التأويل في كتاب سيبويه

ليس المقصود بكلمة «التأويل» في دراستنا هذه التخريجات اللغوية والنحوية التي كَثُر حديث اللغويين المعاصرين عنها، وإن كانت تدخل جميعها في المفهوم من المصطلح. التأويل المقصود هنا هو الكيفية التي يعالج بها سيبويه بوصفها نصًّا بالمعنى السميوطيقي. اللغة هي موضوع الدراسة التي طرحها سيبويه في الكتاب، فهي بمثابة النص الذي يحاول القارئ اكتشاف آلياته وصولًا إلى دلالته ومغزاه. وسيبويه هنا ليس مجرد قارئ فَرْد، ولكنه يقدم في الكتاب رؤية عامة واسعة شاملة هي التي يعنينا اكتشافها هنا من خلال البحث عن وسائله التحليلية — والتأويلية في نفس الوقت — لاكتشاف أسرار اللغة.

وإذا كان كثير من اللغويين العرب المعاصرين قد فتنتهم دعوى الموضوعية في الدرس اللغوي، ومن ثم راحوا يعيبون على القدماء «معياريتهم» وأحكامهم التقييمية، داعين إلى تَبنِّي المنهج الوصفي، الذي تَوهَّمُوه منهجًا محايدًا موضوعيًّا، فقد فات هؤلاء الباحثين أن «الوصف» لا بد أن يعتمد على إطار تصنيفي يعكس رؤية الباحث لموضوع الدرس. وفي حالة الدرس اللغوي فإن موضوع الدرس هو الكلام، سواء كان شفاهيًّا أو كان نصًّا مكتوبًا، ومهمة الباحث اكتشاف «اللغة» من خلال الكلام؛ أي اكتشاف النظام اللغوي الذي يتصرف من خلاله المتكلم، أو الكاتب لإيقاع الأحداث الكلامية أو لإنتاج النصوص المكتوبة. واكتشاف اللغة/النظام إنما يتم عَبْر اكتشاف عناصر التشابه وعناصر الاختلاف، سواء على المستوى الصوتي أو الصرفي، أو على المستوى الدلالي أو المعجمي. واكتشاف هذين العنصرين الأساسِيَّين لا يتم إلا عبر عمليات وطرائق ذات طابع تأويلي في جوهرها.١

إن النظر إلى الدرس اللغوي بوصفه اكتشافًا للنظام اللغوي الذي لا يمتلكه فرد من الأفراد، بل تمتلكه الجماعة المعينة في ذاكرتها الجمعية لا يبدأ في الحقيقة مع دي سوسير، فالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت.١٧٥ﻫ) — أستاذ سيبويه ومكتشف علم بحور الشعر ونظام القافية في القصيدة العربية — يؤكد أن غاية الدرس اللغوي اكتشاف حكمة واضع اللغة، أو واضعيها. ولا يهمنا هنا أن نثبت مما إذا كان الخليل من المؤمنين بالاصطلاح أو بالتوقيف في أصل الوضع اللغوي، ففي كلتا الحالتين يفترض الخليل أن للغة نظامًا محكمًا من الضروري اكتشافه. لقد سُئِل عن العلل التي يستخدمها النحاة لتفسير الظواهر اللغوية:

«فقيل له: «عن العرب أخذْتَها أم اخترعْتَها من نفسك؟» قال: «إن العرب نطقَتْ على سجيتها وطباعها، وعرفَتْ مواقع كلامها وقام في عقولها علله، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللتُ أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، وإن أكن أصبتُ فهو الذي التمستُ. وإن تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا محكمة البناء، عجيب النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق، أو البراهين الواضحة، والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها» قال: «إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا سنحَتْ له وخطرَتْ بباله، محتملة لذلك.» فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ما ذكره الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن صح لغيري علة لما عللتُه أليق بالمعلول فَلْيأتِ بها.»٢

في هذه الرواية الهامة — والخطيرة أيضًا — يمكن أن نستنبط بعض الحقائق التي كانت كامنة في عقول هؤلاء اللغويين والنحاة القدامى، ومنهم سيبويه: أول هذه الحقائق إدراكهم أن اللغة بناء محكم، شبهه الخليل هنا بالدار المحكمة البناء التي تدل على حكمة بانيها وحسن صنعه. وهذا التصور للغة يتجاوب مع تصورات العلوم الأخرى للعالم بوصفه نظامًا محكم الدلالة، دالًّا على حكمة خالقه ومدبره. وهي تصورات نجدها في العلوم الفلسفية وعلم الكلام، وفي التاريخ وعلم الفلك … إلخ.

الحقيقة الثانية: إدراكهم أن النظام اللغوي الذي يحاول الباحث أن يكتشفه نظام تمتلكه الجماعة، وهو ما عبر عنه الخليل بأن العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها وقام في عقولها (بصيغة الجمع) علله. وفي هذا رد على بعض الباحثين المعاصرين الذين تصوروا أن في هذا التصور عند القدماء إهدارًا للطبيعة الاجتماعية للغة، وتقديسًا خلعه القدماء على الناطقين بالضاد.٣

الحقيقة الثالثة هي وعي القدماء أن تفسيراتهم — أو تأويلاتهم وعللهم — مجرد اجتهادات قد تقارب الحقيقة أحيانًا، وقد تبتعد عنها أحيانًا أخرى. وفي هذا التصور إدراك للمسافة المعرفية التي تفصل بين الدارس وبين موضوعه. إن الدارس هنا لا يتوحد بموضوع درسه توحدًا تامًّا كما تزعم الاتجاهات النقدية المعاصرة، خاصة تلك التي انبثقت عن التأثير بمفهوم «النظام» اللغوي، فادعت أن الفعل الإنساني حين يكتشف النظام في الظاهرة موضوع الدرس فإنما هو في الحقيقة يكتشف بناءه المعرفي ذاته. الحقيقة عند القدماء غاية بعيدة يدرك كل إنسان طرفًا منها ولا يدركها في شمولها أو يحيط بها كلها. ولا شك أن مثل هذا التصور عند القدماء — في مجال اللغة — يتجاوب بعمق مع التصور العام للثقافة العربية الإسلامية، خاصة في مجال تأويل النصوص الدينية.

ليست تعليلات النحاة — إذن — إلا تأويلات وتفسيرات لشرح الظواهر اللغوية تمهيدًا لتصنيفها في جدول خاص مع مثيلاتها بهدف الكشف عن نظام اللغة وصولًا إلى حكمة واضعها أو واضعيها. وإذا كان الباحثون المعاصرون قد عابوا على القدماء تلك «الغائية، في بحث الظاهرة اللغوية، فإنهم لم يدركوا أن علوم اللغة عند القدماء جزء من نظام ثقافي عام تحكمه، في الغالب، رؤية للعالم ذات طبيعة «غائية»، رؤية لا تكتفي — كما يريد المحدثون — بوصف الظواهر «حسب خواصها الخارجية المشتركة بينها»٤ دون البحث عن تعليلات أو تفسيرات لهذه الخواصِّ الخارجية، فذلك أمر «الخوض فيه مرفوض؛ لأن البحث في ذلك سيؤدي إلى البحث عن العلة وعلة العلة إلى ما لا نهاية.»٥ إن هذه الغائية التي يرفضها المفتونون بالمنهج الوصفي — زاعمين موضوعيته المطلقة هي بالضبط ما كان يحرص عليه القدماء، انطلاقًا من رؤيتهم للعالم — واللغة جزء منه — بوصفه (أي العالم) مخلوقًا مُحدِثًا لعلة وغاية يَتحتَّم على الإنسان اكتشافها لفهم وظيفته ودوره فيه. وفي ظل هذه الرؤية للعالم لا يمكن التوقف عند حدود الخواص الخارجية للظواهر، أيًّا كانت هذه الظواهر، ولا بد من التعليل سعيًا لاكتشاف الحكمة والغاية:

«إذا تأمَّلْتَ علل هذه الصناعة، علمتَ أنها غير مدخولة ولا متسمح فيها.

فنحن إذا صادَفْنا الصيغ المستعملة والأوضاع بحال من الأحوال، وعلمنا أنها كلها أو بعضها من وضع واضع حكيم — جل وعلا — تطلبنا بها وجه الحكمة المخصصة لتلك الحال من بين أخواتها.»٦
إذا تجاوزنا هذا الإطار العام للثقافة، والذي تشارك العلوم اللغوية فيه غيرها من العلوم، فسنجد أن العلوم اللغوية واجهتْ مشكلات ذات طبيعة خاصة، لا يواجهها البحث اللغوي العربي الحديث، أو بالأحرى، يتعمد ألا يواجهها. ومن هنا تتسم أحكام المحدثين على القدماء أحيانًا بنبرة استعلائية، كأن يقال مثلًا إن النحاة «بعد وصولهم إلى ما ارتضوه من قواعد جعلوا هذه القواعد أحكامًا» فكانت في نظرهم أولى بالاعتبار مما خالفها من المسموع ومن ثم أعملوا فيما خالف قواعدهم من النصوص حِيَل التخريج والتأويل والتعلل، فإذا لم يتأتِ لهم ذلك قالوا في المسموع «يُحفَظ ولا يقاس عليه» وهذا موقف من النحاة يفترض في العربي الأول أنه كان على بصر بأقيستهم وعللهم.»٧ أو أن يقال في سياق آخر: «لقد أجهَد النحاةُ النصوص بالتأويل؛ لأنهم خلطوا بين أمرين من الحق أن يفرق بينهما: وهما «المعنى الشكلي» و«المعنى الفلسفي» فقد جعلوا الأخير أساسًا لما يجب أن تؤديه النصوص، فإذا لم تُؤدِّه استكملت بالفروض والظنون، فالحدث لا بد له من مُحدِث في الواقع، فإذا وجد الفعل في اللفظ فلا بد أن يستكمل بالفاعل، وهنا يأتي التقدير. والإسناد لا يكمل في الواقع إلا بوجود مُسنَد ومُسنَد إليه، فإذا غاب أحدهما من الجملة فلا بد من تقديره.٨
ومما يتصل بهذه النبرة الاستعلائية في نظر المحدثين للتراث اللغوي: الحديث عن «التعقيد» الذي تسبب فيه النحاة. وكثيرًا ما يستندون إلى ما رواه الجاحظ عن أبي الحسن الأخفش (ت.٢١١ﻫ) من أنه تَعمَّد الغموض والعسر في كُتُبه «حتى يلتمس منه الناس تفسيرها رغبة في التكسب بها.»٩ أو ما ورد أيضًا من وقوف أعرابي على مجلس الأخفش أيضًا:
«فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل معه، فحار وعجب وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب؟ قال: أراكم تتكلمون في كلامنا بما ليس من كلامنا.»١٠

وكأن هؤلاء الباحثين يفترضون — ضمنيًّا — التوحيد بين النظام اللغوي — أو اللغة — والكلام، وكأنهم يتناسون الفارق بين مهمة الباحث الذي يسعى لوضع الظاهرة في نسق ونظام وبين الظاهرة ذاتها في حركتها وصيرورتها. من الطبيعي أن يكون كلام النحاة اللغة مغايرًا لكلام أبناء اللغة أنفسهم. وإذا كانت اللغة الأداة التي يتم بواسطتها للإنسان فَهْم العالَم وتأويله وتفسيره برموزها، فإن فهم اللغة ذاتها واكتشاف نظامها يتم من خلال رموزها وعلاماتها أيضًا، وهذا هو مكمن الصعوبة — أو التعقيد — في الحديث عن اللغة. وبعبارة أخرى إذا كانت اللغة نظامًا من الرموز والعلامات تعبر عن رؤية الجماعة البشرية الخاصة للعالم، فإن على عالِم اللغة أن يتخذ من بعض هذه الرموز وسائل وعلامات للتعبير عن هذا النظام. إن الدالَّ في النظام اللغوي يتحول إلى رمز ذي دلالة خاصة في البحث اللغوي. وهذه العملية الأساسية في البحث اللغوي هي في جوهرها عملية تأويلية. إن اتهام النحو العربي بالصعوبة والتعقيد يفترض — ضمنًا أيضًا — أن غايته أن تكون تعليمية، ومن طبيعة النحو التعليمي أن يكون معياريًّا، وهي صفة سبق أن أشرنا إلى رفض الباحثين للنحو العربي لها، انطلاقًا من تصورهم لبناء النحو عليها. وهكذا يقع الباحثون في تناقض يحتاج إلى تفسير لا نتوقف أمامه هنا.

إن كلمات مثل «الفاعل»، و«المفعول»، و«الفعل»، و«المبتدأ» و«الخبر»، و«المضارع»، و«الماضي»، و«الأمر»، و«الفتحة»، و«الكسرة» و«الضمة»، و«السكون»، و«الرفع»، و«النصب»، و«الكسر» و«الجزم» كلها في اللغة علامات دالَّة على معانٍ، ولكنها تتحول في البحث اللغوي إلى مفاهيم تحليليه؛ أي إن هذه الرموز اللغوية قد تَمَّت لها عملية إعادة تفسير، أو تأويل، نقلتها من مجال «الكلام» إلى مجال «اللغة»، وهو ما يطلق عليه القدماء أحيانًا اسم «النقل الاصطلاحي» أو «النقل العرفي» في دوائر العلوم بشكل عام.

