الثابت والمُتحوِّل في رؤيا أدونيس للتراث
الباحث في هذه الحالة أشبه بالفنان، أو الروائي؛ إن له موقفًا من الواقع، وهذا الموقف يحدد رؤيته للأشياء والواقع. وهو — من ثم — حين يختار من الواقع عناصر عمله الفني تحكمه رؤيته في عملية الاختيار هذه، فلا يختار من الواقع إلا ما يبرز رؤيته. وتكمن مقدرة الفنان الحقيقية في قدرته على الموازنة الدقيقة بين عملية الاختيار التي يقوم بها، وبين التلقائية التي يجب أن تكون طابع عمله الفني. ونفس التحدي مطروح أمام الباحث في التراث، إن عليه أن يوائم مواءَمة دقيقة بين رؤيته وبين حقائق التراث. والوعي بعلاقة الجدل مع الماضي هو سلاحه لتحقيق هذه المواءَمة، وتجنب الشطح والوثب.
وعلى القارئ ألا يتوقع عرضًا أفقيًّا لأفكار الدراسة تغنيه عن قراءتها بنفسه، إذ تظل هذه القراءة لدراسة أدونيس قراءة من زاوية خاصة تعكس اهتمام كاتبها وانشغاله بدرس «معضلة التأويل» في ثقافتنا القديمة والحديثة على السواء.
يتحدد موقف أدونيس من الواقع في تفرقته بين ثقافتين: الثقافة السائدة، والثقافة الطليعية التي ينتمي إليها، الثقافة السائدة — من وجهة نظره «جزء من الأيديولوجية السائدة. هذه الأيديولوجية المتحققة في مؤسسات المجتمع العربي؛ المجسدة في ممارسات الأجهزة الأيديولوجية للنظام العربي. لا تؤسس شروطًا جديدة وعلاقات جديدة، وإنما تعيد إنتاج العلاقات الاستغلالية الماضية. فهذه الأيديولوجية السائدة ليست إلا استعادة للأيديولوجية الاستغلالية الماضية، وليس التحول السياسي، الظاهري، أكثر من إزاحة للطبقة القديمة المستغِلَّة من أجل أن تحل محلها طبقة جديدة مماثلة لا من أجل تحرير الطبقة المستغَلَّة» (٣: ٢٣٩-٢٤٠). وإذا كانت الثقافة ثقافة الطبقة المسيطرة وهي ثقافة تستند إلى الماضي، فإن الثقافة الطليعية — التي ينتمي إليها الكاتب — هي ثقافة الطليعة للفئات المسودة وهي «طليعة تمتلك وعيها الخاص بوضعها. بكونها مسودة، وأنها تتململ من أجل التحرر والانعتاق من شروط حياتها هذه، ومن الأيديولوجية السائدة» (٣: ٢٤٠).
هناك إذن ثقافتان متميزتان، تعبر كل منهما عن وضع طبقي. الثقافة السائدة تعبر عن الطبقات المستغِلَّة (بكسر العين). وتستند إلى الماضي. أما ثقافة الطليعة، فهي تُعبِّر عن وعي الطبقات المستغَلَّة (بفتح الغين) ورغبتها في التحرر والانعتاق. ومن الطبيعي أن تستند هذه الثقافة إلى الحاضر في مواجهة الماضي الذي تستند إليه الثقافة السائدة. ولكن كيف تستند الثقافة السائدة إلى الماضي؟ إنها تقوم بعملية «تفسير» أو «تأويل» لهذا التراث. إنها تحوله إلى قوة لترسيخ الأنظمة القائمة واستمرارها. وفي هذا المنظور، يبطل قول القائل: إن الماضي انتهى، أو لم يَعُد فعالًا، أو أنه ليس مشكلة. خصوصًا أن تحويل التراث إلى قوة أيديولوجية توجه الحاضر، يرتبط بموقف تقويمي أخلاقي: لا يكون العربي عربيًّا إلا بقدر إيمانه وارتباطه بتراثه، كما تفهمه هذه الأجهزة الأيديولوجية السائدة وتعلمه (٣: ٢٢٧).
هكذا تبدأ — في نطر أدونيس — مشكلة التراث. إنها تبدأ كرَدِّ فِعل لتوظيف الثقافة السائدة للتراث لخدمة أهدافها. وإذا كانت الأجهزة المسيطِرة تعطي للماضي استمرارية في الحاضر للوقوف ضد حركة التغيير، فإن مهمة القوى الطليعية التي تسعى إلى التحرر أن تبدأ بطرح مشكلة التراث، ولكن من منظور مغاير لها وطرحه طرحًا نقديًّا «إن التراث ليس مشكلة نظرية فكرية وحسب، وإنما هو أيضًا مشكلة سياسية واجتماعية. وتبدو — تبعًا لذلك — أهمية النقد وضرورته، نقد الثقافة التقليدية السائدة، ونقد مفهوماتها، خصوصًا مفهومها للتراث وللماضي بشكل عام» (٣: ٢٢٨). والمنظور الذي يجب أن نرى التراث من خلاله هو ذات المنظور الذي ننظر للواقع الراهن من خلاله. إننا لا نرى الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي كتلة واحدة، وكذلك نظرتنا للتراث يجب أن تراه في ضوء جدلية الصراع بين عناصره. والمبدأ العام الذي يحكم نظرتنا سواء للماضي أو للحاضر هو جدلية الرفض والقبول «هي الظاهرة الأكثر طبيعية وواقعية في الثقافة، وفي الحياة الاجتماعية السياسية بعامة. ففي كل مجتمع نظام يمثل قيمًا ومصالح لجماعات معينة، من جهة، ونواة لتصور نظام آخر يمثل قيمًا ومصالح مناقضة لجماعات أخرى مقابلة، من جهة ثانية. وليس تطور المجتمع إلا الشكل الأكثر تعقيدًا للصراع أو للتفاعل بين هذه الجماعات» (١: ٢١). من خلال هذا المنظور يجب أن ننظر إلى التراث «إن الأصل الثقافي العربي ليس واحدًا، بل كثير، وأنه يتضمن بذورًا جدلية بين القبول والرفض، الراهن والممكن، أو لِنَقُل بين الثابت والمتحوِّل» (١: ٢٠).
التراث — من خلال هذه الرؤية — ليس واحدًا، وإنما هو متعدد. إنه ليس نتاجًا ثقافيًّا واحدًا، وإنما هو نتاجات ثقافية «تتباين لدرجة التناقض. لذلك لا يصح البحث في التراث كأصل أو جوهر أو كل وإنما ينبغي البحث في نتاج ثقافي محدد، في مرحلة تاريخية محددة» (٣: ٢٢٨). ولا يقتصر مفهوم التراث على رؤية مستوياته المتنوعة في مراحله التاريخية المختلفة، بل يمتد هذا المفهوم لرؤية تنوع مستويات النتاج الثقافي نفسه في مرحلة تاريخية بعينها. فهناك — في المرحلة الواحدة — مستويات وأنواع للنتاج الثقافي «لا يجوز أن توضع على مائدة واحدة في صحن واحد. البحث في الفقه مثلًا غيره في الشعر، أو في الفلسفة، والبحث في هذا غيره في الفن المعماري أو الموسيقي» (٣: ٢٢٨).
