مفهوم النظم عند عبد القاهر الجرجاني

قراءة في ضوء الأسلوبية

نحتاج في هذه القراءة إلى تأكيد حقيقة مهمة لا نمل من تكرارها وتأكيدها؛ حقيقة ترتبط بطبيعة العلاقة بين التراث — في أي مجال من مجالاته المتعددة — ووعينا المعاصر؛ إذ ليس للتراث وجود مُستقِل خارج وعينا به، وفهمنا إياه. ووجوده المستقل — إن صح له هذا الوجود — إنما يتمثل في شكل من أشكال الوجود الفيزيقي العيني الذي يمكن أن يُدرَك بالحس ويخضع لمقاييس الفراغ المكاني الذي يحتله على رفوف المكتبات في شكل مُجلَّدات مطبوعة أو مخطوطة. وليس هذا الوجود العيني هو ما يعنينا، وإنما الذي يعنينا وجوده في معرفتنا وفي وعينا الثقافي. وهذا الوجود في الوعي هو الذي نصفه بعدم الاستقلال؛ وكيف يوصف التراث بالاستقلال عن الوعي المعاصر، وهو لا يوجد إلا فيه وبه؟ وانطلاقًا من هذه الحقيقة نعيد اليوم قراءة عبد القاهر لنرى ما الذي يمكن أن يقدمه لنا، وما الذي يمكن أن ننفيه منه عن وعينا. وعلينا ألا ننسى ونحن نعيد قراءة عبد القاهر أننا سنطرح عليه أسئلة معاصرة، باحثين عن إجابات ربما لم تخطر للشيخ ببال، وإنما هي إجابات كامنة ضمنية تحاول قراءتُنا أن تكشف عنها وتجليها. ومن شأن هذه القراءة أيضًا أن تتجاهل أسئلة طرحها الشيخ وأجاب عنها؛ وتلك هي الأسئلة التي فقدت مغزاها وحيويتها بالنسبة لنا، وإن كان مغزاها التاريخي ما زال قائمًا وقابلًا للتحليل من منظور القراءة التاريخية.

ولا يعترض علينا معترض باسم الموضوعية، زاعمًا أننا «نفرض على نُقَّاد ذلك العصر مناهجنا العلمية الحديثة، أو نطلب من التراث ما لم يكن من شأنه أن يوجد فيه.»١ لأن هذا المعترض حين يقرأ التراث قراءته الموضوعية كثيرًا ما يُحكِّم ذوقه ويُدْخِل مفاهيمه العصرية في الحكم على هذا التراث، فيحكم على عبد القاهر بأن كتابه «دلائل الإعجاز» غير مُنظَّم الترتيب، وأن آراء عبد القاهر فيه «مبعثرة حتى لَيَعسُر على الدارس لَمُّ أشتاتها إلا بكثير من الجهد والتنظيم وإسقاط بعض ما قد يُعارِض نظرة المؤلِّف العامة إلى الموضوع من آراء جزئية في مواضع متفرقة من الكتاب.»٢ أو يرى أن مفهوم عبد القاهر للنحو والنَّظْم مفهوم واسع يخلط بين مباحث النحو والبلاغة؛ ثم يعود بعد ذلك مباشرة ليتهم هذا المفهوم بالقصور عن الإحاطة بكل مقومات النص الأدبي؛ لأنه مفهوم مُقيَّد — فيما يرى — بالنظر في العبارة «فلا يدرس النص الأدبي الكامل، وما يتضمنه من عناصر خارجة على هذا المفهوم، كالخيال والإيقاع والتماثل والتضاد والمجانَسة، والمجاز والحقيقة، في إطار أوسع من إطار التشبيه والاستعارة والكناية.»٣ وليس أدل على انتفاء القراءة والموضوعية من مثل هذه الأحكام التي تنظر إلى التراث من خلال مفاهيم عصرية.
وليس معنى قولنا «انتفاء القراءة الموضوعية» أننا نتبنى مفهوم «القراءة المتحيزة» بالكامل، سواء كان هذا التحيز ضد التراث أو كان معه؛ فالتحيز قرين الهوى النابع من قصور الوعي بجدلية العلاقة بين الماضي والحاضر، وبين التراث والمعاصرة. القراءة المتحيزة بالكامل إما أن تؤدي بنا إلى محاكمة التراث من خلال مفاهيم لا يقبلها، أو تؤدي بنا إلى إلباسه مفاهيم وتصورات مفارقة لطبيعته، ومعارضة لمنطقه الداخلي. ولا نعدم في قراءة عبد القاهر من يذهب إلى القول بأنه «ليس بلاغيًّا، ولكنه ناقد أدبي؛ وفي الوقت الذي يتزايد فيه الاهتمام بدراسة بنية الشعر تكون أعماله نموذجًا صالحًا للناقد البنيوي.»٤ ويقول إن عبد القاهر يُعَد من بين معاصريه «أقربهم لنظرياتنا النقدية المعاصرة، وأقدرهم على إثراء فهمنا للإبداع الشعري.»٥ ولا بأس والأمر كذلك من المقارَنة بين آراء عبد القاهر وآراء النُّقَّاد المحدثين والمعاصرين مقارنة تهدف إلى بيان التطابق والتماثل، وتُغْفِل إغفالًا يكاد يكون تامًّا عن الفروق الحضارية والثقافية، بل التاريخية أيضًا.٦

إن القراءة التي نأمل في تحقيقها هنا هي القراءة الموضوعية الحقة التي لا تغفل المنطق الداخلي الخاص للتراث من جهة، ولا تتعامل معه بمعزل تامٍّ عن الوعي المعاصر من جهة أخرى. هي قراءة لا تخلع عن عبد القاهر أزياءه ومَفاهيمه لكي تَكسُوَه أزياء جديدة وتخلع عليه مفاهيم معاصرة. وهي أيضًا قراءة لا تزعم لنفسها — ولا تستطيع — الانسلاخ عن الحاضر الراهن بكل هُمومه الفكرية والثقافية، والحياة مرة أخرى في عقل عبد القاهر، أو بالأحرى في عقل عبد القاهر القرن الخامس الهجري. إن عبد القاهر الذي نَقرؤه اليوم هو النص الذي كتبه عبد القاهر في القرن الخامس الهجري، والذي لم يَتوقَّف منذ انتهى عبد القاهر من كتابته عن التفاعل مع نصوص أخرى في الثقافة العربية حتى وصل إلينا، فهو الآن جزء من ثقافتنا، وجزء من وعينا وتاريخنا. هل يمكن أن نقول الآن إن قراءتنا اليوم لعبد القاهر — أو بالأحرى لنص عبد القاهر — قراءة تأويلية؟ نعم، نستطيع أن نقول ذلك، بشرط أن نكون على ذكر مما قاله علماء التفسير من فرق بين «التأويل المقبول المستساغ في اللغة» و«التأويلات المستكرهة البعيدة». تأويلنا لعبد القاهر — أو بالأحرى فهمنا له — نأمل أن يكون من النوع الأول، أو لِنَقُل بعبارة معاصرة إن قراءتنا لعبد القاهر رحلة للبحث عن «المغزى» الذي يثري من خلاله وعينا النقدي المعاصر، رحلة لا تتوقف عند المعنى الذي كان في عقل عبد القاهر القرن الخامس.

وليست رحلتنا التي ننوي القيام بها في نص عبد القاهر إلا تكرارًا لرحلة قام بها عبد القاهر نفسه في نصوص سابقيه ومعاصريه، مستهدفًا الكشف عن «مغزى» هذه النصوص، دون مُجرَّد التوقف عند «المعنى» الذي كان كامنًا في عقول أصحابها. يقول عبد القاهر:

«ولم أزل منذ خدمتُ العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى «الفصاحة» و«البلاغة» و«البيان» و«البراعة». وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج.»٧

في هذه الرحلة التي قام بها عبد القاهر في نصوص سابقيه كان يبحث عن المغزى الخبيء وراء عباراتهم وأقوالهم. لم يشغل عبد القاهر نفسه بالبحث عن المعنى الظاهر على السطح، ولو فعل ذلك لما قدَّم لنا شيئًا يستحق اليوم أن نقف عنده؛ ولذلك لم يتردد في أن يتعامل مع نصوصهم بوصفها رموزًا وإيماءات وإشارات خفية تحتاج منه إلى التفسير. ولم يكن عبد القاهر في قراءته لنصوص سابقيه مفسرًا فقط، بل كان في أحيان كثيرة لا يجد مفرًّا من الرفض والنفي. فهو يرفض — مثلًا — ربط الفصاحة والبيان بالقدرة على الأداء الصوتي، وهو ربط شائع مستقر في التراث السابق على عبد القاهر، ونجده واضحًا في كتاب الجاحظ «البيان والتبيين». وهو أيضًا يرفض حصر معاني الكلام في الخبر والاستفهام والأمر والنهي، وهو حصر نجده في كثير من كتب البلاغة والنقد، التي يعيد عبد القاهر قراءتها وتفسيرها. وعن طريق هذا النفي والرفض يمهد عبد القاهر الطريق لمفاهيم أنضج، وتصورات أعمق. يقول بعد أن يبين أهمية «علم البيان» وخطره بالنسبة للدين والدنيا على السواء:

«إلا أنك لن ترى، على ذلك، نوعًا من العلم قد لَقِي من الضيم ما لقيه، ومُنِي من الحَيْف بما مُنِي به، ودخل على الناس من الغلط في معناه ما دخل عليهم، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة، وظنون ردية، ورَكِبَهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش. ترى كثيرًا منهم لا يرى له مَعنًى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين، وما يجده للخط والعقد، يقول: إنما هو خبر واستخبار، وأمر ونهي، ولكل من ذلك لفظ قد وُضِع له، وجُعِل دليلًا عليه، فكل مَن عرف أوضاع لغة من اللغات، عربية كانت أو فارسية، وعَرَف المغزى من كل لفظة، ثم ساعَده اللسان على النطق بها، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بَيِّن في تلك اللغة، كامل الأداء، بالغٌ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، مُنْتهٍ إلى الغاية التي لا مذهب بعدها. يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها مَعنًى سوى الإطناب في القول، وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه لُكْنَة، ولا تقف به حُبْسَة، وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية، فإن استظهر للأمر وبالَغ في النظر، فألَّا يلحن فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي، وعلى خلاف ما ثبتت به الرواية عن العرب.

وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أن ها هنا دقائق وأسرارًا طريق العلم بها الرَّوِيَّة والفكر، ولطائف مستقاها العقل، وخصائص معانٍ ينفرد بها قوم قد هُدُوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورُفِعَت الحُجب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجب أن يفضل بعضه بعضًا، وأن يبعد الشأو في ذلك، وتمتد الغاية، ويعلو المرتقى، ويعز المطلب، حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، بل يخرج من طوق البشر.»٨

في هذا النص الطويل لا يجد عبد القاهر سبيلًا لطرح مفاهيمه إلا بنفي المفاهيم والتصورات السابقة التي تتناقض مع مفاهيمه وتصوراته. وهو في نصوص أخرى كثيرة مبثوثة في ثنايا كِتابَيْه يستطيع أن يؤكد مفاهيمه عن طريق تأويل بعض الآراء السابقة عليه. وهكذا يقيم عبد القاهر بناءه الفكري في الثقافة العربية التي ينتمي إليها من خلال عمليتين تبدوان مُتعارضَتين: هما الهدم والبناء، أو هما الإثبات والنفي، حيث يتم الإثبات بالتأويل، ويتحقق النفي بالإنكار.

إن ما يفعله عبد القاهر في التراث السابق عليه هو ما ننوي أن نقوم به نحن مع عبد القاهر؛ ولذلك قلنا إننا سنطرح أسئلة معاصرة ربما لم تخطر إجاباتها على بال الشيخ، ولا دار السؤال نفسه في خلده، وقلنا إننا في الوقت نفسه سنَتجاهل أسئلة طرحها الشيخ وأجاب عنها. وهكذا نُعيد قراءة الشيخ كما أعاد هو قراءة أسلافه، وبذلك نكون أقرب لروح عبد القاهر، ولروح التراث الذي يمثله والذي ما زال ماثلًا فينا، يتفاعل معنا ونتفاعل به.

اللغة والشعر

القضية الأساسية التي يدور حولها الجدل الآن بين علماء الأسلوبية، هي قضية الشعر واللغة. والأسئلة التي تثار حول هذه القضية تتمثل في الأسئلة التالية: ما حدود التداخل بين الشعر واللغة؟ وما حدود التمايز؟ وإثارة السؤال عن الشعر بصفة خاصة دون غيره من الأنواع الأدبية إنما يرتد إلى النظر إلى الشعر بوصفه أكثر الأنواع الأدبية تعبيرًا عن خصائص «الأدب»، تلك الخصائص الفارقة له عن غيره من أنماط «الكلام». وعلى ذلك فالسؤال عن الشعر واللغة يطرح والقصد منه تحديد خصائص النصوص الأدبية.

ولسنا نريد أن نخرج عن مجال دراستنا باستعراض الآراء المختلفة والمدارس المتعددة في الأسلوبية، فذلك أمر تغطيه الدراسات الكثيرة في هذا العدد من «فصول». والذي يهمنا هنا هو أن نطرح السؤال نفسه على عبد القاهر. وعلينا أن نؤكد منذ البداية أن السؤال لم يكن بعيدًا عن مجال اهتمام عبد القاهر. ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن قضيته الأساسية في كتابَيْه المعروفَيْن «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» هي التفرقة بين «مستويات الكلام»، تلك المستويات التي تبدأ من «الكلام العادي» وتنتهي إلى «الكلام المُعجِز» الذي يفوق طاقة البشر. ومن المستحيل في ذهن عبد القاهر أن تتم هذه التفرقة بين هذين الطرفين من «مستويات الكلام» دون الوقوف على «مستوى الكلام الأدبي» والتوقف الطويل أمام خصائصه. من أجل ذلك يتوقف عبد القاهر ليدافع عن «علم الشعر» دفاعًا نظن أنه الأول من نوعه في مواجهة تيار لا يستهان به في الثقافة العربية، يغض من قيمة الشعر، ويهون من شأن مبدعيه ونُقَّاده على السواء.

والقضية في ذهن عبد القاهر هي قضية «إعجاز القرآن»، وهي قضية لا يقنع فيها عبد القاهر بآراء السابقين عليه، وهي آراء تراوحت بين رؤية الإعجاز في أمر خارج النص ذاته، ورؤيته في صدق إخباره عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وتقدير الإعجاز في بعض خصائص القرآن الأسلوبية والبلاغية.٩ الإعجاز في رأي عبد القاهر كامن في النص ذاته، بل كامن في كل آية من آيات القرآن طالت أو قصرت. وهذا الإعجاز يمكن اكتشافه والوصول إليه في كل عصر، ولا تتوقف معرفته على العرب الذين كانوا معاصرين له. لذلك يقول عبد القاهر لمن يكتفي في معرفة الإعجاز بالاستناد إلى عجز معاصريه عن معارضته:
«خُبِّرنا عمَّا اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر، أتعرف له معنى غير أنه لا يزال البرهان منه لائحًا معرضًا لكل من أراد العلم به، وطلَب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكنًا لمن التمسه؟ فإذا كنت لا تشك في ألَّا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي له كان القرآن معجزًا — وهو الفصاحة والبلاغة — قائم فيه أبدًا، وأن الطريق إلى العلم به موجود، والوصول إليه ممكن، فانظر أي رجل تكون إذا أنتَ زهدتَ في أن تعرف حجة الله تعالى، وآثرتَ فيه الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها.»١٠

وما دام إعجاز القرآن وصفًا قائمًا فيه أبدًا، فإن الوصول إليه، والعلم به، يحتاج إلى «علم الشعر» ولا يستغني عنه. ويكون هؤلاء الذين يغضون من قيمة الشعر في التراث الديني، ويهونون من شأن «علم الشعر» يكون هؤلاء بمثابة من يصد عن سبيل الله، وبمثابة من يمنع الناس من حجة الله.

«وذلك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومنتهيًا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر، وكان محالًا أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب، والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيها قصب الرهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، وزاد فيها بعض الشعر على بعض؛ كان الصادُّ عن ذلك صادًّا عن أن تعرف حجة الله تعالى، وكان مَثَلُه مثل من يتصدى للناس فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى ويقوموا به ويَتلوه ويقرءُوه … فمَن حال بيننا وبين ماله كان حِفْظُنا إياه، واجتهادنا في أن نؤديه ونرعاه، كان كمن رام أن يُنْسينَاه جملة ويُذْهِبه من قلوبنا دفعة، فسواء من منعك الشيء الذي تنتزع منه الشاهد والدليل، ومَن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، والاطلاع على تلك الشهادة.»١١
يمكن أن نقول — نقدًا لعبد القاهر — إنه يُهوِّن من قدر الشعر، وينزل به إلى أن يصبح مجرد دلالة وشاهد على إعجاز القرآن، كما يمكن أن نقول إن «علم الشعر» عنده مجرد علم «ثانوي» يخدم علمًا آخر دينيًّا هو علم «إعجاز القرآن» لكن هذا النقد الذي يمكن أن نوجهه إلى الشيخ لا ينبغي أن يقلل في وعينا من قيمة المحاولة ذاتها، محاولة إقامة «علم للشعر» بصرف النظر عن «القصد» بالمعنى التاريخي. قد يقال إن هذا «القصد» التاريخي قد ترك على أفكار الشيخ ومفاهيمه بصمات واضحة لا نستطيع تجاهلها، وهذا أمر لا ننكره، ولكننا لا نتوقف أمامه طويلًا في قراءتنا الراهنة.١٢

كانت هذه مقدمة طالت بعض الشيء لكي نقول إن عبد القاهر — على خلاف علماء الأسلوبية — طرَح السؤال بطريقة أخرى ومن خلال مدخل مغاير. كان السؤال هو: ما الذي يميز كلامًا من كلام؟ وما الصفة الباهرة التي بدهت العرب في النص القرآني فأحسُّوا بالعجز إزاءه برغم فصاحتهم وقدرتهم البيانية؟ ويكاد عبد القاهر في إجابته عن مثل هذه الأسئلة يقترب — هونًا ما — من الفكر الأسلوبي المعاصر، حين يرى أن «الشعر» — وكذلك «القرآن» — كلام ينتمي إلى اللغة، ولكنه كلام يَتميَّز بخصائص ومعانٍ تدخله في حدود «الفن». ولكن هذه الخصائص والمعاني «الفنية» خصائص ومعانٍ يمكن الوصول إليها وتحديدها، ولا يصح أن يُكْتَفى في وصفها بالعبارات الغامضة الفضفاضة، التي تملأ كتب النقد والبلاغة السابقة على عبد القاهر:

«لا يكفي في علم «الفصاحة» أن تنصب لها قياسًا ما، وأن تصفها وصفًا مجملًا، وتقول فيها قولًا مرسلًا، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئًا شيئًا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الأبريسم (الحرير) الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الآجر الذي في البناء البديع.»١٣

وإذا كان عبد القاهر لا يكتفي بالأقوال المرسلة، ويحرص على التفصيل في معرفة الخصائص وتحديدها، فإنه — بالمثل — ينفر مما شاع عند أسلافه من الوقوف في منطقة «اللاتعليل» ومن اكتفائهم بالقول إن هذه الخصائص لا تحيط بها الصفة، ولا تدركها العبارة، ذلك أنه:

«لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعِلَّة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه دليل.»١٤

ومن أجل تحديد الخصائص الفارقة بين «الشعر» و«الكلام العادي» يبدأ عبد القاهر بالصفات المشتركة، فكلاهما ينتمي إلى مجال اللغة. وليست اللغة إلا مجموعة من القوانين الوضعية، سواء على مستوى المفردات (الألفاظ) أو على مستوى التركيب (الجملة). وليست الألفاظ — فيما يرى عبد القاهر — إلا دوال على المعاني الجزئية المفردة، لا تكتسب دلالتها الكاملة، ومن ثم لا تكتسب فصاحتها أو بلاغتها، إلا إذا دخلت في علاقات تركيبية مع غيرها من الألفاظ:

«وليت شعري هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني؟ وهل هي إلا خدَم لها ومُصرَّفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها، وأوضاعًا وُضِعَت لتدل عليها.»١٥
«إن الألفاظ أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه؛ فأما أن يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها فمِمَّا لا يقوم في عقل، ولا يُتصوَّر في وهمٍ.»١٦
«الألفاظ لا تراد لأنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني؛ فإذا عدمت الذي له تراد، أو اختل أمرها فيه، لم يعتد بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، وكانت السهولة فيها وغير السهولة فيها واحدًا.»١٧

وهكذا يخرج عبد القاهر الألفاظ المفردة من أن تستحق في ذاتها أي وصف يُضْفَى عليها وهي خارج تركيب بعينه. ومن هذا المنطلَق يدفع بعض ما شاع عند استحسان الشعر للفظه، أو بالأحرى يُعيد تفسير هذه الأقوال في ضوء نظريته:

«فإذا رأيتَ البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرًا، أو يستجيد نثرًا، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ، فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده.»١٨