بالإضافة إلى هذه الصعوبة الخاصة بالعلوم اللغوية، والتي تجعل من التأويل أداة أساسية لبناء العلم ذاته، فقد كان النحاة العرب يواجهون صعوبات خاصة بالثقافة العربية الإسلامية، وهي صعوبات لا يواجهها البحث اللغوي الحديث، أو بالأحرى — كما سلفت الإشارة — يتعمد ألا يواجهها. لقد تَحوَّل النص القرآني في الثقافة إلى أن يكون هو «النص» المعيار، النص الذي يمثل النظام اللغوي تمثيلًا دقيقًا. ولم يكن ممكنًا للنحوي أو اللغوي أن يضع قواعده دون أن يكون هذا النص نُصْب عينيه وفي بؤرة الاهتمام من عقله. لقد بدأت حركة البحث اللغوي فيما هو شائع ومعروف، من ضبط أبي الأسود الدؤلي لأواخر الكلمات في المصحف، ومن خلال وصفه لحركة الشفتين أثناء النطق بالحروفِ وضَع مصطلحات «الفتح»، و«الضم» و«الكسر».١١ وإذا كان من السهل على الباحث اللغوي الحديث الإصرار على ضرورة أن يقصر الباحث نفسه على لهجة واحدة في فترة زمنية محددة، فقد كان ذلك بالنسبة للغوي القديم أمرًا غير مقبول، ذلك أن الثقافة كانت تنتقل من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التدوين، وكان النص القرآني وما يحيط به من علوم — ومنها النحو واللغة — تساهم في عملية النقل هذه، ومن ثم أصبح ضروريًّا لدى النحاة القدامى — وقد اختلط العرب بغيرهم من الثقافات والشعوب — اللجوء إلى اللغة البدوية، استنادًا إلى مبدأ، أو معيار، «النقاء اللغوي». وقد يمكن الآن أن يقال إن «النقاء اللغوي» مجرد تصور ذهني لا يعكس الواقع اللغوي الحقيقي، لذلك اختلف اللغويون فيما بينهم حول تحديد القبائل والمناطق، بل والأفراد من الشعراء الذين يمكن الرواية عنهم والاستناد إلى كلامهم في وضع القواعد واكتشاف النظام. لكن تحديد معيار للنقاء بين اللغويين والنحاة واختلافهم في هذا التحديد إنما يعكس خلافات بين اتجاهات ليس هنا مجال التعرض لها.
إذا كان النص القرآني — بوصفه معيارًا — هو الذي وجَّه الدراسات اللغوية القديمة هذه الوجهة الخاصة، فإن القراءات المختلفة لبعض أجزاء هذا النص ساهمت في التخفيف من سطوة هذه المعيارية إلى حد كبير. ولا شك أن القراءات القرآنية — سواء في ذلك القراءات السبعة المشهورة، أو ما يضاف إليهن من الثلاثة، أو ما يشذ عن هذه العشرة — تُعد بقايا خلافية لاختلافات لهجية على المستويات الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية. والاهتمام بهذه القراءات والحرص على تأويلها وتفسيرها — دون الجرأة على رفضها — هو الذي أعطى للنحو القديم حيويته، وفي هذا رد على من يتهمون هذا النحو بالمعيارية وتحكيم القواعد الجامدة. وعلينا أن نكون على ذكر دائمًا من أن أوائل نحاة البصرة — بدءًا من عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي — كانوا من القراء فتلميذاه عيسى بن عمر، وأبو عمرو بن العلاء، وتلميذا عيسى: الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب كل هؤلاء من القراء.١٢
وعلى ذلك ليس التأويل في النحو العربي ذلك المَرض، الذي يجب التخلص منه في مفهوم المحدثين، بل هو في الحقيقة أداة هامة وأساسية من أدوات بناء العلم ذاته. وهو من هذه الزاوية يعكس «الرؤية» العلمية للظاهرة في فترة تاريخية محددة التأويل إلى جانب ذلك، بل وقبل ذلك، ظاهرة هامة وأداة أصيلة في الثقافة العربية التي انطلقت من مركز أساسي هو النص القرآني كما وضحنا في دراسة أخرى.١٣ ومن الطبيعي أن يكون له نفس الأهمية في علم لصيق الصلة بالنص القرآني. ولقد آثرنا في هذه الدراسة استخدام كلمة «تأويل» بدلًا كلمة من «تفسير» لعدة أسباب هي:
  • (١)
    أن كلمة تفسير في أصل استخدامها تعني الواضح البَيِّن، هكذا استخدمت في القرآن في قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (الفرقان: ٣٣). وهي بهذا المعنى لا تعكس المقصود من حركة الذهن المعرفية إزاء موضوع المعرفة، وهو المعنى الذي تدل عليه كلمة «تأويل» كما حللناها في دراسة أخرى.١٤
  • (٢)

    أن كلمة تأويل هي التي استخدمها قدامى المفسرين، أمثال محمد بن جرير الطبري (ت.٣١٠ﻫ) الذي أطلق على كتابه في التفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ويبدأ دائمًا تفسيره للآية بقوله: «القول في تأويل قوله تعالى.» وهذا كله يؤكد أن التأويل هو المصطلح الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من العمق في مواجهة النصوص والظواهر. وفي كتاب سيبويه نفسه دليل على ذلك، فهو يكثر من استخدام كلمة «تأويل» إزاء العبارات التي يحتاج تحليلها إلى بعض العمق. وفي مقابل ذلك يستخدم كلمة تفسير للدلالة على الوضوح، يقول وهو بصدد تبرير الاقتصار في ذكر الأسماء الثلاثية غير المتمكنة على الكثير الاستعمال الدائر في الكلام:

    «وإنما كتبنا من الثلاثة وما جاوزها غير المتمكن الكثير الاستعمال من الأسماء وغيرها الذي تكلم به العامة؛ لأنه أشد تفسيرًا. وكذلك الواضح عند كل أحد أشد تفسيرًا؛ لأنه يوضح به الأشياء، فكأنه تفسير التفسير. ألا ترى أن لو أن إنسانًا قال: ما معنى أيَّان؟ فقلت: متى، كنت أوضحت. وإذا قال ما معنى متى؟ قلت: في أي زمان، فسألك عن الواضح شَقَّ عليك أن تجيء بما توضح به الواضح.»١٥
  • (٣)
    هذا التمايز بين مفهوم «التأويل» و«التفسير» من حيث الدلالة قد تم توجيهه في مرحلة متأخرة في معركة الصراع الأيديولوجي بين الفِرَق والاتجاهات الفكرية والدينية المختلفة. وغالبًا مع سيادة المذهب الأشعري واتخاذه المذهب الرسمي للدولة بعد القضاء على الاعتزال مع أوائل القرن الخامس — على أساس مذهبي — فصار «التفسير» هو ما يقدمه المذهب الرسمي من تأويلات، وأصبح ما يقدمه الخصوم «تأويلًا» زائغًا عن الحق والصحة، ووصم هؤلاء الخصوم بأنهم من الذين فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. ثم صارت كلمة «تأويل» من بعد ذات دلالة سيئة من المنظور الديني الذي ساد واستقر. وأغلب الظن أن الهجوم على «تأويلات» النحاة وأقيستهم وعللهم من المحدثين ليس إلا صدًى لهذا التوجيه الأيديولوجي. يؤكد ذلك ويدعمه أن أول هجوم حادٍّ جاء من نَحْوِي قديم، هلل له المحدثون تهليلًا واسعًا، جاء من نَحْوِي ينتمي إلى المذهب الظاهري وهو مذهب لا يعترف بأي تفسير للنص، بل يرى أن النصوص واضحة بذاتها خاصة النصوص الدينية.١٦

    ومعنى ذلك أن استخدامنا لمفهوم «التأويل» وإصرارنا عليه إنما هو بمثابة العودة إلى الأصل. وقد كان كتاب سيبويه أمرًا طبيعيًّا من حيث هو الكتاب الأول الذي وَضَع أسس التأويل وقواعده للنحاة الذين جاءوا بعد ذلك، سواء أكانوا بصريين أم كانوا كوفيين أم بغداديين أم مصريين، إذا سلَّمْنا بهذه التقسيمات التقليدية. ومن الطبيعي كذلك أن نعتمد على اختبار بعض القضايا التي كثر الجدل حولها، والتي أثارها ابن مضاء القرطبي، والتي هي قضايا عامة تدخل في بناء العلم أكثر مما تتخلل تفاصيله؛ مثل: مفاهيم العامل، والقياس، والشذوذ وهي القضايا التي اعتبرها ابن مضاء مداخل للتأويلات التفصيلية والتعقيدات، وهي نفس نظرة المحدثين كما سبق أن ألْمَحْنا. وسنرى من خلال هذه الدراسة أن هذه المفاهيم — العامل، الشذوذ — مفاهيم تحليلية ذات طابع تأويلي، وهي مفاهيم تفسر لنا — نحن المحدثين — الأساس النظري العام لرؤية العالم التي انطلق منها النحاة.

(١) العامل

حاول ابن مضاء أن يفسر تَغيُّر الحركات الإعرابية، مع تَغيُّر مواقع الكلمات داخل الجملة بِرَد ذلك إلى المتكلم. وهو يناقش مفهوم العامل من خلال منظور أيديولوجي واضح، وسنعود إلى هذه النقطة بعد أن نتبين مفهوم العامل عند سيبويه؛ ذلك لأن ابن مضاء لا يرد على سيبويه فقط، بل يناقش النحاة كلهم حتى عصره في القرن السادس (ت.٥٩٢ﻫ). إن مفهوم العامل عند سيبويه — وكذلك عند أستاذه الخليل — لا يَتبدَّى في الكتاب إلا من خلال ظاهرة أخرى هي ظاهرة الحذف أو الإضمار. وهذه الظاهرة تعرض نفسها بشكل واضح في الأبواب التالية: التنازع — الاشتغال — النداء — القَسَم، فهو في باب التنازع مثلًا يقول:

هذا باب الفاعِلَين والمفعولَين اللَّذَين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحو ذلك، وهو قولك: ضربتُ وضربَنِي زيد، وضربَنِي وضربتُ زيدًا، تحمل الاسم على الفعل الذي يليه، فالعامل في اللفظ أحد الفعلين، وأما في المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع إلا أنه لا يعمل في اسم واحد نصبٌ ورفعٌ، وإنما كان الذي يليه أولى لقرب جواره وأنه لا ينقض معنًى وأن المخاطَب قد عرف أن الأول قد وقع بزيد.»١٧

فالعامل إذن هو اللفظ الذي يتصور سيبويه أنه يُؤثِّر في لفظ آخر، وفي الأمثلة السابقة يأتي اسم بعد فعلين، يصح أن يقع فاعلًا لأحد الفعلين وأن يقع مفعولًا للفعل الآخَر. وقد كان اختيار سيبويه — أو تأويله بالأحرى — أن الاسم يجب أن يتعلق بأقرب الأفعال إليه، وفي هذا تركيز على علاقة التَّجاوُر أو المجاورة. وعلى ذلك يمكن القول: إن العامل مفهوم ذهني لتفسير ظاهرة لغوية هي علاقة كلمة بكلمة داخل الجملة. في هذه العلاقة تم تصنيف الكلمات إلى عوامل ومعمولات، أو متأثرات. وعلى ذلك حين وجد سيبويه بعض الكلمات منصوبة أو مرفوعة دون وجود عامل ظاهر في السياق. كان لا بد له من افتراض عامل محذوف أو مُضْمَر كما في أساليب النداء والقسم والاختصاص … إلخ.

إن الرؤية التي يقوم عليها مثل هذا التصور الذهني التأويلي — العامل — هي أن كل أثر لا بد له من مُؤثِّر، وكل فعل لا بد له من فاعِل، وكل معلول لا بد له من علة. هذه قضايا بديهية في الثقافة العربية الإسلامية؛ لأنها هي الأوليات التي تنبني عليها خطوات الاستدلال من العالَم المرئي الظاهر إلى العالم الغيبي الباطن إلى وجود الله — عز وجل. هذه مقدمات أولى في كتب علم الكلام اتَّفقَت عليها الفِرَق كلها، ولذلك تحولت إلى بديهيات، فالطفل — فيما يرى ابن حزم — يعلم «بأنه لا يكون فعل إلا لفاعل، فإنه إذا رأى شيئًا قال: مَن عمل هذا؟ ولا يقنع البتة بأنه انعمل دون عامل.»١٨

لكن مع هذا الاتفاق والإجماع على «العامل» اختلف الكوفيون مع البصريين حول تحديد هذا العامل في سياق الاشتغال — كما في الأمثلة السابقة — فذهب سيبويه إلى إعمال الفعل الثاني للجوار، على حين ذهب الكوفيون إلى إعمال الفعل الأول للأسبقية. ومعنى ذلك أن مبدأ «العامل» متفق عليه، لكن تحديد العامل في الجملة المعينة هو محور الخلاف. ورغم أن الخلاف ليس اهتمامنا في هذه الدراسة، فإنه من المفيد أن نؤكد أن هذا الخلاف — الجزئي — ليس خلافًا بلا مَغزى، بل هو خلاف تصورات فرعية، هو خلاف حول أيهما أهم: علاقة الجوار أم الأسبقية المُطلقة؟ أو بعبارة أخرى أيهما يسمى العامل أو المؤثر: القريب أم البعيد؟ وهذا خلاف يحتاج إلى تَعمُّق أكثر في طبيعة الجذور الفكرية للمدرستين صح اعتبارهما كذلك. إن هذا الخلاف شبيه بخلاف الأشاعرة مع المعتزلة حول «فاعل» الفعل الإنساني، فذهب المعتزلة إلى الأقرب وهو الإنسان وذهب الأشاعرة إلى الأسبق وهو الله، وإن احتفظوا للإنسان بعلاقة ما بفعله أطلقوا عليها اسم «الكسب» ليس هذا تفسيرًا لخلاف الكوفيين والبصريين حول «العامل» في الأمثلة السابقة، ولكنه مجرد دليل على تجاوُب أنماط الخطاب في كل من النحو وعلم الكلام.

