التأويل في كتاب سيبويه
ليس المقصود بكلمة «التأويل» في دراستنا هذه التخريجات اللغوية والنحوية التي كَثُر حديث اللغويين المعاصرين عنها، وإن كانت تدخل جميعها في المفهوم من المصطلح. التأويل المقصود هنا هو الكيفية التي يعالج بها سيبويه بوصفها نصًّا بالمعنى السميوطيقي. اللغة هي موضوع الدراسة التي طرحها سيبويه في الكتاب، فهي بمثابة النص الذي يحاول القارئ اكتشاف آلياته وصولًا إلى دلالته ومغزاه. وسيبويه هنا ليس مجرد قارئ فَرْد، ولكنه يقدم في الكتاب رؤية عامة واسعة شاملة هي التي يعنينا اكتشافها هنا من خلال البحث عن وسائله التحليلية — والتأويلية في نفس الوقت — لاكتشاف أسرار اللغة.
إن النظر إلى الدرس اللغوي بوصفه اكتشافًا للنظام اللغوي الذي لا يمتلكه فرد من الأفراد، بل تمتلكه الجماعة المعينة في ذاكرتها الجمعية لا يبدأ في الحقيقة مع دي سوسير، فالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت.١٧٥ﻫ) — أستاذ سيبويه ومكتشف علم بحور الشعر ونظام القافية في القصيدة العربية — يؤكد أن غاية الدرس اللغوي اكتشاف حكمة واضع اللغة، أو واضعيها. ولا يهمنا هنا أن نثبت مما إذا كان الخليل من المؤمنين بالاصطلاح أو بالتوقيف في أصل الوضع اللغوي، ففي كلتا الحالتين يفترض الخليل أن للغة نظامًا محكمًا من الضروري اكتشافه. لقد سُئِل عن العلل التي يستخدمها النحاة لتفسير الظواهر اللغوية:
في هذه الرواية الهامة — والخطيرة أيضًا — يمكن أن نستنبط بعض الحقائق التي كانت كامنة في عقول هؤلاء اللغويين والنحاة القدامى، ومنهم سيبويه: أول هذه الحقائق إدراكهم أن اللغة بناء محكم، شبهه الخليل هنا بالدار المحكمة البناء التي تدل على حكمة بانيها وحسن صنعه. وهذا التصور للغة يتجاوب مع تصورات العلوم الأخرى للعالم بوصفه نظامًا محكم الدلالة، دالًّا على حكمة خالقه ومدبره. وهي تصورات نجدها في العلوم الفلسفية وعلم الكلام، وفي التاريخ وعلم الفلك … إلخ.
الحقيقة الثالثة هي وعي القدماء أن تفسيراتهم — أو تأويلاتهم وعللهم — مجرد اجتهادات قد تقارب الحقيقة أحيانًا، وقد تبتعد عنها أحيانًا أخرى. وفي هذا التصور إدراك للمسافة المعرفية التي تفصل بين الدارس وبين موضوعه. إن الدارس هنا لا يتوحد بموضوع درسه توحدًا تامًّا كما تزعم الاتجاهات النقدية المعاصرة، خاصة تلك التي انبثقت عن التأثير بمفهوم «النظام» اللغوي، فادعت أن الفعل الإنساني حين يكتشف النظام في الظاهرة موضوع الدرس فإنما هو في الحقيقة يكتشف بناءه المعرفي ذاته. الحقيقة عند القدماء غاية بعيدة يدرك كل إنسان طرفًا منها ولا يدركها في شمولها أو يحيط بها كلها. ولا شك أن مثل هذا التصور عند القدماء — في مجال اللغة — يتجاوب بعمق مع التصور العام للثقافة العربية الإسلامية، خاصة في مجال تأويل النصوص الدينية.
«إذا تأمَّلْتَ علل هذه الصناعة، علمتَ أنها غير مدخولة ولا متسمح فيها.
وكأن هؤلاء الباحثين يفترضون — ضمنيًّا — التوحيد بين النظام اللغوي — أو اللغة — والكلام، وكأنهم يتناسون الفارق بين مهمة الباحث الذي يسعى لوضع الظاهرة في نسق ونظام وبين الظاهرة ذاتها في حركتها وصيرورتها. من الطبيعي أن يكون كلام النحاة اللغة مغايرًا لكلام أبناء اللغة أنفسهم. وإذا كانت اللغة الأداة التي يتم بواسطتها للإنسان فَهْم العالَم وتأويله وتفسيره برموزها، فإن فهم اللغة ذاتها واكتشاف نظامها يتم من خلال رموزها وعلاماتها أيضًا، وهذا هو مكمن الصعوبة — أو التعقيد — في الحديث عن اللغة. وبعبارة أخرى إذا كانت اللغة نظامًا من الرموز والعلامات تعبر عن رؤية الجماعة البشرية الخاصة للعالم، فإن على عالِم اللغة أن يتخذ من بعض هذه الرموز وسائل وعلامات للتعبير عن هذا النظام. إن الدالَّ في النظام اللغوي يتحول إلى رمز ذي دلالة خاصة في البحث اللغوي. وهذه العملية الأساسية في البحث اللغوي هي في جوهرها عملية تأويلية. إن اتهام النحو العربي بالصعوبة والتعقيد يفترض — ضمنًا أيضًا — أن غايته أن تكون تعليمية، ومن طبيعة النحو التعليمي أن يكون معياريًّا، وهي صفة سبق أن أشرنا إلى رفض الباحثين للنحو العربي لها، انطلاقًا من تصورهم لبناء النحو عليها. وهكذا يقع الباحثون في تناقض يحتاج إلى تفسير لا نتوقف أمامه هنا.
إن كلمات مثل «الفاعل»، و«المفعول»، و«الفعل»، و«المبتدأ» و«الخبر»، و«المضارع»، و«الماضي»، و«الأمر»، و«الفتحة»، و«الكسرة» و«الضمة»، و«السكون»، و«الرفع»، و«النصب»، و«الكسر» و«الجزم» كلها في اللغة علامات دالَّة على معانٍ، ولكنها تتحول في البحث اللغوي إلى مفاهيم تحليليه؛ أي إن هذه الرموز اللغوية قد تَمَّت لها عملية إعادة تفسير، أو تأويل، نقلتها من مجال «الكلام» إلى مجال «اللغة»، وهو ما يطلق عليه القدماء أحيانًا اسم «النقل الاصطلاحي» أو «النقل العرفي» في دوائر العلوم بشكل عام.