وإذا كانت الألفاظ في اللغة مجرد دوال وضعية اصطلاحية اتفاقية، أليست قوانين النحو التي تدخل الألفاظ على أساسها في علاقات، هي بدورها قوانين لا يملك المتكلم إزاءها إلا الخضوع؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فما دور المتكلم؟ وما مدى الحرية المتاحة له في صنع الكلام؟ إن قوانين النحو التي يحددها عبد القاهر في خطبة «دلائل الإعجاز» قوانين عامة تتحدد على أساسها العلاقات الممكنة والمحتملة بين الدوال اللغوية (الألفاظ)، سواء كانت هذه الدوال أسماء أو أفعالًا أو حروفًا. لكن هذه القوانين العامَّة لا تحصر العلاقات الفعلية التي يمكن أن يقيمها المتكلم بين ألفاظ اللغة التي لا حصر لها. ويمكن لنا القول بطريقة معاصرة إن عبد القاهر كان على وعي تامٍّ بالفارق بين اللغة و«الكلام» ذلك الفارق الذي أرسى دعائمه العالم السويسري فرديناند دي سوسير، وطوَّرَه تشومسكي في تفرقته بين «الكفاءة» و«الأداء». إن قوانين النحو ومعاني الألفاظ تُمثِّل عند عبد القاهر «النِّظَام» اللغوي القارَّ في وعي الجماعة، الذي تقوم اللغة على أساسه بوظيفتها الاتصالية: أما الكلام فهو التَّحقُّق الفعلي لهذه القوانين في حدث كلامي بعينه:

ومختصر الأمر أنه لا يكون كلامًا من جزء واحد، وأنه لا بد من مُسنَد ومُسنَد إليه؛ وكذلك السبيل في كل حرف رأيته يدخل على جملة «كأن» وأخواتها؛ ألا ترى أنك إذا قلت: «كأن» يقتضي مشبَّهًا ومشبَّهًا به، كقولك: «كأن زيدًا الأسد»؟ وكذلك لو قلتَ «لو» و«لولا» وجدْتَهُما يقتضيان جملتين تكون الثانية جوابًا للأولى.»١٩

من هذه التفرقة بين اللغة والكلام — وهي تفرقة ضمنية في فكر عبد القاهر — يتحرك عبد القاهر ليصوغ مفهوم «النَّظْم» الذي يميز على أساسه بين كلام وكلام، لا من حيث الصحة اللغوية أو النحوية، بل من حيث «الفَنِّية» أو «الأدبية»، إذا جاز لنا استخدام مثل هذه المصطلحات. إذا كانت قوانين اللغة على مستوى الألفاظ أو التركيب (قوانين النحو) هي القوانين الفاعلة في كل مستويات الكلام، فإن الكلام الأدبي — دون غيره — هو الذي ينسب إلى قائله، ويُعبِّر عن فاعليته العقلية. وهنا فقط — أي على مستوى النظم — تتحقق للمتكلم أقصى درجات الحرية الممكنة داخل قوانين اللغة: فليس النظم فيما يقوله عبد القاهر:

«إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه «علم النحو»، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نُهِجَت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسِمَت لك، فلا تُخِل منها بشيء.»٢٠

وقد يبدو من هذا النص أن «علم النحو» يتطابق مع «النَّظْم»؛ ويبدو هذا التطابق واضحًا من أسلوب القصر الذي يستخدمه عبد القاهر في قوله «ليس النَّظْم». ولكن علينا أن نكون على بصيرة بتفرقة عبد القاهر الضمنية بين «أصول النحو» التي هي قوانين التركيب التي يحصرها في مدخل «دلائل الإعجاز»، و«علم النحو» الذي يحاول عبد القاهر أن يرسي قواعده، والذي يقوم كتاب «الدلائل» كله على تفصيله. تنتمي «أصول النحو» إلى مجالِ قوانين اللغة؛ أما «علم النحو» أو «النَّظْم» فهو الذي يحصر الخصائص «الفنية» أو «الأدبية» في الكلام، شعرًا كان أو نثرًا. والدليل على ما نذهب إليه من تفرقة بين «أصول النحو» و«علم النحو» أن عبد القاهر في حديثه عن «الأصول» يتحدث عن قوانين مُجمَلة، وفي حديثه في النص السابق عن «علم النحو» الذي يجعل النظم مقصورًا على اتباع قوانينه، يقول:

«وذلك أنَّا لا نعلم شيئًا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وُجوه كل بابٍ وفُروقه، فينظر في «الخبر» إلى الوجوه التي تراها في قولك «زيد منطلق»، و«زيد ينطلق»، و«ينطلق زيد»، و«منطلق زيد» و«زيد المنطلق»، و«المنطلق زيد»، و«زيد هو المنطلق»، و«زيد هو منطلق»، وفي «الشرط والجزاء» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «إن تَخرُجْ أخرجْ»، و«إن خرجتَ خرجتُ»، و«إن تَخرجْ فأنا خارج»، و«أنا خارج إن خرجتَ»، و«أنا إن خرجتَ خارج».

وفي «الحال» إلى الوجوه التي تراها في قولك: «جاءني زيد مسرعًا»، و«جاءني يسرع»، و«جاءني وهو مسرع أو وهو يسرع»، و«جاءني قد أسرع»، و«جاءني وقد أسرع»، فيعرف لكل من ذلك موضعه، ويجيء به حيث ينبغي له.

وينظر في «الحروف» التي تَشترك في معنى، ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية في ذلك المعنى، فيضع من ذلك في خاصِّ معناه، نحو أن تقول ﺑ «ما» في نفي الحال، وﺑ «لا» إذا أُرِيد نفي الاستقبال، وﺑ «إن» فيما يترجح بين أن يكون وألَّا يكون، وﺑ «إذا» فيما عُلِم أنه كائن.

وينظر في «الجمل» التي تُسْرَد، فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل، ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع «الواو» من موضع «الفاء»، وموضع «الفاء» من موضع «ثم»، وموضع «أو» من موضع «أم» وموضع «لكن» من موضع «بل».

ويتصرف في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، في الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيصيب بكل من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له.»٢١
وليست هذه الأمثلة التي يعطيها عبد القاهر «للنَّظْم» أو «لعلم النحو» إلا أمثلة دالَّة على فروق في التراكيب، أو لِنَقُل أمثلة دالَّة على فروق في الأساليب. وهذه الأمثلة الهامَّة سيخصص عبد القاهر لكل مجموعة منها فصلًا في كتاب «الدلائل»؛ الأمر الذي يؤكد ما ذهب إليه بعض الباحثين — ونحن نَتَّفِق معه — من أن عبد القاهر يُحاول في «دلائل الإعجاز» «أن يقيم رابطة بين دراسة الأدب والمسائل النحوية المتعلقة بنظام الكلمات أو تركيب العبارات.»٢٢

لعل في هذا التماثل بين «علم النحو» و«النَّظْم» في فكر عبد القاهر ما يسمح لنا أن نقول إن مفهوم «النَّظْم» عند عبد القاهر يقترب إلى حد كبير من مفهوم «الأسلوب»، ويصبح «النَّظْم» الذي يضع «علم النحو» قواعده، هو علم «دراسة الأدب»، أو «علم الشعر». ويمكن لنا أن نقول إن «علم الشعر» عند عبد القاهر يقوم على أساس لغوي مكين، نُجَلِّي جوانبه في الفقرة التالية.

النظم والأسلوب

حين يقرن عبد القاهر بين «النَّظْم» و«علم النحو» ويُوحِّد بينهما أحيانًا، فإن ما يقصده بعلم النحو — كما أشرنا من قبل — ليس هو «القوانين النحوية المعيارية» التي تُحدِّد حدود الصواب وحدود الخطأ في الكلام. والنص السابق الذي استشهدنا به يتحدث عن «علم النحو» على أساس أنه الفروق بين أساليب مختلفة في «الكلام»، تبدو من منظور «النحو المعياري» أساليب متساوية. ولكن هذه الفروق بين التقديم والتأخير، وبين الإخبار بالوصف والإخبار بالفعل، وغيرها من الفروق التي حدَّدها عبد القاهر، هي فروق في الدلالة، تُحوِّل الكلام من مُستوًى إلى مستوًى آخَر. هذه الفروق هي مدار المعنى والدلالة؛ وهي فروق «شخصية» إذا صح لنا أن نقول ذلك؛ وهي خصائص «فردية» تحدد مستويات الكلام «الأدبي»، وتُفرِّق بين كلام وكلام. ولَسْنَا في هذا نُضفِي على فكر عبد القاهر من عندنا مفاهيم، أو نُضفي عليه تصورات. وعبد القاهر يستخدم كلمة «الأسلوب» للدلالة على هذه التفرقة بين «نَظْم» و«نَظْم». يقول:

واعلم أن «الاحتذاء» عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه، أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغَرض أسلوبًا — و«الأسلوب» الضرب من النَّظْم والطريقة فيه — فيعمد شاعر آخَر إلى ذلك «الأسلوب» فيجيء به شعره … وذلك مثل أن الفرزدق قال:

أترجو ربيع أن يجيء صِغارها
بخير وقد أعيا ربيعًا كبارُﻫا

واحتذاه «البُعَيْث» فقال:

أترجو كليب أن يجيء حديثُها
بخير وقد أعيا كليبًا قديمُها٢٣

وواضح من نص عبد القاهر أن هناك فارقًا يدركه بين «المعنى» أو «الغرض» و«الأسلوب» الذي يُسْتَخْدم في الدلالة على ذلك «المعنى» أو «الغرض»، فالأسلوب هو طريقة من «النَّظْم» وضرب فيه. وواضح من استشهاده على «الاحتذاء» في الأسلوب أنه يقصد به الطريقة الخاصة في التعبير. وليس ثَمَّة فارِق بين بَيْتَي الفرزدق والبُعَيث سوى أن الأخير قد استبدل كلمات بكلمات، فاستبدل في الشطر الأول «كُليبًا» ﺑ «ربيع»، و«حديثها» ﺑ «صغارها»، واستبدل في الشطر الثاني كلمة «قديمها» بكلمة «كبارها». وهذا الاستبدال — وإن كان ينقل المعنى من هجاء «ربيع» إلى هجاء «كليب» — لا يُؤثِّر كثيرًا في «الأسلوب»، فيظل الأسلوبان — من حيث الشكل — طريقة واحدة، ونظمًا واحدًا.

