الذاكرة المفقودة والبحث عن النص

صدر كتاب «الذاكرة المفقودة» لإلياس خوري عن مؤسسة الأبحاث العربية - لبنان عام ١٩٨٢م. وإلياس خوري روائي، صدرت له مجموعة من الروايات، كما أنه في الوقت نفسه ناقد ظهرت له مجموعة من الدراسات هي: «تجربة البحث عن أفق: مقدمة لدراسة الرواية العربية بعد الهزيمة، مركز الأبحاث الفلسطينية؛ بيروت، ١٩٧٤م. وفي عام ١٩٧٩م صدرت له «دراسات في نقد الشعر» عن دار ابن رشد في بيروت. ثم أخيرًا ظهرت هذه الدراسة التي نتناولها هنا بالتحليل والمناقَشة.

ونتساءل في البداية: ما الذي يعنيه المؤلف على وجه التحديد من ذلك العنوان الغريب اللافت «الذاكرة المفقودة»؟ خصوصًا — والكتاب — إلا مقدمته حتى ص٢١ — مجموعة من المقالات النقدية التي تتناول أعمالًا أدبية تمتد لتشمل الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح، وهي مقالات نُشِرَت في المدة بين عام ١٩٧٢–١٩٨١م في مجلات عربية مختلفة. يحاول المؤلف في المدخل أن يحدد معنًى خاصًّا لجَمْع هذه المقالات المتناثرة في كتاب، هذا المعنى هو ما يسميه المؤلف الإعلان «عن نهاية مرحلة، محاولة للإشارة إلى جديد مُتلبِّس، إلى مرحلة تنتهي فيها المراجع الجاهزة أو شبه الجاهزة، وتعلن فيه الكتابة عن كونها مرجع نفسها، بمعنى أن الحاضر يجب أن يكون حاضرًا، وأن يُشكِّل من نفسه مرجعًا لقراءة الماضي واستشراف المستقبل.» (ص٩). من خلال هذا المعنى الذي يطرحه المؤلف لجمع هذه الدراسات المتناثرة في كتاب يمكن لنا أن نتحرك في تحليل مضمون الكتاب على مستويين: المستوى الأول يرتبط بالكتابة نَفْسِها في مستواها الإبداعي، ويرتبط المستوى الثاني بالكتابة في مستواها النقدي، فالنقد — كما يَقول المؤلِّف — «كتابة على الكتابة، ولغة على اللغة» (ص١١). ولأن الكتاب يُعلن انتهاء مرحلة، ويحاول الإشارة إلى جديد «مُتلبِّس» لم يَتَّضِح بعدُ، جديد تنتفي فيه المراجع الجاهزة والإسقاطات الخارجية على النص، لذلك فالكتابة — بمستوييها الإبداعي والنقدي — في أزمة. وليست أزمة الكتابة النقدية إلا مظهرًا لأزمة الكتابة الإبداعية، «فالنقد بوصفه لغة ثانية … لا يستطيع أن ينطلق إلا من إشكاليات اللغة الأولى؛ أي من النص نفسه. فتقوم عملية نقد النص باستدعاء مباشر لمعنى النص النقدي. فالنص الذي يفتح نفسه لإمكان أن ينشأ منه نقد عليه، يجب أن يكون نصًّا نقديًّا من حيث بنيته؛ أي يجب أن يكون نصًّا متعددًا، ويحتمل أكثر من قراءة واحدة، ويشارك في تأسيس لغة نقدية» (ص١١).

وإذا كانت الكتابة في مستوييها الإبداعي والنقدي قد أمكن توحيدها إلى هذا الحد حيث أشار المؤلف إلى المستوى الثاني باسم «نقد النص» وإلى المستوى الأول باسم «النص النقدي» فإن تحليل أزمة النقد وتحليل أسبابها ليس في حقيقته إلا تحليلًا لأزمة الإبداع. وإذا كان هذا التحليل يقودُ المؤلِّف إلى أزمة الثقافة العربية وأزمة الواقع العربي، فإنه يظل يتعامل مع الثقافة ومع الواقع بوصفهما نصوصًا. وهنا يَتَّسِع مدلول كلمة «النص» في استخدام المؤلف ليشير إلى مستويات مختلفة، تبدأ بالنص الأدبي بالمعنى اللغوي، وتنتهي بالواقع الذي يُعَد نصًّا بالمعنى السميوطيقي.

ونعود الآن إلى سؤالنا الذي طرحناه عن معنى هذا العنوان الغريب اللافت «الذاكرة المفقودة» وعن علاقته بالدراسات النقدية. والواقع أن المقدمات التي مَهَّدْنا بها للإجابة عن السؤال تسمح لنا بطرح إجابة لا نجدها مطروحة في الكتاب بشكل مباشر، وإن كانت — في اعتقادنا — لا تخرج عن المعنى الذي حدَّده لها المؤلف من خلال الاستخدام السياقي.

١

تمثل الذاكرة على مستوى الإنسان الفرد جانبًا أصيلًا من جوانب شخصيته. إنها لا تعني مُجرَّد ذكريات الماضي بجانبيها الحلو والمُر، بل تعني في الأساس جماع الخيرات والتجارب التي تُشكِّل وعي الإنسان وتحدد قدرته على التعامل مع الحاضر الراهن، بل تمثل شروط التعامل مع هذا الحاضر، تلك الشروط التي تُعد أساس أية معرفة. وحين يفقد الإنسان ذاكرته، فإنه يفقد ذاته؛ لأنه يفقد الشروط الموضوعية التي تجعله يعيش الحاضر ويتعامل معه. وليست الذاكرة بالنسبة للجماعة إلا مجموع الخبرات والتجارب والتراث الذي نطلق عليه اسم «الثقافة» وهذا بالضبط هو ما يقوله المؤلف «يمكن للثقافة أن تُحدَّد بوصفها ذاكرة. في هذا التحديد تكون الثقافة خلاصة وتكثيفًا لتجربة تاريخية. والتكثيف هو جزء من الصراع بين القوى الاجتماعية على مَن يصوغ ذاكرة الحاضر كي يستطيع صياغة ذاكرة المستقبل، أو كيف تُصاغ الذاكرة في الحاضر» (ص٢٦).