هذه النظرة الديناميكية للتراث، والتي تميز بين مستوياته، وترى عناصره في علاقتها الجدلية، تستطيع أن تواجه النظرية التقليدية للتراث، وتحاربها بنفس سلاحها. لم يَعُد التراث — بهذا الفهم — ملك الطبقات المسيطرة تُرسِّخ به سيطرتها، وتفرض به إرهابها توطيدًا لسلطتها، بل صار بنفس القَدْر سلاحًا في يد القوى التقدمية؛ صار سلاحًا للتغيير لا للتثبيت. وبكلمات أخرى صار التركيز في مفهوم التراث على عناصر التغيُّر والتحول والتقدم، لا على عناصر الثبات والسكون والتخلف. يكاد أدونيس — على المستوى النظري الخالص — أن يدرك هذه الحقيقة، ولكن رؤيته الثنائية للواقع الثقافي الراهن، وتوحيده التام بين الثقافة السائدة والماضي، وعدم إدراكه للعلاقة الجدلية بين الثقافتين، وبين الماضي والحاضر، جعله — على المستوى العملي — ينفر من الماضي نفوره من الثقافة السائدة. وإذا كانت الثقافة السائدة، برؤيتها التقليدية للتراث، تَتبنَّى الاتباع وترفض الإبداع، فإنها تَحول دون أي تقدم حقيقي. ولا يمكن — فيما يرى أدونيس — أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي، إذا لم تَتهدَّم البنية التقليدية للذهن العربي، وتتغير كيفية النظر والفهم التي وَجَّهَت الذهن العربي وما تزال توجهه» (١: ٣٢). ودراسة التراث في هذه الحالة لا تعني إخصابًا للحاضر، بقدر ما تهدف إلى هدم التراث نفسه (التراث هنا = الثقافة السائدة) ولكن بنفس سلاحه، أي بآلة من داخله «وإذا كان التغير يفترض هدمًا للبنية القديمة التقليدية، فإن هذا الهدم لا يجوز أن يكون بآلة من خارج التراث العربي، وإنما يجب أن يكون بآلة من داخله، إن هدم الأصل يجب أن يمارس بالأصل ذاته» (١: ٣٣).
إن الكاتب هنا يتحدث عن الهدم، لا عن التجديد أو التبني. إننا ندرس التراث، وندرك تنوعه واختلاف مستوياته، لا لنؤكد موقفنا الراهن — في مواجهة استخدام التراث كأداة للتثبيت — بل لنهدمه من داخله، نهدم عناصر الثبات بعناصر التغير، أو بمعنى آخر نجعل التراث محايدًا أو نسحب البساط من تحت أقدام أولئك الذين يستخدمونه. إن هذا الموقف من التراث يختلف — جوهريًّا — عن الموقف الذي يؤمن بجدلية العلاقة بين الماضي والحاضر. إن موقف أدونيس — رغم ديناميكيته الظاهرة — ما زال يتعامل مع التراث باعتباره وجودًا في الماضي. إنه يفهمه لكي يهدمه، يكتشف عناصر الجدل والصراع فيه، لكنه يؤمن بأن هذه العناصر تفاعلت هناك في الماضي وانتهى دورها. إن رغبة أدونيس في الانفلات من الماضي وهدمه تنبع من رغبته في هدم الثقافة السائدة. وهو — وإن كان يسلم باستخدام الثقافة السائدة للتراث — يحرم نفسه من ذات السلاح، ويؤمن على النقيض أن علاقته بالتراث علاقة انفصال كاملة. إنه يسلم بأثر التراث وينفيه في نفس الوقت. وهو لذلك يدين أي ارتباط بالتراث «حتى حين يتعاطف الفكر التقدمي المعاصر، كردة فعل على الفكر التقليدي، مع اتجاهات في الماضي يمكن وصفها بأنها متقدمة، بالمقارنة مع الاتجاهات الأخرى سواء كانت تمثل ثقافة النظام الذي كان سائدًا آنذاك أو مناهضة لها، فإن تلك الاتجاهات المتقدمة لا يمكن أن تكون ملزمة للفكر التقدمي، نظريًّا أو عمليًّا، فهي ليست أكثر من شاهد تاريخي على وعي طبقات أو جماعات صارعت من أجل تقدم المجتمع، وأنتجت ثقافة تشهد لهذا الصراع وتُعَبِّر عنه. فما قيل وعمل في الماضي، في مجال الثقافة، ليس شيئًا مطلقًا يجب تكراره والإيمان به. وإنما هو نتاج تاريخي؛ أي نتاج يتجاوزه التاريخ من حيث إنه تعبير عن تجربة مُحدَّدة لا تتكرر، في مرحلة لا تتكرر. هكذا يتضح أن طرح قضية الارتباط بالتراث إنما تقوم به الفئات الوارثة المسيطرة مُوحِّدة بذلك بين سيادتها على النظام وسيادتها على الكلام، وذلك من أجل ترسيخ ثقافتها وسيادتها. والخطأ هنا، أي خطأ الفكر التقدمي، هو أنه ينزلق إلى أرضية هذه الفئات، ويتبنى مقولاتها في كل ما يتصل بالتراث» (٣: ٢٢٨-٢٢٩).
أن هذ الرؤية التي يتبناها «أدونيس» للتراث تقوم على الهدم بدلًا من الارتباط. إن الارتباط بالتراث — خاصة في اتجاهاته المتقدمة — لا يعني إهمال الظروف التاريخية، بل يعني الوعي بها. إن الفارق بين الارتباط الذي يقوم على الوعي والارتباط الذي يقوم على التقليد فارق جوهري، الوعي يُدرِك التمايز بين الماضي والحاضر، في نفس الوقت الذي يدرك فيه جدلية العلاقة بينهما، إنهما متمايزان متداخلان. أما التقليد فيحاول أن يكرر الماضي. الارتباط بالتراث — القائم على الوعي — يرى أن الماضي والحاضر متمايزان وجوديًّا، ولكنهما متداخلان معرفيًّا، بينما لا يُميِّز الارتباط التقليدي بين هذين المستويين.
الجانب الآخر الذي يشكل موقف أدونيس من التراث — إلى جانب موقفه السياسي — كونه شاعرًا، يُعَد واحدًا من طلائع الحركة الشعرية الحديثة. وهي حركة ترسخ أصول التجديد على مستوى الإبداع والتنظير النقدي في نفس الوقت. ويجب ألَّا يغيب عن بالنا أن هذه الحركة ما تزال تُعانِي عدم القبول على المستوى الجماهيري الذي ما زال يحتضن الشعر الكلاسيكي والرومانسي في أحسن الأحوال. وموقف أدونيس كشاعر لا يختلف عن موقفه — كمفكر — من التراث، فالموقفان — في النهاية — وجهان لعملة واحدة.