-
(١)
أن كلمة تفسير في أصل استخدامها تعني الواضح البَيِّن، هكذا استخدمت في القرآن في قوله تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (الفرقان: ٣٣). وهي بهذا المعنى لا تعكس المقصود من حركة الذهن المعرفية إزاء موضوع المعرفة، وهو المعنى الذي تدل عليه كلمة «تأويل» كما حللناها في دراسة أخرى.١٤
-
(٢)
أن كلمة تأويل هي التي استخدمها قدامى المفسرين، أمثال محمد بن جرير الطبري (ت.٣١٠ﻫ) الذي أطلق على كتابه في التفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ويبدأ دائمًا تفسيره للآية بقوله: «القول في تأويل قوله تعالى.» وهذا كله يؤكد أن التأويل هو المصطلح الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من العمق في مواجهة النصوص والظواهر. وفي كتاب سيبويه نفسه دليل على ذلك، فهو يكثر من استخدام كلمة «تأويل» إزاء العبارات التي يحتاج تحليلها إلى بعض العمق. وفي مقابل ذلك يستخدم كلمة تفسير للدلالة على الوضوح، يقول وهو بصدد تبرير الاقتصار في ذكر الأسماء الثلاثية غير المتمكنة على الكثير الاستعمال الدائر في الكلام:
«وإنما كتبنا من الثلاثة وما جاوزها غير المتمكن الكثير الاستعمال من الأسماء وغيرها الذي تكلم به العامة؛ لأنه أشد تفسيرًا. وكذلك الواضح عند كل أحد أشد تفسيرًا؛ لأنه يوضح به الأشياء، فكأنه تفسير التفسير. ألا ترى أن لو أن إنسانًا قال: ما معنى أيَّان؟ فقلت: متى، كنت أوضحت. وإذا قال ما معنى متى؟ قلت: في أي زمان، فسألك عن الواضح شَقَّ عليك أن تجيء بما توضح به الواضح.»١٥ -
(٣)
هذا التمايز بين مفهوم «التأويل» و«التفسير» من حيث الدلالة قد تم توجيهه في مرحلة متأخرة في معركة الصراع الأيديولوجي بين الفِرَق والاتجاهات الفكرية والدينية المختلفة. وغالبًا مع سيادة المذهب الأشعري واتخاذه المذهب الرسمي للدولة بعد القضاء على الاعتزال مع أوائل القرن الخامس — على أساس مذهبي — فصار «التفسير» هو ما يقدمه المذهب الرسمي من تأويلات، وأصبح ما يقدمه الخصوم «تأويلًا» زائغًا عن الحق والصحة، ووصم هؤلاء الخصوم بأنهم من الذين فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. ثم صارت كلمة «تأويل» من بعد ذات دلالة سيئة من المنظور الديني الذي ساد واستقر. وأغلب الظن أن الهجوم على «تأويلات» النحاة وأقيستهم وعللهم من المحدثين ليس إلا صدًى لهذا التوجيه الأيديولوجي. يؤكد ذلك ويدعمه أن أول هجوم حادٍّ جاء من نَحْوِي قديم، هلل له المحدثون تهليلًا واسعًا، جاء من نَحْوِي ينتمي إلى المذهب الظاهري وهو مذهب لا يعترف بأي تفسير للنص، بل يرى أن النصوص واضحة بذاتها خاصة النصوص الدينية.١٦
ومعنى ذلك أن استخدامنا لمفهوم «التأويل» وإصرارنا عليه إنما هو بمثابة العودة إلى الأصل. وقد كان كتاب سيبويه أمرًا طبيعيًّا من حيث هو الكتاب الأول الذي وَضَع أسس التأويل وقواعده للنحاة الذين جاءوا بعد ذلك، سواء أكانوا بصريين أم كانوا كوفيين أم بغداديين أم مصريين، إذا سلَّمْنا بهذه التقسيمات التقليدية. ومن الطبيعي كذلك أن نعتمد على اختبار بعض القضايا التي كثر الجدل حولها، والتي أثارها ابن مضاء القرطبي، والتي هي قضايا عامة تدخل في بناء العلم أكثر مما تتخلل تفاصيله؛ مثل: مفاهيم العامل، والقياس، والشذوذ وهي القضايا التي اعتبرها ابن مضاء مداخل للتأويلات التفصيلية والتعقيدات، وهي نفس نظرة المحدثين كما سبق أن ألْمَحْنا. وسنرى من خلال هذه الدراسة أن هذه المفاهيم — العامل، الشذوذ — مفاهيم تحليلية ذات طابع تأويلي، وهي مفاهيم تفسر لنا — نحن المحدثين — الأساس النظري العام لرؤية العالم التي انطلق منها النحاة.
(١) العامل
حاول ابن مضاء أن يفسر تَغيُّر الحركات الإعرابية، مع تَغيُّر مواقع الكلمات داخل الجملة بِرَد ذلك إلى المتكلم. وهو يناقش مفهوم العامل من خلال منظور أيديولوجي واضح، وسنعود إلى هذه النقطة بعد أن نتبين مفهوم العامل عند سيبويه؛ ذلك لأن ابن مضاء لا يرد على سيبويه فقط، بل يناقش النحاة كلهم حتى عصره في القرن السادس (ت.٥٩٢ﻫ). إن مفهوم العامل عند سيبويه — وكذلك عند أستاذه الخليل — لا يَتبدَّى في الكتاب إلا من خلال ظاهرة أخرى هي ظاهرة الحذف أو الإضمار. وهذه الظاهرة تعرض نفسها بشكل واضح في الأبواب التالية: التنازع — الاشتغال — النداء — القَسَم، فهو في باب التنازع مثلًا يقول:
فالعامل إذن هو اللفظ الذي يتصور سيبويه أنه يُؤثِّر في لفظ آخر، وفي الأمثلة السابقة يأتي اسم بعد فعلين، يصح أن يقع فاعلًا لأحد الفعلين وأن يقع مفعولًا للفعل الآخَر. وقد كان اختيار سيبويه — أو تأويله بالأحرى — أن الاسم يجب أن يتعلق بأقرب الأفعال إليه، وفي هذا تركيز على علاقة التَّجاوُر أو المجاورة. وعلى ذلك يمكن القول: إن العامل مفهوم ذهني لتفسير ظاهرة لغوية هي علاقة كلمة بكلمة داخل الجملة. في هذه العلاقة تم تصنيف الكلمات إلى عوامل ومعمولات، أو متأثرات. وعلى ذلك حين وجد سيبويه بعض الكلمات منصوبة أو مرفوعة دون وجود عامل ظاهر في السياق. كان لا بد له من افتراض عامل محذوف أو مُضْمَر كما في أساليب النداء والقسم والاختصاص … إلخ.