وليس التعرض لأزمة الثقافة العربية في القسم الأول من هذا الكتاب — أو لِنَقُل أزمة الذاكرة العربية أو فقدانها — إلا محاولة لتحليل أزمة النقد وتحليل أزمة الإبداع في الوقت نفسه، «عندما لا تكون الأزمة في النقد فقط، بل تكون في موضوعه أيضًا. وحين تشمل الأزمة اللغة الأولى (الإبداع) والثانية (النقد) فإنها تكون تعبيرًا عن أزمة اجتماعية ثقافية عميقة، تحتاج إلى تحليل يقوم بربط المستويات بعضها ببعض، واكتشاف تداخل علاقاتها» (ص١٢).

ولكن كيف صارت أزمة الثقافة هي أزمة النقد، وهي أيضا أزمة الإبداع؟ وبكلمات أخرى، كيف عَبَّر فقدان الذاكرة/الثقافة عن نفسه على مستوى النقد والإبداع معًا؟ يتحرَّك المؤلف في إجابته عن هذا السؤال من علاقة النقد الأدبي بغيره من العلوم، بادئًا بالنقد والتاريخ (ص١٢–١٤). والتاريخ النقدي (ص١٤–١٧)، والنقد في المجتمع (ص١٧–٢٠) ثم مأزق النقد/أفق النقد (ص٢٠-٢١). وتنتهي المقدمة التي عنوانها «النقد والنص النقدي». ثم يبدأ بعد ذلك القسم الأول بعنوان «في الثقافة العربية الحديثة» وهو مجموعة من المقالات سبق نشرها. المقالة الأولى بعنوان «الذاكرة المفقودة» (٢٥–٤٣) نُشِرَت في مجلة مواقف ربيع. والمقالة الثانية بعنوان «المثقف الحديث وسلطة المثقف» (ص٤٤–٥٤) وقد نشرت في «السفير» عدد ١٩٧٩/١١/٧م، وهي قراءة تحليلية لكتاب هشام شرابي «الجمر والرماد - ذكريات مثقف عربي). وهو الكتاب الصادر عن دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ١٩٧٨م. والمقالة الثالثة بعنوان: الديمقراطية والاستبداد الحديث (ص٥٥–٦٤)، وتناقش في جزء منها كتاب برهان غليون «بيان من أجل الديمقراطية - البنى السياسية الفكرية للتبعية والتخلف، ومأساة الأمة العربية» الصادر عن دار ابن رشد، بيروت ١٩٧٨م. وقد نشرت هذه المقالة في شئون فلسطينية، العدد ٨٠، ٨١، ١٩٧٨م. أما المقالة الرابعة فهي «الاحتراق حول الأسئلة» (ص٦٥–٧١)، وهي عن كتاب جورج خضر «ولو حكيت مسرى الطفولة»، الصادر عن دار النهار، بيروت، ١٩٧٩م، وقد نشرت المقالة في النهار البيروتية. وعنوان المقالة الخامسة «موت المؤلف» (ص٧٢–٧٦)، وقد نشرت في السفير، عدد ١٩٨٠/١٠/٥م. والمقالة السادسة والأخيرة هي «فضاء النثر» (ص٧٧–٨٩)، وقد نشرت في مجلة الطريق، العدد ٣، تموز ١٩٨١م.

إن المؤلف يطرح قضيته في المقدمة، ثم يترك للقارئ عناء البحث عن إجابة الأسئلة التي أثارها في تلك المقدمة، وذلك وسط تفاصيل واهتمامات تغطي نشاط المؤلف قرابة عشرة أعوام في الصحف والدوريات المختلفة. ويبدأ المؤلف وهو بصدد تحديد معنى فقدان الذاكرة من الواقع العربي المُتجسِّد العيني: الحروب اللبنانية «فالحرب الأهلية لم تَجْرِ على أرض الواقع فقط، بل كانت تجري في الذاكرة. كانت ذاكرتنا النهضوية الحديثة تُثْقَب ثم تُفتَّت مع الحرب وتحولها إلى حالة عربية شاملة، حرب الذاكرة التي تمحو الذاكرة. لم تصمد أي مقولات جاهزة، كانت النصوص تنهار والمؤسَّسات تنهار والذاكرة تنهار. كأن عصر النهضة كان هنا بجميع نصوصه واتجاهاته، يحاول أن يتدارك الصيغ والقيم التي صُنِعَت وسط معارك إنهاء السيطرة العثمانية. لكن الحرب لم تتوقف، والذاكرة لم تنقذ شيئًا، بل صارت هي موضوع المحاكمة. وبدا كأن الماضي القريب لا يحيل إلى شيء، وأن القوى الاجتماعية التي تنفجر من الداخل المُحصِّلة الفعلية للذاكرة التي حاولت أن تُحِيل نفسها إلى ذاكرة، فتركَتْنا وكأننا بلا ذاكرة.» (ص٢٦).

والواقع العيني الذي يعيشه لبنان بكل ما يصطرع فيه من قوى ليس إلا حالة عربية شاملة تنبِئ عن انهيار شامل لمشروع الحداثة العربي، ذلك المشروع الذي تَخلَّى عن الواقع في سبيل فرض النموذج الغربي الوارد، «فالمؤسسات بأسْرِها لم تكن مؤسسات تُشبه النمط الغربي أو أي نمط آخر، إنها مجرد أوانٍ صُنِعَت على عَجَل وانهارت وستنهار بسرعة. وعقلانية النفط هي اللاعقلانية المطلقة، فدولة الجيش لا تعني مجيء الحداثة العقلانية؛ بسبب كون المؤسسة الحاكمة هي أكثر المؤسسات حداثة واستيعابًا للتكنولوجيا» (ص٢٨).

