ — مبدأ تقديم النقل على العقل —
بقوله: «إن طُرُق البيان عن الأدلة التي يُدرَك بها الحق
والباطل خمسة أوجه: ١- كتاب الله عز وجل، و٢- سنة رسوله
ﷺ و٣- إجماع الأمة، و٤- ما اسْتُخْرِج من هذه النصوص
وبُنِي عليها بطريق القياس والاجتهاد، و٥- حجج العقول.»
٤١ ومن الطبيعي أن يؤدي الخلاف حول طريق المعرفة بين
المعتزلة والأشاعرة إلى خلاف في أصل المواضعة اللغوية. وقد
انتهى الأشاعرة إلى قِدَم الكلام الإلهي واعتباره صفة قديمة
«أن كلام الله تعالى صفة لذاته لم يَزَل ولا يزال موصوفًا به
وأنه قائم به ومختص بذاته.»
٤٢ وحتى يَتجنَّب الأشاعرة تعرُّض الذات الإلهية
للحوادث وأن تكون مَحلًّا لها، ورفضوا تعريف المعتزلة للكلام
بأنه «ما حصل فيه نظام مخصوص من الحروف المعقولة.»
٤٣ بشرط الإفادة، وذهبوا إلى «أن الكلام الحقيقي هو
المعنى الموجود في النفْس لكن جُعِل عليه أمارات تدل عليه
فتارة تكون قولًا بلسان على حُكْم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا
عليه وجرى عُرْفُهم به وجعل لغة لهم.»
٤٤ وواقع الأمر أن الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في
تعريف الكلام هل هو الأصوات والحروف المفيدة، أو هو المعاني
النَّفْسية يظل خلافًا شكليًّا طالما أن الأصوات عند الأشاعرة
دلالة على هذه المعاني النفسية، وطالما أن هذه الأصوات نفسها
دلالة على قَصْد المتكلم عند المعتزلة كما رأينا قبل
ذلك.
والذي يهمنا التأكيد عليه أن مفهوم اللغة وأصلها، والربط بين
المواضعة في الألفاظ، وبين قصد المتكلم أو المعنى النفسي في
التركيب قد صاغَا المفاهيم الأساسية التي تَبلورت على أساسها
مفاهيم المجاز وأقسامه عند المتأخرين. وإذا كان الجاحظ والقاضي
عبد الجبار اشترطَا مجموعة من الشروط لوضوح الدلالة في المجاز،
فإن هذه الإنجازات كلها قد أفادت عبد القاهر في صياغة التصورات
النهائية لمفهوم المجاز وأقسامه، وهي التصورات التي انتقلت إلى
كُتُب المتأخرين؛ كالسكاكي والخطيب القزويني، وكانت تحمل في
باطنها بذور التَّجمُّد والجفاف الذي أصاب علوم البلاغة في هذه
الكتب.
يبدأ عبد القاهر في تحديد مفهومه للمجاز من التسليم بالتفرقة
بين أدلة العقول ودلالة اللغة ويرى «أن كل حكم يجب في العقل
حتى لا يجوز خلافه فإضافته إلى دلالة اللغة وجعله مشروطًا فيها
مُحال لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسمات. ولا معنى للعلامة
والسِّمَة حتى يحتمل الشيء مما جعلت العلامة دليلًا عليه وخلافه.»
٤٥ فالدلالة اللغوية مُجرَّد دلالة عُرفية اصطلاحية،
وهي بذلك مجرد علامات كان يمكن أن تدل على الشيء أو غيره،
والعُرف وحده أو الاصطلاح هو الذي يخصص العلامة بشيء دون غيره،
فكلمة «طويل» مثلًا كان يمكن أن تدل على معنى قصير، لو أن أهل
اللغة اصطلحوا على ذلك. وعلى العكس من ذلك أدِلَّة العقول فهي
تدلُّ بذاتها دلالة وُجوبِيَّة لا يَعْتوِرها تَغيُّر ولا
ترتبط بعُرْف أو اصطلاح، فالعقل يدلُّ على أن الفعل لا يصدر
إلا من قادر، وهذه دلالة ذاتية واجبة غير عرفية، ومن ثم فهي
دلالة لا تتغير في الزمان أو المكان.