لكن مع هذا الاتفاق والإجماع على «العامل» اختلف الكوفيون مع البصريين حول تحديد هذا العامل في سياق الاشتغال — كما في الأمثلة السابقة — فذهب سيبويه إلى إعمال الفعل الثاني للجوار، على حين ذهب الكوفيون إلى إعمال الفعل الأول للأسبقية. ومعنى ذلك أن مبدأ «العامل» متفق عليه، لكن تحديد العامل في الجملة المعينة هو محور الخلاف. ورغم أن الخلاف ليس اهتمامنا في هذه الدراسة، فإنه من المفيد أن نؤكد أن هذا الخلاف — الجزئي — ليس خلافًا بلا مَغزى، بل هو خلاف تصورات فرعية، هو خلاف حول أيهما أهم: علاقة الجوار أم الأسبقية المُطلقة؟ أو بعبارة أخرى أيهما يسمى العامل أو المؤثر: القريب أم البعيد؟ وهذا خلاف يحتاج إلى تَعمُّق أكثر في طبيعة الجذور الفكرية للمدرستين صح اعتبارهما كذلك. إن هذا الخلاف شبيه بخلاف الأشاعرة مع المعتزلة حول «فاعل» الفعل الإنساني، فذهب المعتزلة إلى الأقرب وهو الإنسان وذهب الأشاعرة إلى الأسبق وهو الله، وإن احتفظوا للإنسان بعلاقة ما بفعله أطلقوا عليها اسم «الكسب» ليس هذا تفسيرًا لخلاف الكوفيين والبصريين حول «العامل» في الأمثلة السابقة، ولكنه مجرد دليل على تجاوُب أنماط الخطاب في كل من النحو وعلم الكلام.
إن جواز حذف المفعول مع عدم جواز حذف الفاعل في الأمثلة السابقة، يعني أن الفاعل يحتل مرتبة أعلى في تصورات النحاة، إنه «عمدة» إذا قورن بالمفعول «الفضلة» وهذه كلها مفاهيم ترتد إلى أصل مفهوم واحد هو مفهوم «العامل» وليس مفهوم العامل بالمعنى الذي شرحناه مفهومًا تحكميًّا عند سيبويه، بل هو مُجرَّد تصور ذهني تأويلي. دليل ذلك أنه يتوقف عند بيت امرئ القيس:
لقد كان المفروض — لو حكم سيبويه مقاييسه من ضرورة إعمال الفعل الثاني — أن تكون كلمة «قليل» منصوبة على المفعولية، وأن يُقدر في الفعل الأول ضمير فاعل. لكن سيبويه يخرج المثال كله من باب التنازع استنادًا إلى سياق المعنى لا في البيت فحسب، بل في القصيدة:
وهكذا يستطيع سيبويه — بهذا التأويل — أن يحافظ على مفهوم أهمية الفاعل عن المفعول وجواز وجود فعل بلا مفعول وعدم جواز وجود فعل بلا فاعل. ومما يؤكد أن مفهوم «العامل» النحوي مُجرَّد تَصوُّر ذهني تأويلي «باب الاشتغال» ففي مثال «زيد مررتُ به» يرى أن الرفع في «زيد» هو الأوجه، وذلك على عكس مثال «زيدًا ضربتُه» فالنصب في هذه الحالة الأخيرة أمثل، لكن ذلك لا يمنع أن يقال «زيدًا مررت به» وذلك على تأويل فعل مضمر نصب «زيدًا» لا على أنه منصوب بالفعل التالي له الذي تعدى إلى ضميره — ضمير زيد — بحرف الجر. هذا التأويل ضروري.
فإذا وقع الفعل على مفعول مباشر بينه وبين الاسم الأول سبب أو علاقة جاز الوجهان في الاسم الأول: النصب والرفع. والتأويل الذي يقدمه سيبويه هنا تأويل هامٌّ من حيث إنه يكشف عن جانب من البعد الاجتماعي للغة. إن علاقات القرابة في المجتمع العربي علاقات لها اعتبارها، وهذا البعد الذي يلمحه سيبويه حين يقول:
ولكي تتضح القضية أكثر نعرض الأمثلة التي يُئَوِّلها سيبويه على حذف العامل وذلك في باب الاستثناء بخلا وعدا حيث إن الاسم منصوب بعدهما بفعل مضمر تقديره «جاوز». ولكنه بعد ذلك مباشرة يسارع إلى نفي حقيقة الجملة المفترَضة فيقول:
إن الصعوبة التي يواجهها سيبويه في النص السابق هي محاولته أن يشرح المثال اللغوي بعبارة مماثلة «تمثيلات»، وهو يصر في نفس الوقت على إقناع قارئه أن هذه «التمثيلات» ليست جزءًا من الكلام. ومعنى ذلك أن العامل ليس جزءًا من الكلام كما توهم المحدثون متابعين في ذلك لابن مضاء القرطبي، بل هو مفهوم ذهني تصوري يؤدي وظيفة تأويلية هامة في بناء العلم. وقد قارب ابن مضاء أن يدرك هذه الحقيقة، وهو يناقش افتراضًا مؤداه أن مفهوم «العامل» بالنسبة لعلم النحو مجرد اصطلاح وضعي:
في مثل هذه المقارنة يكون مفهوم «العامل» بمثابة مفهوم تحليلي مثل النقط والخطوط التي يمثل بها العلماء — علماء الهندسة — الأطوال والأعراض والمسافات والبدايات والنهايات. وإذا كانت هذه الخطوط والنقط علامات في نظام علمي لا تساوي ما تدل عليه، بل هي مجرد علامات اتفاقية، فإن العامل، كذلك مجرد مفهوم اصطلاحي في بناء علم النحو. إذا كان تصور سيبويه للعامل — كما عرضناه سالفًا — يؤكد هذه الحقيقة، فإن ابن مضاء القرطبي يسارع إلى رفض هذه المماثلة بين النقط والخطوط في علم الهندسة وبين «العامل» في علم النحو، يقول:
إن هذا الرفض الحاسم من ابن مضاء لمفهوم «العامل» رغم إدراكه لطبيعته وحقيقته لا ينبع من مجرد الرغبة في الثورة على المشرق العربي من جانب المغرب في عصر الموحدين، بل الرفض يرتد في حقيقته إلى خلاف أيديولوجي بين المذهب الظاهري في التعامل مع النصوص وبين غيره من المذاهب الدينية داخل إطار الثقافة العربية الإسلامية. إن المعيار الذي تستند إليه الظاهرية، أن النصوص واضحة مكتفية بذاتها، وهو ما يعبر عنه ابن حزم بقوله:
وعلى ذلك فالتأويل وحَمْل الكلام على غير ظاهره مرفوض رفضًا قاطعًا جانب أتباع المذهب الظاهري. إن النصوص بَيِّنَة بذاتها واضحة بنفسها لا تحتاج في فهمها وإدراك معناها إلا لمعرفة اللغة، وحمل الكلام على غير ظاهره لا يصح أن يقع إلا بنص آخَر، فالنصوص تُفسِّر بعضها ولا حاجة للعقل الإنساني للتدخل.