هكذا كان مشروع الحداثة تحديثًا للدولة لا تحديثًا للمجتمع على المستوى السياسي، يستوي في ذلك مشروع محمد علي أو مشروع جمال عبد الناصر. داخل هذا المشروع اندرج كل شيء بما في ذلك الثقافة، التي كانت تنمو في الدولة ومن أجل بناء الدولة في الدولة؛ أي داخل الجهاز الحديث. «والدولة لم تَصِر دولة إلا بالجيش … ومع الجيش صارت نموذج توحد القوى الاجتماعية من الخارج، في سلطة تقع فوق المجتمع وتُعبِّر عن طموحاته المستقبلية» (ص٢٨). كان مشروع الحداثة في مرحلتيه يحاول تحقيق نموذج منقسم إلى نصفين: «نصفه الأول في عصور الازدهار العربي-الإسلامي، ونصفه الثاني في الغرب. وكانت خيارات الحداثة هي محاولة الجمع بين الماضي والماضي، ماضي العرب وماضي الغرب، كي يصاغ من الماضيين مشروع جديد هو الحاضر الذي يَتمرَّد على الانحطاط، ويدخل في العالم» (ص٣٠).

وبين الماضي والماضي، أو لِنَقُل بين النموذجين الغربي والعربي الإسلامي القديم، ضاع الحاضر، أو بعبارة أخرى ضاع النص لحساب نصوص أخرى، وانتهى الأمر إلى فقدان الذاكرة. وإذا كان النص الإبداعي الحقيقي هو الذي يتمثل في بنائه النصوص السابقة عليه ويتجاوزها طارحًا قوانينه الخاصة التي يُعاد توظيف النصوص القديمة من خلالها، فإن نص الحداثة تَخلَّى عن ذاكرته الخاصة لحساب إحدى الذاكرتين: ذاكرة الغرب، والذاكرة العربية القديمة.

قد يكون هذا التحليل لأسباب أزمة الثقافة تحليلًا لا غبار عليه من الوجهة العامة وإن كان يتناسى — أو لنقل يتجاهل في سبيل الحفاظ على تعارضاته الثنائية — أن الثقافة — وإن كانت في جوهرها انعكاسًا للواقع — لها استقلالها الخاص المتميز، ولها حركتها الذاتية النابعة من قوانينها من حيث هي ثقافة، والأدب الإبداعي بأشكاله المختلفة — وإن كان انعكاسًا للثقافة، وهو من ثم انعكاس غير مباشر للواقع — له إشكالياته الخاصة النابعة من طبيعة الأدوات التي تشكل عناصر بنائه. وأهمها اللغة — تلك الأدوات التي تعد عنصرًا مهمًّا فاعلًا في الثقافة بشكل عام. نقول إن الكاتِب يتجاهل تَعقُّد العلاقات وتفاعلها بين مستويات الواقع/الثقافة/الأدب. وتلك بالتحديد هي معضلة منهجه ومعضلة نتائجه الخطيرة فيما يرتبط بأزمة النقد وأزمة الإبداع معًا. وإنصافًا للكاتب نقول إنه حين يتعامَل مع النصوص ذاتها — ناقدًا تطبيقيًّا — يكشف عن وعي بخصوصية الأدوات. وعلاوة على ذلك فإنه في كتابه «دراسات في نقد الشعر» المشار إليه، يدرك فعالية اللغة كأداة في صياغة النص، فيعترف بأن الإعصار «الذي تعرض له كل شيء في الشرق لم يستطع أن يخترق تُخوم اللغة، بل أخضعها لانحناءات مُتعدِّدة. هكذا استطاعت اللغة أن تَستوعِب الترجمات دون أن تفقد على مستوى فنيتها — أي حين لا تكون فقط أداة اتصال «أي أداة ثقافية وهو أحد مستوياتها» بل مادة إبداع — علاقاتها الماضية وضوابطها، فاستطاعت أن تَنحني، وفي انحنائها استطاعت أن تَتجدَّد ليس فقط في الشعر، بل انطلاقًا من الشعر في جميع مجالات الكتابة» (ص١٣-١٤).

وإذا كانت اللغة من حيث هي مادة إبداع قد استطاعت أن تتجدد في الشعر، فقد استطاعت بالضرورة أن تُعبِّر عن نص الحاضر، بمعنى أنها لم تَظلَّ خاضعة لإطار الماضي الموروث، ولم تفقد فعاليتها أو تَتخلَّ عنها تحت وطأة الوافد الغازي. إن صمود اللغة وانحناءها ليس إلا تعبيرًا ثقافيًّا وإبداعيًّا عن الأزمة وعن محاولة تجاوزها في الوقت نفسه. ولو كان الماضي (بمستوييه الغربي، والعربي الإسلامي) قد اغتال الحاضر — كما يزعم المؤلف — لعَبَّر فقدان الذاكرة المزعوم عن نفسه بفقدان اللغة واستبدال لغة أخرى بها. أليست اللغة هي مادة الذاكرة وأداتها؟ أليست هي محتوى الثقافة ورمزها في الوقت نفسه؟!

٢

قلنا إن معضلة المنهج عند الكاتب تتمثل في المساواة بين مستويات ثلاثة هي الواقع/الثقافة/الأدب. وقد لاحظنا أن تحليله لأزمة الثقافة، الذي عَبَّر عنه بفقدان الذاكرة، تحليل يتجاوز قوانين الثقافة وفعاليتها الخاصة. وتَتجلَّى هذه المعضلة بدرجة واضحة حين يتعرض الكاتب لأزمة النقد. ومن المهم — أولًا — أن نحاول اكتشاف مفهوم الكاتب للنقد الأدبي ولوظيفته، ذلك أن هذا المفهوم هو الذي سيُحدِّد تَصوُّره لأبعاد الأزمة، وهو الذي سيحدد — من ثم — اقتراحات تجاوز تلك الأزمة.

يبدأ الكاتب — فيما يُعلِن عن نفسه — من ممارسة نَقدِيَّة تنطلق من النص الإبداعي أساسًا، ثم تقوم بربط هذا النص بالمستوى الأدبي العام، الذي هو جزء من المستوى الأيديولوجي، في سبيل الوصول إلى القدرة على ربط النص الإبداعي بالممارسة النقدية «دراسات في نقد الشعر، ص٥» ويلمح الكاتب إلى التوجه النقدي نفسه في مدخله للكتاب الذي نتناوله هنا، حيث يقول: «تندرج المقالات في إطار البحث داخل النص الأدبي نفسه، هذا لا يعني أنها مُتحرِّرة من أي نسق أيديولوجي، فكل تأويل نقدي يميل، بشكل أو بآخر، إلى مبنى أيديولوجي أو إلى منظور عام. لكن الطموح، هو أن تصل القراءة النقدية إلى شفافية اكتشاف التركيب البنائي للنص الأدبي، وفي عملية الاكتشاف هذه، لا يحاكم التأويل النقدي النص فقط، بل يحاكم أدواته نفسها.» (ص٩).