وهذا الفصل بين الدلالة اللغوية والدلالة العقلية يَرتدُّ
إلى التصور الذي أشَرنَا إليه سابقًا والذي يتعامل مع اللغة
باعتبارها مجموعة من الألفاظ تدل على أعيان ومفاهيم خارج الذهن
البشري. ولذلك يفرق عبد القاهر بين المجاز إذا وقع في الألفاظ
المفردة، وإذا وقع في التركيب، ويرى أن الأول مَجاز لُغوي،
والثاني مجاز عقلي؛ لأن التركيب إنما يقع من جانب المتكلم
للدلالة على المعاني المرتبة في نفسه «المنتظمة فيها على قضية العقل»
٤٦ وتكاد تفرقة عبد القاهر بين المجاز اللغوي والمجاز
العقلي أن تستند إلى التفرقة التي أشرنا إليها بين اللغة
والكلام، وأن ترى اللغة مجموعة من الألفاظ في حالة تَفرُّق،
والكلام دلالة على قصد المتكلم. ورغم أن عبد القاهر — على
المستوى النظري الخالص — ينفر من اعتبار المَزِيَّة في الكلام
راجعة إلى الألفاظ من حيث كونها ألفاظًا، ويردها إلى
«النَّظْم» أو التركيب، فإن تفرقته بين ما هو مجاز من جهة
اللغة وما هو مجاز من جهة العقل تصطدم بشكل أساسي مع هذه
النظرة. ومن الصعب تفسير مثل هذا التعارض إلا في ضوء المعضلات
الدينية التأويلية التي أشرنا إليها في الصفحات السابقة. ومن
المنطقي بعد ذلك أن نتعرض بشكل سريع لمفهوم المجاز عند عبد
القاهر وأقسامه ونلمح إلى الآثار الكلامية التي اصطبغ بها هذا
المفهوم.
٥
يؤكد عبد القاهر — كما أكد سابقوه — مقابلة المجاز للحقيقة،
وأسبقية الاستخدام الحقيقي للغة على استخدامها المجازي، كما
يؤكد في نفس الوقت على ضرورة وجود علاقة ما بين الاستخدام
الحقيقي والاستخدام المجازي لألفاظ اللغة. وليس معنى العلاقة
عند عبد القاهر قيام المجاز على التفاعل للتعبير عن خبرة
جديدة، بقدر ما يعني بها المحافظة على التمايز وتأكيد المعنى
الحقيقي؛ نفيًا لمظنة الكذب عن المجاز، وهي التُّهمة التي
اتَّهَم بها الظاهرية المجاز. يرى عبد القاهر أن الحقيقة هي
«كل كلمة أُرِيد بها ما وقعتْ له في وضع واضع — وإن شئت قلت في
مواضعة — وقوعًا لا تستند فيه إلى غيره.»
٤٧ والمقصود بوضع الواضع أو المواضعة هو البُعد
الاصطلاحي المتعارف عليه للغة، سواء كان هذا الاصطلاح
إنسانيًّا أم إلهيًّا. والمهم أن استخدام الكلمة في المعنى
الاصطلاحي الشائع المتعارف عليه يكون استخدامًا حقيقيًّا، سواء
كان هذا الاصطلاح يرتَدُّ إلى الجماعة، أو يَرتدُّ إلى مواضعة
طارئة كما هو الأمر في أسماء الأعلام، فدلالة اسم العلم على
مسماه دلالة حقيقية حتى لو كان الاسم منقولًا عن معنى كمصطفى
وحسَن أو زيد. ومعنى ذلك أن مُجرَّد نقل اللفظ من مجال إلى
مجال لا يعني أن هذا النقل نقل مجازي طالما أن النقل تم دون
مراعاة علاقة ما.
ولذلك تعد مراعاة العلاقة بين معنى اللفظ الاصطلاحي المنقول
عنه ومعناه المجازي المنقول إليه جزءًا هامًّا من تعريف
المجاز. «وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وُضِعَت له في
وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول فهي مجاز. وإن شئت قلت:
كل كلمة جُزْت بها ما وُضِعَت له في وضع الواضع إلى ما لم
تُوضَع له في وضع واضعها فهي مَجاز.»