إن هذا الموقف الأيديولوجي ينقله ابن مضاء كاملًا مِن مجال النصوص الدينية إلى مجال الدرس اللغوي، ولا غرابة في ذلك، أليست اللغة بالنِّسْبة للدارس نصًّا يقرؤُه لاكتشاف آلياته. وإذا كان البعد الأيديولوجي لمفهوم «العامل» — أو لنقل البعد الثقافي الديني — بعدًا ضمنيًّا في كتاب سيبويه، فإن ابن مضاء ينقل هذا البعد من العُمق إلى السطح وذلك في مناقشته له من منظور ديني واضح. فهو أولًا يُورِد رأي ابن جني في العوامل اللفظية والمعنوية كما يلح على تأكيد ابن جني أن العامل في الحقيقة هو المتكلِّم نفسه. وإذا كان تأكيد ابن جني لم يمنعه من التحليل على أساس من مفهوم «العامل» فإن ابن مضاء يأخذ رأي ابن جني — أن العامل هو المتكلم — مأخذًا اعتزاليًّا فيبدأ مناقشته لمفهوم العامل بالرد عليه قائلًا:
«وأما مذهب أهل الحق فإن هذه الأصوات إنما هي من فِعْل الله تعالى، وإنما تُنْسب إلى الإنسان كما يُنْسَب إليه سائر أفعاله الاختيارية. وأما القول بأن الألفاظ يُحْدِث بعضها بعضًا فباطل عقلًا وشرعًا، لا يقول به أحد من العقلاء لمعانٍ يطول ذكرها فيما المقصد إيجازه؛ منها: أن شرط الفاعل أن يكون موجودًا حينما يفعل فعله، ولا يحدث الإعراب فيما يحدث فيه إلا بعد عدم العامل، فلا ينصب زيد بعد إن قلنا (إن زيدًا) إلا بعد عدم إن.
هكذا ينقل ابن مضاء مفهوم «العامل النحوي إلى مجال الفاعل» في الواقع، ويناقش القضية من منظور كلامي واضح. وبعبارة أخرى يمكن القول إن ابن مضاء حوَّل المفهوم الذهني التصوري التأويلي إلى موجود واقعي وراح يناقش إمكانية قدرته على العمل والتأثير من جميع الوجوه. والحقيقة أن موقف ابن مضاء من مفهوم «العامل» هو موقف الظاهرية من تأويل النصوص عامة، فمفهوم العامل أدَّى إلى توليد مفاهيم نحوية أخرى كالإضمار والحذف استخدمت في تحليل الكلام وصولًا إلى نظام اللغة. وقد فهم الظاهريون أن افتراض محذوف أو مُضْمَر في الكلام يُغيِّر الكلام عن ظاهره بإضافة وزيادة ما يفترض أنه محذوف أو مضمر، وهذه مسألة خطيرة — في زعمهم — حين تطبق على النصوص الدينية. ولو فهم ابن مضاء أن تقدير المضمر أو المحذوف من العوامل هو مجرد أداة تأويلية لشرح المثال اللغوي — كما هو واضح عند سيبويه — لما قال:
وسيبويه حريص كل الحرص — كما سلفت الإشارة — على التفرقة بين العبارة الفعلية في الكلام وبين العبارة الشارحة التي يستخدمها على سبيل التمثيل. وهو في حالة القرآن أشد حرصًا، ذلك أنه وهو يُئَوِّل قراءة من القراءات — والقراءات أمر لم يكن يستطيع النحوي القديم تجاهله كما سلفت الإشارة — يحرص على بيان أن الفعل المضمر لا يستعمل إظهاره، وذلك في مثل قوله تعالى وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ في قراءة من قرأ على النصب «حمالة».
(٢) القياس
والقياس كما تَحدَّد بعد عصر سيبويه يفترض أركانًا أربعة؛ هي: الأصل والفرع والحكم والعلة، ولا بد من وجود «النص» الذي هو الأصل والذي يُسْتنْتَج — أو يُسْتنْبَط — منه حُكْم بعينه. ومع الحكم يمكن استنباط علة — أو تفسير — للحكم الذي يتضمنه النص. فإذا وُجِدت نفس العلة في أمر آخر غير الأمر المنصوص عليه أمكن للباحث — النحوي والفقيه — نقل حكم الأصل إلى الفرع بسبب هذه العلة الجامعة. القياس — كما هو واضح — يعتمد على حركة العقل في فهم الظاهرة أو النص. وإذا كان الأصوليون والفقهاء يفضلون استخدام مصطلح «الاستنباط» على مصطلح «التأويل» فما ذلك إلا أثر من آثار التحويل الأيديولوجي في دلالة المصطلح الأخير كما سبقت الإشارة. والحقيقة أن المصطلحين يشيران إلى عملية واحدة.
وإذا كان القياس في مجال النصوص الدينية هو الأداة التي يستطيع بها العقل الإنساني تطوير دلالة هذه النصوص لتلائم مُتغيِّرات الزمان والمكان في مجال الأحكام الشرعية، وهي الأداة التي يقوم بها «التأويل» في الجوانب الأخرى للنصوص الدينية، إذا كان الأمر كذلك فإن القياس في مجال النحو هو الأداة التنظيمية التي تُحوِّل «الكلام» إلى لغة، وترد التَّغايُر والتعدد إلى نَسَق ونظام.