لكن هذا التوجه النقدي الواقعي الواضح سرعان ما يتهاوى أمام مفاهيم وتصورات للكتابة النقدية تتعارض مع تلك المنطلقات الأولية. ونقول إن هذا التوجه النقدي توجُّه واقعي؛ لأنه ينطلق من النص اولا، ولكنه لا يغفل — شأن النقاد النَّصِّيِّين — علاقة النص بمستويات أخرى خارجه، بمعنى أنه لا يتعامل مع النص بوصفه بناء مغلقًا من الدلالات، بل ينظر إليه بوصفه بناء مُتميِّز التركيب والدلالة، ينبع في تَشكُّله من أُطر خارجية، ويعود في دلالته مُشكِّلًا لهذه الأطر ومتفاعِلًا في بنائها وتركيبها. ونصف هذا التوجه النقدي بأنه توجه واقعي لأنه من جهة أخرى يدرك ما يمكن أن يقوم بين النص ونَقْدِه من تفاعُل أيديولوجي، عَبَّر عنه الكاتب في النص السابق بأن كل تأويل نقدي يميل إلى مبنى أيديولوجي أو إلى منظور عام.

من هذا المنطلَق الواقعي النقدي تكون الكتابة النقدية تحليلًا للنص وتفسيرًا له وتقويمًا، وهي في ذلك كله لا تغفل الشرط التأويلي ولا تتجاوزه أو تتجاهله. وإذا تحولت الكتابة النقدية إلى إبداع جديد دخلنا في منطقة تتجاوز توجه الكاتب الذي عبر عنه في النَّصَّيْن السابقين. ولكن هذا التجاوز واضح في نصوص كثيرة للكاتب، الأمر الذي يعكس تناقضًا في مفاهيمه النقدية. فالكتابة النقدية تساوي الكتابة الإبداعية، «وكما أن كل كتابة إبداعية هي بمعنى ما، استعادة لإبداع سبقها، وقراءة كتابة جديدة له في زمن آخَر، فإن كل نقد إنما يقوم باستدعاء كتابات نقدية سابقة، ويعيد إنشاءها داخل نص جديد. هذه العملية المُعقَّدة لا تعني أننا داخل حلقة من الاستعدادات، بل على العكس من ذلك، تعني أن الاستعادة تُعيد إنتاج السابق عَبْر هدمه في لغة الحاضر التي تعيد بناءه» (ص١١). وإذا كان الكاتب يعترف أحيانًا بأن نقدًا لنص لا يستطيع أن يكون أن يكون مستقلًّا عن النص نفسه «ما دام يبدأ من داخله أساسًا، كما سبقت الإشارة»، بصرف النظر عن البعد التأويلي الذي يُعبِّر عن أيديولوجية الناقد، فإنه في أحيان أخرى كثيرة يَتحدَّث عن زمن النص وزمن الكتابة النقدية. والحديث عن زَمانين مختلفين يعني الحديث عن إطارين من الرُّؤية مختلفين، وتتحول الكتابة النقدية إلى ما يشبه الإبداع الذي يعيد صياغة النص الأدبي بوصفه نصًّا ينتمي إلى الماضي «زمن القصيدة هو الماضي، إنه جَسَدُها الذي نقرؤُه أو نسمعه وقد انتهت صياغته. أما زمن الكتابة النقدية فهو الحاضر. إنه لا يستعيد ماضيًا، بل يأخذه حاضرًا في اللحظة ذاتها. من هنا ينكسر المنطق إلى نصفين: نصف للماضي ونصف للحاضر. ويأتي النص الجديد، الكتابة النقدية، وكأنه لا يضيف شيئًا بل يحاول فقط أن يقول ما لا يستطيع الشاعر قوله، أو ما نعتقد أنه لا يستطيع قوله. هذا المنطق المكسور، يحكم كل كتابة نقدية. إنها إدراج لنص جاهز في حركة نص لم يجهز بعد، تكسر منطق الشعر في تبويبه الجديد، وتقدم إشكالية قراءة مختلفة.» «دراسات في نقد الشعر» (ص٦١).

وإذا كانت الكتابة النقدية — كالكتابة الإبداعية — تبدأ من النص لتتجاوزه، فمن الطبيعي أن ينكر المؤلف وظيفة النقد بوصفه جسرًا بين الشاعر والقارئ. فهذا الجسر — فيما يرى المؤلف — ليس بحاجة لوصاية أحد.

هذا التناقض بين التوجه النظري النقدي للمؤلف وتصوره لماهية الكتابة الإبداعية يعبر في ذاته عن أزمة المثقف التي تعرض لها المؤلف في إحدى مقالاته (ص٤٤–٥٤) حيث يقول: «المثقف الحديث هو إذن «خواجة» أي مثقف يستند على اعتراف خارجي (مقاييس جديدة) بثقافة. يتكلم لغة أجنبية يُرْهِب بها الآخَرِين. يخيفهم، يستند إلى قاعدة اجتماعية حديثة. أصبح المثقف هو المتلقي والمُعمِّم لأفكار «كونية» لا تجد لها إلا أرضية هشة في واقع تنخره الهيمنة الاستعمارية، وتنخره الطبقات والفئات الطفيلية التي تَسلَّقَت السلطة الهيمنة وبها» (ص٤٨) وهذا التوصيف لأزمة المثقف ينطبق تمامًا على تصورات المؤلِّف النقدية، فكيف نعزل الكتابة النقدية عن القارئ؟ وكيف ننكر أن تكون جسرًا يساعد القارئ على فهم العمل وعلى تَلقِّيه؟ ألسنا بذلك نقع في تعميمات كونية تتجاهل ظروف الواقع التي يُعَد المتلقي القارئ أهم طرف فيها ونحن نتحدث عن الكتابة النقدية؟! وإذا كان الناقد يكتب انطلاقًا من النص الأدبي ويحاول أن يربطه بسياقه الأوسع، فهل يكتب لمتعة الكتابة ذاتها، أو يكتب لقارئ لا يستطيع تجاهل ظروفه الموضوعية؟!