٤٨ فالمجاز لا بد أن يستند إلى الحقيقة الاصطلاحية
لمعنى الكلمات، بمعنى أن الاستخدام المجازي للكلمة لا بد أن
يستند إلى وجود علاقة ما بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي،
سواء كانت هذه العلاقة قوية واضحة تقوم على المشابهة — صريحة
كانت أو خفية — كما هو الشأن في الاستعارة بنوعيها، أو كانت
علاقة غير واضحة تحتاج لضرب من التأمُّل كما هو الأمر في
المجاز المُرْسَل. وهذا الشرط — شرط العلاقة — يؤكده عبد
القاهر في أكثر من موضع «ثم أعلم بعدُ أن في إطلاق المجاز على
اللفظ المنقول عن أصله شرطًا وهو أن يقع نَقلُه على وجهٍ لا
يعرى معه من ملاحَظة الأصل.»
٤٩
ويتجاوَز عبد القاهر تأكيد العلاقة بين المعنى المجازي
والمعنى الحقيقي للفظ إلى القول بأن نَقْل اللَّفظ عن معناه
الحقيقي إلى معنًى مجازي يتضمن — بشكل غير مباشر — تأكيد
المعنى الحقيقي، وهذا القول من شأنه أن ينفي عن المَجاز
مَظنَّة الكذب التي اتهم بها، فليس معنى النقل في المجاز أنك
تُثبت معنى جديدًا للفظ تنقله عن معناه الاصطلاحي نقلًا
كاملًا، بل الأحرى القول — مع عبد القاهر — «إن المجاز لم يكن
مجازًا لأنه إثبات الحكم لغير مستحقه، بل لأنه أثبت لما لا
يستحق تشبيهًا وردًّا له إلى ما يستحق، وأنه ينظر من هذا إلى
ذاك، وإثباته ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحق يتضمن الإثبات
للأصل الذي هو المستحق، فلا يتصور الجمع بين شيئين في وصف أو
حُكْم من طريق التشبيه (الاستعارة) والتأويل (المَجاز المرسل)
حتى يبدأ بالأصل في إثبات ذلك الوصف والحكم له. ألا تراك لا
تقدر أن تشبه الرجل بالأسد في الشجاعة، ما لم تجعل كونها من
أخصِّ أوصاف الأسد وأغلبها عليه نُصْبَ عينيك؟»
٥٠
تُعَد الحقيقة — إذن — في نظر عبد القاهر هي الأصل، ويُعدُّ
المجاز هو الفرع، ويَتحوَّل المجاز بذلك إلى عملية قياس منطقية
ينتقل فيها الذهن من الواضح الجَلِي إلى الغامض الخفي. ومن
الطبيعي بعد ذلك أن ينفر عبد القاهر — في فهمه للاستعارة — من
مفهوم «النقل» ويؤكد على مفهوم «الادعاء» أو «الإثبات»
٥١ ويمكن أن يَرتدَّ مثل هذا التأكيد على ضرورة قيام
المجاز على العلاقة، وقيام الاستعارة على «الإثبات» إلى نظرة
المتكلمين إلى اللغة باعتبارها نوعًا من أنواع الأدلة التي يجب
أن تدل — بوضوح — على مدلولها. وإذا كان المجاز يعد نقلًا فمن
الضروري أن يعتمد النقل على علاقة لا تخل بالدلالة. وهذا
بالطبع إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من محاولة عبد القاهر
نفي مظنة الكذب عن المجاز وذلك بربطه بالحقيقة والزعم أن
الاستخدام المجازي يؤكد المعنى الحقيقي ولا ينفيه.
وإذا انتقلنا من مجال اللغة إلى مَجال الكلام، أو من مَجال
الألفاظ المفردة إلى مجال التركيب، وجَدْنا عبد القاهر يفرق في
المجاز بين نوعين: المَجاز اللغوي الواقع في الألفاظ وهو الذي
حدَّد شروطه فيما سبق، والمجاز العقلي الذي يقع في التركيب.