إن قضية العامل — التي تقوم على أساس علاقة التلازم الضروري بين الفعل — هي التي تجعل سيبويه يصر على أن تكون كلمة «قومك» في جملة مثل: «ضربوني وضربتُهم قومك» على النصب، ولا يصح أن تأتي على الرفع، فلا يصح أن تقول «ضربني وضربتهم قومُك» على إعمال الفعل الأول في قومك، بل الجملة غير صحيحة عند سيبويه «فلا بد من الأول من ضمير الفاعل لئلا يخلو من فاعل. وإنما قلت: ضربتُ وضربني قومك، فلم تجعل في الأول الهاء والميم لأن الفعل قد يكون بغير مفعول ولا يكون الفعل بغير فاعل.»١٩

إن جواز حذف المفعول مع عدم جواز حذف الفاعل في الأمثلة السابقة، يعني أن الفاعل يحتل مرتبة أعلى في تصورات النحاة، إنه «عمدة» إذا قورن بالمفعول «الفضلة» وهذه كلها مفاهيم ترتد إلى أصل مفهوم واحد هو مفهوم «العامل» وليس مفهوم العامل بالمعنى الذي شرحناه مفهومًا تحكميًّا عند سيبويه، بل هو مُجرَّد تصور ذهني تأويلي. دليل ذلك أنه يتوقف عند بيت امرئ القيس:

فلو أنَّ ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلبْ قليل من المال

لقد كان المفروض — لو حكم سيبويه مقاييسه من ضرورة إعمال الفعل الثاني — أن تكون كلمة «قليل» منصوبة على المفعولية، وأن يُقدر في الفعل الأول ضمير فاعل. لكن سيبويه يخرج المثال كله من باب التنازع استنادًا إلى سياق المعنى لا في البيت فحسب، بل في القصيدة:

«فإنما رفع لأنه لم يجعل القليل مطلوبًا، وإنما كان المطلوب عنده المُلك وجعل القليل كافيًا، ولو لم يُرِد ذلك ونصب فسد المعنى.»٢٠

وهكذا يستطيع سيبويه — بهذا التأويل — أن يحافظ على مفهوم أهمية الفاعل عن المفعول وجواز وجود فعل بلا مفعول وعدم جواز وجود فعل بلا فاعل. ومما يؤكد أن مفهوم «العامل» النحوي مُجرَّد تَصوُّر ذهني تأويلي «باب الاشتغال» ففي مثال «زيد مررتُ به» يرى أن الرفع في «زيد» هو الأوجه، وذلك على عكس مثال «زيدًا ضربتُه» فالنصب في هذه الحالة الأخيرة أمثل، لكن ذلك لا يمنع أن يقال «زيدًا مررت به» وذلك على تأويل فعل مضمر نصب «زيدًا» لا على أنه منصوب بالفعل التالي له الذي تعدى إلى ضميره — ضمير زيد — بحرف الجر. هذا التأويل ضروري.

«كأنك قلت — إذا مثلت ذلك — جعلت زيدًا على طريقي مررت به، ولكنك لا تظهر هذا الأول (يعني الفعل الأول) كما ذكرتُ لك.»٢١

فإذا وقع الفعل على مفعول مباشر بينه وبين الاسم الأول سبب أو علاقة جاز الوجهان في الاسم الأول: النصب والرفع. والتأويل الذي يقدمه سيبويه هنا تأويل هامٌّ من حيث إنه يكشف عن جانب من البعد الاجتماعي للغة. إن علاقات القرابة في المجتمع العربي علاقات لها اعتبارها، وهذا البعد الذي يلمحه سيبويه حين يقول:

«وإذا قلت: زيد لقيتُ أخاه فهو كذلك (أي بالرفع) وإن شئتَ نصبْتَ؛ لأنه إذا وقع على شيء من سببه فكأنه وقع به. والدليل على ذلك أن الرجل يقول: أهنتُ زيدًا بإهانتك أخاه وأكرمته بإكرامك أخاه. وهذا النحو في الكلام كثير. يقول الرجل إنما أعطيت زيدًا، وإنما يريد لمكان زيد أعطيت فلانًا. وإذا نصبت: زيدًا لقيت أخاه، فكأنه قال: لابستُ زيدًا لقيت أخاه، وهذا تمثيل ولا يتكلم به، فجرى هذا على ما جرى عليه قولك: أكرمتُ زيدًا.»٢٢
إن عبارة «وهذا تمثيل ولا يتكلم به» عبارة متكررة في الكتاب٢٣ وهي دالَّة على وعي سيبويه بالفارق بين «العبارة الأصلية» موضوع التحليل وبين «العبارة الشارحة». ومعنى قول سيبويه إن «العبارة الشارحة» «تمثيل ولا يتكلم به» أن تقدير المحذوف مسألة افتراضية. وإذا كان المحذوف هو العامل فذلك يؤكد ما ذهبنا إليه من أن «العامل» مجرد تصور ذهني تأويلي، أو هو أداة تحليلية لبناء العلم.

ولكي تتضح القضية أكثر نعرض الأمثلة التي يُئَوِّلها سيبويه على حذف العامل وذلك في باب الاستثناء بخلا وعدا حيث إن الاسم منصوب بعدهما بفعل مضمر تقديره «جاوز». ولكنه بعد ذلك مباشرة يسارع إلى نفي حقيقة الجملة المفترَضة فيقول:

«ولكني ذكرتُ «جاوز» لأمثل لك به، وإن كان لا يُسْتعمَل في هذا الموضع. وتقول أتاني القوم ما عدا زيدًا، وأتوني ما خلا زيدًا فما هنا اسم وخلا وعدا صلة له، كأنه قال أتوني ما جاوز بعضهم زيدًا. وما هم فيها عدا زيدًا كأنه قال: ما فيها ما جاوز بعضهم زيدًا، وكأنه قال إذا مثلت ما خلا وما عدا فجعلته اسمًا غير موصول: قلت: أتوني مجاوزتهم زيدًا مثلته بمصدر ما هو في معناه، كما فعلته فيما مضى.»٢٤

إن الصعوبة التي يواجهها سيبويه في النص السابق هي محاولته أن يشرح المثال اللغوي بعبارة مماثلة «تمثيلات»، وهو يصر في نفس الوقت على إقناع قارئه أن هذه «التمثيلات» ليست جزءًا من الكلام. ومعنى ذلك أن العامل ليس جزءًا من الكلام كما توهم المحدثون متابعين في ذلك لابن مضاء القرطبي، بل هو مفهوم ذهني تصوري يؤدي وظيفة تأويلية هامة في بناء العلم. وقد قارب ابن مضاء أن يدرك هذه الحقيقة، وهو يناقش افتراضًا مؤداه أن مفهوم «العامل» بالنسبة لعلم النحو مجرد اصطلاح وضعي:

«كما فعل المهندسون حين وضعوا خطوطًا مصنوعة — هي في الحقيقة أجسام — مواضع الخطوط التي هي أطوال لا أعراض لها ولا أعماق، ونقطًا — هي في الحقيقة أجسام — مواضع النقط التي هي نهايات، والتي هي لا أطوال لها ولا أعراض ولا أعماق، وقدروا في الفلك دوائر ونقطًا وتوصلوا بذلك إلى البرهان على ما أرادوا أن يبرهنوا عليه. ولم يُخِلَّ إيقاع هذه مواضع تلك بما قصدوا، بل حصل اليقين للمتعلمين تلك الصنعة، مع معرفتهم بوضع هذه موضع تلك.»٢٥

في مثل هذه المقارنة يكون مفهوم «العامل» بمثابة مفهوم تحليلي مثل النقط والخطوط التي يمثل بها العلماء — علماء الهندسة — الأطوال والأعراض والمسافات والبدايات والنهايات. وإذا كانت هذه الخطوط والنقط علامات في نظام علمي لا تساوي ما تدل عليه، بل هي مجرد علامات اتفاقية، فإن العامل، كذلك مجرد مفهوم اصطلاحي في بناء علم النحو. إذا كان تصور سيبويه للعامل — كما عرضناه سالفًا — يؤكد هذه الحقيقة، فإن ابن مضاء القرطبي يسارع إلى رفض هذه المماثلة بين النقط والخطوط في علم الهندسة وبين «العامل» في علم النحو، يقول:

«النحويون ليسوا بهؤلاء (يعني المهندسين)؛ لأنهم قالوا: إن كل منصوب فلا بد له من ناصب لفظي، فإن جعلوا هذه المحذوفات التي لا يجوز إظهارها معدومة على الإطلاق في اللفظ وفي الإرادة، والكلام تام دونها، فقد أبطلوا ما ادعوه من أن كل منصوب فلا بد له من ناصب. وأيضًا فإن وضع الأجسام مواضع الخطوط والنقط الهندسية تقريب وعون للمتعلم، ووضع هذه العوامل لا شيء فيه من ذلك، بل تقدير وتخييل.»٢٦

إن هذا الرفض الحاسم من ابن مضاء لمفهوم «العامل» رغم إدراكه لطبيعته وحقيقته لا ينبع من مجرد الرغبة في الثورة على المشرق العربي من جانب المغرب في عصر الموحدين، بل الرفض يرتد في حقيقته إلى خلاف أيديولوجي بين المذهب الظاهري في التعامل مع النصوص وبين غيره من المذاهب الدينية داخل إطار الثقافة العربية الإسلامية. إن المعيار الذي تستند إليه الظاهرية، أن النصوص واضحة مكتفية بذاتها، وهو ما يعبر عنه ابن حزم بقوله:

«واعلموا أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجهر لا سر تحته كله برهان لا مسامحة فيه … وجملة الخير كله أن تلزموا ما نص عليه ربكم في القرآن بلسان عربي مبين لم يفرط فيه من شيء تبيانًا لكل شيء، وما صح عن نبيكم برواية الثقات من أئمة أصحاب الحديث رضي الله عنهم مُسنَدًا إليه، فهنا طريقان برواية يُوصِّلانكم إلى رضَى ربكم عز وجل.»٢٧

وعلى ذلك فالتأويل وحَمْل الكلام على غير ظاهره مرفوض رفضًا قاطعًا جانب أتباع المذهب الظاهري. إن النصوص بَيِّنَة بذاتها واضحة بنفسها لا تحتاج في فهمها وإدراك معناها إلا لمعرفة اللغة، وحمل الكلام على غير ظاهره لا يصح أن يقع إلا بنص آخَر، فالنصوص تُفسِّر بعضها ولا حاجة للعقل الإنساني للتدخل.

«وحمل الكلام على ظاهره الذي وُضِع له في اللغة فرض لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع؛ لأن مَن فعل غير ذلك أفسد الحقائق كلها والشرائع كلها والمعقول كله.»٢٨

إن هذا الموقف الأيديولوجي ينقله ابن مضاء كاملًا مِن مجال النصوص الدينية إلى مجال الدرس اللغوي، ولا غرابة في ذلك، أليست اللغة بالنِّسْبة للدارس نصًّا يقرؤُه لاكتشاف آلياته. وإذا كان البعد الأيديولوجي لمفهوم «العامل» — أو لنقل البعد الثقافي الديني — بعدًا ضمنيًّا في كتاب سيبويه، فإن ابن مضاء ينقل هذا البعد من العُمق إلى السطح وذلك في مناقشته له من منظور ديني واضح. فهو أولًا يُورِد رأي ابن جني في العوامل اللفظية والمعنوية كما يلح على تأكيد ابن جني أن العامل في الحقيقة هو المتكلِّم نفسه. وإذا كان تأكيد ابن جني لم يمنعه من التحليل على أساس من مفهوم «العامل» فإن ابن مضاء يأخذ رأي ابن جني — أن العامل هو المتكلم — مأخذًا اعتزاليًّا فيبدأ مناقشته لمفهوم العامل بالرد عليه قائلًا:

«وأما مذهب أهل الحق فإن هذه الأصوات إنما هي من فِعْل الله تعالى، وإنما تُنْسب إلى الإنسان كما يُنْسَب إليه سائر أفعاله الاختيارية. وأما القول بأن الألفاظ يُحْدِث بعضها بعضًا فباطل عقلًا وشرعًا، لا يقول به أحد من العقلاء لمعانٍ يطول ذكرها فيما المقصد إيجازه؛ منها: أن شرط الفاعل أن يكون موجودًا حينما يفعل فعله، ولا يحدث الإعراب فيما يحدث فيه إلا بعد عدم العامل، فلا ينصب زيد بعد إن قلنا (إن زيدًا) إلا بعد عدم إن.