وإذا كان ابن مضاء قد نقل الخلاف حول مشروعية القياس من مجال الخلاف الفقهي إلى مجال الخلاف النحوي كما فعل في مفهوم العامل، فما ذلك إلا لأن القياس — في النحو كما هو في الفقه — يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على التأويل، سواء من حيث استخراج الحكم أو من حيث استنباط العلة أو من حيث نقل حكم الأصل إلى الفرع. إن اختيارنا هنا لقَضِيَّتَي قياس الفعل المضارع على الاسم، وقياس الصفة على الفعل المضارع اختيار نابِع من أن هاتين القضيتين تعكسان — إلى جانب قضية العامل — طبيعة التصورات العامة التي قام عليها العلم من جهة، كما تؤكدان الطابع التأويلي للمفاهيم والتصورات النحوية من جهة أخرى.
ومن المفيد في البداية أن نزيح عن الأذهان ذلك التصور الذي زرعه ابن مضاء في أذهان بعض الباحثين المعاصرين من أن قياس الصفة على الفعل — بعد قياس الفعل على الاسم — هو قياس على القياس، أو تحويل للفرع إلى أصل ثم القياس عليه. ذلك أن قياس الفعل على الاسم — أو مضارعته له على حد تعبير سيبويه كما سنرى — هو قياس في حكم ما؛ هو أن كُلًّا من الاسم والفعل المضارع مُعْرَب؛ فالحكم هنا هو «الإعراب» والأصل فيه — على حد تَصوُّر النحاة — أنه للأسماء. أما قياس الصفة على الفعل المضارع فهو قياس لحكم آخر غير حكم الإعراب (القابلية للإعراب)، بل الحكم المَقِيس عليه في هذه الحالة الثانية هو «العمل» أو «التأثير» وبذلك اختلفت جِهتَا الحكم وصارا قياسين لا قياسًا مُركَّبًا.
إن تصور النحاة — خاصة سيبويه — للاسم والصفة والفعل يعطي الأولية للأسماء، ثم يضع بعدها الصفات، ثم يأتي الفعل في المرتبة الثالثة. وليست هذه مُجرَّد تَصوُّرات ذهنية فارغة، بل الواقع أن هذا الترتيب يتجاوب بعمق مع التصور الديني لأسماء الله وصفاته وأفعاله. إن الأسماء هي التي تدلُّ على الذات، والصفات تدل على أحوال، اختلف المتكلمون هل هي عين الذات أم هي غيرها. وإذا كان المتكلمون لم يُفرِّقوا في خلافاتهم بين الأسماء والصفات لأن كثيرًا من الأسماء الإلهية التي وَردتْ في القرآن هي من حيث الاشتقاق صفات، فإن الظاهرية يَتَّخِذون موقفًا مخالفًا للفرق الإسلامية كافَّة فينكرون إنكارًا تامًّا إطلاق كلمة «صفات» على ما ورد في القرآن من ألفاظ دالَّة على الله — عز وجل— والمُنطلَق الذي ينطلقون منه هو «النَّص» الذي تحدث عن «الأسماء الحسنى» ولم يَرِد فيه لفظ «صفة». يقول ابن حزم:
إن للاسم استقلالًا لغويًّا ليس للفعل، فالجملة — الكلام — قد تنبني على اسمين ولا تُبْنى على فعلين؛ لأن الاسم يستغني عن الفعل ولا يستغني الفعل عن الاسم. هذه حقيقة تؤكد مغايرة الفعل للاسم، أو بالأحرى عدم مضارعته له مضارعة تامة. وهذا ما يعنيه سيبويه بقوله:
إن القياس هنا هو إدراك للتشابه وإدراك للاختلاف كذلك، وهما وسيلتان هامتان للتصنيف والتقسيم. إن الفعل — من حيث الإعراب — يشبه الاسم في أنه يقبل الرفع والنصب ويُخالفه في أنه يقبل الجَزْم في حين لا يقبل الاسم الجَزْم ويقبل الجر. وتكون المقابَلة هنا بين الجزم في الفعل والتنوين في الاسم مقابَلة قائمة على أساس من عدم اجتماع التنوين مع الإضافة، التي هي إحدى وظائف الاسم التي تفصله عن الفعل.
هذا التشابه بين الاسم والفعل يؤكده تشابه آخر بين الفعل والصفة — التي اعتبرها سيبويه فرعًا على الاسم من حيث الوظيفة — وذلك أن الفعل قد يقع موقع الاسم ويقوم بوظيفته في الجملة كأن يكون خبرًا أو صفة أو حالًا … إلخ. وهنا يَلْمَح سيبويه إلى جانب هذا التشابه الوظيفي تشابُهًا في الإلحاق، فالفعل قد تلحق به السين أو سوف كما تلحق الألف واللام الاسم فُتحوِّله من التنكير إلى التعريف. إن الأفعال تضارع الأسماء — خاصة الصفات — من حيث إنك:
إن هذه العلاقة التي اكتشفها النحاة — بالمقارنة — بين الاسم والفعل تبلور عنها مفهوم هو «المضارعة»، وهو مفهوم يقوم على ترتيب هرمي — ذي طابع تقييمي — يحتل فيه الاسم قمة الهرم. وبناء على هذا التصور يمكن تأويل بناء الفعل الماضي على الفتح. فالفعل الماضي بني على الفتح لا على السكون — والفتحة أخفُّ الحركات عند سيبويه ويؤيده الدراسات الإحصائية في ذلك — لأنه يُضارِع — بعض المضارعة — الاسم، أو على حد تعبير سيبويه.
إن القياس في النحو كما هو واضح من الأمثلة السابقة مُخالِف للقياس في الفقه، فالنحوي لا ينقل حكمًا من نص، بل يستنبط — بالتأويل والمقارَنة — أوجه التشابه وكذلك أوجه الاختلاف بين ظواهر اللغة. وهذه العملية — التأويلية في جوهرها — هي التي تُمكِّنُه من وضع القواعد، وبدونها لا يمكن اكتشاف النظام اللغوي من الكلام.