ويمكن تعليل هذه التفرقة بين المجاز في اللفظ والمجاز في
التركيب إلى ما سبق أن أشرنا إليه من التفرقة بين الدلالة
اللغوية والدلالة العقلية من جهة. وإلى تفرقة الأشاعرة بين
المعنى النفسي العقلي في ذهن المتكلم، والكلام الذي يدل عليه.
يقع المجاز اللغوي — فيما يرى عبد القاهر — في اللفظ المُفرَد
أو المُثبَت سواء كان مُسنَدًا أم مُسنَدًا إليه؛ لأن التجاوز
في هذا النوع واقع من جهة المواضعة اللغوية والاصطلاح العرفي.
أما المجاز العقلي فيقع في الإثبات؛ أي في الإسناد ذاته الذي
هو عملية مِن صنع المتكلم تدل على قصده النفسي العقلي،
فالمتكلم هو الذي يُرتِّب الكلام ترتيبًا مخصوصًا للدلالة على
هذا المعنى الذي يعتمل في داخله.
وما دامت الألفاظ من جهة العُرْف والاصطلاح، والتركيب يدل
على ما في نفس المتكلم وعقله، فمن المنطقي أن يكون التجاوُز في
معاني الألفاظ — أو المثبت — تجاوزًا من جهة اللغة. وأن يكون
التجاوز في التركيب — أو الإثبات — تجاوزًا من جهة العقل «وإذ
قد تَبيَّن لك المنهاج في الفرق بين دخول المَجاز في الإثبات
وبين دخوله في المُثبت وبين أن ينتظمهما وعرفتَ الصورة في
الجميع فاعلم أنه إذا وقع في الإثبات فهو مُتَلقًّى من العقل،
فإذا عَرَض في المُثبَت فهو مُتلقًّى من اللغة … إن الإثبات
إذا كان من شأنه أن يقيد مرتين كقولك إثبات شيء لشيء ولزم من
ذلك ألَّا يحصل إلا بالجملة التي هي تأليف بين حديث ومُحدَّث
عنه، ومُسنَد ومُسنَد إليه علمتَ أن مأخذه العقل وأنه القاضي
فيه دون اللغة؛ لأن اللغة لم تأتِ لتحكم بحكم أو لتثبته وتنفي
وتنقض وتُبْرِم. فالحكم بأن الضرب فِعْل لزيد أو ليس بفعل له،
وأن المرض صفة له أو ليس بصفة له شيء يضعه المتكلم ودعوى
يَدَّعيها، وما يعترض على هذه الدعوى من تصديق أو تكذيب أو
اعتراف أو إنكار وتصحيح، أو إفساد فهو اعتراض على المُتكلِّم،
وليس اللغة ذلك بسبيل ولا منه في قليل ولا كثير. وإذا كان كذلك
كان كل وصف يستحقه هذا الحكم من صحة وفساد وحقيقة ومَجاز
وإحالة واستحالة فالمَرجِع فيه والوجه إلى العقل المحض، وليس
للغة فيه حظ فلا تحلى ولا تمر، والعربي فيه كالعجمي. والعجمي
كالتركي؛ لأن قضايا العقول هي القواعد والأسس التي يُبْنَى
غيرها عليها، والأصول التي يرد ما سواها عليها. فأما إذا كان
المجاز في المثبت نحو قوله تعالى:
فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ فإنما كان مأخذه
اللغة لأجل أن طريقة المجاز بأن أجرى اسم الحياة على ما ليس
بحياة تشبيهًا وتمثيلًا ثم اشتق منها وهي في هذا التقدير الفعل
الذي هو «أحيا» واللغة هي التي اقْتضَت أن تكون الحياة اسمًا
للصفة التي هي ضد الموت فإذا تَجوَّز في الاسم فأجرى على غيرها
فالحديث اللغة فاعرفه.»