الإبداع في نظر أدونيس نفيٌ لكل صيغة جاهزة، وتجاوُز لكل شكل موروث. إننا — هنا — إزاء ثنائية تلتقي مع ثنائية الماضي/الحاضر، التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة. إننا هنا أمام ثنائية الاتباع/الإبداع، أو الخطابة/الكتابة. إن الإبداع ليس انطلاقًا من مُعطًى محدد اسمه التراث أو التقاليد، بل هو تَحرُّر من كل شيء. «ليس الشكل عند الحديث في هذه الكتابة الجديدة صيغة كتابة، وإنما هو صيغة وجود. أعني أنه وعد ببداية دائمة. ومن هنا لا ينطلق الشاعر الحديث من أولانية شكلية، بل ينطلق، على العكس، من أولانية اللاشكل. ابتداء، يتحرر من المكتسب، المتعلم، الاصطلاحي، ابتداء، لا يمارس ما مورس. ابتداء، يخلص من تصنيفه داخل الثقافة الموروثة. ابتداء، يتحرك وفي أعماقه طموح ليس إلى أن يتعلم القيم السائدة، بل إلى أن يخلق القيم الجديدة. ابتداء، يرى أن المسألة ليست أن أكرر لغة معروفة، بل المسألة أن يكتشف لغة غير معروفة. ابتداء يختار المجيء من المستقبل» (٣: ٣١٤). «الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم» (٣: ٢١٢). والشاعر — إذا صح أن يبدع من اللاشيء — يواجه معضلة مُعقَّدة، خاصة إذا كان شاعرًا ملتزمًا بموقف سياسي طليعي، كما هو أدونيس. «إن هذا الشاعر يواجه — على الصعيد الفني — مشكلة ذات وجهين متلازمين: كيف يُعبِّر بحداثة (توكيدًا لانفصاله عن الآلية الأيديولوجية السائدة)، وكيف يُوصِّل هذا التعبير (توكيدًا لارتباطه العضوي مع الفئات الطليعية المسودة العاملة للتغلب على الأيديولوجية السائدة وعلاقاتها). هكذا يبدو أن دور الشاعر هو أن ينتج فعالية جمالية لا يستوحيها من العادة السائدة، بقوة الأيديولوجية السائدة، بل يستوحيها، على العكس، من الطاقة الكامنة، المقموعة لكن القادرة على تغيير شروطها وإبداع شروط جديدة لحياة جديدة» (٣: ٢٤١).
إن المعضلة التي يطرحها — أدونيس هنا — معضلة الاتصال بين الشاعر والجمهور — لا تحلها فكرة «استيحاء الطاقة الكامنة»، إنها عبارة شعرية لا تُحدِّد موقفًا. وواقع الأمر أن الشاعر ينظر إلى الجمهور نظرة لا تعتد به كثيرًا، بل تتهمه بالسطحية والجهل. إنه جمهور «ليست له ثقافة غنية، لا كمًّا ولا نوعًا، فإن مستوى المشكلات التي يعانيها هو مستوى مُبتذَل، أعني. أنه سطحي وتعميمي. وهو، بعامَّة، بعيد عن الآفاق التي فتحتها العلوم والتجارب الإنسانية الحديثة. والشاعر الذي يسر له أن ينخرط في هذه الآفاق، لا بد من أن يتأثر بها في تعبيره، لذلك لا بد من أن يكتنز شعره بأبعاد حضارية وجمالية يصعب على القارئ، موضوعيًّا، أن ينفذ إليها» (٣: ٢٤٧). ينسى أدونيس هنا دوره الطليعي، ويقع في مهوى الاغتراب عن الجمهور، ذلك الجمهور الذي تسيطر عليه الثقافة السائدة التراثية. إن الشاعر في حيرة حقيقية، إنه يرفض حل وضع «البضاعة الجديدة» في «إناء قديم» أو «المضمون الجديد» في «شكل قديم» تفهمه الجماهير وتستوعبه. إن هذا الحل — فيما يرى أدونيس — «يفصل، في الفعالية الجمالية، بين محتواها وشكلها، ويتبنَّى الشكل المُتخلِّف للتعبير بحجة سهولته. وهو رأي ينظر إلى الشعر بمقاييس من خارج الشعر» (٣: ٢٤٥). وينتهي الشاعر بتعليق الموقف «وإذا كان مِن نقد يُوجَّه هنا فلا يجوز أن يوجه إلى الشعر، وإنما يجب أن يُوجَّه إلى النقص والعجز في العمل التحويلي الثقافي العام» (٣: ٢٤٧).
إننا قد نتفق مع أدونيس في تصوره لطبيعة الشعر والإبداع الشعري، كما نتفق معه في تصوره لطبيعة العلاقة بين الشكل والمضمون، لكننا نرى أن إلقاءه اللوم — في مشكلة الاتصال — على الوضع الثقافي السائد، لا يحل المعضلة، خاصة وأنه شاعر ملتزم بموقف اجتماعي وسياسي طليعي كما قرَّر هو نفسه. هذا الموقف قد يُقْبَل من شاعر يرى الشعر ممارَسة جمالية خالصة، لها فعاليتها المستقلة غير المرتبطة بغايات وظيفية مُحدَّدة. إن معضلة أدونيس الحقيقية — كَناقِد ومُفكِّر هنا — هي في تصوره للإبداع ونفوره — الذي أشرنا إليه — من أي ارتباط بالتراث، كَردِّ فعل لموقف الثقافة السائدة كما تصوَّرها موحدًا بينها وبين التراث. إن ثورية الشاعر تأخذ طابع الرفض على مستوى الثقافة ومستوى الإبداع وفي الوقت ذاته يرفض الثقافة السائدة؛ لأنها تَتسلَّح بالتراث. ويرفض الجمهورَ لأنه خاضع للثقافة السائدة، ولذلك كله يصبح التجديد الحقيقي هو نفي كل سابق، والاتصال الحقيقي هو اتصال الانفصال «إن العلامة الأولى للجِدَّة الشعرية هي في اتصال الانفصال، إن صح التعبير، أي في نفي السائد المُعمَّم، ورفض الاندراج فيه، والانفصال عن هذا الكلام القمعي. فالرفض أو النفي هو بهذا المعنى، علامة الأصالة، إلى كونه علامة الجدة» (٣: ٢٥١). هكذا يتحد الرفض بالجدة بالأصالة. ويتسق ذلك مع موقف الشاعر من التراث، إنه محاولة الفهم من أجل الرفض والتجاوز والتَّحرُّر.
يتجاوز أدونيس تصوره للإبداع الشعري، ويخطو خطوة أبعد في تأكيده على علاقة الانفصال بين الشاعر والتراث الشعري السابق عليه. وإذا كان على المستوى الثقافي الخالص يرى ضرورة فَهْم التراث من أجل إعادة صياغة ثقافتنا (انظر ٣: ٢٧٢-٢٧٣) فإنه — على مستوى الإبداع الشعري — لا يَتبنَّى هذه المقولة «إن العلاقة بين التراث والإبداع ليست علاقة سبب بنتيجة. فقد يكون لأمة ما أعظم تراث في البشرية، ومع ذلك لا يحول ولا يقدر أن يحول دون انحطاطها إلى مستوى الأمم العادية، أو دون العادية. وقد لا يكون لأمة ما، في الأصل أي تراث، لكنها سرعان ما تنشئ تراثًا في مستوى الأمم المتفوقة. فالتراث، بهذا المعنى، مادة حيادية، لا تهجم أو تتراجع، أعنى لا تتحرك إلا بين يدي المبدع. ولهذا كان لكل مبدِع تراثه الخاص ضمن التراث» (١: ١٠٤).
وإذا كنا نتفق مع أدونيس في طرحه لعلاقة التراث بالأمة، من حيث إن تراث الأمة الماضي ليس شرطًا في تفوُّقها في الحاضر، فإننا نختلف معه في طرحه لعلاقة التراث بالمبدع. إنه يتصور أن التراث مادة محايدة بشكلها المبدع كيف يشاء، أو هذا ما تُوهِمه عبارتُه. ويبدو أنه يعطي للمبدع أولية في صنع التراث وتشكيله. إن لسان الميزان يميل هنا إلى جانب المبدع، بنفس الدرجة التي مال فيها الميزان تجاه التراث في تصوره لعلاقة الماضي بالحاضر، وهذا يؤكد النظرة الثنائية — الانفصالية (غير الجدلية) التي ينطلق منها أدونيس في فهم الحاضر والماضي معًا، وفي فهم العلاقة بينهما كذلك. في علاقة المبدع بالتراث تَتبدَّى أولية المبدع على حساب التراث «ليس التراث ما يصنعك، بل ما تصنعه. التراث لا ينقل بل يخلق … ليس الماضي كل ما مضى. الماضي نقطة مضيئة في مساحة مُعتِمة شاسعة. فأن ترتبط، كمبدع، بالماضي هو أن تبحث عن هذه النقطة المضيئة. الوفاء لغير هذا البحث وفاء لسقوط مسبق» (٣: ٣١٣).