كل هذه أسئلة وإشكاليات تُعبِّر عن أزمة المثقف كما تعبر عن أزمة النقاد الذين يعلنون موقفًا التزاميًّا من الواقع ومن قضايا الجماهير، ثم يقعون بوعي أو بدون وعي في أَسْر مفاهيم وتصورات تتناقض مع ذلك الموقف الالتزامي المعلن، وتشده — من ثم — إلى متاهات الاغتراب والتغريب، فيتحول المثقف إلى سُلطة مهمتها «حجب الواقع وتقديم صورة مشوهة مأخوذة من مرايا ماضي المستقبل» (ص٥٣). والمؤلف ينتمي إلى هذا النمط من المثقفين، ويعبر بكتاباته النقدية عن الأزمة ذاتها التي أسهب في تحليلها وفي تحليل أسبابها، دون أن يتجاوز إطار التحليل الخارجي، ودون أن يضع نفسه داخل «زمرة» المثقفين الذين يحلل أزْمَتَهم.

٣

ولا يقف تعارُض المؤلف مع منطلقاته الأساسية عند حدود التسوية بين الكتابة النقدية والكتابة الإبداعية، بل يتجاوز ذلك إلى نفي الوظيفة الثقافية الاجتماعية للنص الأدبي كما نفاها عن الممارسة النقدية. وإذا كانت عناصر عملية الإنتاج الأدبي في المفهوم الواقعي؛ هي: الواقع والأديب والنص والمتلقي بما يحمله كل عنصر من هذه العناصر من قوانين وأبعاد ذاتية تتفاعل مع باقي العناصر في إنتاج دلالة النص وفي إنتاج تأويله ونقده، فإن المؤلف يقف عند حدود النص، وتظل إشاراته للواقع وللأديب وللمتلقي من قبيل الإشارات الزاعقة التي تَعتمِد على الوثب والربط الميكانيكي بين هذه المستويات. وكما نظر إلى النقد بوصفه إبداعًا جديدًا وإن نشأ من النص، فكذلك يحاول نفي الأديب لحساب النص. «في (ألف ليلة وليلة) كما في كل الأعمال الكبرى التي تأتي كشكل للتجربة التاريخية، يغيب المؤلِّف في النص ويُمْحَى، ويتحول النص إلى إمكانات تأويل لا حدود لها.» (ص٧٣).

ولا بأس لو كان معنى غياب المؤلف في النص وانمحائه أن يكون ذا وعي حادٍّ شامل وذا رؤية أدبية جمالية راقية تتجاوز حدود الذات — بالمعنى الرومانسي — إلى أفق إنساني. وليست «ألف ليلة وليلة» التي يستشهد بها الكاتب صنيع كاتِب أو إبداع أديب، وتلك إشكالية أخرى على أي حال، مجالها الدراسات الأدبية الشعبية. وعلى الرغم من أن المؤلف — كما سبقت الإشارة — يرى أن للعمل الأدبي بُعْده الأيديولوجي، الذي ليس إلا انعكاسًا لأيديولوجية الكاتب المبدع، فإنه يحلم بأن يشهد أعمالًا أدبية ينمحي فيها المؤلف ويغيب، أو يموت. (نعود إلى ألف ليلة وليلة» لأننا نشهد اليوم موت المؤلف وموت النبي/الشاعر. من يستطيع أو يجرؤ أن يقول إنه يستطيع أن يُعبِّر أو يلتقط هذا الركام؟! من يستطيع أن يبحث عن موضوع أو عن فكرة أو إطار لكتابته، والمواضيع مكدسة في طرقات المدن؟ (راجع تعليق الكاتب على عبارة الجاحظ: المعاني مطروحة في الطريق.) في «دراسات في نقد الشعر» (ص١٢–١٤)، والكتابة عاجزة عن أن تكون شَكلًا، والمؤلف ضائع بين أن يعيش في ماضيه، حيث كانت أحلام أو أوهام الكتابة هي أن تكون مبشرًا وداعية، وأن يعيش هذا التراكم المدهش والقاتل لكثافة التاريخ المعاش ومأساويته، كأننا أمام كل الأزمنة وهي تختلط وتتهيَّأ لتعلن شيئًا آخر لم نألفه، وكأننا أمام الفوضى التي يبدأ منها كل شيء. لذلك يغيب الكاتب-المؤلف، لم يَعُد هناك دور أو إمكانية أو معنى لكي تكون كما كنت في الماضي، ولم يَعُد هناك من إمكانية للتعامل مع النص إلا بوصفه نصًّا بلا حدود، شكلًا لا يحدد الأشياء ولكن يتشكل فيها، يترك للفوضى وللغموض وللحدس أن يقول، وتختفي سلطة الكتابة في لا سلطة هذا الشكل الغامض والجديد من الكتابة» (ص٧٣-٧٤).