وليس صحيحًا ما يذهب إليه بعض الدارسين من أن عبد القاهر قد أهمل في الأسلوب جوانب تتجاوز مستوى التركيب النحوي، فقد توقَّف أمام ظاهرة «السجع» — وهي ظاهرة صوتية — توقفًا طويلًا في «أسرار البلاغة»، لينفي عنها ما شاع في الفكر النقدي السابق عليه من أنها مجرد حلية خارجية تُضاف إلى «الكلام» ولا تُؤثِّر في دلالته.٢٤ ثم هو يتوقف أمام الظاهرة نفسها في «دلائل الإعجاز» ليؤكد علاقتها بالأسلوب، وذلك وهو في معرض الرد على من يقولون إن «البلاغة» و«الفصاحة» تكون من تلاؤم الحروف والظواهر الصوتية وحدها، دون الدلالة والمعنى. يقول الشيخ:
«فصعوبة ما صعب من السجع هو صعوبة عرضت في المعاني من أجل الألفاظ. وذاك أنه صعب عليك أن توفق بين معاني تلك الألفاظ المسجعة، وبين معاني الفصول التي جعلت أردافًا (نهايات) لها، فلم تستطع ذلك إلا بعد أن عدلت عن أسلوب إلى أسلوب، أو دخلت في ضرب من المجاز، أو أخذت في نوع من الاتساع، وبعد أن تلطفت على الجملة ضربًا من التلطف.»٢٥

إن هذه الفروق بين طريقة في «النَّظْم» وأخرى — تلك الفروق التي يطلق عليها عبد القاهر اسم «الأسلوب» — هي فروق تحدث بالمتكلم لا باللغة، سواء بألفاظها الوضعية أو قوانينها النحوية المعيارية. إن تفرقة عبد القاهر بين دَوْر المتكلم في «النَّظْم» أو في «الأسلوب»، ودَوْر «اللغة»، تفرقة مهمة، تشغل حيزًا عظيمًا من كتابيه. ونحن نعلم أن هذه التفرقة لم تكن تابعة في فكر عبد القاهر من توجُّه نقدي يدرك دَوْر المبدع في تشكيل النص بالمعنى النقدي الحديث، ولو قلنا عكس ذلك لوقعنا في «التَّحيُّز» الرخيص المُبتَذل، فعبد القاهر كان حريصًا على هذه التفرقة بين دور «المُتكلِّم» ودَوْر «اللغة»، وحرصه هذا راجع إلى أن مدخله الأساسي لعِلْم الشعر — كما أشرنا من قبل — كان البحث عن «دلائل الإعجاز» القرآني.

لقد كان البحث في «الإعجاز» قبل عبد القاهر يوشك أن يدخل في إشكالية يصعب حلها، إشكالية تَتمثَّل في وصف القرآن لذاته بأنه بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وهو وصف جعل علماء اللغة والمفسرين يتخذون «الشعر» شاهدًا على صحة العبارة القرآنية، أو بالأحرى شاهدًا على «عربيتها»، وذلك في وجه «الهجوم الشعوبي» على لغة القرآن وعلى أسلوبه، وكان هذا هو وجه الإشكالية الأول. ويتمثل وجهُها الثاني في إيمان المسلمين بأن القرآن «نص معجز» لا يُقارَن من حيث مستواه بأي نص آخر، شعريًّا كان أو نثريًّا. وبين طرفي هذه الإشكالية يمكن تصنيف الآراء المختلفة التي قِيلَت في تفسير الإعجاز، وهذا موضوع درس آخَر على أي حالٍ.

في قلب هذه الإشكالية تأتي تَفرِقة عبد القاهر بين «الأساليب»، و«نَظْم»، و«نَظْم»، فيكون القرآن معجزًا بنظمه، وإن جاء بلسان العرب، وعلى مواضعاتهم اللغوية، ووفق قواعد لغتهم النحوية. ولا بد والحال هذه من أن يكون «نظم القرآن» مفارقًا لنظم غيره من النصوص، ومن ثم «معجزًا» لأن المتكلم بالقرآن الله — سبحانه وتعالى — لا يُقارَن في علمه بسواه من المتكلمين. ولذلك أيضًا يقرن عبد القاهر دائمًا بين القدرة على النَّظْم و«الفكر» أو «الرَّوِيَّة» أو «لطائف العقل» أو «المعاني النفسية». ويكون من قبيل النقد المبتذل أن ننعي على عبد القاهر — كما فعل بعض الباحثين — هذا الرَّبْط بين «النَّظْم» والقدرة «العقلية» للمتكلم. لقد كان للشيخ — كما قلنا — مدخله الخاص لدراسة «علم الشعر» ولتحديد الخصائص الفارقة بين «الكلام الشعري» و«الكلام العادي». ولا تَثريب على الشيخ في مدخله، ولا تثريب علينا — بعد أن نعي منطق الشيخ الداخلي — أن نَتجاوزه إلى «مَغزى» نتائجه التي تعنينا في هذه القراءة.

الأسلوب ودور المتكلم

إن دور اللغة في «الأسلوب» مقصور — كما أشرنا من قبل — على تحديد معاني الألفاظ المفردة، أو لِنَقُل على وضع العلامات، وعلى تحديد «القوانين النحوية» العامة التي تجعل الكلام ممكنًا. داخل هذه القوانين والمواضَعات ثمة قدْر هائل من الحرية متاح للمتكلم في اختيار الصيغ والأساليب المعبِّرة عن «الغرض» أو «المعنى»:

«إن الفصاحة فيما نحن فيه، عبارة عن مزية هي بالمتكلم دون واضع اللغة وإذا كان كذلك فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم، هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئًا ليس هو له في اللغة، حتى يجعل ذلك من صنيعه مزية يعبر عنها بالفصاحة؟ وإذا نظرنا وجدْنَاه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئًا أصلًا، ولا أن يحدث فيه وضعًا. كيف وهو إن فعل ذلك أفسد على نفسه، وأبطل أن يكون متكلمًا؛ لأنه لا يكون متكلمًا حتى يستعمل أوضاع اللغة على ما وُضِعَت عليه.»٢٦

وحين ينتقل عبد القاهر لتحديد علاقة المتكلم بقوانين النحو «المعيارية» يصر أيضًا على أن هذه القوانين — وحدها — لا تؤدي إلى تفاصيل في مستويات الكلام، ولا تحدث عنها مزية أو تفاوت. إنها قوانين تحدد معايير الخطأ والصواب، وليست هي القوانين التي تُحدِّد «الفصاحة» و«البلاغة» بالمعنى الذي يقصده عبد القاهر ويحصره في «النَّظْم».

«ثم إنَّا نعلم أن المزية المطلوبة في هذا الباب، مزية في طريقة الفكر والنظر من غير شبهة. ومُحال أن يكون اللفظ له صفة تُسْتنْبَط بالفكر، ويُستعان عليها بالروية، اللهم إلا أن تريد تأليف النغم، وليس هذا مما نحن فيه بسبيل. ومن هنا لم يَجُز، إذا عُدَّت الوجوه التي تظهر بها المزية، أن يُعَد فيها الإعراب، وذلك أن العلم بالإعراب مُشترَك بين العرب كلهم، وليس هو مما يُستنبَط بالفكر، ويُستعان عليه بالرَّوِيَّة، فليس أحدهم — بأن إعراب الفاعل الرفع، أو المفعول النصب، والمضاف إليه الجر — بأعلم من غيره، ولا ذاك مما يحتاجون فيه إلى حدة ذهن، وقوة خاطر.»٢٧
«إن كلامنا في فصاحة تجب للفظ، لا من أجل شيء يدخل في النطق، ولكن من أجل لطائف تُدرَك بالفهم، وأنَّا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر، من بعد أن يكونَا قد بَرِئا من اللحن، وسَلِمَا في ألفاظهما من الخطأ.»٢٨
واعلم أنَّا إذا أضفنا الشعر — أو غير الشعر من ضروب الكلام — إلى قائله، لم تكن إضافتنا له من حيث هو كَلِم وأوضاع لغة، ولكن من حيث توخى فيها «النَّظْم» الذي بَيَّنَّا أنه عبارة عن تَوخِّي معاني النحو في معاني الكلم.»٢٩

إن علاقة الشاعر — أو المتكلم — بالألفاظ المفردة، التي هي أوضاع اللغة كما يقول عبد القاهر، أشبه بعلاقة «الصانع» بمادته الخام، فالمادة الخام في أي صناعة مادة لم يصنعها الصانع، ولكنها مادة يعيد تشكيلها وفق تَصوُّر خاص وتصميم بعينه. والمقارَنة التي يعقدها عبد القاهر بين «النظم» وإعادة تشكيل المادة الخام في الصناعات المختلفة لا ينبغي أن تُشوِّش علينا فَهْم تَصوُّر عبد القاهر، فنسارع إلى القول بأنه ينظر إلى الشعر بوصفه صناعة مثل سائر الصناعات، ذلك أن عبد القاهر يستخدم عبارات مَجازية، وتمثيلات شائعة ومستقرة في التراث السابق عليه، ولكنه يعي وعيًا حادًّا — كما سنشير من بعد — الفارق بين تشكيل المادة الخام في الصناعات المختلفة، و«نظم» المعنى في الشعر. إن المقارنة عند عبد القاهر تستهدف التوضيح والكشف، ولا يُراد معناها الحرفي القائم على التطابق والمماثلة.

وليس ما يقوله عبد القاهر هنا ببعيد عن التصور المعاصر لعلاقة الشاعر باللغة، تلك العلاقة التي نفهمها على أنها نوع من المعاناة والمكابَدة، إذا كنا نَتحدَّث عن شاعر حقيقي لا مجرد ناظم. إن علاقة الشاعر بألفاظ اللغة ومُواضعاتها — فيما يرى عبد القاهر — أشبه بعلاقة الصانع بمادته الخام، إنه لا يصنع المادة ولكنه يعيد تشكيلها، وكذلك الشاعر، ليس هو الذي يبدأ المواضعة على الألفاظ ويحدد دلالتها، ولكنه يعيد تشكيلها في علاقات جديدة لتنتج شكلًا يؤثر بدوره على دلالتها، ومن ثم يمنحها فصاحتها وبلاغتها:

«وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في الجهة التي يختص منها الشعر بقائله. وإذا نظرنا وجدناه يختص به من جهة توخيه في معاني الكلم التي ألفه منها، ما توخاه من معاني النحو، ورأينا أنفس الكلم بمعزل عن الاختصاص، ورأينا حالها معه حال الأبريسم مع الذي ينسج منه الديباج، وحال الفضة والذهب مع من يصوغ منهما الحلي، فكما لا يشتبه الأمر في أن الديباج لا يختص بناسجه من حيث الأبريسم، والحلي بصائغها من حيث الفضة والذهب، ولكن من جهة العمل والصنعة، كذلك ينبغي ألَّا يشتبه أن الشعر لا يختص بقائله من جهة أنفس الكلم وأوضاع اللغة.»٣٠

إن كل ما يفعله الشاعر — أو المتكلم — في ألفاظ اللغة، هو أن يقيم بينها علاقات يتوخى فيها معاني النحو. وليست معاني النحو التي يتحدث عنها عبد القاهر هي «القوانين المعيارية» التي يتحتم أن تتحقق في أي كلام لكي يكون كلامًا، ولكنها المعاني التي تُحْدِث الفروق بين أسلوب وأسلوب، وبين نَظْم ونَظْم. إن قوانين النحو المعيارية هي بدورها قوانين وضعية لا تفرق بين كلام وكلام، شأنها شأن دلالات الألفاظ المفردة. وليست المزية التي تحدث في الكلام — فيما يرى عبد القاهر — بمجرد علم المتكلم بتلك الفروق التي تُحْدِثها المعاني النحوية؛ العلم وحْدَه لا يكفي، ولا بد من القدرة التي تُمكِّن المتكلم أو الشاعر من استخدام هذا العلم وتوظيفه توظيفًا مؤثرًا دالًّا. إن معاناة الشعر أو مكابدته اللغة لا تقتصر في تصور عبد القاهر على الألفاظ، ولكنها تمتد إلى الدلالات النحوية التي يطلق عليها عبد القاهر «معاني النحو»:

«وغلطُ الناس في هذا الباب كثيرٌ. فمن ذلك أنك تجد كثيرًا ممن يتكلم في شأن البلاغة إذا ذكر أن للعرب الفضل والمزية في حسن النظم والتأليف، وأن لها في ذلك شأوًا لا يبلغه الدُّخلاء والمُولَّدون، جعل يعلل ذلك بأن يقول: «لا غرو، فإن اللغة لها بالطبع ولنا بالتكلف، ولن يبلغ الدخيل في اللغات والألسنة مبلغ مَن نشأ عليها، وبُدِئ من أول خلقه بها»، وأشباه ذلك مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللغة. وهو خطأ عظيم وغلَط مُنكَر، يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم. وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر، وتقصر قوى نظرهم عنها ومعلومات ليست في مُنَن أفكارهم وخواطرهم أن تفضي بهم إليها، وأن تطلعهم عليها، وذلك محال فيما كان علمًا باللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليه أهل اللغة؛ وذلك ما لا يخفى امتناعه على عاقل.

واعلم أنَّا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكنَّا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يصنع فيها؛ فليس الفضل للعلم بأن «الواو» للجمع، و«الفاء» للتعقيب بغير تراخٍ، و«ثم» له بشرط التراخي، و«إنْ» لكذا و«إذا» لكذا، ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمت شعرًا وألَّفتَ رسالة أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك موضعه.

وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول فضلًا عن اعتقاده وهو أن المزية لو كانت تجب من أجل اللغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها، لكان ينبغي ألَّا تجب إلا بمثل هذه الفروق بين «الفاء» و«ثم» و«إنْ» و«إذا» وما أشبه ذلك مما يُعبِّر عنه وضْع لغوي، فكانت لا تجب بالفصل وترك العطف، وبالحذف والتكرار، والتقديم والتأخير، وسائر ما هو هيئة يحدثها لك التأليف، ويقتضيها الغرض الذي تؤم، والمعنى الذي تقصد، وكان ينبغي ألَّا تجب المزية بما يبتدئه الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللفظ للشيء لم يستعر له، وألَّا تكون الفضيلة إلا في استعارة قد تُعُورِفَت في كلام العرب. وكفى بذلك جهلًا.»٣١

في هذا النص الطويل يكاد عبد القاهر — أولًا — أن ينفي أي علاقة بين «الطبع» اللغوي والقدرة على النَّظم، ويرد القدرة على النظم إلى مقدرة المتكلم «العقلية»، التي يربطها بالعلم بالمعنى العام، ولا يقصره على مجرد العلم باللغة وبمواضعاتها. وهذا الربط — كما سلفت الإشارة — مهم جدًّا بالنسبة لعبد القاهر؛ لأنه هو الذي يحدد له الفارق بين مستوى كلام ومستوى كلام آخر، ويجعله — من ثم — قادرًا على تفسير «الإعجاز»، وذلك على أساس مفارقة القائل للقرآن — الله عز وجل — لغيره من القائلين. إن مفارقة القرآن لغيره من النصوص — أو بالأحرى إعجازه — لا يرتد إلى مُواضَعات اللغة، سواء في مستواها اللفظي أو مستواها التركيبي، بل يرتد — إلى جانب ذلك — إلى المقدرة الخاصة للمتكلم على صياغة اللغة وإعادة تشكيلها. إنه يرتد — بعبارة أخرى — إلى «النَّظْم». وهذا النظم نفسه هو الذي يفرق بين شعر وشعر، وبين كلام وكلام.

هذا النص أيضًا يؤكد عبد القاهر أن مهارة المتكلم إنما تتمثل في قدرته على التخير بين ممكنات مختلفة، تطرحها اللغة في «معاني النحو»، كما تطرحها في دلالات الألفاظ. من هذا المنطلق يمكن لعبد القاهر أن يطلق مجازًا يشبه المجاز السابق الذي يقارن فيه بين الألفاظ وخيوط الإبريسم، وبين الألفاظ والذهب والفضة، من حيث علاقة الشاعر بالأُولى، وعلاقة الصانع بالثانية — يمكن لعبد القاهر أن يقيم مجازًا شبيهًا ليعبر به عن علاقة الشاعر أو المتكلم بمعاني النحو، فيرى:

«وإذ قد عرفت أن مدار أمر «النَّظْم» على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها، ونهاية لا نجد لها ازديادًا بعدها، ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض … وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل فيها الصور والنقوش؛ فكما أنك ترى الرجل قد تَهدَّى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نُسِج، إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواقعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها، إلى ما لم يهتدِ إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أغرب، كذلك حال الشاعر والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمتَ أنها محصول النَّظْم.»٣٢

إذا جمعنا بين القياس الذي يعقده عبد القاهر في هذا النص بين «الأصباغ» ومعاني النحو من جهة، والقياس الذي يقيمه في النص السابق بين المادة الخام وألفاظ اللغة من جهة أخرى، أمكننا أن نخرج بتصور صحيح لمفهوم النظم عند عبد القاهر، ولدور المتكلم في تحقيقه. ألفاظ اللغة تشبه المادة الخام التي يصنع منها المتكلم أسلوبه طبقًا لقوانين النحو «المعيارية». ومعاني النحو — التي هي الفروق الدقيقة داخل قوانين النحو — تشبه الأصباغ التي تعمل بها الصور؛ فإذا طبَّقْنَا هذا القياس على صناعة النسيج، فإن الألفاظ هي الخيوط التي تتألف وفق قواعد خاصة لتصنع ثوبًا، وقوانين النحو هي الأصباغ التي تفرق بين ثوب وثوب.

ولكي لا نقع مرة أخرى في المعنى الحرفي للقياس الذي يقيمه عبد القاهر، ونَتَّهِمه بإهدار قيمة الشعر، وبالتهوين من شأنه علينا أن نقرأ قوله:

«وإنَّا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارَضة على الأعمال الصناعية، كنسيج الديباج، وصوغ الشَّنف والسِّوار، وأنواع ما يُصاغ، وكل ما هو صنعة وعمل يد، بعد أن يبلغ مبلغًا يقع التفاضل فيه، ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت ويدخل في حد ما يعجز عنه الأكثرون.

وهذا القياس، وإن كان قياسًا ظاهرًا معلومًا، وكالشيء المركوز في الطباع، حتى ترى العامة فيه كالخاصة، فإن فيه أمرًا يجب العلم به: وهو أنه يتصور أن يبدأ هذا فيعمل ديباجًا ويُبدِع في نقشه وتصويره، فيجيء آخر ويعمل ديباجًا آخر مثله في نقشه وهيئته، وجملته وصفته، حتى لا يفصل الرائي بينهما، ولا يقع لمن لم يعرف القصة ولم يخبر الحال إلا أنهما صنعة رجل واحد، وخارجان من تحت يد واحدة. وهكذا الحكم في سائر المصنوعات، كالسوار يصوغه هذا ويجيء فيعمل سوارًا مثله، ويؤدي صفته كما هي، حتى لا يغادر منه شيئًا البتة.

وليس يتصور مثل ذلك في الكلام؛ لأنه لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت شعر، أو فصل من النثر، فتؤديه بعينه وعلى خاصيته وصفته بعبارة أخرى، حتى يكون المفهوم من هذه هو المفهوم من تلك، لا يخالفه في صفة ولا وجه ولا أمر من الأمور. ولا يَغُرنَّك قول الناس: «قد أتى بالمعنى بعينه، وأخذ معنى فأدَّاه على وجهه» فإنه تسامُح منهم، والمراد أنه أدَّى الغرض، فأما أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأول، حتى لا تعقل ها هنا إلا ما عقلته هناك، وحتى يكون حالهما في نفسك حال الصورتين المشتبهتين في عينك كالسوارين والشنفين، ففي غاية الاستحالة، وظن يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة.»٣٣

ليس أكثر من هذا البيان دلالة على نفي مفهوم «الصنعة» عن تصور عبد القاهر للنَّظْم. وليس أكثر منه دلالة على إدراك عبد القاهر لفاعلية دور المتكلم والشاعر في صنع «الأسلوب»، أو بالأحرى في تشكيله. إن الأسلوب — بهذا الفهم العميق — غير قابل للتقليد، وإنما هو فقط قابل للاحتذاء، كما أَشرْنَا من قبل. ليس الكلام من قَبيل الصناعات التي يصح فيها التقليد إلا على سبيل الحكاية أو «الرواية» نعني رواية قصيدة لشاعر بعينه، وفي هذه الحالة فإن القصيدة — كما قال عبد القاهر — تضاف إلى الشاعر، ولا تضاف إلى الراوي أو «الحاكي». وما يقوله القدماء عن سرقة المعاني بين الشعراء لا يُقِرُّه عبد القاهر ولا يعترف به؛ فإن أي تَحوُّل في الأسلوب أو في «النَّظْم» يُؤثِّر في المعنى لا محالة. وَلْنُلاحظ كيف ينهج عبد القاهر نهجًا تأويليًّا في فَهْم أقوال القدماء حين يُفسِّر قولهم «قد أتى بالمعنى بعينه، وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه»، بأنه تسامُح منهم، والمراد أنه أدَّى الغرض، أما المعنى فيستحيل أن يكون هو المعنى الأول إذا تَغيَّر النظم أو الأسلوب. إن تفرقة عبد القاهر هنا بين «الغرض» و«المعنى»، تفرقة مُهمَّة، تَقودُنا إلى فقرة أخرى من فقرات هذه القراءة.