فإن قيل بما يرد على من يعتقد أن معاني هذه الألفاظ هي العاملة؟ قيل: الفاعل عند القائلين به إما أن يفعل بإرادة كالحيوان، وإما أن يفعل بالطبع كما تحرق النار ويبرد الماء، ولا فاعل إلا الله عند أهل الحق، وفعل الإنسان وسائر الحيوان فعل الله تعالى، كذلك الماء والنار وسائر ما يفعل، وقد تبين هذا في موضعه. وأما العوامل النحوية فلم يقل بعملها عاقل، لا ألفاظها ولا معانيها؛ لأنها لا تفعل بإرادة ولا بطبع.»٢٩

هكذا ينقل ابن مضاء مفهوم «العامل النحوي إلى مجال الفاعل» في الواقع، ويناقش القضية من منظور كلامي واضح. وبعبارة أخرى يمكن القول إن ابن مضاء حوَّل المفهوم الذهني التصوري التأويلي إلى موجود واقعي وراح يناقش إمكانية قدرته على العمل والتأثير من جميع الوجوه. والحقيقة أن موقف ابن مضاء من مفهوم «العامل» هو موقف الظاهرية من تأويل النصوص عامة، فمفهوم العامل أدَّى إلى توليد مفاهيم نحوية أخرى كالإضمار والحذف استخدمت في تحليل الكلام وصولًا إلى نظام اللغة. وقد فهم الظاهريون أن افتراض محذوف أو مُضْمَر في الكلام يُغيِّر الكلام عن ظاهره بإضافة وزيادة ما يفترض أنه محذوف أو مضمر، وهذه مسألة خطيرة — في زعمهم — حين تطبق على النصوص الدينية. ولو فهم ابن مضاء أن تقدير المضمر أو المحذوف من العوامل هو مجرد أداة تأويلية لشرح المثال اللغوي — كما هو واضح عند سيبويه — لما قال:

«ومَن بنى الزيادة في القرآن بلفظ أو معنًى على ظنٍّ باطل قد تَبيَّن بطلانه فقد قال في القرآن بغير علم، وتوجه الوعيد إليه، ومما يدل على أنه حرام، الإجماع على أنه لا يُزداد في القرآن لفظ غير المُجمَع على إثباته، وزيادة المعنى كزيادة اللفظ، بل هي أحرى.»٣٠

وسيبويه حريص كل الحرص — كما سلفت الإشارة — على التفرقة بين العبارة الفعلية في الكلام وبين العبارة الشارحة التي يستخدمها على سبيل التمثيل. وهو في حالة القرآن أشد حرصًا، ذلك أنه وهو يُئَوِّل قراءة من القراءات — والقراءات أمر لم يكن يستطيع النحوي القديم تجاهله كما سلفت الإشارة — يحرص على بيان أن الفعل المضمر لا يستعمل إظهاره، وذلك في مثل قوله تعالى وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ في قراءة من قرأ على النصب «حمالة».

«لم يجعل الحمَّالة خبرًا للمرأة، ولكن كأنه قال: اذْكُر حمَّالة الحطب شتمًا لها، وإن كان فعلًا لم يستعمل إظهاره.»٣١
وفي هذا الإطار يضع سيبويه قواعد عامة من مثل «إن القراءة لا تخالف؛ لأن القراءة السُّنَّة.»٣٢ تأكيدًا للدور الذي أشرنا إليه والذي لعبه النص القرآني بقراءاته المتعددة في التأثير في بناء علم النحو. وهو في سياق آخَر يضع قاعدة أخرى فحواها «فكلما كَثُر الإضمار كان أضعف» خاصة في حالة تأويل الصيغ الثابتة مثل «إنْ خيرًا فخير وإن شرًّا فشر».٣٣ ومعنى ذلك أن الإضمار والحذف مُجرَّد وسائل تأويلية، وسائل فرعية بالنسبة للعامل: الأداة التأويلية الكبرى في علم النحو. وهذا كله يؤكد أن هجوم ابن مضاء على النحاة وعلى مفهوم العامل — وما يتفرع عنه كان هجومًا أيديولوجيًّا يؤكد أن مفهوم العامل نفسه صياغة نحوية لقضية ثقافية، ومن خلال هذا المفهوم — العامل — يترابط علم النحو بمفاهيم الثقافة.

(٢) القياس

يرد الدارسون المحدثون القياس النحوي في طرائفه ومظاهره إلى تأثُّر النحاة بعلم أصول الفقه.٣٤ وأغلب الظن أن الذي أدَّى إلى هذا هو تعليلات النحاة للظواهر اللغوية وتقسيم المتأخرين منهم للعلل إلى علل لفظية وأخرى معنوية، أو تقسيمهم لها من منظور آخر إلى علل أُوَلٍ وعلل ثوانٍ وثوالث وهكذا. والحقيقة أن التعليل أداة أصيلة من أدوات البحث العلمي بدونها يتحوَّل العلم إلى مُجرَّد جمع وتصنيف، وإذا كان التصنيف نفسه عملية تفترض «معيارًا» فإنها عملية تعتمد على نوع ما من التعليل والتأويل. إن التجاوب بين مقولات علم النحو ومفاهيمه وبين مقولات علم الفقه ومفاهيمه تجاوُب طبيعي ما دام النحو والفقه نظامين ثانويين داخل إطار نظام مُوحَّد هو الثقافة العربية الإسلامية.

والقياس كما تَحدَّد بعد عصر سيبويه يفترض أركانًا أربعة؛ هي: الأصل والفرع والحكم والعلة، ولا بد من وجود «النص» الذي هو الأصل والذي يُسْتنْتَج — أو يُسْتنْبَط — منه حُكْم بعينه. ومع الحكم يمكن استنباط علة — أو تفسير — للحكم الذي يتضمنه النص. فإذا وُجِدت نفس العلة في أمر آخر غير الأمر المنصوص عليه أمكن للباحث — النحوي والفقيه — نقل حكم الأصل إلى الفرع بسبب هذه العلة الجامعة. القياس — كما هو واضح — يعتمد على حركة العقل في فهم الظاهرة أو النص. وإذا كان الأصوليون والفقهاء يفضلون استخدام مصطلح «الاستنباط» على مصطلح «التأويل» فما ذلك إلا أثر من آثار التحويل الأيديولوجي في دلالة المصطلح الأخير كما سبقت الإشارة. والحقيقة أن المصطلحين يشيران إلى عملية واحدة.

وإذا كان القياس في مجال النصوص الدينية هو الأداة التي يستطيع بها العقل الإنساني تطوير دلالة هذه النصوص لتلائم مُتغيِّرات الزمان والمكان في مجال الأحكام الشرعية، وهي الأداة التي يقوم بها «التأويل» في الجوانب الأخرى للنصوص الدينية، إذا كان الأمر كذلك فإن القياس في مجال النحو هو الأداة التنظيمية التي تُحوِّل «الكلام» إلى لغة، وترد التَّغايُر والتعدد إلى نَسَق ونظام.

ونكتفي هنا بمناقشة قضيتين في كتاب سيبويه من قضايا القياس، أولاهما هي قياس الفعل على الاسم في العمل خاصة الفعل المضارع، والثانية قياس «الصفة» على الفعل في العمل، وهو ما يطلق عليه البعض ساخرين اسم «القياس على القياس» أو تحويل الفرع إلى أصل يقاس عليه مرة أخرى.٣٥ لقد هاجم ابن مضاء — إلى جانب العامل — العلل والمقاييس النحوية، وهو هجوم طبيعي من أحد أتباع الظاهرية التي ترفض القياس جملة وتفصيلًا. وفي ذلك يقول ابن حزم:
«إن القياس الذي حدث في القرن الثاني قال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرَّءُوا منه، وهو الحكم فيما لا نص فيه بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع فقال حُذَّاقهم: لاتفاقهما في علة الحكم، وقال بعضهم لاتفاقهما في وجه الشبه، قلنا: هذه القضية باطلة لوجوه أحدها: قولهم فيما لا نص فيه، وهذا معدوم فالدين كله منصوص عليه، وثانيها أنه حتى لو وُجِد لما جاز أن يحكم بذلك؛ لأنه دعوى بلا برهان، وثالثها قولهم: لاتفاقهما في علة الحكم ولا علة في الشيء من أحكام الله تعالى إذ دعوى العلة في ذلك قول بلا حجة.»٣٦

وإذا كان ابن مضاء قد نقل الخلاف حول مشروعية القياس من مجال الخلاف الفقهي إلى مجال الخلاف النحوي كما فعل في مفهوم العامل، فما ذلك إلا لأن القياس — في النحو كما هو في الفقه — يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على التأويل، سواء من حيث استخراج الحكم أو من حيث استنباط العلة أو من حيث نقل حكم الأصل إلى الفرع. إن اختيارنا هنا لقَضِيَّتَي قياس الفعل المضارع على الاسم، وقياس الصفة على الفعل المضارع اختيار نابِع من أن هاتين القضيتين تعكسان — إلى جانب قضية العامل — طبيعة التصورات العامة التي قام عليها العلم من جهة، كما تؤكدان الطابع التأويلي للمفاهيم والتصورات النحوية من جهة أخرى.

ومن المفيد في البداية أن نزيح عن الأذهان ذلك التصور الذي زرعه ابن مضاء في أذهان بعض الباحثين المعاصرين من أن قياس الصفة على الفعل — بعد قياس الفعل على الاسم — هو قياس على القياس، أو تحويل للفرع إلى أصل ثم القياس عليه. ذلك أن قياس الفعل على الاسم — أو مضارعته له على حد تعبير سيبويه كما سنرى — هو قياس في حكم ما؛ هو أن كُلًّا من الاسم والفعل المضارع مُعْرَب؛ فالحكم هنا هو «الإعراب» والأصل فيه — على حد تَصوُّر النحاة — أنه للأسماء. أما قياس الصفة على الفعل المضارع فهو قياس لحكم آخر غير حكم الإعراب (القابلية للإعراب)، بل الحكم المَقِيس عليه في هذه الحالة الثانية هو «العمل» أو «التأثير» وبذلك اختلفت جِهتَا الحكم وصارا قياسين لا قياسًا مُركَّبًا.

إن تصور النحاة — خاصة سيبويه — للاسم والصفة والفعل يعطي الأولية للأسماء، ثم يضع بعدها الصفات، ثم يأتي الفعل في المرتبة الثالثة. وليست هذه مُجرَّد تَصوُّرات ذهنية فارغة، بل الواقع أن هذا الترتيب يتجاوب بعمق مع التصور الديني لأسماء الله وصفاته وأفعاله. إن الأسماء هي التي تدلُّ على الذات، والصفات تدل على أحوال، اختلف المتكلمون هل هي عين الذات أم هي غيرها. وإذا كان المتكلمون لم يُفرِّقوا في خلافاتهم بين الأسماء والصفات لأن كثيرًا من الأسماء الإلهية التي وَردتْ في القرآن هي من حيث الاشتقاق صفات، فإن الظاهرية يَتَّخِذون موقفًا مخالفًا للفرق الإسلامية كافَّة فينكرون إنكارًا تامًّا إطلاق كلمة «صفات» على ما ورد في القرآن من ألفاظ دالَّة على الله — عز وجل— والمُنطلَق الذي ينطلقون منه هو «النَّص» الذي تحدث عن «الأسماء الحسنى» ولم يَرِد فيه لفظ «صفة». يقول ابن حزم:

«وأما إطلاق لفظ الصفات لله — تعالى عز وجل — فمُحال لا يجوز؛ لأن الله — تعالى — لم ينص على لفظ الصفات ولا على لفظ الصفة، ولا حُفِظ عن النبي بأن لله — تعالى — صفة أو صفات، نَعَم ولا جاء قطُّ ذلك عن أحد من الصحابة — رضي الله عنهم — ولا عن أحد من خيار التابعين، ولا عن أحد من خيار تابعي التابعين، وما كان هكذا فلا يحل لأحد أن ينطق به.»٣٧
وإذا تجاوَزْنا إطار علم الكلام إلى التصوف فسنجد أن ثمة نظرية صاغها ابن عربي حول «الألوهة» بوصفها مجموع الصفات الباطنة في الذات الإلهية، والتي تطلب العالم ويطلبها العالم، وإليها يَرُد ابن عربي «الفاعلية» و«العمل» في العالَم.٣٨ وهذا معناه أن الاتجاه العام في الثقافة كان يعطي للاسم أوَّلِيَّة على الصِّفَة، ويعطي للصفة أَوَّلِيَّة على الفِعل، وذلك انطلاقًا من تَصوُّر حدوث العالَم في مقابَلة قِدَم الذات الإلهية، وهو تَصوُّر يضع الصفات — التي لم يميز المتكلمون بينها وبين الأسماء٣٩ — في مرتبة وسطى. لذلك نرى من الطبيعي أن يضع النحاة الاسم في المرتبة الأولى. ليس هذا بالطبع تعليل النحاة لهذا الترتيب، فللنحاة — وسيبويه خاصة — تعليلاته ذات الطابع اللغوي لأولية الاسم على الفعل، وهذه بعضها:

إن للاسم استقلالًا لغويًّا ليس للفعل، فالجملة — الكلام — قد تنبني على اسمين ولا تُبْنى على فعلين؛ لأن الاسم يستغني عن الفعل ولا يستغني الفعل عن الاسم. هذه حقيقة تؤكد مغايرة الفعل للاسم، أو بالأحرى عدم مضارعته له مضارعة تامة. وهذا ما يعنيه سيبويه بقوله:

«ويبين لك أنها (الأفعال) ليست بأسماء أنَّك لو وضعتَها مواضع الأسماء لم يَجُزْ ذلك، ألا ترى أنك لو قلت: إنَّ يضرب يأتينا، وأشباه هذا لم يكن كلامًا؟ إلا أنها ضارَعت الفاعل (يعني اسم الفاعل) لاجتماعهما في المعنى.»٤٠
إن الاسم — فيما يرى سيبويه — «له من القوة ما ليس لغيره.»٤١ وإذا كان الفعل المضارع يلحقه الإعراب كما يلحق الأسماء فإن هذا التشابه لا يجعل الفعل اسمًا؛ ذلك أن الفعل يُجْزَم والاسم يُجَر، والعلة في ذلك أن الاسم تلحقه الإضافة وهي علاقة لا تحدث للفعل. وإذا كانت الإضافة تحذف التنوين في الاسم المضاف، فإن التنوين يوازي الجزم في الأفعال. يقول سيبويه:
«وليس في الأفعال جَرٌّ كما أنه ليس في الأسماء جَزْم؛ لأن المجرور داخل المضاف إليه معاقِب للتنوين، وليس ذلك في هذه الأفعال … وليس في الأسماء جَزْم لتَمكُّنها وللحاق التنوين، فإذا ذهب التنوين لم يجمعوا على الاسم ذهابه وذهاب الحركة.»٤٢

إن القياس هنا هو إدراك للتشابه وإدراك للاختلاف كذلك، وهما وسيلتان هامتان للتصنيف والتقسيم. إن الفعل — من حيث الإعراب — يشبه الاسم في أنه يقبل الرفع والنصب ويُخالفه في أنه يقبل الجَزْم في حين لا يقبل الاسم الجَزْم ويقبل الجر. وتكون المقابَلة هنا بين الجزم في الفعل والتنوين في الاسم مقابَلة قائمة على أساس من عدم اجتماع التنوين مع الإضافة، التي هي إحدى وظائف الاسم التي تفصله عن الفعل.

هذا التشابه بين الاسم والفعل يؤكده تشابه آخر بين الفعل والصفة — التي اعتبرها سيبويه فرعًا على الاسم من حيث الوظيفة — وذلك أن الفعل قد يقع موقع الاسم ويقوم بوظيفته في الجملة كأن يكون خبرًا أو صفة أو حالًا … إلخ. وهنا يَلْمَح سيبويه إلى جانب هذا التشابه الوظيفي تشابُهًا في الإلحاق، فالفعل قد تلحق به السين أو سوف كما تلحق الألف واللام الاسم فُتحوِّله من التنكير إلى التعريف. إن الأفعال تضارع الأسماء — خاصة الصفات — من حيث إنك:

«تقول: إن عبد الله لَيَفعَل، فيوافق قولك: لَفاعِل، حتى كأنك قلتَ: إن زيدًا لفاعل فيما تريد من المعنى. وتلحقه هذه اللام (لام التأكيد) كما لحق الاسم، ولا تلحق فَعَلَ (الفعل الماضي) اللام. وتقول سيفعل ذلك وسوف يفعل ذلك فتُلْحِقها هذين الحرفين لمعنًى كما تلحق الألف واللام الأسماء للمعرفة.»٤٣
إن هذا التحليل لأوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين الاسم والفعل سواء على مستوى الإعراب أو الإلحاق أو علاقات الاستبدال — كما بين الفعل والصفة — هو الذي جعل سيبويه والنحاة السابقين عليه يصوغون مفهوم «المضارع» الذي تَطوَّر بعد ذلك ليدل على البُعد الزمني في الصيغة. إن كلمة «مضارع» استعملها النحاة السابقون على سيبويه بمعنى «المُشابِه» في كثير من الجوانب، وهذه الكلمة بهذا المعنى «مصطلح شكلي غير مرتبط بمدلوله الوظيفي»٤٤ ولكنها تَحوَّلَت رغم ذلك لتدل على الفعل الدالِّ على الحال أو الاستقبال؛ أي إنها اكتسبَتْ مدلولها الوظيفي من استخدام النحاة لها، فأصبح تقسيم الفعل إلى ماضٍ ومضارع وأمر لا يثير استغرابًا من أحد.

إن هذه العلاقة التي اكتشفها النحاة — بالمقارنة — بين الاسم والفعل تبلور عنها مفهوم هو «المضارعة»، وهو مفهوم يقوم على ترتيب هرمي — ذي طابع تقييمي — يحتل فيه الاسم قمة الهرم. وبناء على هذا التصور يمكن تأويل بناء الفعل الماضي على الفتح. فالفعل الماضي بني على الفتح لا على السكون — والفتحة أخفُّ الحركات عند سيبويه ويؤيده الدراسات الإحصائية في ذلك — لأنه يُضارِع — بعض المضارعة — الاسم، أو على حد تعبير سيبويه.

«لأن فيها بعض ما في المُضارَعة، تقول: هذا رجل ضَربَنا، فتصف بها النكرة، وتكون في موضع ضارِب إذا قلتَ: هذا رجل ضارِب. وتقول: إنْ فَعَل فعلتُ، فيكون في معنى إنْ يَفعلْ أَفعلْ، فهي فِعْل كما أن المضارع فِعْل وقد وقعت موقعها في إن (يعني الشرطية). ووقعَتْ موقع الأسماء في الوصف كما تقع المُضارَعة في الوصف، فلم يُسكِّنوها كما لم يُسَكِّنوا من الأسماء ما ضارَع المُتمكِّنَ ولا ما صُيِّر من المتمكن في موضع بمنزلة غير المُتمَكِّن. فالمضارع (للمُتَمكِّن): مِن علُ، حركوه لأنهم قد يقولون من علِ فيَجُرُّونه. وأما المتمكن الذي جُعِل بمنزلة غير المتمكن في موضعٍ فقولك: ابدأ بهذا أولُ، ويا حكمُ.»٤٥

إن القياس في النحو كما هو واضح من الأمثلة السابقة مُخالِف للقياس في الفقه، فالنحوي لا ينقل حكمًا من نص، بل يستنبط — بالتأويل والمقارَنة — أوجه التشابه وكذلك أوجه الاختلاف بين ظواهر اللغة. وهذه العملية — التأويلية في جوهرها — هي التي تُمكِّنُه من وضع القواعد، وبدونها لا يمكن اكتشاف النظام اللغوي من الكلام.

إذا كان الفعل الدَّالُّ على الحال والاستقبال يضارع الاسم من حيث الإعراب، ويضارع الصفات من حيث صلاحيته لأن يقع موقعها، فإن الصفات يمكن أن تضارع الأفعال من حيث عملها الرفع والنصب. وهذا فارق هام بين الصفة والاسم. وقد تنبه سيبويه — وإن بشكل ضمني إلى أن الفارق بين الاسم والصفة فارق دلالي في المحل الأول، فالاسم يشير إلى المُسمَّى، والصفة تدل على الموصوف بالحَدَث. وبالإضافة إلى ذلك فإن سيبويه قد تَنبَّه إلى أمرين: أحدهما أنه لا يجوز الإخبار بالاسم، والأمر الآخر أن الصفة لا تقع موقع الاسم ولا تحل محله.٤٦ ومع ذلك تظل الصفة في موقع متوسط بين الاسم والفعل؛ ولذلك تجري الصفة مجرى الفعل المضارع للاسم كما أن الفعل يضارع الاسم في الإعراب «فكل واحد منهما داخلٌ على صاحبه» على حد تعبير سيبويه.
إن مشكلة تصنيف الصفات من حيث علاقتها بالأسماء من جهة ومن حيث علاقتها بالأفعال من جهة أخرى مشكلة تَطلَّبتْ كثيرًا من التحليل من منظور علم اللغة الحديث في دراسة تُعَد في تقديرنا من أخطر الدراسات الحديثة، في اللغة العربية. وقد انتهت إلى ضرورة إفراد الصفة في تصنيف مستقلٍّ عن الاسم رغم كل التشابهات التي تربط الصفات بكل من الاسم والفعل.٤٧ ولم يكن الفصل ممكنًا أمام سيبويه ولا أمام سابقيه أو لاحقيه بحكم ما سبقت الإشارة إليه من تداخل مفاهيم الأسماء والصفات في العلوم الدينية إلى حد إنكار الظاهرية للصفات كما سبقت الإشارة أيضًا.

لذلك يكفي سيبويه أن يدرك عناصر التشابه وكذلك عناصر الاختلاف بين الاسم والصفة من جهة، وبينها وبين الفعل من جهة أخرى. يقول:

«وأما مضارعته في الصفة فإنك لو قلت: أتاني اليوم قوي، وألَا باردًا، ومررتُ بجميل، كان ضعيفًا، ولم يَكُن في حُسْن: أتاني رجل قوي، وألَا ماء باردًا، ومررتُ برجل جميل. أفلا ترى أن هذا يقبح ها هنا كما أن الفعل المضارع لا يتكلم به إلا ومعه الاسم؛ لأن الاسم قبل الصفة، كما أنه قبل الفعل. ومع هذا أنك ترى الصفة تجري في معنى يَفْعَلُ (يعني الفعل المضارع)، يعني هذا رجل ضارِب زيدًا، وتنصب كما ينصب الفعل.»٤٨

إن هذا التشابه بين الصفة والفعل في حاجة كل منهما إلى الاسم من جهة، وفي العمل من جهة أخرى يؤكد أنهما «متضارعان»، بمعنى أن كُلًّا منهما داخلٌ في صاحبه كما نَقلنا عن سيبويه من قبل. وإذا كان الاسم يدل على الجواهر، والصفات تدل على الأعراض، كما يقرر المتكلمون، فمن الطبيعي أن يكون للاسم مكانته العليا في تقسيم النحاة للكلم. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن مفهوم المضارَعة، مفهوم لا يقتصر على تحليل علاقة الاسم بالفعل أو الفعل بالصفة، بل يَمتدُّ ليستخدم في تحليل أساليب كثيرة، فالصفة المُشبهة تضارع الصفة في العمل، وما «تضارع» ليس في العمل عند من يُعْمِلُونها، وأسماء الأعداد تضارع الصفات في العمل، وهكذا يتحول مفهوم «المضارَعة» الذي أنتجه القياس والمقارَنة إلى مفهوم تحليلي واسع هام لبناء علم النحو، وربما لا تقل أهميته في كتاب سيبويه عن مفهوم «العامل». وهو في النهاية مفهوم تحليلي تأويلي يربط النحو بالعلوم الأخرى في الثقافة، ومن خلاله يمكن اكتشاف رؤية النحاة للعالَم، كما يمكن الكشف عن تحيزاتهم الفكرية والعقيدية. وهذا يفسر لنا هجوم ابن مضاء القرطبي الظاهري على مفهومي العامل والقياس بصفة خاصة. ولا نتعرض هنا لهجومه على علل النحاة؛ إذ ليست العلل إلا جزءًا من بناء القياس، هذا إلى جانب أنها تدخلنا في تفصيلات ودقائق تخرج بنا عن الهدف من هذه الدراسة.

(٣) الشذوذ

الشذوذ نَقِيض القاعدة وخروج على النظام. ومن قَبيل تحصيل الحاصل القول بأن الكلام حركة مستمرة متغيِّرة، واللغة سعي لاكتشاف النظام الثابت. إن العلوم جميعًا تسعى لوضع العالم — الطبيعي أو الإنساني — في أنساق وتقسيمات عقلية ذات طابع ثقافي في جوهرها. ومن الطبيعي أن يكون جزءًا من طبيعة العلم — في حركته المستمرة لتنظيم المعرفة الإنسانية — أن يكتشف ما هو خارج نظامه، وأن يصنفه تحت مقولة «الشذوذ» أو غير المفهوم طبقًا للإطار المعرفي الحالي. ولقد كثر هجوم المحدثين على القدماء لاهتمامهم بالشذوذ أحيانًا، أو لإهمالهم إيَّاه وتحكيم قواعدهم أحيانًا أخرى. والحقيقة أن موقف النحاة القدامى وعلى رأسهم سيبويه — من هذه الناحية — يتسم بقدر كبير من الموضوعية، فلم يكن يسعهم كما سبقت الإشارة تَجاهُل واقع القراءات القرآنية، وقد وُصِف بعضها بالشذوذ — بمعنى عدم التواتر في النقل — وتعدى بعضهم لمحاوَلة تفسير هذه القراءات، أعني تأويلها. ولعله من الضروري أن نُعيد فهم معنى «الشذوذ» من خلال ما يطرحه علينا كتاب سيبويه.