تأكيد كلمة «يحلم»، تعبيرًا منا عن تصور الكاتب لعلاقة الأديب بالنص، أمر مهم فما معنى أن الكاتب «يحلم» بوجود أعمال أدبية ينمحي فيها المؤلف ويموت؟! وما قيمة هذا العمل المفترض ذهنيًّا وما دلالته؟ الحلم هنا نابع من نمط من التفكير القائم على التَّمنِّي لا على تحليل معطيات الأزمة واستكناه حلها. وما دام الكاتب قد ساوى بين مستويات الواقع/الثقافة/الأدب، ثم بدأ من مأساة الواقع اللبناني العربي، فلا بد أن تنسحب مظاهر الأزمة — ميكانيكيًّا — من الواقع السياسي الاجتماعي إلى المستوى الثقافي، وتنسحب أيضًا إلى المستوى الإبداعي الأدبي. وتتجلى الأزمة على مستوى الإبداع في حالة من الضياع عَبَّر عنها الكاتب بأن المواضيع مكدسة في طرقات المدن والكتابة عاجزة عن أن تكون شكلًا. والمؤلف أو الأديب — فيما يرى الكاتب — ضائع لا يعرف له دورًا، حيث سقطت أدواره السابقة، دوره في التراث بوصفه داعية القبيلة والمُعبِّر عنها، ودوره في مشروع الحداثة باعتباره جزءًا من مشروعها الذي سقط. وفي حالة الضياع هذه، لا حلَّ عند الكاتب إلا أن يموت المؤلف وتَختفي سُلطة الكتابة. تعبير الكاتب عن حله، واستشهاده بألف ليلة وليلة، يدخل في منطقة الحلم، ما دام كل شيء قد وصل — في وعي الكاتب — إلى حالة من الفوضى والعدمية عَبَّر عنها على المستوى السياسي «بسقوط النظام»، وعلى المستوى الثقافي «بفقدان الذاكرة»، وعلى المستوى الأدبي «بموت المؤلف».

والحل الذي يطرحه علينا الكاتب — أو حلمه على الأرجح — هو حل مُستورَد، إذا سمحْنَا لأنفسنا باستخدام هذا التعبير. وهذا الحل يعكس أزمة الكاتب التي يشترك فيها مع كثير من المثقفين الذين وعى أَزْمَتهم وأخرج نفسه من بينهم. ما الذي يعنيه مفهوم «موت المؤلف» وإعطاء مركز الصدارة للنص بوصفه شكلًا وتشكيلًا؟ ألا يعني ذلك عودة صريحة ومباشرة لمفهوم النص الأدبي في مفاهيم الشَّكلِيِّيِن والنَّصِّيِّيِن الغربيين بوصفه البدء والمعاد؟! ألا يقودنا هذا إلى مفهوم النص بوصفه نظامًا مغلقًا من الدلالة، لا علاقة له بما هو خارج عنه في الثقافة والواقع. إذا كان هذا المفهوم الغربي لموت المؤلف، واستبقاء الشكل، مرتبطًا بأيديولوجية تبريرية للنظام الرأسمالي الاستعماري، ألا يُعد استيراده حلًّا لأزمة الإبداع العربي وقوعًا في أَسْر التَّبعِيَّة وتجاهلًا متعمدًا لمعطيات الواقع ولظروفه؟! ثم أليس هذا كله أخيرًا تكريسًا للضياع والتشتت، و«فقدان الذاكرة» الذي وعَدَنا المؤلِّف في صدر كتابه بتحليل أسبابه وصولًا إلى تجاوُزه؟! وإذا كان الحل ذاته يعود لتكريس المعضلة وتعميق الأزمة، فمِن حقنا أن نستنتج أن تحليل الكاتب للأزمة ذاتها ولأسبابها يعتمد على مفاهيم وتصورات تحتاج في ذاتها إلى التعديل وإعادة النظر.

٤

إذا كان الإبداع الأدبي العربي يعاني أزمة ربطها الكاتب بأزمة الثقافة، وربط أزمة الثقافة بدورها — ربطًا ميكانيكيًّا — بأزمة الواقع، فإن النَّقْد العربي — الذي هو كتابة على الكتابة — يعاني بدوره أزمة تحتاج للتحليل الذي يقودنا بدوره إلى الحل.

وإذا كان الكاتب قد بدأ كتابه بتحليل أزمة النقد، وصولًا إلى تحليل أزمة الواقع، فإننا في هذا العرض عَكَسْنا الوضع فبدَأْنا بأزمة الواقع، ثم عرَضْنا لأزمة الثقافة، ووقَفْنا — ثالثًا — عند أزمة الإبداع. وقد كان هذا القلب في الترتيب مُهمًّا بالنسبة لنا؛ لأنه ساعدنا على الكشف عن ترابط المفاهيم المُفرَّقة على صفحات الكتاب بحُكْم كونه مجموعة من المقالات التي سبَق نشرها. أضِف إلى هذا أن عملية القلب هذه قد ساعدتْنا في بلورة مفاهيمنا التي نناقش المؤلف من خلالها، بحيث تظل المسافة بين مفاهيمنا ومفاهيمه واضحة لا تسمح بالاختلاط، وإن كانت تبرز بعض نقاط التلاقي وتؤكدها.

ولا شك أن النقد العربي يعاني أزمة هي جزء من أزمة الإبداع ومن أزمة الثقافة ومن أزمة الواقع، بمعنى أن هناك قانونًا ما يحكم هذه المستويات ويلقي بظله على كل منها. وإذا كان الواقع ليس مُعطًى موضوعيًّا ساكنًا موحَّدًا، بل هو حركة نشطة من التفاعل والصراع بين قوى اجتماعية ذات مصالح مختلفة وأيديولوجيات متعددة متعارضة ومتصارِعة أحيانًا، فإن التعبير الثقافي لهذا الواقع يخضع بالضرورة لهذا التعدد والتعارض والتصارع. ومن هذا المنطلق يصعب الحديث عن أزمة واحدة عامَّة شاملة، سواء على مستوى الواقع أو على مستوى الثقافة أو على مستوى الإبداع والنَّقْد. والتعميم في هذه الحالة ضارٌّ؛ لأنه لا يرى إلا الواقع المسيطر المهيمن؛ أي لا يرى إلا من خلال أيديولوجية سكونية ثبوتية هي بالضرورة أيديولوجية الطبقات المسيطرة التي لا ترى فعالية إلا لثقافتها، وتريد أن تحجب — عن عمد أيديولوجي — ما يتعارض معها سياسيًّا وثقافيًّا وإبداعيًّا ونقديًّا.