المعنى والأسلوب

في بعض نصوص عبد القاهر ما أوهم بعض الباحثين أن فكره يقوم على ثنائية تفصل بين «المعنى» و«النَّظْم» أو الأسلوب؛ ووقع آخرون في وَهْم آخر مؤداه أن عبد القاهر من أنصار «المعنى» دون «اللفظ»، وذلك في مواجهة نُقَّاد آخرين ينتصرون «للفظ» دون «المعنى». والحق أن معضلة «اللفظ والمعنى» في التراث النقدي والبلاغي كله تحتاج إلى قراءة أخرى نأمل أن يقوم بها أحد الباحثين. وفي تفرقة عبد القاهر في النص السابق بين «الغرض» و«المعنى» ما يمكن أن يساعد على إعادة طرح هذه القضية مرة أخرى من منظور عبد القاهر على أقل تقدير. وعبد القاهر يطرح القضية بشكل واضح حين يقول:

«لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها، فإن قلت: فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك، فليستا عبارتين عن معنًى واحد، بل هما عبارتان عن معنيين اثنين، قيل لك: إن قولنا «المعنى» في مثل هذا، يراد به الغرض، والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه، نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد، فتقول: زيد كالأسد، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: كأن زيدًا الأسد، فتفيد تشبيهه أيضًا بالأسد، إلا أنك تفيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأول، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يقصر عنه، حتى يتوهم أنه أسد في صورة آدمي. وإذا كان كذلك، فانظر هل كانت هذه الزيادة، وهذا الفرق، إلا بما توخى في نظم اللفظ وترتيبه، حيث قدم الكاف إلى صدر الكلام، وركبت مع «إن». وإذا لم يكن إلى الشك سبيل أن ذلك كان بالنظم، فاجعله العبرة في الكلام كله، ورض نفسك على تَفَهُّم ذلك وتَتبُّعه، واجعل فيها أنك تزاول منه أمرًا عظيمًا لا يُقَدَّر قدره، وتدخل في بحر عميق لا يُدْرَك قعره.»٣٤
المعنى إذن هو محصلة التفاعل الدلالي بين معاني الألفاظ من ناحية، ومعاني النحو التي أقامها المتكلم بين هذه الألفاظ من ناحية أخرى. أما الغرض فهو الفكرة العامة؛ الفكرة الخام قبل أن تصاغ في أسلوب بعينه، التي لا وجود لها إلا على سبيل الافتراض والتجاوز. الأغراض هي المعاني التي وصفها الجاحظ بأنها «مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي.» وجعل المعوِّل والشأن على «إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء وجودة السبك»، وجعل الشعر «صياغة وضربًا من التصوير.»٣٥ إن المعنى/الغرض الذي يطرحه عبد القاهر في هذا النص السابق هو التشبيه — تشبيه زيد بالأسد — وهو غرض عام قد يصاغ بأكثر من أسلوب، ويتجلى في أكثر من نظم. فإذا قلت: زيد كالأسد فقد أديت معنى التشبيه على سبيل الخبر، وإذا قلت: كأن زيدًا الأسد، فقد غيرت في الأسلوب والنظم؛ والمعنى الناتج عن هذا الأسلوب الثاني، ليس هو المعنى الناتج في الأسلوب الأول. ثم زيادة في المعنى — معنى التشبيه — أفادها وجود «إن» الدالة على التأكيد، ونقل كاف التشبيه إلى صدر الكلام وعدم وجود فاصل بين الدال «زيد»، والدال «الأسد».

هذا المعنى — أو الزيادة في «المعنى» الغرض — ناتج كما قلت عن تفاعل دلالات الألفاظ مع دلالات النحو أو «المعاني النحوية». وليس هذا القول من جانبنا على سبيل التخمين أو الاستنتاج، بل هو قول يقوله عبد القاهر بلغته، مستخدمًا مرة أخرى «القياس»:

«واعلم أن مَثَل واضع الكلام مَثَل مَن يأخذ من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض، حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنك إذا قلت: ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة ضربًا شديدًا تأديبًا له، فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم، هو معنى واحد، لا عدة معانٍ كما يتوهمه الناس: وذلك لأنك لم تأتِ بهذه الكلم لتفيده (يعني المخاطب) أَنْفُس معانيها، وإنما جئتَ بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل، الذي هو ضرب، وبين ما عمل فيه، والأحكام التي هي حصول التَّعلُّق. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من عمرو، وكون يوم الجمعة زمانًا للضرب، وكون الضرب ضربًا شديدًا، وكون التأديب علة للضرب، أَيُتصَوَّر فيها أن تُفرَد عن المعنى الأول الذي هو أصل الفائدة، وهو إسناد «ضرَبَ» إلى «زيد» وإثبات «الضرب» به له، حتى يعقل كون «عمرو» مفعولًا به، وكون «يوم الجمعة» مفعولًا فيه، وكون «ضربًا شديدًا» مصدرًا، وكون «التأديب» مفعولًا له — من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلًا للضرب؟

وإذا نَظرْنَا وَجدْنا ذلك لا يُتصَوَّر؛ لأن «عمرًا» مفعول لضرب وقع من «زيد» عليه، و«يوم الجمعة» زمان لضرْبٍ وقع من زيد، «وضربًا شديدًا» بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته، و«التأديب» عِلَّة وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان كذلك، بان منه وثبت أن المفهوم من مجموع الكلم مَعنًى واحد، لا عِدَّة مَعانٍ، وهو إثباتك زيدًا فاعلًا ضربًا لعمرو في وقت كذا، وعلى صفة كذا، ولغرض كذا؛ ولهذا المعنى نقول إنه كلام واحد.»٣٦

وإذا كان المعنى هو محصلة لتفاعل العلاقات النحوية داخل النظم أو الأسلوب، فعلينا أن نكون على حذر شديد في قراءة عبد القاهر، وأن نكون على وعي بأنه أحيانًا يستخدم كلمة «المعنى» ويقصد بها «الغرض» الذي هو الفكرة، وأحيانًا يستخدمها ويقصد بها «الدلالة»، وعبد القاهر حين يرفض أن يكون «المعنى» هو مَحَك البلاغة والفصاحة والبيان، ومن ثم «الإعجاز»، فهو يرفض «المعنى» الذي هو الغرض. وهنا يبدو عبد القاهر في معسكر واحد مع الجاحظ؛ أي في نصرة «الألفاظ» التي يقصد بها عبد القاهر «النَّظْم» — هذا إذا سَلَّمْنا بتلك الثنائية التي يُصِر البعض على وجودها في التراث. يرى عبد القاهر أن الشعر لا يصح أن تنبع قيمته من المعاني التي يَؤُمُّها الشعراء، بل قيمة الشعر الحقيقية إنما تكمن في النَّظْم والصياغة. هنا، أي حين تكون المفاضلة بين «المعنى» و«النَّظْم»، فإن عبد القاهر يقصد بالمعنى «الغرض». يقول عبد القاهر:

«واعلم أنهم (العلماء) لم يَعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا المعنى إذا كان أدبًا وحكمة، وكان غريبًا نادرًا، فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابُوه من حيث كان من حُكْم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص، ألَّا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته، وألَّا ينظر فيها إلى جنس آخر وإن كان من الأول بسبيل، أو مُتَّصلًا به اتصال ما لا ينفك منه. ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يُعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يُصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن مُحالًا إذا أنت أردتَ النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة، كذلك مُحال إذا أردتَ أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرد معناه. وكما أنَّا لو فضلنا خاتمًا على خاتم، بأن تكون فضة هذا أجود، أو فضه أَنْفَس، لم يكن ذلك تفضيلًا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضَّلْنا بيتًا على بيت من أجل معناه، ألَّا يكون تفضيلًا له من حيث هو شعر وكلام وهذا قاطع، فاعرفه.»٣٧
ومن الواضح في هذا النص أن كلمة «المعنى» يراد بها «الغرض»، وليس المقصود بها افتراض وجود مَعنًى سابق على «النظم» أو الأسلوب. إن تفضيل الشعر من أجل أغراضه إنما هو تفضيل له من زاوية أخرى غير كونه شعرًا، وتفضيله من حيث هو شعر يتحتم أن ينطلق من نظمه، وليس النظم — كما رأينا من قبل — سوى المعنى، أو لِنَقُل هو الدلالة التي ينتجها الشعر. إن القياس هنا أيضًا لا ينبغي أن يضللنا عن فهم عبد القاهر. وليس ثمة تَعارُض على الإطلاق بين رفض عبد القاهر لأن يكون المعنى هو محور المفاضلة بين الشعر والشعر، وبين رفضه الذي ناقشناه في الفقرة الأولى لأن تكون الفصاحة والبلاغة صفات للألفاظ، وإصراره الدائم على أن المتكلم إنما ينظم معاني لا ألفاظًا. ليست المسألة عند عبد القاهر مسألة معانٍ في مقابَلة ألفاظ، أو ألفاظ في مقابلة معانٍ، لأن مفهوم «النَّظْم» — كما شرحناه هنا — يحل هذه الثنائية ويتجاوزها. إن إصرار عبد القاهر على أن «النظم» يختص بالمعاني دون الألفاظ إنما هو إصرار يرتبط بمعاني الألفاظ المفردة؛ لأن اللفظ «تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم تَترتَّب في النطق بسبب ترتُّب معانيها في النفس، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتًا وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر، أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل، وأن يجب النطق بهذه، قبل النطق بتلك.»٣٨

وهكذا يتخلص عبد القاهر نهائيًّا من ثنائية «اللفظ والمعنى»، سواء على مستوى «النظم» أو على مستوى علاقة الدالِّ بالمدلول في الكلمات المفردة؛ فاللفظ لا يكون «لفظًا» إلا وهو دالٌّ على معنى، فإذا تَعرَّى اللفظ عن معناه فهو محضُ صوت لا دلالة فيه، ولا يتصور فيه نظم أو ترتيب. وتبقى شبهة أخيرة في بعض نصوص عبد القاهر، لا بد من مناقشتها حتى تكتمل في أذهاننا صورة تامة ما أمكن لمفهومه عن «النَّظْم» أو «الأسلوب». إن عبد القاهر الذي يرفض أن ننسب للألفاظ — من حيث هي أصوات وحروف — أي صفة من صفات الحسن، يعود فيقسم الكلام إلى قسمين:

«اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تُعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ، وقسم يعزى ذلك فيه إلى النظم. فالقسم الأول: «الكناية»، و«الاستعارة»، و«التمثيل الكائن على حدِّ الاستعارة»، وكل ما كان فيه، على الجملة، مَجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر، فما ضَرْب مِن هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب وعلى ما ينبغي، أوجب الفضل والمزية.»٣٩

وقد ناقشَا في كل ما سبق مفهوم «النَّظْم» الذي يَرُد إليه عبد القاهر كل خصائص الكلام البليغ ومزاياه، من فصاحة وبلاغة وبراعة وبيان، فما هذا النوع الآخر من الكلام، أو القسم الأول الذي تُعزَى المزية فيه إلى اللفظ دون النظم؟ هذا ما تُحاول الفقرة التالية والأخيرة أن تجيب عنه.