٥٢
من السهل جدًّا انتقاد مثل هذا التقسيم للمجاز إلى لغوي
وعقلي ووصفه بأنه «قسمة زائفة»
٥٣ ولكن الأهم — في تقديرنا — تعليله وتفسيره في ضوء
تصور المتكلمين لطبيعة اللغة ودورها المعرفي، وفي ضوء الإطار
الديني الشامل الذي وجه هذه التصورات وجهة خاصة كانت لها مثل
هذه النتائج. ولقد أشرنا في الفقرة الأولى من هذا البحث إلى
المُوجِّهات الدينية العامة لمبحث المجاز عند عبد القاهر
وأصوله في الفكر الأشعري. ويهمنا هنا الإشارة إلى أن الأمثلة
التي يضربها عبد القاهر للمجاز العقلي تشير إلى طبيعة المعضلات
الدينية التي تجعله يُلِحُّ على عقلية المجاز في هذه الأمثلة؛
إذ كلها أمثلة تسند بعض الأفعال إلى غير الله، وهو أمر يمكن أن
يؤرق أشعريًّا كعبد القاهر يؤمن أن الله هو الفاعل على الحقيقة
«فمثال ما دخله المجاز من جهة الإثبات دون المثبت قوله:
وشيب أيام الفراق مفارقي
وأنشرن نفسي فوق حيث تكون
وقوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير
كَرُّ الغداة ومَرُّ العشي
المجاز واقع في إثبات الشيب فعلًا للأيام ولكرِّ الليالي،
وهو الذي أزيل عن موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه، لأن حق هذا
الإثبات — أعني إثبات الشيب فعلًا — ألَّا يكون إلا مع أسماء
الله تعالى، فليس يصح وجود الشيب فعلًا لغير القديم سبحانه،
وقد وجه في البيتين كما ترى إلى الأيام والليالي، وذلك ما لا
يثبت له فعل بوجه لا الشيب ولا غير الشيب. وأما المثبت فلم يقع
فيه مجاز لأنه الشيب وهو موجود كما ترى. وهكذا إذا قلت:
«سَرَّني الخبرُ، وسَرَّني لقاؤك، فالمجاز في الإثبات دون
المُثبَت لأن المُثبَت هو السرور وهو حاصل على حقيقته.»
٥٤
وإذا اعترض معترض على عبد القاهر بأن الإسناد في الأمثلة
السابقة إنما وقع على مَجرى العُرف والعادة، وإذا كانت
المواضعة اللغوية مواضعة عرفية، فلماذا لا يعد المجاز في هذه
الأمثلة مجازًا من جهة العرف والعادة يرتد إلى المواضعة، ومن
ثم يعتبر مجازًا لغويًّا، ولا داعي للتفرقة بين المجاز اللغوي
والمجاز العقلي ونردهما معًا إلى أصول واحدة، فمثل هذا
الاعتراض يُثير البُعد الكلامي في فكر عبد القاهر، فيتصدى للرد
عليه ردًّا لا يختلف في مضمونه ولغته عمَّا سبق أن أشَرْنا
إليه في كُتُب المتكلمين.
والتعليل الذي يطرحه عبد القاهر للتفرقة بين المجاز اللغوي
والمجاز العقلي تعليل فلسفي يرتد إلى تَصوُّر المتكلمين
للمعرفة، وتصورهم للدلالة اللغوية باعتبارها فرعًا على الدلالة
العقلية، فمن أدلة العقل الوجوبية دلالة الفعل على الفاعل
القادر. وإذا انتفت هذه الدلالة لم يُفرِّق المستدل بين الفعل
وغيره، فمن لم يعرف دلالته على فاعل قادر لم يعلم — أصلًا —
أنه فعل. ويترتب على ذلك أن إسناد الفعل — أي فعل كان — لغير
العاقل القادر — كما هو الأمر في الأمثلة السابقة — يُعدُّ
إسنادًا مجازيًّا من جهة العقل؛ لأن العقل هو الذي دل على عدم
إمكانية وقوع الفعل إلا من قادر. وعلى العكس من ذلك المجاز
اللغوي؛ لأنه يعتمد على النقل عن المواضعة اللغوية إلى معنى