وتأكيدًا لمبدأ الفصل بين الإبداع والتراث، يعزل أدونيس العمل الإبداعي عن سياقه التاريخي «إن زمن الإبداع شيء آخر غير زمن التراث. فالآثار الإبداعية الماضية ليست لكي تزكي الآثار اللاحقة أو تولدها، وإنما هي لكي تشهد على عظمة الإنسان، وعلى أنه كائن خلاق (أي أنها مجرد شواهد تاريخية كالاتجاهات التقدمية السياسية والثقافية). ثم إن الأثر الفني معاصر وغير معاصر في آن. فاللحظة الإبداعية لا تتطابق بالضرورة مع اللحظة التاريخية، أو التراث، بل يمكن أن تناقضها. فالفنان يقيم في زمن ليس بالضرورة زمنه الراهن. وقد يقيم في الماضي، أو في الحاضر، أو في المستقبل، أو في هذه جميعًا، في آنٍ معًا. ومن هنا نفهم كيف أن لحظة الأثر الفني ليست بالضرورة لحظة الذوق السائد. صحيح أن بعض الآثار الفنية تُحدَّد بالذوق، لكن الأصح أن الآثار العظيمة هي التي تُحدِّد الذوق. الأولى تنسجم مع اللحظة، أما الثانية فتخلقها. الأولى تتابع تراثًا أو تاريخًا تندرج وتذوب فيه، أما الثانية فتبدأ تاريخًا. الأولى تدخل سلبيًّا، رقمًا، أو عددًا في حركة التاريخ، أما الثانية فتفجأ هذه الحركة وتمنحها بُعدًا آخر أو اتجاهًا آخر (١: ١٠٤).
هذا التأصيل لطبيعة العلاقة بين الشاعر والتراث يحول الإبداعات السابقة في التراث إلى مجرد شواهد تاريخية، كأنها وجدت في لحظة ما، ثم توقف وجودها. هذا إلى جانب أن التأكيد على أن الشاعر هو صانع التراث — دون إدراك لطبيعة العلاقة الجدلية بينهما — قد يطابق بين تراث لغة من اللغات وأمة من الأمم وبين تراث لغة أخرى وأمة أخرى ما دام الشاعر هو الفيصل النهائي في صنع تراثه «قد تكون علاقتي بسوفوكليس أو شكسبير أو رامبو أو مايكوفسكي أو لوركا أعمق من علاقتي بأي شاعر عربي قديم، دون أن يعني ذلك أنني خارج على التراث الشعري العربي، فالشاعر العربي الحديث قد يبدع ما يتنافى، شكلًا ومضمونًا مع ما أبدعه أسلافه، ويظل إبداعه عربيًّا، بل الأكثر لا يكون الشاعر العربي الحديث نفسه حقًّا إلا إذا اختلف عن أسلافه. فكل إبداع اختلاف. ومن هذه الزاوية يمكن القول: ليس الشاعر الذي يتجاوز أشكال الموروث هو الذي يكون غريبًا عن التراث، بل إن الشاعر لا يتأصَّل في لغته إلا إذا كان، بمعنى ما، غريبًا عنها» (٣: ٢٣٠).
إن الإبداع — بهذا المفهوم — إبداع من عدم، إنه يشبه عملية الخلق الأولى في التصور الديني. إنه لا يرتبط بماضٍ ما، أو تراثٍ ما. إنه — الإبداع — يخلق تراثه الخاص. إنه يعني الاختلاف والمغايرة، لكن الاختلاف لا يعني بالضرورة إلغاء الماضي، فالتراث موجود، ولكنه موجود لكي نرفضه ونتجاوزه ونثور عليه. إن الإبداع لا يعني أن الشاعر «ينفي شعر أسلافه، أو أنه يكتب، بالضرورة، أفضل مما كَتَبوا. بل يعني أنه يُعبِّر عن تجربته الخاصة المغايرة في مرحلته التاريخية الخاصة المغايرة. ولهذا فإن عالَمه الشعري مغاير بالضرورة» (٣: ٢٣٠). وحين يُحاوِل أدونيس أن يُؤسِّس ارتباطًا بين الشاعر والتراث، فإن هذا التأسيس يُعبر عنه بكلمات غامضة؛ مثل «فالارتباط بالشعر القديم لا يكون، تبعًا لذلك، ارتباطًا بطرائق تعبيره، بل بالروح العميق الذي حَرَّكه» (٣: ٥٦) وعبارة «الروح العميق» تساوي في غموضها عبارة «الطاقة الكامنة» في حديث الكاتب عن معضلة التوصيل عند الشاعر الحديث.
والسؤال الآن. إذا كان هذا موقف أدونيس من التراث على المستوى الثقافي العام، وعلى مستوى الإبداع الشعري، فما هو دافعه للقيام بهذه الدراسة؟ وكيف أثَّرَت رؤيته للتراث على منهج الدراسة ونتائجها؟!
ينطلق أدونيس في دراسته هذه من همومه كشاعر. والهم الأساسي هو علاقة الانفصال التي يعيشها مع الجمهور، والتجاهل على المستوى النقدي السائد، لا بصفته الشخصية، بل باعتباره أحد مُبدعِي ومُنظِّري الاتجاه الشعري المعاصر. إنه ينطلق محاولًا «الكشف عن سر هذا العداء الذي يُكِنُّه العربي، بعامة، لكل إبداع حتى لكأنه مفطور عليه. فإن ردود فعله المباشرة، إزاء الإبداع هي التردد والتشكيك والرفض على مستوى الحياة العامة، والذم والقمع على مستوى النظام» (١: ١٩)، وهذا المنطلق يُشكِّل موقف أدونيس المبدئي من المعضلة. إن هناك عداء عند العربي لكل إبداع. ويبدو هذا العداء — في نظر الشاعر — كما لو كان فطرة عند العربي. الأمر الذي يجعله يتجاوز إطار الشعر ليبحث عن أسباب هذا الرفض في بِنْيَة العقل العربي والثقافة العربية ككل «إن الشعر بذاته، لا يفسر تأصُّل الاتباعية في الحياة العربية. وكان واضحًا — تبعًا لذلك — أنه لا بد من البحث عن أسباب هذا التأصيل في غير الشعر. ومعنى ذلك أنه لم يكن بد من البحث عن هذه الأسباب في الرؤيا الدينية الإسلامية. وهذه الرؤيا غيبية وحياتية في آنٍ، فهي نظرة شاملة للفكر والعمل، للوجود والإنسان، للدنيا والآخرة. وبما أن هذه الرؤيا لم تكن تكملة للجاهلية، بل نفيًا، فقد كانت تأسيسًا لحياة وثقافة جديدتين، وكانت — بما هي تأسيس — أصلًا جامعًا، صُورَتُه الوحي ومادَّته الأمة، النظام. ومن هنا ثبت لديَّ أنه لا يمكن فَهْم الرؤيا الشعرية العربية في معزل عن هذه الرؤيا الدينية، وأن الظاهرة الشعرية جزء من الكل الحضاري العربي لا يُفسِّرها الشعر ذاته، بقدر ما يفسرها المبنى الديني لهذا الكل» (١: ٢٠).