الأسلوب والمجاز

إن تقسيم عبد القاهر للكلام في النص السابق إلى قسمين: أولهما تعود المزية فيه للفظ وحده، تقسيم فيه تسامُح، أو لِنَقُل فيه نوع من التجاوز؛ ذلك أن العلماء السابقين عليه قد استَقرُّوا على أن يعدوا الاستعارة والمجاز بعامة من محاسن الكلام، كما استقروا على أن يروا في الاستعارة والمجاز بعامة أوصافًا للفظ.٤٠ ويبدو أن عبد القاهر في النص السابق لا يريد أن يجادل حول حسن الاستعارة والمجاز في ذاتهما، ولكنه في نصوص أخرى يحاول أن يرد جمال الاستعارة إلى «النَّظْم»، دون أن يقصره على «الاستعارة» وحدها.

ومن السهل جدًّا على عبد القاهر — وهو بصدد رد «إعجاز القرآن» إلى «النَّظْم» وحده — أن يرد على هؤلاء الذين قصروا صفة «الإعجاز» على الاستعارة والمجاز بصفة خاصَّة، أو على الأنماط البلاغية بصفة عامة، وذلك على أساس أن هذا:

«يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة؛ وإذا امتنع ذلك فيها، ثبت أن «النَّظْم» مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه.»٤١

وإذا كان «الإعجاز» في «النَّظْم» دون «الاستعارة» و«المجاز» وحدهما، فإن ذلك راجع إلى أن «الإعجاز» صفة تلحق آيات القرآن كلها، ولا تَختصُّ بآي دون آي. ومن المُسلَّم به أن القرآن فيه الكثير من المواضع التي لم تستخدم فيها الاستعارة أو المجاز. من هذا المنطلق يستطيع عبد القاهر أن يدخل «المجاز» و«الاستعارة» في إطار مفهوم «النَّظْم»، وذلك على أساس أنه:

«لا يُتَصوَّر أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يُتوَّج فيما بينها حكم من أحكام النحو. فلا يتصور أن يكون ها هنا «فعل» أو «اسم» قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألف غيره. أفلا ترى أنه إن قُدِّر في «اشتعل» من قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ألَّا يكون «الرأس»، فاعلًا له، ويكون «شيبًا» منصوبًا عنه على التمييز، لم يتصور أن يكون مستعارًا؟ وهكذا السبيل في نظائر «الاستعارة» فاعرف ذلك.»٤٢

وهكذا حلَّ عبد القاهر ذلك التعارض بين «النَّظْم» و«المجاز»، بحيث جعل مفهوم النظم يستوعب في داخله «المجاز»، ولكنه ظل — حصرًا لهوة الخلاف بينه وبين أسلافه — يعترف بنوع ما من الحسن المستقل للمجاز بأنماطه المختلفة. وفي نص آخر نجده يقسم الكلام تقسيمًا ثلاثيًّا، وذلك بعد أن يكشف في تحليله لبعض الاستعارات أن حُسْنها راجع إلى «النَّظْم» الذي تَوخَّاه الناظم فيها، وذلك حيث يقول:

«وجملة الأمر أن ها هنا كلامًا حُسْنُه للفظ دون النَّظْم، وآخَر حُسْنُه للنَّظْم دون اللفظ، وثالثًا قد أتاه الحُسْن من الجهتين، ووجبت له المزية بكلا الأمرين. والإشكال في هذا الثالث وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه، وتراك قد حِفْتَ فيه على النظم، فتركته وطمحْتَ ببصرك إلى اللفظ، وقدَّرتَ في حُسْن كان به وباللفظ، أنه للفظ خاصة. وهذا هو الذي أردتُ حين قلتُ لك: إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلا من بعد العلم بالنَّظْم والوقوف على حقيقته.»٤٣
إن هذا التقسيم الثلاثي للكلام يحتاج منا إلى قدر من التأمل والتعمق حتى نفهم السر في تردُّد عبد القاهر هذا بين «النظم» و«اللفظ»، خصوصًا إذا كان الحديث في المجاز. لماذا لم يقنع عبد القاهر برد «المجاز» كله إلى النظم، وظل حائرًا بين تقسيم الكلام قسمين، وبين تقسيمه ثلاثة أقسام؟ لعل الإجابة الدقيقة عن هذا السؤال تحتاج إلى قراءة أخرى لعبد القاهر — لا يتسع لها هذا المجال ويكفي هنا أن نشير إلى أن عبد القاهر — سواء في «أسرار البلاغة» أو «في دلائل الإعجاز» — يحرص على التفرقة بين «العامي المُبتذَل» من المجازات، و«الخاص الفخم الجزل». وهو عادة ما يمر على النوع الأول مُرور الكرام دون تحليل، في حين يَتوقَّف عند نماذج كثيرة من النوع الثاني، مُحلِّلًا لها وكاشفًا عن سر جمالها.٤٤ وأغلب الظن أن ما يقصده عبد القاهر بالكلام الذي يعود حُسْنه إلى لفظه دون نظمه هو الكلام الذي يتضمن مجازًا عاميًّا مبتذلًا، دون الكلام الذي يتضمن مجازًا خاصًّا؛ فذلك الأخير يعود حُسْنُه إلى لفظه ونظمه في الوقت نفسه:

فكما أن من الاستعارة والتمثيل عاميًّا مثل: «رأيتُ أسدًا» و«وردتُ بحرًا» و«شاهدتُ بدرًا»، و«سَلَّ من رأيه سيفًا ماضيًا»، وخاصيًّا لا يكمل له كل أحد، مثل قوله:

وسالَتْ بأعناق المَطِيِّ الأباطحُ
كذلك الأمر في هذا المَجاز الحكمي.٤٥

ويُحَل هذا التردد في فكر عبد القاهر بشكل آخر، وربما يقترب بنا من حل هذا الخلل في مفهومه «للنظم» و«للمجاز» على السواء، أننا نجده يناقش قضايا المجاز من زاوية الدلالة، على أساس التفرقة بين نوعين من الدلالة، يرتبط كل منهما بنوع من الكلام. فثَم نوع من الكلام نَصِل إلى دلالته من خلال علاقات التفاعل بين الألفاظ ومعاني النحو فقط، وثم نوع آخر نصل إلى دلالته بطريقة أكثر تعقيدًا وتركيبًا. يقول عبد القاهر:

«الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدتَ أن تخبر عن زيد مثلًا بالخروج على الحقيقة فقلت: «خَرَج زيد»، وبالانطلاق عن عمرو، فقلت: «عمرو منطلق»، وعلى هذا القياس.

وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يَدلُّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية، تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على «الكناية» و«الاستعارة» و«التمثيل» … أوَلَا ترى أنك إذا قلت: «هو كثير رماد القِدْر»، أو قلت: «طويل النِّجَاد»، أو قلت في المرأة: «نَئُوم الضحى»، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مُجرَّد اللفظ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى، على سبيل الاستدلال، معنًى ثانيًا هو غرضك، كمعرفتك من «كثير رماد القِدْر» أنه مضياف، ومن «طويل النِّجَاد» أنه طويل القامة، ومن «نَئُوم الضحى» في المرأة أنها مُتْرَفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها.

وإذا قد عرفتَ هذه الجملة، فها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول «المعنى» و«معنى المعنى»؛ تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ مَعنًى ثم يُفْضِي بك ذلك المعنى إلى معنَى آخر، كالذي فَسَّرتُ لك.»٤٦

إن هذا النص الطويل يكشف لنا في فكر عبد القاهر عن إدراكه لمُستوًى آخَر من المعنى يفارق مستوى المعنى الناتج عن تفاعل العلامات اللغوية مع معاني النحو، فيما يُطلِق عليه عبد القاهر اسم «النَّظْم». إن المعنى في «المجاز» يخضع لما يخضع له المعنى في غير «المجاز» من قوانين «النَّظْم»، ويزيد عليه شيء آخَر هو ما يطلق عليه علماء اللغة المعاصرون العلاقات الاستبدالية، في مقابَلة العلاقات السياقية. إن مفهوم «النَّظْم» عند عبد القاهر يماثل العلاقات السياقية عند علماء اللغة المعاصرين، ومفهومه ﻟ «المعنى» و«معنى المعنى» يماثل مفهوم العلاقات الاستبدالية. وإذا كان علماء اللغة المعاصرون لا يفصلون بين المستويين، وينظرون إلى المعنى الدلالي للنص على أنه مُحصِّلة لتفاعل هذين النوعين من العلاقات، فإن عبد القاهر يفصل بينهما أحيانًا، ويُدرِك ترابطهما أحيانًا أخرى. «المعنى» في الأمثلة التي يناقشها عبد القاهر في النص له ظاهِر هو محصلة علاقاته السياقية، وله باطن هو محصلة علاقاته الاستبدالية. وهذا الباطن هو ما يطلق عليه عبد القاهر «معنى المعنى». في المستوى الاستبدالي يُشير الدالُّ إلى مدلول هو معناه الظاهري، لكن هذا المدلول يَتحوَّل بدوره إلى دالٍّ يشير إلى معنًى آخر، أو لِنَقُل بلغة عبد القاهر إن «المعنى» يشير إلى «معنى المعنى». وهكذا يَتحوَّل «الدالُّ اللفظي» من أن يكون مجرد طرف في العلاقات السياقية على مستوى «النَّظْم» إلى أن يثير الانتباه إلى طبيعته الذاتية، إلى حقيقة كونه «دالًّا». ولعل هذا ما دفع عبد القاهر إلى القول بأن من الكلام ما تكون المزية فيه راجعة إلى اللفظ والنَّظْم معًا، ومنه ما تكون المزية راجعة إلى «النَّظْم» وحده.

لم يكن عبد القاهر — ولا تثريب عليه في ذلك — يستطيع أن يتجاوز تجاوزًا كاملًا حدود ثقافته وعصره؛ لأنه يتحرك في حدود هذه الثقافة، وفي أفق هذا العصر. ومهما حاوَل أن يتجاوز فإن ثم حدودًا لا يمكنه تجاوزها، ويكفيه أنه حقَّق طموحًا لمَسْنا جوانبه في هذه القراءة. ولا تثريب عليه بعد ذلك ألا يخالف أسلافه في بعض ما استقروا عليه. لكن عبد القاهر لا يفتأ يحاول أن يرد إعجاب أسلافه ومعاصريه بالاستعارة والكناية والمجاز — التي حصروا حُسْنها في اللفظ وحده — إلى ما يطلق هو عليه «المعنى»، ثم يتفق معهم بعد ذلك في أن هذا «المعنى» يُضْفي على «معنى المعنى» حُسنًا ووَشْيًا ورونقًا وبَهاء، إلى آخر ذلك من الصفات التي لا يخلو منها كتاب في البلاغة وفي النقد:

«فالمعاني الأُوَل المفهومة من أَنفُس الألفاظ هي المَعارض والوشي والحَلْي وأشباه ذلك، والمعاني الثواني التي يُومأ إليها بتلك المعاني، هي التي تُكْسَى تلك المعارضَ، وتُزَيَّن بذلك الوشي والحَلْي. وكذلك إذا جُعِل المعنى يُتَصوَّر من أجل اللفظ بصورة، ويبدو في هيئة، ويتشكل بشكل، يرجع المعنى في ذلك كله إلى الدلالات المعنوية. ولا يصلح شيء منه حيث الكلام على ظاهره، وحيث لا يكون كناية وتمثيل به ولا استعارة، ولا استعانة في الجملة بمعنى على معنى، وتكون الدلالة على الغرض من مُجرَّد اللفظ. فلو أن قائلًا قال: «رأيت أسدًا» وقال آخر: «رأيتُ الليثَ» لم يَجُز أن يقال في الثاني: إنه صوَّر المعنى في غير صورته الأولى، ولا أن يقال أبرزه في معرض سوى معرضه، ولا شيئًا من هذا الجنس.