ومن اللافت للانتباه أن سيبويه لا يستخدم المصطلح «شاذ» بل يستخدم مُصطلَحَي «القُبْح والحُسْن»، وهما مصطلحان كلاميان. ولا نريد من ذلك الذهاب إلى حد القول بأن سيبويه يستخدمها نفس الاستخدام الكلامي أو قريبًا وأغلب الظن أن الاستحسان والاستقباح — عند سيبويه — كانَا يعتمدان على معيار الشيوع والكثرة، في الظاهرة اللغوية. فالشائع الكثير هو الحسن، والنادر القليل هو القبيح — أو الشاذ — الذي لا يقاس عليه. وهذا المعيار هو المعيار الذي وضعه السابقون على الخليل فيَرْوُون أن أحدًا سأل أبا عمرو بن العلاء:

«أخبِرْني عمَّا وضعتَ مما سمَّيْتَه عربية، أيدخلُ فيها كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقلتُ (السائل) كيف تصنع فيما خالفَتْك فيه العرب، وهم حجة؟ قال: أعمَلُ على الأكثر، وأُسَمِّي ما خالفني لغات.»٤٩
وهذا معيار طبيعي في ثقافة تعتمد على نص تم توحيد الخلافات في قراءته إلى حدٍّ كبير في حركة التدوين الثانية في عصر الخليفة الثالث عثمان بن عفان، اعتمادًا على لهجة قريش.٥٠ إن معيار «الكثرة والشيوع» يَتردَّد كثيرًا في كتاب سيبويه. فالذي يمنع من صرف اسم العلم «معد يكرب» إذا عومل معامَلة الاسم الواحد — رغم أنه اسم عربي — أنه ليس على صيغة الأسماء الكثيرة الاستعمال في الكلام العربي. وبسبب هذه القِلَّة يمنع من الصرف:
«لأنه ليس أصل بناء الأسماء. يدلك على هذا قِلَّته في كلامهم في الشيء الذي يلزم كل من كان أمته ما لزمه (أي يمكن أن يُسمَّى به كل ما كان من جنسه وعلى شاكلته). فلما لم يكن هذا البناء أصلًا ولا متمكنًا كرهوا أن يجعلوه بمنزلة المتمكن الجاري على الأصل، فتركوا صرفه كما تركوا صرف الأعجمي.»٥١
إن معيار الكثرة والشيوع ينتج مفاهيم مثل «الأصول» و«الفروع» تمتد على طول الكتاب، وكلها مفاهيم ذات طابع تأويلي في جوهرها، فالاسم أصل والفعل فرع، وفي الأسماء تكون النكرة هي الأصل والمعرفة الفرع.٥٢ والمفرد من الأسماء أصل والجمع فرع، وكذلك المذكر الأصل والمؤنث فرع. وهذه التصورات كلها التي يفسر سيبويه على أساسها التمكن وعدم التمكن، ويفسر من ثم ظاهرة المنع من الصرف في بعض الأسماء. إن الأصل في الأسماء الصرف صرفًا كاملًا، ولا يقبل ذلك إلا الأسماء المتمكنة في الاسمية. ويبدو أن مفهوم التمكن هو اطراد الاستعمال؛ ذلك أن الاسم المتمكن هو الاسم الذي يدل على مُسمًّى ولا ينقل عن هذه الدلالة، أو لا يكون منقولًا عن دلالة أخرى. فالتمكن ليس في الواقع سوى تعبير عن ظاهرة «الشيوع والكثرة» في الاستخدام العربي، وهو معيار الصحة والسلامة والاستحسان عند سيبويه.

إن استخراج القواعد واكتشاف النظام اللغوي لا بد أن يعتمد على هذا المبدأ، ولذلك يُحتِّم سيبويه على المتكلم أن يتبع الكلام العربي دون قياس فردي، فإذا كان العرب مثلًا يحذفون بعض الحروف في نهاية بعض الأفعال المجزومة — وهي ليست حروف علة — فليس من حق المتكلم الفرد أن يجري الحذف في غير ما استخدمته العرب. وبعبارة أخرى إذا كان في الكلام ما لا يتوافق أحيانًا مع مُتطلبات النظام اللغوي، فعلى المتكلم الفرد أن يتبع الجماعة في كلامها دون أن يقيس على ما هو غير متوافق مع النظام، وإلا تَحوَّلت اللغة إلى نظام فردي وفقدت طابعها الجمعي، وفقدت من ثَمَّ قُدرتَها على أداء وظيفتها، يقول سيبويه:

«واعلم أنه ليس كل حرف يظهر بعده الفعل يُحْذَف فيه الفعل ولكنك تُضمِر بعد ما أضمرَتْ فيه العرب من الحروف والمواضع، وتُظهِر ما أظهَروا، وتجري هذه الأشياء التي هي على ما يستخفون بمنزلة ما يحذفون من نفس الكلام، وممَّا هو في الكلام على ما أَجْرَوا، فليس كل حرف يُحْذَف منه شيء ويثبت فيه نحو: يك ويكن، ولم أُبَل وأُبالِ، لم يحملهم ذاك على أن يفعلوه بمثله، ولا يحملهم إذا كانوا يثبتون فيقولون في مُرْ أومر، أن يقولوا في خُذْ أوخذ، وفي كُلْ أوكل.

فَقِفْ على هذه الأشياء حيث وَقَفوا ثم فَسِّر.»٥٣

إن هذه الظاهرة النادرة — ولا يقول سيبويه الشاذة — يجب أن تُتَّبَع دون أن يقاس عليها. هذا بالنسبة للمتكلم العادي، أما بالنسبة للنحوي فدَوْرُه — يجب أن يتجاوز ذلك إلى التفسير والتعليل والتأويل: لماذا خالفَتْ أمثال هذه العبارات متطلبات النظام اللغوي المبني على أساس الكثير والشائع، ومعنى ذلك أن المُستعمل في كلام العرب والذي يمكن تفسيره وتأويله لا يتساوى مع القبيح، بل هو أقرب إلى أن يقع تحت مفهوم «الجائز»، وذلك في مقابلة الكثير والشائع الذي يقع تحت مفهوم «الحسن» أو القياس والقاعدة. هذه مُجرَّد اجتهادات وإلا فالمفاهيم في كتاب سيبويه — خاصة مفاهيم التقييم — تحتاج لدراسة خاصَّة دقيقة مُتتبعة لكل أحكامه ومُحلِّلة للألفاظ التي يستخدمها في سياق هذا الحكم أو ذاك. وذلك أمر يخرج عن نطاق الدراسة الحالية.

في نص هامٍّ لِمَا نحن بصدده يستخدم سيبويه عبارات «لا يجوز» و«أخبث» و«قبيح ضعيف» وهو بصدد الحديث عن الفارق بين الصفة والاسم. ولما كانت الصفة لا تدل على جوهر بل تدل على موصوف فإنه لا يصح الابتداء بها في الكلام، ولا يصح أن تَسْبِق الموصوف — وهي على حالها في الوصف — ولا يصح إذا وقعت حالًا أن تتقدم على صاحب الحال إلا بشروط خاصَّة أو على نُدْرَة. وعلى هذا الأساس يعلل سيبويه نَصْبَ التمييز في مثل «هذا راقودٌ خلًّا» وعدم جواز جر «طين» في مثل «بصحيفة طين خاتمها».

لأن الطين اسم وليس مما يوصف به، ولكنه جوهر يضاف إليه ما كان منه.٥٤

وعلى هذا الأساس أيضًا لا بد أن ينتصب الوصف في مثل «هذا قائمًا رجل» و«فيها قائمًا رجل» على أساس أن الاسم لا يقع خبرًا — أو وصفًا على حد تعبير سيبويه — للصفة وإذا كان وصف «الصفة» بالاسم «غير جائز» فإن وضع الصفة مَوضع الاسم «قبيح».

وقبح أن نقول: فيها قائم، فتضع الصفة موضع الاسم كما قبح: مررت بقائم (يعني مُسنَدًا إليه أو خبرًا) وكان المبني على الكلام الأول ما بعده.

ولو حسن أن تقول: فيها قائم، لجاز: فيها قائم رجل، لا على الصفة، ولكنه كأنه لما قال فيها قائم، قيل له مَن هو؟ وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضَعْفِه.٥٥

إن هذا الجواز لعبارة «فيها قائم» إنما هو جواز على ضَعْف كما يقول سيبويه، وهذا الجواز — أو بالأحرى التجويز — الضعيف يقوم على أساس من تأويل العبارة، فيكون الاسم غير مَبني على الصفة، بل يكون مستأنفًا كأنه جواب لسؤال سائل كما مثَّل سيبويه. ولأنه جواز ضعيف، فالأحسن في مثل «فيها قائم رجل» أن تنصب قائم؛ فرارًا من القُبح.

وإذا كان النص السابق قد نقلنا من مستوى «عدم الجواز» إلى مستوى «القبح الجائز» — إن صحت العبارة — على التأويل، فإن بعض العبارات لا تجوز، ويصل الحكم عليها عند سيبويه إلى مستوى «الخبث» أو إلى أن يجمع في وصفها بين صِفتَي القبح والضعف. يقول:

«ومن ثم صار «مررت قائمًا برجل» لا يجوز؛ لأنه صار قبل العامل في الاسم وليس بفعل، والعامل الباء. ولو حَسُن هذا لحَسُن «قائمًا هذا رجل.

فإن قال: أقول «مررت بقائمًا رجل» فهذا أخبث، من قِبَل أنه لا يفصل بين الجار والمجرور، ومن ثم أسقط: «رُبَّ قائمًا رجل». فهذا كلام قبيح ضعيف، فاعرف قبحه فإن إعرابه يسير. ولو استحسناه لقلنا هو بمنزلة «فيها قائمًا رجل» ولكن معرفة قبحه أمثل من إعرابه.»٥٦

في هذه العبارات الأخيرة يَتبدَّى موقف سيبويه واضحًا من قضية الشذوذ، وهو الموقف الذي وصفناه بالموضوعية، فالإعراب على حد قوله يسير، والتأويل سهل، ولكن القضية ليست قضية تأويل أو إعراب، بل المهم هو اكتشاف النظام، ولذلك يصبح معرفة القبح — وهو الأقرب إلى الشذوذ — «أمثل من» الإعراب والتأويل على حد تعبير سيبويه.

معنى ذلك أن «التأويل» ليس وسيلة لتبرير كل خطأ ولكنه وسيلة لرَدِّ النادِر الاستعمال إلى النظام اللغوي. إنه مُحاوَلة لاستيعاب ما هو خارج النظام داخله. ومن الطبيعي — بناء على هذا التصور — أن يَنصبَّ جلُّ الجهد التأويلي لبعض نماذج الكلام على القراءات القرآنية وعلى الشعر وعلى العبارات ذات الصيغ الثابتة الموروثة كالحِكَم والأمثال والأقوال المأثورة، وهو ما استقر العرف على أنه عربي صحيح رغم مخالفته لمتطلبات النظام كما تصوره سيبويه أو غيره من النحاة. ويكفينا مناقشة نموذج واحد من نماذج تأويل سيبويه في هذه المجالات.

لقد مر بنا الاستشهاد بقول سيبويه: «إن القراءة لا تُخالَف؛ لأن القراءة السنة.» مقرِّرًا أن مُخالَفة القراءات أمر غير مقبول، لأن المُخالِف لها كالمخالف للسُّنَّة، ما دامت هذه القراءات قد نُقِلَت بالطرق الصحيحة. ولكن مما له دلالته أن هذه العبارة وردت في سياق مناقشته لقوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر: ٤٩) وهي آية خلافية فيما يتصل بقضية خلق الأفعال بين المعتزلة والأشاعرة.٥٧ والأهم من ذلك — من منظور النحو — أن (كل) يصح أيضًا أن تُرفَع على الابتداء وتكون جملة «خلقناه» — وفيها ضمير شُغِل به الفعل على حدِّ تصوُّر النحاة وسيبويه في قضية الاشتغال — خبرًا لهذا المبتدأ، والجملة «كل شيء خلقناه بقدر» على هذا التقدير خبر إن وضمير الجلالة «نا» اسمها. إن كلتا القراءتين — نحويًّا — جائزة صحيحة من منظور سيبويه نفسه الذي يقول في باب الاشتغال:

«وإن قَدَّمتَ الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك عربيًّا جيدًا (يعني تأخير الاسم)، وذلك قولك: زيدًا ضربتُ، والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء، مثله في ضرب زيد عمرًا، وضرب عمرًا زيدٌ.