هناك إذن فرضيتان أساسيتان تقوم عليهما الدراسة: الفرضية الأولى أن الاتباعية هي النَّهْج الذي ساد العقلية العربية، وما زال يسودها ويتحكم فيها. الفرضية الثانية هي: أن هناك صلة جوهرية قائمة بين اللغة والدين والسياسة، وأنه لا يمكن تفسير الاتباعية بدراسة المعضلة في مستوى الشعر وحده دون الرجوع إلى جذور الرؤيا الدينية نفسها في مستوييها الديني والسياسي والفكري على السواء.
فإذا أَضَفْنا إلى ذلك ما سبق أن عَالجْنَاه من رؤيته للتراث في ضوء موقعه الراهن لم نُعطِ كثير أهمية لادعاء الكاتب أنه تَجنَّب الفرضيات القبلية «وانطلقتُ من الواقع والأفكار كما هي» (١: ٢١) كما أننا بنفس القدر لا نُسلِّم بدعوى الموضوعية التي تؤمن بإمكان فَهْم موضوع ما في استقلال عن هموم الذات الفاهمة وعلاقتها الجدلية بموضوعها. ورغم أن الكاتب يسلم بإمكانية فَهْم «النصوص» فهمًا مغايرًا لفهمه، فإنه يصر على أنه يقدم صورة موضوعية للموضوع. ويرى الكاتب أن «ثمة مَن يحاول أن يفسر هذه النصوص بمنظور يشدد على أنها تختزن بذور التفكير الصحيح لكل عصر، وأنها لا تمثل جماع المعرفة الماضية وحسب، بل تختزن أيضًا البذور الحقيقية لكل علم مُقبِل. ولأن هؤلاء يرون أن الذين ينظرون إلى التراث من غير منظورهم يتجنون عليه، عدا أنهم لا يفهمونه، ولا يعتمدون الوثائق التي تسوغ لهم ما يذهبون إليه، وأنهم ينظرون إليه بأفكار مُبيَّتة ترفض هذا التراث، وأنهم لا يبحثونه لكي يكتشفوا ما فيه من عظمة وغِنًى، بل لكي يدللوا على أفكارهم المُبَيَّتة والتي تهدف أخيرًا إلى هدم التراث» (١: ٢٤) وبدلًا من أن يؤسس أدونيس فَهْم الآخرين المغاير لفهمه للتراث على أصول جدلية، كاشفًا موقعهم المُتخلِّف من الواقع، استسلم لمنظورهم «جعلتُ النصوص التي تُعْتَبر، بالإجماع، أنها تشكل الأسس النظرية والعملية لهذا التراث، هي التي تتكلم، وحصرتُ دَوْري — عامدًا — في عرضها وتوجيهها واستنطاقها» (١: ٢٤). فالمؤلف يقصر دوره على ترتيب النصوص وعرضها، والنصوص نفسها — دون قارئ — هي التي تتكلم. ولسنا بحاجة لكشف ما في هذا التصور من تناقُض؛ إذ مجرد ترتيب النصوص و«توجيهها»، يعني وضعها في سياق مُعيَّن لتعطي مَعنًى معينًا؛ أي قراءتها قراءة متميزة. إن هذا الموقف الذي يفصل — نظريًّا — بين الذات والموضوع يكرس النظرة الواحدية للتراث بدلًا من أن ينفيها. إنه يكرس تهمة الأفكار المُبيَّتة ونوايا هدم التراث وتشويهه. بالإضافة إلى ذلك فإنه يُوقِع الباحث نفسه في مهاوي عدم الانضباط المنهجي. إن أدونيس — في هذا الفهم — لا يقدم رؤيته الخاصة والمتميزة للتراث وإنما يعرض — فيما يقول — ولما يمكن تسميته بتاريخ ظواهري فينومينولوجي للثقافة العربية، كما تكشف عنه الوقائع والأفكار التي تجمع على صحتها الأطراف التي وضعتها أو تبنتها» (١: ٢٤).
وحين ينتقل أدونيس إلى الشعر والشعراء يكون معيار الحكم على إبداعهم هو تَحلُّلهم من القيم الدينية والخروج على المجتمع. إنه — بكلمات أخرى — يُوحِّد بين السلوك والشعر. وهو في هذا لا يختلف — جوهريًّا — عن الأيديولوجية التي حكمت على هؤلاء الشعراء بالطرد أو القتل أو الحبس بناء على سلوكهم أو على مضمون شعرهم. فالجذر النظري واحد هو محاكمة الشعر بما ليس من خصائصه. إن أدونيس — بذلك — يفصل — عمليًّا — بين الشكل والمضمون.
ولا يقف أمر الانحياز عند التوحيد بين السلوك والشعر، أو الفصل بين الشكل والمضمون، بل يتجاوز ذلك إلى اعتبار الشعر لذة خالصة، ولذة جنسية على وجه الخصوص. يتجلى إنجاز عمر بن أبي ربيعة — فيما يرى أدونيس — في أنه يؤسس «ما تمكن تسميته بالنزعة الشهوية أو الإباحية في الشعر العربي، وهو بذلك يتابع ما بدأه امرُؤ القيس. إن شعرهما يستمد أهمية خاصة من كونه يؤسس الرغبة أو الشهوة على المحرم، دينيًّا واجتماعيًّا، وفي هذا تكمن الثورة على التقاليد الاجتماعية — الدينية، والعودة إلى البداية حيث لم يكن الإنسان يعرف الخجل أو العار. فشعرهما محاولة للخروج على المجتمع: كل خروج على تقاليد المجتمع بذاته قيمة. لأنه يعلن «اللاخطيئة، فاللذة هي القيمة» (١: ٢١٥-٢١٦). وإذا كانت اللذة وحدها هي القيمة، والثورة هي الخروج على التقاليد ورفض قيم المجتمع؛ فإن الشِّعر — إذا أرضى هذه النوازع — يكون قد حَقَّق غايته. هنا يتعامل الباحث مع الشعر على أساس أنه يرضي نزوة ويشبع شهوة. لم يعد الشعر تأسيسًا لرؤية جديدة للعالم تتجاوز كل الرؤى القديمة وتتحرر منها (انظر بيان الكتابة، ٣: ٢٩٩ وما بعدها)، بل صار تدنيسًا للمقدَّسَات. وهنا بالضبط ما يجذب الكاتب في شعر امرئ القيس، وعمر بن أبي ربيعة «والعلة في هذا الجذب أننا لا شعوريًّا نحارب كل ما يَحُول دون تَفتُّح الإنسان. فالإنسان من هذه الزاوية ثوري بالفطرة: الإنسان حيوان ثوري. نحن لا شعوريًّا، ضد كل «ثمر محرم»، لذلك نعجب بكل من يُدنِّس هذا الثمر ويمتهنه. هذا الانتهاك يفتح ثغرة من الضوء في ظلام العادات أو الأخلاق ومن خلال هذه الثغرة نلمح كيف يتهدم العالم القديم، أو تتهدم عوائق الحرية. هذا الانتهاك فساد أو ضلال. لكن حين يكون المجتمع قائمًا على الضلال، فإن ضلال الخروج عليه، يصبح الفضيلة الكبري، ومن هذه الناحية يمكن تحديد القوة أو الطاقة الثورية بأنها هي القادرة على خلخلة الأساس الراهن للأشياء وتغيير الواقع» (١: ٢١٦).