من هنا يصعب الحديث عن أزمة واحدة في النقد العربي الحديث. هناك أزمة … نعم، ولكنها ليست أزمة واحدة نصل إلى حلها بضرب من التَّوهُّم، فالواقع العربي الراهن — على مستوى الإبداع والنقد — ليس كتلة واحدة، بل هو تيارات ومناهج مُتعدِّدة بتعدد القوى التي تتبناها وتقف خلفها. وليست أزمة هذا التيار والمنهج في التعامل مع الواقع الأدبي والثقافي هي نفسها أزمة ذلك التيار. ولعل المنهج النقدي الواقعي — الذي يتبناه كاتب هذه السطور — يعاني أزمة، لكنها أزمة لا يمكن توحيدها بأزمة اتجاهات أخرى في الواقع النقدي كالبنيوية مثلًا. أزمة المنهج الواقعي تنبع من حاجته إلى التأصيل والتعميق الذي يمكنه من زيادة فعاليته في التعامل مع النصوص، أما أزمة البنيوية فتكمن في مظاهر أخرى أهمها الغُربة عن واقع الإبداع العربي والثقافة العربية.

هذه مقدمة تضع أساسًا منهجيًّا لمناقشة أزمة النقد، وهو أساس غاب تمامًا عن رؤية مؤلِّف كتابنا، فراح يفتش عن أزمة النقد في بعض العلوم اللصيقة الصِّلَة بالنقد الأدبي كعلم التاريخ، ثم قاده هذا لمناقشة التاريخ الأدبي، وانتقل مباشرة إلى أزمة النقد في المجتمع، التي هي أزمة النظم السياسية التي تدعي الديمقراطية في عالمنا العربي. ويحدد الكاتب مَظاهر الأزمة — أزمة النقد الأدبي — في بُعدين: أولهما الخضوع للمفاهيم النقدية العربية، أو للمفاهيم النَّقدية العربية الكلاسيكية. وثانيهما: الخضوع للسلطة السياسية، والارتماء في أحضانها، والعمل في خدمتها وتحت هيمنتها.

ونلاحظ أن البُعد الأول للأزمة يمثل الثنائية التي انطلق منها الكاتب في تحليل أزمة الثقافة وأزمة الواقع معًا. وما دام المشروع القومي — مشروع الحداثة — قد انهار لأنه تجاهَل الواقع وبحث عن نموذجه في الخارج المتمثِّل إما في الغرب وإما في الماضي التراثي، فقد آنَ الأوان — فيما يرى — أن «نكتشف كيف أن سِحْر الغرب الخفي ليس إلا وهْمًا، وأن استعادة تاريخ العالم لا تكون إلا باكتشاف التاريخ المحلي. كما نكتشف أيضًا أن النص السلفي الكلاسيكي ليس حلًّا، ولا يستطيع أن يقود إلى الحل، بل الحل هو الذي سيعيد اكتشافه واختراقه وتنظيم دلالته، وأن استعادة النص الماضوي هي حل مُؤقَّت وتعبير عن مأزق الحل الآخر. وعندما يتهافَت الحل يتهافت ردُّ فعله أيضًا، ويكشف عن أنه ليس أكثر من عقبة تفرض علينا إعادة قراءة الماضي وترجمته إلى واقعنا المعاصر» (ص٢٠). ونحن بالقطع من المؤلف في أن الواقع هو المبدأ والمعاد، فمن خلال تحليله وفهمه تصحُّ علاقتنا بالتراث كما تصح علاقتنا بكل ما هو خارج عنَّا. وحين تصح العلاقة يتفاعل الماضي بالحاضر ويتفاعل الخارجي بالداخلي. لكننا يجب أن نفهم أن الواقع ليس موحَّدًا، ومن ثم فعلاقتنا بالماضي والخارجي لا يمكن أن تصح بمجرد النية ورَدِّ الفعل، وإنما تصح لو صح الواقع نفسه، وانتفت عنه علاقات الاستغلال، وانتفى التعارُض بين السلطة والجماهير.

ويرتبط البُعد الثاني لأزمة النقد بأزمة المُثقَّف الذي وضعته الدولة — في مرحلة المشروع القومي — داخل مشروعها، وأَوهَمتْه أنه مُعبِّر عنها باعتبارها شكل الحداثة الوحيد والممكن. وحين فشل المشروع استغنت عنه ولم يَعُد يرضيها منه سوي تبرير سيطرتها وهيمنتها واستغلالها. «ليس أمام النقد سوى أن يعلن أزمته كي يكتشف آفاقه. فليس أمام الكتابة العربية سوى أن تعلن، وللمرة الأولى في العصر الحديث، انفصالها عن جهاز السُّلطة، وعن سُلطتها السحرية الماضوية اللغوية، وارتمائِها في أحضان التاريخ. فالكتابة التي تشير إلى أزمة الذاكرة النهضوية، وضرورة التَّخلُّص من علاقاتها المواربة، المتواطئة مع سُلطة القمع، لم يَعُد لها أي مكان؛ لأنها صارت اجترارًا لما اختبرنا فيه العجز والانحطاط» (ص٢٠). في هذا البعد يقترب المؤلف من أفق التحليل الصحيح أو يكاد، فالتعارُض بين السُّلطة والجماهير في عالمنا العربي يعكس تعارُض مصالح على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وهذا التعارُض ينعكس على المستوى الثقافي، ويتجلَّى في أزمة النقد والإبداع معًا. وإذا كان المثقف قد خُدِع في السُّلطة في مراحلها السابقة فاستخدَمتْه بعد أن ظن أنه سيغير الواقع من خلالها، فقد آنَ الأوان أن يدرك المثقفون أن ذلك كان وهمًا، وأن مسئوليتهم الحقيقية تَنبُع من مسئوليتهم في إبداع ثقافة حقيقية علمية، تُعبِّر عن الجماهير، وتَتبنَّى آمالهم وطموحاتهم.

والبُعدان الأول والثاني غيرُ منفصلين على أي حال، فالدولة في إبَّان مشروعها القومي التَّحديثي نظرَت للنموذج الغربي، لكنها حاولَت أن تَتوسَّط بين هذا النموذج والنموذج التراثي. وحين فشل المشروع لأسباب كامنة في طبيعة الدولة ومؤسساتها، تَحوَّلت الدولة إلى النموذج الغربي تابعة. ومعنى ذلك أن انكشاف وَهْم سِحْر الغرب على المستوى الثقافي والفكري يُؤدِّي بالضرورة إلى حتمية انفصال المُثقَّف عن السُّلطة وعن التبعية لها. والعكس صحيح أيضًا، فكل مَدخل من المدخلَين يفضي إلى الآخر بالضرورة؛ لأنهما — في التحليل العلمي — وجهان لعملة واحدة.