غير المعنى المتواضع عليه لوجود علاقة بين المعنيين فهو مجاز
يستند إلى المواضعة اللغوية، ولا يستند إلى العقل كما هو الأمر
في إسناد الفعل إلى غير القادر. يقول عبد القاهر: «الفعل موضوع
للتأثير في وجود الحادث في اللغة، والعقل قد قضى وبتَّ الحكم
بأنه لا حظَّ في هذا التأثير لغير القادر. وما يقوله أهل النظر
من أن من لم يعلم الحادث موجودًا من جهة القادر عليه، فهو لم
يعلمه فعلًا، لا يخالف هذه الجملة. بل لا يصح حق صحته إلا مع
اعتبارها، وذلك أن الفعل إذا كان موضوعًا للتأثير في وجود
الحادث، وكان العقل قد بين بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة
استحالة أن يكون لغير القادر تأثير في وجود الحادث، وأن يقع
شيء مما ليس له صفة القادر، فمَن ظن الشيء واقعًا من غير
القادر، فهو لم يعلمه فعلًا؛ لأنه لا يكون مستحقًّا هذا الاسم
حتى يكون واقعًا من غيره. ومَن نسب وقوعه إلى ما لا يصح وقوعه
منه، ولا يتصور أن يكون له تأثير في وجوده وخروجه من العدم،
فلم يعلمه واقعًا من شيء البتة. وإذا لم يعلمه واقعًا من شيء
لم يعلمه فعلًا، كما أنه إذا لم يعلمه كائنًا بعد أن لم يكن لم
يعلمه واقعًا ولا حادثًا.»
٥٥
إن الحركة الاستدلالية التي يتبعها عبد القاهر في هذا
التعليل تصل به إلى حد التفرقة بين ما هو مجاز من جهة العقل
وما هو مجاز من جهة اللغة قد تؤدي إلى نوع من الخلط بين دلالة
اللغة ودلالة العقل. تؤدي بدورها إلى تشويش المعرفة العقلية
والدلالية اللغوية معًا. ومن حقِّنَا الآن أن نتساءل: إذا كانت
دلالة التركيب تدل على المعنى النَّفْسي في عقل المتكلم، فما
هو المعيار الذي يمكن أن نستند إليه — كمُستَمِعين — في تحديد
ما إذا كان الإسناد حقيقيًّا أم مجازيًّا؟ ولنفترض أن المتكلم
— أو الشاعر — يعتقد حقًّا أن الليالي والأيام هي التي تفعل
الشيب، وأن اللقاء هو الذي يَسُرُّ، يعني لنفترض أنه مُلْحِد
يرد الأشياء إلى عللها وأسبابها المباشرة، وليس مؤمنًا يَرُد
الأشياء كلها إلى علة العلل ومُسبِّب الأسباب وهو الله، فكيف
والحالة هذه نحكم على العبارة بحقيقة أو مجاز؟
هنا يُفرِّق عبد القاهر بين نوعين من الأفعال: أفعال يتفق
العقلاء جميعًا — بصرف النظر عن عقائدهم — على أنها تحتاج
للفاعل القادر. وإسناد مثل هذه الأفعال لما لا قدرة له يكون
بإجماعهم إسنادًا مجازيًّا من جهة العقل، وذلك مثل إسناد أفعال
الآدميين لغيرهم من الجمادات والحيوان والكواكب. أما النوع
الثاني من الأفعال فهي الأفعال التي لا يصح في نظر المؤمن
وقوعها إلا من الله كالإحياء والإماتة والشَّيْب والهداية
والإنبات، وما يصح فعله بالآلة كالقطع بالسكين والإحراق بالنار
… إلخ كل هذه الأفعال التي يرى الأشاعرة أنها أفعال إلهية.
ويُعَد إسناد هذه الأفعال إلى غير الله من قبيل الإسناد
المجازي من وجهة نظر المسلم الأشعري. ومن هذا المنطلق «لا يصح
أن يكون قول الكفار
وَمَا يُهْلِكُنَا
إِلَّا الدَّهْرُ من باب التأويل والمجاز.»
٥٦ لأنهم يعتقدون ذلك فعلًا، ولا يثبتون وجود
الله.