وحين يتعامل الكاتب مع شعر «جميل» و«أبي نواس» و«أبي تمام». فإنه يقدم قراءته الخاصة، لهذا الشعر، في هذه القراءة يبدو الانحياز واضحًا في عملية التأويل التي يقوم بها الكاتب لهذا الشعر وقد نجد عند الباحث ما يسوغ — نظريًّا — هذه القراءة لهذا الشعر. على أساس أنه «ليس هناك أمام قارئ النص شيء مُعطًى، واضح، وأن عليه أن يكتشف، هو بنفسه، ما ينطوي عليه هذا النص. وبما أن القراءة مستويات تابعة لمستوى القراء، فلا يمكن أن يصل قارئ النص الإبداعي إلى القبض على «حقيقته» النهائية، فلهذه الحقيقة، مستوياتها أيضًا. القارئ بهذا المعنى «يخلق النص». إنه خلاق آخر يواكب خلاق النص. والنص الإبداعي هو، بهذا المعنى، أُفُق من الدلالات أو من «الحقائق» وليس «مكانًا» لفكرة أو مجموعة من الأفكار، نراها ونلتقطها بوضوح، واحدة واحدة» (٣: ٣١٠-٣١١)، وقد نتفق مع الباحث في هذه الرؤيا لعلاقة القارئ بالنص، بشرط أن يكون ذلك نهجًا عامًّا يحكم رؤية الباحث للنصوص الشعرية القديمة، ولا تقتصر على نصوص منتقاة بناء على رؤيا مُسبقة تقوم منتقاة بناء على رؤيا مسبقة تقوم على ثنائية الفصل بين مُنحَى الاتِّبَاع ومنحى الإبداع، كما تقوم على ثنائية الفصل بين الشكل والمضمون.
وتمتد القراءة إلى شعر أبي نواس، ويكاد الباحث يطابق مطابقة شبه كاملة بين الرؤية الصوفية للعالم كما حللها في مبحث «الحقيقة والشريعة، الباطن والظاهر» في الفصل الثالث من الكتاب الثاني (٩١–٩٩). وبين الرؤية الشعرية لأبي نواس للخمر، «الخمرة، من هذه الناحية، حلم ولها فعل الحلم تكتشف المجهول، سواء في الذات أو في الطبيعة، وتقتلعنا من وحل الأشياء العادية، وتقذف بنا فيما وراءها، وتعلمنا أن المرئي وجه اللامرئي، وأن الملموس تفتح لغير الملموس، فما نراه ونحسه ليس إلا عتبة لما لا نراه ولا نحسه، وتجتاز بنا هذه العتبة، حيث تزول الفواصل، ويصبح الباطن والظاهر واحدًا. وكما أنها تنقلنا، ضمن المكان، إلى المكان الخفي الآخر. فإنها كذلك تنقلنا، ضمن الزمن، إلى ما يتجاوز الزمن، حيث يمحي زمن الاصطلاح، زمن الدقائق والساعات، الليل والنهار، وحيث تتحول الحياة إلى ما يشبه النشوة الدائمة» (٢: ١١٠) الخمر عند أبي نواس — في هذه القراءة — معادل للتجربة الصوفية التي تستهدف الوصول إلى المُطلَق والاتصال به. إنها تجربة تعيد للإنسان وحدته المفتقدة — معرفيًّا — مع الأشياء والعالم والله، إن الخمر ليست عادة سلوكية ولكنها تجربة حياة. مع أبي نواس أيضًا يوحد الشاعر بين السلوك والشعر، وتتحدد إبداعية الشاعر في خروجه — سلوكيًّا — على قيم المجتمع ومبادئه (انظر: ٢: ١٢-٢١٣، ٢١٥).
وأبو تمام — عند أدونيس — يعيد للغة أوليتها وعذريتها. «بهذه العذرية يتحدث أبو تمام مثلًا عن المطر» فيقول:
وقراءة أدونيس لهذه الأبيات تتجاهل كل الموروث الشعري العربي الذي ينطلق منه أبو تمام، تتجاهل سياق القصيدة نفسها، بل وتتجاهل اللعب بالألفاظ فيما يطلق عليه الطباق، لكي ترتفع بهذه الأبيات إلى قمم الإبداع الشعري «فأبو تمام لا يريد بهذه الأبيات، مثلًا، ولا بشعره المُماثِل أن يَرُدَّنا إلى سرير الطبيعة، أو أن يُزَيِّن لنا جسدها وإنما يريد أن يدفعنا لكي نرى أشياء الطبيعة في اندفاعها وتَفجُّرِها الأصليين، أو في بكارتها، وهكذا يقيم علاقة جديدة بين الإنسان وبينها، وبين الإنسان والإنسان. وحيث تقوم علاقة جديدة تزول الثرثرة القديمة وتزول المجانية التي ترافقها. وهكذا تدخل إلى الكلام شرارة لغوية جديدة، هي شرارة الشعر الذي يعيد كل شيء إلى بدايته الأصلية» (٢: ١١٦).
إن معضلة أدونيس — في تعامله مع معنى الإبداع، سواء على مستوى الشعر أو مستوى الفكر — هي الانحياز غير المنضبط منهجيًّا بالوعي بعلاقة الجدل بين الذات وموضوعها. هذا الانحياز جعَله يضع في جُبَّة واحدة شعراء يقوم موقفهم على الرفض (امرؤ القيس - أبو نواس) مع شعراء يقوم موقفهم على الالتزام (شعراء الخوارج والشيعة) مع شعراء يصعب تصنيفهم من حيث الموقف (عمر بن أبي ربيعة - جميل بثينة - أبو تمام). ومع ذلك كله فهذا الخلط المنهجي لا يتناقض مع تَصوُّر الشاعر للإبداع بأنه الخروج على العادة ورفض الموروث، والتحلل من أي مُعطًى سابق. وهذا المفهوم للإبداع يتسق — في النهاية — مع تصورات الباحث الثنائية التي تقوم على الانفصال، سواء للواقع المعاصر (التقليد/الجديد) أو للماضي «الثابت/المتحول - الاتباع/الإبداع» أو العلاقة بين الماضي والحاضر.
في دراسة الباحث للتراث — على المستوى السياسي والفكري — تُجابِهُنا ذات الثغرات التي واجهتنا في دراسته للمستوى الشعري. يؤمن الباحث — نظريًّا — بجدلية عناصر التراث (انظر: ١: ٣١) كما يؤمن بتعدد مستويات هذا التراث (انظر: ٣: ٢٢٨). هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي — الذي يكشف عنه تحليلنا لدراسته — فهو يعزل بين عناصر التراث، أو بين مستوى الثبات ومستوى التحول (الاتباع والإبداع). هذا إلى جانب أنه يُوحِّد بين المستويات المختلفة لهذا التراث، مستوى الفكر الديني السياسي، والفكر الديني الثقافي، واللغة والشعر.