لذلك يكفي سيبويه أن يدرك عناصر التشابه وكذلك عناصر الاختلاف بين الاسم والصفة من جهة، وبينها وبين الفعل من جهة أخرى. يقول:
إن هذا التشابه بين الصفة والفعل في حاجة كل منهما إلى الاسم من جهة، وفي العمل من جهة أخرى يؤكد أنهما «متضارعان»، بمعنى أن كُلًّا منهما داخلٌ في صاحبه كما نَقلنا عن سيبويه من قبل. وإذا كان الاسم يدل على الجواهر، والصفات تدل على الأعراض، كما يقرر المتكلمون، فمن الطبيعي أن يكون للاسم مكانته العليا في تقسيم النحاة للكلم. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن مفهوم المضارَعة، مفهوم لا يقتصر على تحليل علاقة الاسم بالفعل أو الفعل بالصفة، بل يَمتدُّ ليستخدم في تحليل أساليب كثيرة، فالصفة المُشبهة تضارع الصفة في العمل، وما «تضارع» ليس في العمل عند من يُعْمِلُونها، وأسماء الأعداد تضارع الصفات في العمل، وهكذا يتحول مفهوم «المضارَعة» الذي أنتجه القياس والمقارَنة إلى مفهوم تحليلي واسع هام لبناء علم النحو، وربما لا تقل أهميته في كتاب سيبويه عن مفهوم «العامل». وهو في النهاية مفهوم تحليلي تأويلي يربط النحو بالعلوم الأخرى في الثقافة، ومن خلاله يمكن اكتشاف رؤية النحاة للعالَم، كما يمكن الكشف عن تحيزاتهم الفكرية والعقيدية. وهذا يفسر لنا هجوم ابن مضاء القرطبي الظاهري على مفهومي العامل والقياس بصفة خاصة. ولا نتعرض هنا لهجومه على علل النحاة؛ إذ ليست العلل إلا جزءًا من بناء القياس، هذا إلى جانب أنها تدخلنا في تفصيلات ودقائق تخرج بنا عن الهدف من هذه الدراسة.
(٣) الشذوذ
الشذوذ نَقِيض القاعدة وخروج على النظام. ومن قَبيل تحصيل الحاصل القول بأن الكلام حركة مستمرة متغيِّرة، واللغة سعي لاكتشاف النظام الثابت. إن العلوم جميعًا تسعى لوضع العالم — الطبيعي أو الإنساني — في أنساق وتقسيمات عقلية ذات طابع ثقافي في جوهرها. ومن الطبيعي أن يكون جزءًا من طبيعة العلم — في حركته المستمرة لتنظيم المعرفة الإنسانية — أن يكتشف ما هو خارج نظامه، وأن يصنفه تحت مقولة «الشذوذ» أو غير المفهوم طبقًا للإطار المعرفي الحالي. ولقد كثر هجوم المحدثين على القدماء لاهتمامهم بالشذوذ أحيانًا، أو لإهمالهم إيَّاه وتحكيم قواعدهم أحيانًا أخرى. والحقيقة أن موقف النحاة القدامى وعلى رأسهم سيبويه — من هذه الناحية — يتسم بقدر كبير من الموضوعية، فلم يكن يسعهم كما سبقت الإشارة تَجاهُل واقع القراءات القرآنية، وقد وُصِف بعضها بالشذوذ — بمعنى عدم التواتر في النقل — وتعدى بعضهم لمحاوَلة تفسير هذه القراءات، أعني تأويلها. ولعله من الضروري أن نُعيد فهم معنى «الشذوذ» من خلال ما يطرحه علينا كتاب سيبويه.
ومن اللافت للانتباه أن سيبويه لا يستخدم المصطلح «شاذ» بل يستخدم مُصطلَحَي «القُبْح والحُسْن»، وهما مصطلحان كلاميان. ولا نريد من ذلك الذهاب إلى حد القول بأن سيبويه يستخدمها نفس الاستخدام الكلامي أو قريبًا وأغلب الظن أن الاستحسان والاستقباح — عند سيبويه — كانَا يعتمدان على معيار الشيوع والكثرة، في الظاهرة اللغوية. فالشائع الكثير هو الحسن، والنادر القليل هو القبيح — أو الشاذ — الذي لا يقاس عليه. وهذا المعيار هو المعيار الذي وضعه السابقون على الخليل فيَرْوُون أن أحدًا سأل أبا عمرو بن العلاء:
إن استخراج القواعد واكتشاف النظام اللغوي لا بد أن يعتمد على هذا المبدأ، ولذلك يُحتِّم سيبويه على المتكلم أن يتبع الكلام العربي دون قياس فردي، فإذا كان العرب مثلًا يحذفون بعض الحروف في نهاية بعض الأفعال المجزومة — وهي ليست حروف علة — فليس من حق المتكلم الفرد أن يجري الحذف في غير ما استخدمته العرب. وبعبارة أخرى إذا كان في الكلام ما لا يتوافق أحيانًا مع مُتطلبات النظام اللغوي، فعلى المتكلم الفرد أن يتبع الجماعة في كلامها دون أن يقيس على ما هو غير متوافق مع النظام، وإلا تَحوَّلت اللغة إلى نظام فردي وفقدت طابعها الجمعي، وفقدت من ثَمَّ قُدرتَها على أداء وظيفتها، يقول سيبويه:
«واعلم أنه ليس كل حرف يظهر بعده الفعل يُحْذَف فيه الفعل ولكنك تُضمِر بعد ما أضمرَتْ فيه العرب من الحروف والمواضع، وتُظهِر ما أظهَروا، وتجري هذه الأشياء التي هي على ما يستخفون بمنزلة ما يحذفون من نفس الكلام، وممَّا هو في الكلام على ما أَجْرَوا، فليس كل حرف يُحْذَف منه شيء ويثبت فيه نحو: يك ويكن، ولم أُبَل وأُبالِ، لم يحملهم ذاك على أن يفعلوه بمثله، ولا يحملهم إذا كانوا يثبتون فيقولون في مُرْ أومر، أن يقولوا في خُذْ أوخذ، وفي كُلْ أوكل.
إن هذه الظاهرة النادرة — ولا يقول سيبويه الشاذة — يجب أن تُتَّبَع دون أن يقاس عليها. هذا بالنسبة للمتكلم العادي، أما بالنسبة للنحوي فدَوْرُه — يجب أن يتجاوز ذلك إلى التفسير والتعليل والتأويل: لماذا خالفَتْ أمثال هذه العبارات متطلبات النظام اللغوي المبني على أساس الكثير والشائع، ومعنى ذلك أن المُستعمل في كلام العرب والذي يمكن تفسيره وتأويله لا يتساوى مع القبيح، بل هو أقرب إلى أن يقع تحت مفهوم «الجائز»، وذلك في مقابلة الكثير والشائع الذي يقع تحت مفهوم «الحسن» أو القياس والقاعدة. هذه مُجرَّد اجتهادات وإلا فالمفاهيم في كتاب سيبويه — خاصة مفاهيم التقييم — تحتاج لدراسة خاصَّة دقيقة مُتتبعة لكل أحكامه ومُحلِّلة للألفاظ التي يستخدمها في سياق هذا الحكم أو ذاك. وذلك أمر يخرج عن نطاق الدراسة الحالية.