فإذا بنيتَ الفعل على الاسم قلت: زيد ضربته، فلزِمَتْه الهاء، وإنما تريد بقولك مبني على الفعل أنه في موضع «منطلق» إذا قلت: عبد الله منطلق (أي في موضع الخبر) فهو في موضع الذي بُنِي على الأول (يعني على المبتدأ) وارتفع به، فإنما قلتَ: عبد الله فنسبته له (أو فنبهته له وهو الأصوب) ثم بنيت عليه الفعل ورفعته (الاسم) بالابتداء.

ومثل ذلك قوله جل ثناؤه وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ (فصلت: ١٧) وإنما حسن أن يبنى الفعل على الاسم حيث كان معملًا في المضمر وشغلته به، ولولا ذلك لم يحسن: لأنك لم تشغله بشيء.»٥٨
هذا الاستحسان للرفع إذا تقدم الاسم وشغل الفعل بضمير الاسم، يجعل الرفع على الأقل لا يقل في درجة جوازه عن النصب، إن لم يكن يفوقه في درجة «الاستحسان» لوجود الضمير المشغول به الفعلُ عن الاسم. بل يؤكد سيبويه بعد ذلك أن النصب في أمثال هذه العبارات «عربي كثير والرفع أجود.»٥٩
وحين نعود للآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ نفهم مغزى قوله: «إن القراءة لا تُخالَف لأن القراءة السُّنَّة.» وهو يقول: «فإنما هو على قوله: زيدًا ضربته، وهو عربي كثير.» ولاحِظ هنا استناده إلى الكثرة. ثم يعقب على ذلك بالاستشهاد بقراءة النصب في الآية التي استشهد بها على الرفع في النص السابق — واعتبره الأجود — فيقول: «وقد قرأ بعضهم: وأما ثمودَ فهديناهم، إلا أن القراءة لا تُخالَف، لأن القراءة السُّنَّة.»٦٠ إن هذا التأكيد من جانب سيبويه على عدم مخالفة القراءة يعكس طبيعة المعضلات التي كان يواجهها النحاة القدماء والتي لم يَتنَبَّه لها المعاصرون في نقدهم لمنهج القدماء.

إن لسيبويه هنا موقفين مختلفين، فموقفه من قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ هو تأكيد قراءة الرفع وعدم التعليق على قراءة النصب اكتفاءً بإيرادها وتقدير أن النصب عربي كثير والرفع أجود. أما الموقف من قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ فهو الاستناد إلى «سُنِّيَّة القراءة، وعدم مخالفتها. وهذا موقف لا يمكن شرحه إلا بأن الآية — كما سبقت الإشارة — كانت من الآيات الخلافية، وكان استناد كل فريق — فيما يبدو — يتعلق بتأويل يرجح إحدى هاتين القراءتين. وتعليق السيرافي على الكتاب يؤكد هذه الحقيقة:

«فإن قال قائل: قد زعمتم أن نحو: «إني زيدٌ كلَّمْتُه» الاختيار فيه الرفع؛ لأنه جملة في موضع الخبر، فَلِمَ اختير النصب في إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وكلام الله تعالى أولى بالاختيار؟ فالجواب أن النصب ها هنا دلالة على معنًى ليس في الرفع، فإن التقدير على النصب: إنَّا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر: فهو يُوجب العموم؛ إذ يجوز أن يكون «خلقناه» نعتًا لشيء، و«بقدَر» خبرًا لكل ولا يكون فيه دلالة على خلق الأشياء كلها، بل يدل على أن ما خلقه منها خلقه بقدر.»٦١
إن الخلاف الكلامي حول قضية خلق الأفعال — أفعال الإنسان — يجد صداه في نظرية النحو، ويمكن القول من زاوية أخرى إن مواقف النحاة التأويلية لم تكن بمعزل عن القضايا الفكرية الدينية المثارة في الواقع الاجتماعي والثقافي. ومما له دلالة في هذا الصدد أن ابن عربي كما ناقشنا في دراسة أخرى يعتمد في قراءة هذه الآية على الرفع ليقف عند جزئها الأول «إنَّا كل شيء» مؤكدًا نظريته في وحدة الوجود.٦٢ ومعنى ذلك أن تأويل هذه الآية عند النحاة والمتكلمين والمتصوفة تأويل يستند إلى جذور متشعبة ذات أصل واحد.

والشاهد الشعري الذي نختار مناقشته هنا في كتاب سيبويه من نفس الباب — باب الاشتغال — وذلك من شأنه أنه يكشف لنا عن الفارق بين موقف النحوي التأويلي في القرآن وفي الشعر. ومن الطبيعي أن يكون موقف سيبويه من الشاهد الشعري أشد جرأة، فلم يكن من المستغرب منه أحيانًا أن يُخطِّئ الشاعر، وإن كانت النماذج التي يُخطئ فيها سيبويه الشعراء قليلة إذا قورنت بموقف غيره من النحاة خاصة عبد الله بن إسحاق الحضرمي الذي اشتهرت قصصه ومواقفه في تخطئة الشعراء من الجاهليين والإسلاميين، خاصة الفرزدق، وهي قصص أشهر من أن يشار إليها. بل إن سيبويه كما سبقت الإشارة في بيت امرئ القيس أحيانًا ما كان يُئَوِّل الإعراب على أساس المعنى السياقي لا في البيت فقط بل في القصيدة كلها. وأحيانًا ما يختار سيبويه القراءة الأكثر جودة للشعر من منظوره على الأقل، وفي أحيان قليلة يُئَوِّل البيت طبقًا للمعنى والدلالة الأفضل من منظور نُقَّاد الشعر، وذلك حين يقف أمام بيت حسان الشهير:

لنا الجفَنات الغُرُّ يلمعْنَ بالضحى
وأسيافنا يَقْطُرْن من نجدة دما
فيرى أن «جفنات» وإن كانت على جمع أدنى العدد من حيث الصيغة (بالتاء) فإن المراد بها الكثير، وهو تأويل يُعَد بمثابة دفاع عن البيت الذي انتقد على أساس أن الفخر فيه ليس جيدًا بسبب استخدام هذه الصيغة — وغيرها — في البيت، ويكون تعليق سيبويه «فلم يُرِد أدنى العدد.»٦٣

إن الشاهد الذي يُخطِّئ فيه سيبويه الشاعر هو قول أبي النجم العجلي:

قد أصبحَتْ أم الخيار تَدَّعِي
عليَّ ذنبًا كلُّه لم أصنع

وسيبويه يصف قراءة «كلُّ» بالرفع بأنها «ضعيفة» لأن الفعل «أصنع» غير مشغول بضمير يجعله صالحًا للإخبار به عن الاسم، أو لبنائه عليه على حد تعبير سيبويه. يقول:

«ولا يحسن في الكلام أن يجعل الفعل مبنيًّا على الاسم ولا يذكر علامة إضمار حتى يخرج من لفظ الإعمال في الأول ومن حال بناء الاسم عليه ويشغله بغير الأول حتى يمتنع أن يكون يعمل فيه، ولكنه قد يجوز في الشعر، وهو ضعيف في الكلام. قال الشاعر (البيت) فهو ضعيف، وهو بمنزلة في غير الشعر؛ لأن النصبَ لا يكسر البيت، ولا يخل به ترك إظهار الهاء. وكأنه قال: كله غير مصنوع.»٦٤

إن وَصْم قراءة الرفع في «كل» بالضعف تستند في رأي سيبويه إلى أنه ليست ثم ضرورة شعرية لها، وسيبويه على وعي بخصوصية الشعر لا على مستوى الضرورة فحسب بل على مستوى التركيب والدلالة أيضًا، فهو يقول في سياق آخر مقارنًا بين الشعر والقرآن في حكم القافية والفاصلة:

«وجميع ما لا يحذف في الكلام وما يختار فيه ألَّا يحذف، يحذف في الفواصل والقوافي.»٦٥
وقراءة «كل» على الرفع تتساوى مع قراءتها على النصب من حيث إنها لا تغير شيئًا في طبيعة البيت. وهذا تعليل يعكس نظرية شكلية للشعر؛ أي للشعر من حيث هو وزن وقافية فقط، لكن مما يثير الاهتمام أن يَتنَّبه سيبويه لدلالة «الرفع» في البيت، وهي دلالة لا يؤديها النصب وذلك حين يقول: «كأنه قال: كله غير مصنوع.» وهذه الدلالة هي محور النقاش الطويل الذي يديره عبد القاهر الجرجاني ردًّا على من يُخطِّئ البيت، بل ويكاد عبد القاهر أن يكرر كلام سيبويه قبل أن يرد عليه ساخرًا من هذه النظرية الشكلية للشعر.٦٦
إذا تركنا الشعر إلى مجال العبارات النادرة التي وردت عن العرب مجمعًا على فصاحتها وسلامتها رغم مخالفتها لقواعد النظام اللغوي وجَدْنا أمثال هذه العبارات تغطي مجالات كثيرة من أهمها المجالات الدينية ومجال الأمثال والحكم والأقوال المأثورة. وكتاب سيبويه زاخر في الحقيقة بأمثال هذه العبارات في شتَّى المجالات، وزاخر بأمثلة صوتية وصرفية ودلالية إلى جانب الأمثلة التركيبية.٦٧ ونكتفي هنا بالتوقف أمام مثالين أحدهما ينتمي إلى مجال الأمثال وهو «قضية ولا أبا حَسنٍ لها.» وهي تثير دخول لا النافية للجنس على المعرفة. والقاعدة التي يقررها النظام اللغوي أنها تنفي الجنس فهي لا تدخل إلا على الأسماء النكرة. والدراسات الحديثة تفرق بين «النص» — المثل في سياقه التاريخي الأصلي، وبين تجدد دلالته من خلال الاستشهاد أو الاقتباس حيث يتحول النص من مجال الخصوص إلى مجال العموم إذا شئنا استخدام لغة الفقهاء. إن الاسم «أبو الحسن» يدل على مُسمًّى تاريخي هو الإمام علي في السياق الأصلي للمثل — قبل أن يكون مثلًا — ولكنه يَتحوَّل من دلالة مسماه الخاصة إلى دلالة عامة، ومن هنا يكتسب وظيفة التنكير. إن تأويل المعرفة بالنكرة عند سيبويه في هذا المثل وفي غيره تعبير نحوي عن شيء قريب من هذا:

«واعلم أن المعارف لا تجري مَجرى النكرة في هذا الباب لأن «لا» لا تعمل في معرفة أبدًا، فأما قول الشاعر:

لا هيثمَ الليلةَ للمَطِي

فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثمَ من الهَيثَمِين. ومثل ذلك: لا بصرة لكم.

وقال ابن الزبير الأسدي:

أرى الحاجات عند أبي حبيب
نكدن ولا أمية بالبلاد
وتقول: قضية ولا أبا حسن لها، تجعله نكرة. قلت: فكيف يكون هذا وإنما أراد عليًّا رضي الله عنه فقال (الخليل بن أحمد): لأنه لا يجوز لك أن تعمل «لا» في مُعرَّف، وإنما تعملها في النكرة، فإذا جعلتَ أبا حسن نكرة حَسُن لك أن تعمل «لا» وعَلِم المخاطب أنه قد دخَل في هؤلاء المنكورين عَليٌّ، وأنه قد غيب عنها. فإن قلت: إنه لم يُرِد أن ينفي كل مَن اسمه علي؟ فإنما أراد أن ينفي منكورِين كلهم في قضيته مثل عَلِيًّ كأنه قال: لا أمثال عَليٍّ لهذه القضية، ودلَّ الكلام على أنه ليس لها عليٌّ، وأنه قد غُيِّبَ عنها.»٦٨

إن التأويل هنا أداة هامة على المستوى النحوي وعلى المستوى الدلالي في نفس الوقت. ويكاد تمثيل سيبويه للمعنى بقوله «ولا أمثال عَليٍّ لهذه القضية» يومئ إلى أن هذا التأويل له صفة العموم في كل الأسماء — أسماء الأعلام — التي تنتقل بالتعارف، أو ينقلها الشاعر من العملية الخاصة للدلالة على صفة عامَّة تجعل الاسم يصلح وظيفيًّا للقيام بوظيفة النكرة.

ويكاد سيبويه أن يضع قاعدة لبعض الشواهد العربية القليلة من مثل قولهم «هذا جُحرُ ضَبٍّ خربٍ.» وهي قاعدة «الجِوار»، فالمفروض — تبعًا للنظام اللغوي — أن «خرب» نعت لجُحر، ولذلك فالقاعدة أن ترفع، ولكنها جَرت للإتباع أو الجوار. وعلى مثل ذلك التأويل أيضًا ما يسميه سيبويه «الإجراء على الموضع» أو «التوهم»، ومن أمثلة الأول:

«قولك: ليس زيد بجبانٍ ولا بخيلًا، وما زيد بأخيك ولا صاحبك، والوجه فيه الجر لأنك تريد أن تُشرِك بين الخبرين، وليس ينقض إجراؤه عليك المعنى.

وأن يكون آخِرُه على أوله أولى، ليكون حالهما في الباء سواء كحالهما مع قربه منه.