تبدأ أصول الثبات عنده — على المستوى السياسي — بانتصار الأفضلية القَبَلية حوار السقيفة عشية انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى. هذه الأفضلية القَبَلية اتخذت شكل القرشية. ويربط الباحث بين العصبية القَبَلية والتَّديُّن، وبينهما وبين الإجماع، رغم أن الإجماع — كمبدأ من مبادئ الثبات — لم يكن قد تَحدَّد بعدُ. ويقفز الباحث إلى نتيجة مُؤادَّها «وبدءًا من ذلك يقول الخليفة ويفعل في الأرض بمقتضى ما تريده السماء. وكما أن العصبية عُنْف باسم القبيلة، فقد أصبح الإجماع عنفًا باسم الجماعة، وأصبحت السُّلطة عنفًا باسم الدين» (١: ١٢٢) إن التوحيد بين العصبية والإجماع، وبين السُّلطة والدين في هذه المرحلة الباكرة أمر يحتاج لمراجعة فقد بدأ هذا التوحيد يأخذ شكله الحقيقي مع تَمايُز القوى الاقتصادية والسياسية في أواخر عهد عمر وعهد عثمان، ويُعَد عثمان أول مَن ربط بين السلطة (الخلافة) والدين حين قال ردًّا على من طلبوا منه خَلْع نفسه: «لا أخلعُ قميصًا أَلبسنيه الله.» وبذلك وضَع أساس الثيوقراطية الدينية. غير أن الباحث يتعامل مع الواقع الإسلامي في هذه المرحلة باعتباره كتلة واحدة، لا تمايُز بين عناصرها. لقد كان الشكل الذي تم به اختيار الخليفة في حوار السقيفة شكلًا قبليًّا. يستجيب إلى حاجات عملية ملحة، والصيغة التي طرحها الأنصار — بالمقابل — كانت — في جوهرها — دينية قَبَلية أيضًا. لَسْنَا إذن أمام اتجاهين متقابِلَين متناقضين، وإنما بدأ التناقض والصراع في أواخر عهد عمر. لم يكن الإسلام بعدُ قد صار دولة بالمعنى السياسي، وكانت القوى المختلفة ما تزال في طَور التكوين. كانت الوحدة أساس هذا الكيان الصغير. ولكن بما أن عناصر الثبات قد بَدتْ واضحة — في نظر الباحث — منذ هذه اللحظة الباكرة، فلا بأس من القفز إلى نتائج تربط هذا المستوى السياسي بالمستوى الثقافي واللغوي على السواء، «هكذا كانت الخلافة سُلطة مُطلَقة. وباسم هذه السُّلطة انتقلت السيادة العربية، على صعيد النظام، من إطار الكثرة الجاهلية إلى إطار الوحدة الإسلامية وانتقل تبعًا لذلك، على صعيد التعبير، من إطار القَبَلية إلى إطار العقيدة. وكما أن العقيدة تَجسَّدَت في قريش فإن السيادة تَجسَّدَت فيها. وقد عَنَى هذا الربط بين الفكر كطريقة في فَهْم الحياة والتعبير عنها، والنظام كطريقة في قيادتها، وتوجيهها، وحدة جنسية — دينية — ثقافية؛ قوام هذه الوحدة العرب لكن بإمامة قريش، ورسالتها الإسلام، لكن كما أخَذَتْه وحفِظَتْه ومارسَتْه قريش. وأداتُها اللغة العربية، لكن كما نَطقتْ بها قريش وكان القرآن نموذجها الأكمل. وهكذا أصبح «للقديم» السماوي قَرِين آخر: «القديم» الأرضي. وصار هذا القديم، الأرضي معيارًا للفكر والسلوك في آنٍ» (١: ١٢٤).
أما على مستوى «التحول» في الفكر السياسي، فالصورة تبدو بيضاء، على النقيض من القتامة التي نراها في منحى «الثَّبات». يتحول أبو ذر الغفاري إلى ظاهرة معناها أنه «كان يبشر بأخلاق تَتجاوَز الفريضة إلى ما هو أشمل منها وأغنى. إن بتعبير آخر، يُبشِّر بأخلاق تتجاوز الشرع إلى الإنسان. فالشرع ساكِن أما الإنسان فمتحرك، والشرع مَحدُود والإنسان مُنفتِح إلى ما لا نهاية. وعلى ذلك ليس الشَّرْع هو الغاية، وإنما الغاية الإنسان» (١: ١٧٨). هذا التصور لتجاوُز أبي ذر الغفاري الشرع إلى الإنسان نابعٌ من مقالة أبي ذر التي يوردها المؤلف: «لا ترضوا من الناس بكفِّ الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات، ومن الصعب أن نرى في هذه المقالة أيَّ تجاور للشرع. إنها — على العكس — تأكيد للشرع ولكن في مصلحة الإنسان. ورغم كل ما في موقف أبي ذر من تَقدُّمية فكرية، فإنها تَقدُّمية إسلامية لا تخرج عنه ولا تتجاوزه، إن المؤلف — في هذا التصور — يَتنكَّر لما سبق أن قَرَّره من أن ما حدث في الماضي مُجرَّد شواهد تاريخية، لا يجب على الفكر التقدمي أن يتبناها» (١: ٢٢٨-٢٢٩). ويتجاوز هو ذلك لا بالتبني والفهم في ضوء الظروف التاريخية، بل بالتأويل غير المنضبط، تمامًا كما فعل في منحى «الإبداع» على المستوى الشعري.
إن الباحث لا يكتفي بالتأويل القائم على التحيُّز، بل — بالإضافة إلى ذلك — يضع في سلة واحدة (سلة التحول) حركات سياسية متناقضة أساسًا كالخوارج والشيعة (١: ١٨٤ وما بعدها). هذه التسوية بين كل الحركات الثورية، والتعامل معها باعتبارها جبهة واحدة، أمر يغفل عناصر الاختلاف والصراع بينها. إن المسئول عن ذلك هو نظرة الباحث الثنائية. وإذا كانت هذه النظرة قد رأت مَنْحى الثبات في ضوء قاتِم، فإنها ترى مَنْحى «التحول» في ضوء كاشف يكاد يُحيل كل شيء إلى بياض. إن ثنائية «الثبات والتحول» تستدعي في وعي الباحث كل الثنائيات الذهنية. فيضع ما يكرهه منها إلى جانب «الثبات»، وما يحبه يضيفه إلى جانب «التحول». في ظل هذا الضوء الكاشف، والانحياز غير المنضبط تصبح ثورة القرامطة بمثابة ثورة تحويلية على مستوى الوعي «كان مُنظِّرُو القديم يصدرون عن القول بأن الوعي (الدين) هو الذي يحدد الحياة، أما مُنَظِّرُو الجديد (القرامطة) فكانوا يصدرون عن القول بأن الحياة، على العكس، هي التي تحدد الوعي. كان الأول يرون أن التاريخ هو تاريخ الوعي، أي تاريخ الدين واللغة، بينما كان الآخرون يرون أنه تاريخ الحياة الواقعية، وتاريخ الصراع الحي بين طبقات المجتمع، وأنه بدءًا من هذه الحياة الواقعية يَتحدَّد الوعي: وعي الماضي كله، كموروث ووعي الحاضر. وبفضل الحركة الثورية يمكن القول إن وعي التاريخ العربي أصبح يقوم على اعتباره نموًّا متدرجًا من وضعٍ أدنى إلى وضع أعلى، وليس العكس، كما كان يَتصوَّر مُنظِّرو القديم. وعلى هذا فإن الحاضر مُتقدِّم على الماضي، ولا شك أن المستقبل سيكون أكثر تقدمًا» (١: ٦٩-٧٠). هذه الثورة على مستوى الوعي والمفاهيم كانت كفيلة — لو صحت — أن تُغيِّر بنية الذهن العربي في اتجاه التحول. إن مثل هذا التأويل والفهم يغفل قانون التاريخ، ويحيل الأمور إما إلى أسود قاتم (الثبات) أو إلى أبيض شفاف (التحول).