في نص هامٍّ لِمَا نحن بصدده يستخدم سيبويه عبارات «لا يجوز» و«أخبث» و«قبيح ضعيف» وهو بصدد الحديث عن الفارق بين الصفة والاسم. ولما كانت الصفة لا تدل على جوهر بل تدل على موصوف فإنه لا يصح الابتداء بها في الكلام، ولا يصح أن تَسْبِق الموصوف — وهي على حالها في الوصف — ولا يصح إذا وقعت حالًا أن تتقدم على صاحب الحال إلا بشروط خاصَّة أو على نُدْرَة. وعلى هذا الأساس يعلل سيبويه نَصْبَ التمييز في مثل «هذا راقودٌ خلًّا» وعدم جواز جر «طين» في مثل «بصحيفة طين خاتمها».
وعلى هذا الأساس أيضًا لا بد أن ينتصب الوصف في مثل «هذا قائمًا رجل» و«فيها قائمًا رجل» على أساس أن الاسم لا يقع خبرًا — أو وصفًا على حد تعبير سيبويه — للصفة وإذا كان وصف «الصفة» بالاسم «غير جائز» فإن وضع الصفة مَوضع الاسم «قبيح».
وقبح أن نقول: فيها قائم، فتضع الصفة موضع الاسم كما قبح: مررت بقائم (يعني مُسنَدًا إليه أو خبرًا) وكان المبني على الكلام الأول ما بعده.
إن هذا الجواز لعبارة «فيها قائم» إنما هو جواز على ضَعْف كما يقول سيبويه، وهذا الجواز — أو بالأحرى التجويز — الضعيف يقوم على أساس من تأويل العبارة، فيكون الاسم غير مَبني على الصفة، بل يكون مستأنفًا كأنه جواب لسؤال سائل كما مثَّل سيبويه. ولأنه جواز ضعيف، فالأحسن في مثل «فيها قائم رجل» أن تنصب قائم؛ فرارًا من القُبح.
وإذا كان النص السابق قد نقلنا من مستوى «عدم الجواز» إلى مستوى «القبح الجائز» — إن صحت العبارة — على التأويل، فإن بعض العبارات لا تجوز، ويصل الحكم عليها عند سيبويه إلى مستوى «الخبث» أو إلى أن يجمع في وصفها بين صِفتَي القبح والضعف. يقول:
«ومن ثم صار «مررت قائمًا برجل» لا يجوز؛ لأنه صار قبل العامل في الاسم وليس بفعل، والعامل الباء. ولو حَسُن هذا لحَسُن «قائمًا هذا رجل.
في هذه العبارات الأخيرة يَتبدَّى موقف سيبويه واضحًا من قضية الشذوذ، وهو الموقف الذي وصفناه بالموضوعية، فالإعراب على حد قوله يسير، والتأويل سهل، ولكن القضية ليست قضية تأويل أو إعراب، بل المهم هو اكتشاف النظام، ولذلك يصبح معرفة القبح — وهو الأقرب إلى الشذوذ — «أمثل من» الإعراب والتأويل على حد تعبير سيبويه.
معنى ذلك أن «التأويل» ليس وسيلة لتبرير كل خطأ ولكنه وسيلة لرَدِّ النادِر الاستعمال إلى النظام اللغوي. إنه مُحاوَلة لاستيعاب ما هو خارج النظام داخله. ومن الطبيعي — بناء على هذا التصور — أن يَنصبَّ جلُّ الجهد التأويلي لبعض نماذج الكلام على القراءات القرآنية وعلى الشعر وعلى العبارات ذات الصيغ الثابتة الموروثة كالحِكَم والأمثال والأقوال المأثورة، وهو ما استقر العرف على أنه عربي صحيح رغم مخالفته لمتطلبات النظام كما تصوره سيبويه أو غيره من النحاة. ويكفينا مناقشة نموذج واحد من نماذج تأويل سيبويه في هذه المجالات.
«وإن قَدَّمتَ الاسم فهو عربي جيد كما كان ذلك عربيًّا جيدًا (يعني تأخير الاسم)، وذلك قولك: زيدًا ضربتُ، والاهتمام والعناية هنا في التقديم والتأخير سواء، مثله في ضرب زيد عمرًا، وضرب عمرًا زيدٌ.
فإذا بنيتَ الفعل على الاسم قلت: زيد ضربته، فلزِمَتْه الهاء، وإنما تريد بقولك مبني على الفعل أنه في موضع «منطلق» إذا قلت: عبد الله منطلق (أي في موضع الخبر) فهو في موضع الذي بُنِي على الأول (يعني على المبتدأ) وارتفع به، فإنما قلتَ: عبد الله فنسبته له (أو فنبهته له وهو الأصوب) ثم بنيت عليه الفعل ورفعته (الاسم) بالابتداء.