وقد حملهم قُرْب الجوار على أن أجْرَوا: هذا جحر ضب خرب، ونحوه فكيف ما يصح معناه؟»٦٩

إن التساؤل الأخير يؤكد الطابع التأويلي لمثل هذه العبارات التي يُفَضِّل سيبويه عليها ما جرى على القاعدة واطَّرَد مع النظام. وأما مثال ما جرى على «التوهم» بسبب الجوار أيضًا وإن كان لا يَطَّرِد مع القاعدة والنظام ما جاء في القرآن مثلًا من مثل قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ على نصب الأول وجزم الفعل الثاني المعطوف عليه. ويسأل سيبويه الخليلَ بن أحمد عن تأويل ذلك فيرد عليه الخليل:

هذا كقول زهير:

بدا ليَ أني لستُ مدركَ ما مضى
ولا سابق شيئًا إذا كان جائيا
فإنما جَرُّوا هذا؛ لأن الأول قد يدخله الباء، فجاءوا بالثاني وكأنهم قد أثبتوا في الأول الباء وكذلك (الآية) لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزمًا ولا فاء فيه (لأنه جواب الشرط) تكلموا بالثاني، وكأنهم قد جَزَمُوا قبله، فعلى هذا تَوهَّمُوا هذا.٧٠

هذه القواعد ليست إلا قواعد ثانوية لتأويل مثل هذه العبارات النادرة، وهي قواعد لا يصح القياس عليها، وإن لزم النحوي تأويلها كما سبقت الإشارة.

وفي ختام هذه الدراسة التمهيدية والتي نأمل أن تكون مقدمة لإعادة قراءة كتب النحو من هذا المنظور، لا بد من الإشارة إلى أن قضية التأويل في كتاب سيبويه أوسع من هذه الإشارات التي توقفَت هذه الدراسة عندها. وإذا كان يبدو من منظور هذه الدراسة أنها تقف موقف الدفاع عن النحو التقليدي كما هو معروض في كتاب سيبويه وذلك ضد هجوم أتباع المنهج الوصفي، فالحقيقة أن هذا الموقف موقف لا يمكن إنكاره؛ ذلك أن هجوم المهاجمين إنما ينبع من نظرة تجزيئية تفصل بين علم النحو وسائر علوم الثقافة من جهة، كما أنه ينبع من موقف تأويلي ضمني يَتخفَّى تحت شعارات براقة. والهجوم على تأويلات النحاة بصفة خاصة — دون فَهْم الدوافع والأسباب — يعوق عن فَهْم طبيعة القضايا والمشكلات التي ساهمت في بناء العلم وفي تحديد تَصوُّراته ومفاهيمه. وهذا يؤدي إلى نتائج وخيمة يمكن تَلمُّس آثارها في محاولات التجديد العقيمة.

إن تجديد النحو — أو بالأحرى تسهيل النحو (تسمية للأسماء بمسمياتها) — لا بد أن ينطلق من فَهْم لطبيعة بناء هذا العلم، ومن تحديد دقيق للتصورات والمفاهيم التي قام عليها. وذلك كله لا يتحقق إلا بالفهم القائم على التعليل والتفسير قبل المُسارَعة بإلقاء الأحكام. وفي تقدير هذه الدراسة أن إنكار أهمية «التأويل» بوصفه أداة معرفية في بناء العلم — وفي بناء العلوم الإنسانية خاصة — إنكار لا يضر سوى منكره، ذلك أنه بمثابة إغماض العين عن الشمس التي تحرق حرارتُها جِلْدَ المغمض عَينَيْه. ولعل فيما تقدم أن يكون بيانًا سريعًا وعامًّا لخطورة التأويل في كتاب سيبويه وأهميته. أما التأويل الخفي في كتب الدارسين المُحدَثين — الذين ينكرون التأويل ويهاجمونه — فله حديث آخر بعد حديث التأويل عند القدماء، وهو حديث ممتد أدعو من يشاء من الباحثين للمساهمة فيه.

١  انظر مثلًا: محمد عيد، أصول النحو العربي في نظر النحاة؛ رأي ابن مضاء، في ضوء علم اللغة الحديث، عالم الكتب، القاهرة، ١٩٨٧م، ص٢١٤، ٢٢٠، ٢٢٧، على سبيل المثال؛ وانظر أيضًا: مقدمة، شوقي ضيف لنشرة كتاب ابن مضاء، الرد على النحاة، بتحقيقه، القاهرة، دار الفكر العربي، ط١، ١٩٤٧م؛ وانظر: تمام حسان، اللغة العربية: معناها ومبناها، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط٢، ١٩٧٩م، ص١٣، ١٣١-١٣٢، ١٥٩-١٦٠، ٢٠٧-٢٠٨. والحقيقة أن هذه الدراسة تُعَد من أخطر الدراسات الحديثة وأهمها في اللغة العربية، ولا أكون مبالغًا لو قلتُ إنها أشمل دراسة مستوعبة لكل جوانب اللغة. وهي، إلى جانب ذلك، أكثر تقديرًا واحترامًا لجهد القدماء، وتعتمد في كثير من جوانبها على نتائج دراساتهم، وتضعها في سياق لغوي حديث. ومن اللافت للاهتمام أن صاحب الدراسة لم يستطع النجاة من «خطر التأويل» في هذه الدراسة، ومدى تأثره بتأويلات القدماء، واعتماده على جهودهم تحتاج لحديث مستقل. وانظر أيضًا في اتهام القدماء بالتعقيد في التأويل: فتحي عبد الفتاح الدجني، ظاهرة الشذوذ في النحو العربي، الكويت، وكالة المطبوعات، ط١، ١٩٧٤م، ص١٧٩-١٨٠.
٢  الزجاجي، الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك، القاهرة، دار العروبة، ١٩٥٩م، ص٨٥.
٣  انظر: محمد عيد، أصول النحو العربي، ص١٧٤.
٤  المرجع نفسه، ص١٦٥.
٥  المرجع نفسه، ص١٦٧.
٦  السيوطي، الاقتراح على علوم النحو، حيدر آباد، ١٣١٠ﻫ، ص٥٤-٥٥.
٧  تمام حسان، اللغة العربية …، ص١٣.
٨  محمد عيد، أصول النحو العربي …، ص١٢٤.
٩  شوقي ضيف، المدارس النحوية، القاهرة، دار المعارف، ١٩٧٦م، ط٣، ص٩٤-٩٥؛ وانظر أيضًا: «مقدمة، شوقي ضيف لكتاب ابن مضاء «الرد على النحاة»؛ والنص المشار إليه في: كتاب الحيوان، للجاحظ، القاهرة، الحلبي، ١٩٦٦م، ج١، ص٩١.
١٠  أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين، وأحمد زين، القاهرة، ١٩٣٩–١٩٤٢م، ج٢، ص١٣٩؛ وانظر تعليق محمد عيد على هذا النص في أصول النحو العربي، ص١٧٤-١٧٥.
١١  شوقي ضيف، المدارس النحوية، ص١٦-١٧.
١٢  المرجع نفسه، ص١٨.
١٣  نصر أبو زيد، مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٠م، المقدمة.
١٤  المرجع نفسه، الفصل الخامس من الباب الثاني عن التفسير والتأويل.
١٥  سيبويه، الكتاب، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، ١٩٧٥م، ج٤، ص٢٣٥.
١٦  انظر «مقدمة» شوقي ضيف، الرد على النحاة لابن مضاء، ومواضع كثيرة من محمد عيد. وعن موقف الظاهرية من تأويل النصوص، انظر على سبيل المثال: ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة، مكتبة السلام العالمية، (مصورة عن مطبعة محمد علي صبيح، ١٣٤٨ﻫ)، ج٢، ص٩١–٩٣، ٩٥؛ وج٥، ص١٩–٢٢.
١٧  الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، دار القلم، ١٩٦٩م، ص٧٣-٧٤.
١٨  ابن حزم، الفصل، ج١، ص١٢.
١٩  الكتاب، ج١، ص٧٩.
٢٠  الموضع نفسه.
٢١  الكتاب، ج١، ٨٣.
٢٢  الموضع نفسه.
٢٣  انظر على سبيل المثال لا الحصر: الكتاب، ١: ١٠٣ و٣٥٣ و٣٧١ و٣٧٤-٣٧٥؛ وكذلك ج٢، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ١٩٦٨م، ص٤٧؛ ج٣، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٣م، ص٧-٨ و٢٨.
٢٤  الكتاب، ٢: ٣٤٨-٣٤٩.
٢٥  ابن مضاء، الرد على النحاة، ص٧٩–٨٩.
٢٦  المرجع نفسه، ص٩٨.
٢٧  ابن حزم، الفصل، ٢: ٩١-٩٢.
٢٨  المرجع نفسه، ٣: ٣.
٢٩  ابن مضاء، الرد على النحاة، ص٨٧-٨٨.
٣٠  المرجع نفسه، ٩٢-٩٣؛ وانظر أيضًا: ص١٠٢.
٣١  الكتاب، ٢: ٧٠.
٣٢  المرجع نفسه، ١: ١٤٨.
٣٣  المرجع نفسه، ١: ٢٥٩.
٣٤  انظر: محمد عيد، أصول النحو العربي، ص١٣٣ وما بعدها.
٣٥  انظر: ابن مضاء القرطبي، الرد على النحاة، ١٥٤-١٥٥، ومقدمة شوقي ضيف، ص٣٧-٣٨؛ ومحمد عيد، أصول النحو العربي، ٨٢-٨٣.
٣٦  ابن حزم، إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، ص٦، نقلًا عن صابر بكر أبو السعود، القياس في النحو العربي من الخليل إلى ابن جني، أسيوط، مكتبة الطليعة، ١٩٧٨م، ص٢٢؛ وانظر أيضًا: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق محمود محمد شاكر، القاهرة، مطبعة السعادة، ١٣٤٧ﻫ، ج٧، ص٥٦-٥٧.
٣٧  ابن حزم، الفصل، ٢: ٩٥.
٣٨  راجع: نصر أبو زيد، فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي، بيروت، دار التنوير، ١٩٨٣م، ص٥٧.
٣٩  راجع: الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط٢، ١٩٦٩م، ج١، ص١١١، ١٤٦، ٢٣٤، و٢٥٠-٢٥١؛ ج٢، ص٦–٨، و٥٦ و٢٢٥ و٢٥١.
٤٠  الكتاب، ١: ١٤.
٤١  المرجع نفسه، ١: ٢١٨.
٤٢  المرجع نفسه، ١: ٤.
٤٣  الموضع نفسه.
٤٤  هنري فليش، العربية الفصحى: نحو بناء جديد، تعريب وتحقيق عبد الصبور شاهين، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، ط١، ١٩٦٦م، والمقدمة، ص٢١.
٤٥  الكتاب، ١: ١٦.
٤٦  المرجع نفسه، ١: ١٧١.
٤٧  تمام حسان، اللغة العربية …، ١٠٢-١٠٣.
٤٨  الكتاب، ١: ٢١.
٤٩  الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أحمد أبو الفضل إبراهيم، مصر، مطبعة الخانجي، ط١، ص٣٤.
٥٠  انظر: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، القاهرة، مكتبة الحلبي، ط٣، ١٩٥١م، ج١، النوع الثاني عشر، ص٥٩، «وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما أنزل بلسانهم.»
٥١  الكتاب، ٣: ٢٩٧.
٥٢  المرجع نفسه، ١: ١٨٤.
٥٣  المرجع نفسه، ١: ٢٦٥-٢٦٦.
٥٤  المرجع نفسه، ٢: ١١٧.
٥٥  المرجع نفسه، ٢: ١٢٢.
٥٦  المرجع نفسه، ٢: ٤٢١؛ وانظر أيضًا: ٣٦٣-٣٦٤.
٥٧  انظر: نصر أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، بيروت، دار التنوير، ط٢، ١٩٨٣م، ص٢١٥، وما بعدها.
٥٨  الكتاب، ١: ٨٠-٨١.
٥٩  المرجع نفسه، ١: ٨٢.
٦٠  المرجع نفسه، ١: ١٤٨.
٦١  المرجع نفسه، ١: ١٤٨، حاشية رقم ١.
٦٢  نصر أبو زيد، فلسفة التأويل …، ص٣٤٩.
٦٣  الكتاب، ٣: ٥٧٨.
٦٤  المرجع نفسه، ١: ٨٥.
٦٥  المرجع نفسه، ٤: ١٨٤-١٨٥.
٦٦  عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ١٩٨٤م، ص٢٧٨.
٦٧  انظر، على سبيل المثال لا الحصر، الكتاب، ١: ٣٢٤، و٣٢٧، و٣٥٣؛ ١: ١٩٥، ١٩٦، ١٩٧.
٦٨  الكتاب، ٢: ٢٩٦-٢٩٧.
٦٩  المرجع نفسه، ١: ٦٦-٦٧؛ وانظر أيضًا، ٣: ٩٠-٩١.
٧٠  المرجع نفسه، ٣: ١٠٠-١٠١، والآية في سياقها الكامل هي: وأنْفِقُوا مِن ما رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصَّدَّقَ وأكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. (المنافقون: ١٠٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