وجملة الأمر أن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتِّسَاع ومجاز، وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أُخَر. واعلم أن هذا كذلك ما دام النَّظْم واحدًا؛ فأما إذا تغير النظم، فلا بد حينئذٍ من أن يتغير المعنى على ما مضى من البيان في مسائل التقديم والتأخير، وعلى ما رأيت في المسألة التي مضت الآن، أعني قولك: «إن زيدًا كالأسد»، و«كأنَّ زيدًا الأسد»؛ ذاك لأنه لم يتغير من اللفظ شيء، وإنما تَغيَّر النَّظْم فقط.»٤٧

هل نستطيع الآن أن نقول إن تردُّد عبد القاهر بين «النَّظْم» و«اللفظ» قد تبدد، أو أن الأمر ما زال يحتاج إلى قراءة أخرى؟! هذا سؤال ما يزال مُعلَّقًا بالنسبة لي، أو لِأَقُل إنه ما زال معلقًا بالنسبة لقراءتي السابقة. ولكني أستطيع أن أقول بيقين إن عبد القاهر لم يفصل بين «المجاز» و«النظم» فصلًا كاملًا، بل احتفظ بدرجة من العلاقة تَتبدَّى في الفقرة الأخيرة، كما تَتبدَّى في وقَفاته التحليلية الطويلة عند بعض النصوص القرآنية والشعرية، التي تحتاج إلى دراسة مستقلة، وقراءة خاصة.

لا شك أن هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن مفهوم عبد القاهر «للنظم» أو «للأسلوب»؛ فثَمَّ جوانب غنية خصبة تُجلِّي هذا المفهوم وتَكشِفُه، ولكن بسبب هذا الغنى والعمق عند عبد القاهر لا يمكن لقراءة واحدة أن تكتشف كل جوانبه، ولذلك أغْفَلْنا — عن غير تقصير — بعض الإشارات القليلة التي وردَت عند عبد القاهر، الخاصة بإمكانية تَعدُّد «تفسير النظم» من زاوية القارئ، بناء على فهمه للعلاقات النحوية بين الكلمات.

ولا شك أيضًا أن مفهوم «النَّظْم» عند عبد القاهر قاصر عن أن يُكَوِّن نظرية في «النصوص الأدبية» بشكل عام، ولكن هذا القصور نفسه موجود بدرجات متفاوتة في اتجاهات «الأسلوبية»، وهو أمر ستكشف عنه دون شك دراسات هذا العدد من «فصول». وعبد القاهر على أي حال لم يبدأ سعيه للوصول إلى هذه النظرية، ولم يكن هذا همه، وإنما نحن الذين طرحنا عليه السؤال، وعلينا أن نقنع بما يمكن أن نستخرجه من إجابات، دون أن نستعرض عضلاتنا الذهنية على نص عبد القاهر. ولعل في هذا النص المتميز في الثقافة العربية ما يمكن أن يقرأه آخرون؛ ولعل هذه القراءة أن تكون حافزة لهم على أن يقوموا بقراءته.

١  هذا هو المنظور الذي يتبناه عبد القادر القط في دراسته «النقد العربي القديم والمنهجية»، مجلة «فصول»، العدد ١، ص١٣–٣١. ويتبنَّى مصطفى ناصيف منظورًا مقاربًا لما نذهب إليه في قراءته لعبد القاهر «النحو والشعر؛ قراءة في دلائل الإعجاز»، المجلة نفسها، العدد والمجلد، ص٣٣–٤٠. يقول ناصف في هامش رقم ٢، ص٤٠. من المقال المذكور: «قد يقال إننا نترجم عبد القادر ونُنَقِّحه ونضيف إليه. وهذا صحيح. وليس للتراث بوجه عام وجود بمعزل عن عقل يحاول أن يكون عصريًّا. والماضي الثقافي لا يعيش إلا في هموم الحاضر.»
٢  عبد القادر القط، السابق، ٢٠.
٣  السابق نفسه، ص٢٧؛ وانظر تعليق المؤلف على كل من ابن طباطبا، وحازم القرطاجني، حيث يقول عن مفهومهما للشعر إنه عبارات «تبدو وكأنها قد وُضِعَت لطائفة من الناظمين الذين لا ينبعث الشعر لديهم من جيشان عاطفي تنظمه موهبة قادرة على صوغ الشعر بمقوماته المتكاملة دون هذا النظر الذهني والتدبير الحرفي المرسوم» (التأكيد من عندي) ولا حاجة بنا للتعليق، وتكفي الإشارة إلى أن مفهوم المؤلف للشعر — وهو مفهوم رومانسي واضح — هو المقياس الذي يحتكم إليه في الحكم على هؤلاء النقاد.
٤  K. Abu Deeb, Al-Jurjani’s Theory of Poetic Imagery, Aris Philips LTD, Warminster, Wilts, England, 1979, p. 3.
٥  Ibid., p. 46.
٦  السابق، حيث يقارن أبو ديب بين عبد القاهر وريتشاردز، ص١٠-١١، ٤٦-٤٧، كما يُقارن بينه وبين ت. س. إليوت، ص١٣-١٤ هذا في الفصل الأول من الكتاب فقط.
٧  دلائل الإعجاز، قراءة وتعليق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ١٩٨٤م، ص٣٤.
٨  السابق، ٦-٧؛ وانظر في تعريفات البلاغة عند القدماء: شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، ط٢، د.ت، ص٢٠–٢٣، ٣٥–٣٨.
٩  انظر في هذا الخلاف: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة بيروت، الجزء الثاني، ص٩٠–١٠٧؛ وانظر أيضًا: السيوطي، الاتفاق في علوم القرآن، طبعة مصطفى البابي الحلبي، ط٢، ١٩٥١م الجزء الثاني، النوع الرابع والستون، ١١٦–١٢٥.
١٠  دلائل الإعجاز، ١٠.
١١  الدلائل، ٨-٩.
١٢  انظر دارستنا: الأساس الديني لمبحث المجاز في البلاغة العربية، ضمن الكتاب التذكاري للمرحوم عبد العزيز الأهواني ودراسات في الفن والفلسفة والفكر القومي، مطبوعات دار القاهرة، ط١، ١٩٨٣م، ص٢٥٧–٢٧٩ — وهي المقالة السابقة في هذا الكتاب الذي بين يديك.
١٣  دلائل الإعجاز، ٣٧.
١٤  المرجع السابق، ٤١.
١٥  المرجع السابق، ٤١٧.
١٦  المرجع السابق، ٤٨٣.
١٧  المرجع السابق، ٥٢٢.
١٨  أسرار البلاغة، شرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة القاهرة، ط١، ١٩٧٣م، ج١، ص٩٧.
١٩  دلائل الإعجاز، ٧.
٢٠  المرجع السابق، ٨١.
٢١  المرجع السابق، ٨١-٨٢.
٢٢  مصطفى ناصف، المرجع السابق، ٣٥.
٢٣  دلائل الإعجاز، ٤٦٨.
٢٤  انظر: أسرار البلاغة، ١: ٩٩–١١١.
٢٥  دلائل الإعجاز، ٦١-٦٢.
٢٦  المرجع السابق، ٤٠١-٤٠٢.
٢٧  المرجع السابق، ٣٩٥.
٢٨  المرجع السابق، ٣٩٩.
٢٩  المرجع السابق، ٣٦٢.
٣٠  المرجع السابق.
٣١  المرجع السابق، ٢٤٩-٢٥٠.
٣٢  المرجع السابق، ٨٧-٨٨.
٣٣  السابق: ٢٦٠-٢٦١؛ وانظر: أسرار البلاغة، حيث يقول: «وأما الاتفاق في عموم الغرض، فما لا يكون الاشتراك فيه داخلًا في الأخذ والسرقة، والاستمداد والاستعانة، لا ترى مَن به حس يَدَّعي ذلك ويأبى الحكم بأنه لا يدخل في باب الأخذ، وإنما يقع الغلط من بعض من لا يحسن التحصيل، ولا ينعم التأمل فيما يُؤدِّي إلى ذلك، حتى يُدَّعى عليه في المحاجة أنه قد دخل في حكم من يجعل أحد الشاعرين عيالًا على الآخَر في تصور معنى الشجاعة، وأنها مما يمدح به، وأن الجهل مما يُذَمُّ به، فأما أن يقوله صريحًا ويرتكبه قصدًا، فلا» (ج٢، ص٢٠٠).
٣٤  دلائل الإعجاز، ٢٥٨؛ وانظر أيضًا ص٤٢٥.
٣٥  دلائل الإعجاز، ٢٥٥-٢٥٦.
٣٦  الدلائل، ٢١٢–٢١٤.
٣٧  الدلائل، ٢٥٤-٢٥٥؛ وانظر أيضًا: ص٤٢٢-٤٢٣.
٣٨  المرجع السابق، ٥٥-٥٦.
٣٩  المرجع السابق، ٤٢٩–٣٤٠.
٤٠  انظر جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، دار التنوير، بيروت، ط٢، ١٩٨٣م، ص: ٢٠٢-٢٠٣.
٤١  دلائل الإعجاز، ٣٩١.
٤٢  المرجع السابق، ٩٩-١٠٠.
٤٣  المرجع السابق، ٩٩-١٠٠.
٤٤  انظر: أسرار البلاغة، الجزء الأول، صفحات: ١٥٦، ١٦٨، ٢١٣؛ الجزء الثاني، صفحات: ١٧٥، ١٧٨، ١٧٩، ١٨٣، ١٨٧، ٢٠٩، ٢٢١، ٢٢٤، ٢٨٩؛ وانظر أيضًا: دلائل الإعجاز: صفحات: ٩٨، ٩٩، ١٠٠، ١١٣، ١٥٧، ١٦١، ١٦٧، ١٦٨، ١٨٧، ١٩٠، ٢٣٠، ٢٧٧، ٢٧٨، ٣٢٩، ٣٧٥، ٤١١، ٤١٤.
٤٥  دلائل الإعجاز، ٢٩٦.
٤٦  المرجع السابق، ٢٦٢-٢٦٣؛ وانظر أيضًا: ٤٢٩–٤٤٢.
٤٧  المرجع السابق، ٢٦٤-٢٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