إن لسيبويه هنا موقفين مختلفين، فموقفه من قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ هو تأكيد قراءة الرفع وعدم التعليق على قراءة النصب اكتفاءً بإيرادها وتقدير أن النصب عربي كثير والرفع أجود. أما الموقف من قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ فهو الاستناد إلى «سُنِّيَّة القراءة، وعدم مخالفتها. وهذا موقف لا يمكن شرحه إلا بأن الآية — كما سبقت الإشارة — كانت من الآيات الخلافية، وكان استناد كل فريق — فيما يبدو — يتعلق بتأويل يرجح إحدى هاتين القراءتين. وتعليق السيرافي على الكتاب يؤكد هذه الحقيقة:
والشاهد الشعري الذي نختار مناقشته هنا في كتاب سيبويه من نفس الباب — باب الاشتغال — وذلك من شأنه أنه يكشف لنا عن الفارق بين موقف النحوي التأويلي في القرآن وفي الشعر. ومن الطبيعي أن يكون موقف سيبويه من الشاهد الشعري أشد جرأة، فلم يكن من المستغرب منه أحيانًا أن يُخطِّئ الشاعر، وإن كانت النماذج التي يُخطئ فيها سيبويه الشعراء قليلة إذا قورنت بموقف غيره من النحاة خاصة عبد الله بن إسحاق الحضرمي الذي اشتهرت قصصه ومواقفه في تخطئة الشعراء من الجاهليين والإسلاميين، خاصة الفرزدق، وهي قصص أشهر من أن يشار إليها. بل إن سيبويه كما سبقت الإشارة في بيت امرئ القيس أحيانًا ما كان يُئَوِّل الإعراب على أساس المعنى السياقي لا في البيت فقط بل في القصيدة كلها. وأحيانًا ما يختار سيبويه القراءة الأكثر جودة للشعر من منظوره على الأقل، وفي أحيان قليلة يُئَوِّل البيت طبقًا للمعنى والدلالة الأفضل من منظور نُقَّاد الشعر، وذلك حين يقف أمام بيت حسان الشهير:
إن الشاهد الذي يُخطِّئ فيه سيبويه الشاعر هو قول أبي النجم العجلي:
وسيبويه يصف قراءة «كلُّ» بالرفع بأنها «ضعيفة» لأن الفعل «أصنع» غير مشغول بضمير يجعله صالحًا للإخبار به عن الاسم، أو لبنائه عليه على حد تعبير سيبويه. يقول:
إن وَصْم قراءة الرفع في «كل» بالضعف تستند في رأي سيبويه إلى أنه ليست ثم ضرورة شعرية لها، وسيبويه على وعي بخصوصية الشعر لا على مستوى الضرورة فحسب بل على مستوى التركيب والدلالة أيضًا، فهو يقول في سياق آخر مقارنًا بين الشعر والقرآن في حكم القافية والفاصلة:
«واعلم أن المعارف لا تجري مَجرى النكرة في هذا الباب لأن «لا» لا تعمل في معرفة أبدًا، فأما قول الشاعر:
فإنه جعله نكرة كأنه قال: لا هيثمَ من الهَيثَمِين. ومثل ذلك: لا بصرة لكم.
وقال ابن الزبير الأسدي:
إن التأويل هنا أداة هامة على المستوى النحوي وعلى المستوى الدلالي في نفس الوقت. ويكاد تمثيل سيبويه للمعنى بقوله «ولا أمثال عَليٍّ لهذه القضية» يومئ إلى أن هذا التأويل له صفة العموم في كل الأسماء — أسماء الأعلام — التي تنتقل بالتعارف، أو ينقلها الشاعر من العملية الخاصة للدلالة على صفة عامَّة تجعل الاسم يصلح وظيفيًّا للقيام بوظيفة النكرة.
ويكاد سيبويه أن يضع قاعدة لبعض الشواهد العربية القليلة من مثل قولهم «هذا جُحرُ ضَبٍّ خربٍ.» وهي قاعدة «الجِوار»، فالمفروض — تبعًا للنظام اللغوي — أن «خرب» نعت لجُحر، ولذلك فالقاعدة أن ترفع، ولكنها جَرت للإتباع أو الجوار. وعلى مثل ذلك التأويل أيضًا ما يسميه سيبويه «الإجراء على الموضع» أو «التوهم»، ومن أمثلة الأول:
«قولك: ليس زيد بجبانٍ ولا بخيلًا، وما زيد بأخيك ولا صاحبك، والوجه فيه الجر لأنك تريد أن تُشرِك بين الخبرين، وليس ينقض إجراؤه عليك المعنى.
وأن يكون آخِرُه على أوله أولى، ليكون حالهما في الباء سواء كحالهما مع قربه منه.
إن التساؤل الأخير يؤكد الطابع التأويلي لمثل هذه العبارات التي يُفَضِّل سيبويه عليها ما جرى على القاعدة واطَّرَد مع النظام. وأما مثال ما جرى على «التوهم» بسبب الجوار أيضًا وإن كان لا يَطَّرِد مع القاعدة والنظام ما جاء في القرآن مثلًا من مثل قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ على نصب الأول وجزم الفعل الثاني المعطوف عليه. ويسأل سيبويه الخليلَ بن أحمد عن تأويل ذلك فيرد عليه الخليل:
هذا كقول زهير:
هذه القواعد ليست إلا قواعد ثانوية لتأويل مثل هذه العبارات النادرة، وهي قواعد لا يصح القياس عليها، وإن لزم النحوي تأويلها كما سبقت الإشارة.
وفي ختام هذه الدراسة التمهيدية والتي نأمل أن تكون مقدمة لإعادة قراءة كتب النحو من هذا المنظور، لا بد من الإشارة إلى أن قضية التأويل في كتاب سيبويه أوسع من هذه الإشارات التي توقفَت هذه الدراسة عندها. وإذا كان يبدو من منظور هذه الدراسة أنها تقف موقف الدفاع عن النحو التقليدي كما هو معروض في كتاب سيبويه وذلك ضد هجوم أتباع المنهج الوصفي، فالحقيقة أن هذا الموقف موقف لا يمكن إنكاره؛ ذلك أن هجوم المهاجمين إنما ينبع من نظرة تجزيئية تفصل بين علم النحو وسائر علوم الثقافة من جهة، كما أنه ينبع من موقف تأويلي ضمني يَتخفَّى تحت شعارات براقة. والهجوم على تأويلات النحاة بصفة خاصة — دون فَهْم الدوافع والأسباب — يعوق عن فَهْم طبيعة القضايا والمشكلات التي ساهمت في بناء العلم وفي تحديد تَصوُّراته ومفاهيمه. وهذا يؤدي إلى نتائج وخيمة يمكن تَلمُّس آثارها في محاولات التجديد العقيمة.
إن تجديد النحو — أو بالأحرى تسهيل النحو (تسمية للأسماء بمسمياتها) — لا بد أن ينطلق من فَهْم لطبيعة بناء هذا العلم، ومن تحديد دقيق للتصورات والمفاهيم التي قام عليها. وذلك كله لا يتحقق إلا بالفهم القائم على التعليل والتفسير قبل المُسارَعة بإلقاء الأحكام. وفي تقدير هذه الدراسة أن إنكار أهمية «التأويل» بوصفه أداة معرفية في بناء العلم — وفي بناء العلوم الإنسانية خاصة — إنكار لا يضر سوى منكره، ذلك أنه بمثابة إغماض العين عن الشمس التي تحرق حرارتُها جِلْدَ المغمض عَينَيْه. ولعل فيما تقدم أن يكون بيانًا سريعًا وعامًّا لخطورة التأويل في كتاب سيبويه وأهميته. أما التأويل الخفي في كتب الدارسين المُحدَثين — الذين ينكرون التأويل ويهاجمونه — فله حديث آخر بعد حديث التأويل عند القدماء، وهو حديث ممتد أدعو من يشاء من الباحثين للمساهمة فيه.