ومعنى ذلك أن الحقيقة والمجاز في العبارة أمور لا يمكن
التوصل إليها إلا بعد معرفة مُعتَقد المتكلم. وليس يهم في هذه
الحالة أن نكتشف مُعتَقد المتكلم من العبارة نفسها أو من أحوال
المتكلم الخارجية؛ فكِلَا الأمرين مشروع في نظر عبد القاهر
٥٧ وهكذا يتفق عبد القاهر مع المعتزلة في إرجاع
المجاز في العبارة إلى قصد المتكلم. والفارق بين عبد القاهر
والقاضي عبد الجبار أن الأخير تصوَّر أننا نصل إلى قصد المتكلم
من البشر باضطرار ودون حاجة لاستدلال، بينما لا نصل إلى قصد
الله من كلامه إلا بالأدلة العقلية السابقة في دلالتها على
الدليل اللغوي. أما عبد القاهر فقد عمَّم الوسيلتين — القرينة
اللغوية والقرينة العقلية الخارجية — على الكلام
البشري.
وليس معنى إرادة الحقيقة من وجهة نظر المتكلم أن عبارته
صادقة صدقًا موضوعيًّا، بل هي صادقة وحقيقية من وجهة نظره
الباطلة، ولكنها كاذبة من وجهة نظر عبد القاهر المسلم الأشعري
«فهذا ونحوه من حيث لم يتكلم به قائله على أنه متأوِّل بل
أطلقه بجهله وعماه إطلاق مَن يضع الصفة في موضعها لا يُوصَف
بالمجاز، ولكن يقال عند قائله إنه حقيقة، وهو كذب وباطل،
وإثبات لما ليس بثابت، أو نفي لما ليس بمُنتَفٍ، وحكم لا يصححه
العقل في الجملة، بل يرده ويدفعه، إلا أن قائله جَهِل مكان
الكذب والبطلان فيه أو جحد وباهت.»
٥٨ وهكذا ترتد قضية الحقيقة والمجاز في التركيب إلى
معيار موضوعي عقلي قادر على وصف العبارة بالصدق أو الكذب بصرف
النظر عن دلالة العبارة في ذاتها، أو دلالتها — تطابقًا أو
مخالفة — على معتقد المتكلم ومعناه النفسي.
وينتهي عبد القاهر إلى قانون عام مُؤدَّاه أن الفصل بين الحق
والباطل في حد المجاز العقلي هو أنه «كل جملة أَخْرَجَت الحكم
المفاد بها عن موضوعه في العقل لضرب من التأول فهي مجاز.»
٥٩ ومن الطبيعي بعد ذلك أن يهاجم المعتزلة؛ لأنهم
أفرطوا في استخدام المجاز للتأويل. وأن يهاجم الظاهرية؛ لأنهم
فرَّطُوا فأنكروا وجود المجاز في اللغة والقرآن وسَلَّموا
بظواهر كثير من آياتِ القرآن التي لا يُسلِّم العقل بأخذها على
ظاهرها. والعقل الذي يحتكم إليه عبد القاهر هو العقل الأشعري
الذي وُضِع في خدمة النقل كما سبق أن أشرْنَا وهو بالضرورة
يختلف عن العقل المعتزلي الذي يختلف بدوره عن العقل عند
الظاهرية.
إن الخلاف بين هذه الفرق الثلاث حول قضية المجاز واللغة يرتد
إلى خلافات في التصورات العامة، ولكنها انتهت جميعًا إلى إخضاع
مفاهيم المجاز واللغة للقضايا العقلية الخلافية بينهم، وهي
الخلافات التي حاولنا في هذا المقال تحليل مستوياتها وأصولها
وآثارها في قضية بلاغية هي مفهوم المجاز وأقسامه. ولعلنا بعد
هذا التحليل نرى أن التقسيمات العديدة المتفرعة للمجاز في
كُتُب البلاغيين المتأخرين كالسكاكي والخطيب القزويني كانت
نتيجة منطقية تجد مقدماتها عند عبد القاهر، كما نجد بذورها في
كُتُب المتكلمين باتجاهاتهم المختلفة. ولعل في هذه الدراسة ما
يُعِين على الفهم قبل أي محاولة للتقييم بالسلب أو
الإيجاب.