وتبدو مسألة الخروج باعتبارها ثورة — في نظر المؤلف — واضحة في تصوره لإنجاز ابن الراوندي والرازي اللذين نَقدَا النبوة على أساس عقلي. إن الفارق بين المعتزلة وبين هذين المفكرين، أن العقل عند المعتزلة «لم يَنْفِ في تفسيره ظواهر الطبيعة، الفعل الإلهي المستمِرَّ المباشر في الطبيعة بحيث استمر القول بأن لكل ظاهرة طبيعية سببها الإلهي (لا الطبيعي)، وتبعًا لذلك لم يَنفِ المعجزة، والسبب الثاني هو أن العقل ظلَّ إيمانًا — أي ظل ينطلق من مقدمات شرعية يفرضها صحيحة لا شك فيها. وهذا يعني أنه ظل أسطوريًّا، بمعنًى ما، بعيدًا عن التجريب وهكذا بقي العقل في اللغة — الذهن، لا في الطبيعة — التجربة، أي إنه بقي فوقيًّا فلا يَتغيَّر أو ينمو عَبْر التجريب وصناعة الأشياء وممارستها، وإنما يتراكم تعليميًّا. إنه عقل يهدف إلى التأثير على الإنسان، لا على الطبيعة، فالعقل العربي وليد التدين لا التجريب، إنه ابن الله والوحي. وليس ابن الإنسان والطبيعة» (١: ٨٨). أما الرازي وابن الراوندي فقد نَقدَا النبوة بالعقل، أي إنهما أقاما العقل مقام النبوة، وصار العقل بديلًا للوحي بعد أن كان في خدمته عند المعتزلة. إن هذا الفارق بين المعتزلة وهذين الفيلسوفين فارق أساسي وهام، ولكنه لا يعني أن هذين الفيلسوفين كانَا مُلحدَيْن. لقد حل العقل — عندهم — محل الوحي، ولكن محتوى معرفته يظل دينيًّا. إن الباحث يربط ربطًا ميكانيكيًّا بين نقد الوحي وبين الإلحاد وبالتالي تعلو نَبْرته الحماسية؛ لأن الإلحاد هو خروج على النَّسَق الديني للمجتمع، «وإذا كان الإلحاد نهاية الوعي فإنه بداية موت الله؛ أي بداية العدمية التي هي نفسها بداية لتجاوز العدمية. والواقع أن هذا النقد للوحي لم يكن إلا نقدًا للسياسة. فنَقْد السماء هنا إنما هو نَقْد للأرض. وهذا النقد لا يتناول مبادئ وأفكارًا وحسب، وإنما يتناول أيضًا النظام الاجتماعي — السياسي بمقدار ما يعكس هذه الأفكار والمبادئ ويمثلها» (١: ٩٠). هنا يُوحِّد المؤلف بين نقد الوحي والسياسة ويَعتَبِر أن نَقْد هذين الفيلسوفين للوحي كان نقدًا للنظام الاجتماعي. إن الإلحاد هو بداية العدمية، والعدمية — في نظر الكاتب — مرحلة انتقال، وسرعان ما يمكن تجاوزها. إنها نقطة الالتقاء بين عنصر ينتهي وعنصر يبدأ، أو هي «العتمة التي تخيم على الماضي وقيمه كلها لحظة نستشف أن وراء العتمة شمسًا جديدة» (٣: ١٧٩). فالعدمية بداية وعي جديد. بمعنى أن نقد الوحي — عند الرازي وابن الراوندي — كانت وعدًا بوعي جديد، وانتهاء للوعي القديم. إنها — بهذا الفهم — تساوي الوعي الجديد الذي خلقته الحركة القرمطية على مستوى التاريخ (١: ٦٩-٧٠).
لكن الباحث سرعان ما يحس أن حماسه لا يقوم على أساس موضوعي، ومن ثم يُطامِن من هذا الحماس وينقد فكر هذين الفيلسوفين، ولكنه لا يَتخلَّى عن تَصوُّره بأنهما كانَا يؤسِّسان فكرًا إلحاديًّا «على أن هذا النقد (نقد النبوة والوحي) ظل عقليًّا، لم يرافقه نقد لأوضاع الإنسان ومشكلاته. فقد كان الإلحاد الذي يصدر عنه إلحادًا عقليًّا ولم يكن إلحادًا نضاليًّا. ولهذا تنحصر أهميته في القول بتحديد آخَر لماهية الإنسان، انطلاقًا من التوكيد على أن هذه الماهية ليست في الوحي بل في العقل. كان هذا النقد، بتعبير آخر، تقويضًا للدين ولم يكن تقويضًا للأساس الذي يقوم عليه» (١: ٩٠-٩١).
إن أسباب هذا التوحيد بين مستويات مختلفة من الفكر يكمن في رؤية الباحث للتراث. هذه الرؤية التي تراه في ضوء انفصالية ثنائية هي ثنائية «الثبات/التحول أو الاتباع/الإبداع». ورغم وعي الباحث النظري بجدلية العلاقة بينهما، فإنه — عمليًّا — لم يستطع الكشف عن هذه الجدلية. والسبب في التناقض بين وعي الباحث النظري وفكره — كما ظهر من تحليلنا — نابع من تصوره للواقع الراهن وتصوره لعلاقة الحاضر بالماضي. لقد وَحَّد في رؤيته للحاضر بين الثقافة السائدة والموروث، ومن ثم اعتبر الإبداع هو الخروج الكامل عن كل موروث. وانعكست هذه الرؤية على رؤيته للماضي ففصل بين عناصره. ووحد — داخل كل عنصر — بين اتجاهات عديدة كان الكشف عنها كفيلًا بتعميق الدارسة. إن رؤية التراث في ضوء «الثبات/التحول» (وهي كذلك رؤية الواقع) حجبت عن الباحث رؤية الفروق الدقيقة في كل من الماضي والحاضر على السواء. هذا بالإضافة إلى أن تصور الباحث للعلاقة بينه (الحاضر) وبين التراث، أوقعه في مهاوي الانتقائية والتحيز غير المنضبط منهجيًّا.
ومع ذلك كله، فلا شك أن هذه الدراسة خطوة على طريق الوعي الجديد بعلاقتنا بالتراث. خطوة يتمثل إنجازها الحقيقي في إدراك العلاقة بين عناصر هذا التراث ومستوياته. وهذه الدراسة، وإن تكن وحدت بطريقة ميكانيكية أحيانًا هذه المستويات، قد لفتت الانتباه بشدة إلى هذه العلاقة. ويبقى أن تتأصل العلاقة بين هذه المستويات من خلال هذا الوعي الجديد.
Gadamer, H. G., Truth and Method, New York, 1975, pp. XVI–XXVI.
وانظر له أيضًا:
Philosophical Hermeneutics, pp. 9-10.
نفس الظاهرة نلمسها في الجزء الثاني (تأصيل الأصول) حيث يحتل مبحث اللغة والشعر بمستوييه ٤٠ صفحة ويحتل مبحث الجدل على مستوى اللغة والشعر فصلين كاملين، حوالي ٦٥ صفحة. وبذلك يكون عدد الصفحات التي خصصت لهذا المستوى في الكتاب الثاني ١٠٥ صفحة، ما يقترب من نصف حجم الكتاب الذي تبلغ عدد صفحاته ٢١٤ صفحة، ويكاد الكتاب الثالث (صدمة الحداثة) أن يُخصَّص بأكمله لحركة التجديد الشعري بدءًا من النهضة، وحتى الحركة الشعرية المعاصرة التي يعد الكاتب واحدًا من رُوَّادها.
وجدير بالملاحَظة أيضًا أن التوازن على مستوى اللغة والشعر وحده يميل في اتجاه المَنْحى الإبداعي على حساب المنحى الاتباعي.
Corbin, Henry, Creative Imagination in The Umisa of Ibn—Arabi Bollingen Serics XCI, Prinston P. 52, 55.