لا نريد الإطالة بتكرار ما قلناه عن ضرورة عَدم توحيد الاتجاهات، أو الربط الميكانيكي بين المستويات المختلفة والمتعددة، ويكفي أن نشير إلى أن المؤلف حين ساوى بين أزمة النقد وأزمة الواقع، سحب أسباب هذه الأزمة أيضًا إلى العلوم اللَّصيقة بالنقد الأدبي. وعلى الرغم من كثرة العلوم المساعدة للناقد كثرةً تَنِدُّ عن الحصر، فقد شاء المؤلف أن يتوقف عند عِلْم التاريخ، والتاريخ الأدبي، ثم المشكلة السياسية التي اختزلها في مشكلة الديمقراطية. لم يناقش المؤلف مثلًا أهمية العلوم اللغوية بالنسبة للناقد، وهي العلوم الأكثر التصاقًا بأداة الأدب وطبيعته، ولم يناقش مثلًا عِلْم النفس والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع … إلخ تلك العلوم الكاشفة عن جوانب عملية الإنتاج الأدبي، وكلها علوم مهمة بالنسبة للناقد. ولعل طبيعة المقالة — كونها مُقدِّمة لمجموعة من الدراسات التي سبق نَشرُها — هو الذي حصرها في هذا الإطار.

وحين يتحدث المؤلف عن النقد والتاريخ يتضح للقارئ أنه قد انحرف — كعادته — عمَّا وعَد القارئ به. لقد وعَدَنا بأنه سيقدم تحليلًا يربط المستويات المختلفة بعضها ببعض: «عندما لا تكون الأزمة في النقد فقط، بل تكون في موضوعه أيضًا. وحين تشمل الأزمة اللغة الأولى والثانية، فإنها تكون تعبيرًا عن أزمة اجتماعية — ثقافية عميقة، وتحتاج إلى تحليل يقوم بربط المستويات بعضها ببعض واكتشاف تداخل علاقاتها» (ص١٢). وهذا وَعْد لم يتحقق؛ لأن المؤلف يتحدث عن «النقد والتاريخ» ويعني بالنقد الفكر النقدي لا النقد الأدبي بالمعنى الاصطلاحي المفهوم. ولذلك يتوقف عند كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» وكتابه «على هامش السيرة» أو لِنَقُل بالأحرى يشير إليها، لينتهي بذلك إلى أن محاولات الليبراليين — الذين يمثلهم طه حسين — كانت محاولات هَشَّة لم ترتبط بِتحوُّل اجتماعي عميق، ولذلك تَراجَع طه حسين عن موقفه النقدي من التاريخ، وعاد إلى التصالح معه في «على هامش السيرة». ثم ينتقل المؤلف إلى مقدمة أدونيس لديوان الشعر العربي، التي تقدم قراءة داخلية للشعر العربي في علاقاته بالهموم الإنسانية المعاصرة.

وفي حديثه عن التاريخ النقدي، يتحدث عن انقطاع المحاولات وعدم استمرارها، «حتى إننا لا نستطيع أن نكتشف خيطًا من التطور الداخلي الذي يصل بين أطراف أحد اتجاهات النقد العربي الحديث.» (ص١٤-١٥). ويضرب مثلًا على هذا الانقطاع بالنقد الواقعي. ويفسر الكاتب هذا الانقطاع بأمرين: الأول حالة الإبداع العربي الذي «يقدم صورة عن الوعي العربي بتناقضاته المتعددة، عن وعي الحاضر ووعي العلاقة بالتاريخ أو بالرمز التاريخي» (ص١٥). أما السبب الثاني فيكمن في التخلف العلمي والتقني، وهو التخلف الذي يفسر للمؤلِّف «هذا التَّحوُّل الكامل إلى الترجمة المبتسرة والاستهلاك اللاعقلاني» (ص١٥). وهذان السببان يقودان المؤلف مباشرة إلى مجال «النقد في المجتمع»، مبرزًا أزمة الديمقراطية في العالم العربي، الأمر الذي يؤدي إلى غياب النقد الاجتماعي، الذي يؤدي بدوره إلى عدم إمكان إنتاج المعرفة الاجتماعية.

وبرغم سطحية التحليل وخلط الكاتب بين المفاهيم فقد استطاع — ربما بنوع الحدس — أن يضع يده على أبرز جوانب المعضلة، معضلة أزمة النقد والإبداع والثقافة والواقع أيضًا، حيث يقول: «ما معنى أن نستعير المناهج ونتكلم عن الاتجاهات النقدية طالما نحن عاجزون عن تعريبها؛ أي نعجز عن قراءتها في سياق مشكلتِنا التاريخية الراهنة. فالتعريب ليس ترجمة للنصوص، بل هو وضْع لها في سياق مشكلتِنا الثقافية، لذلك تبرز حاجتان: الحاجة إلى ترجمة نصوص الماضي الكلاسيكي العربي، والحاجة إلى تعريب الإنجازات العلمية المعاصرة. في الحاجتين نكتشف أن علينا أن نمس الذي جرى التحايل عليه مع عصر «النهضة»: اللغة والدين، وأن ندفع بالنقاش كي يصل إلى معنى الشرعية، ومعنى الدولة، ومعنى التعدد الاجتماعي والطائفي والأقوامي، ومعنى الطبقات الثقافية المتعددة التي تتشكل وحدتنا الثقافية منها» (ص١٩).

الديمقراطية — في نظر المؤلف — هي السبيل الأول للنقاش، والحرية الحقيقية تسمح بالتعدد الاجتماعي والطائفي والثقافي، حيث يمكن للاتجاهات النقدية أن تنمو وتتواصل، وللإبداع أن يعبر عن وعي متصل مُتراكم غير مهدَّد بالانقطاع. ومع الديمقراطية يزدهر النقد العام، أي النقد في المجتمع، فنتحرر من أَسْر الماضي ومِن أسر الغرب معًا، ويمكن لنا في هذه الحالة أن نُنتِج المعرفة الاجتماعية التي تُؤدِّي إلى التقدم وازدهار الإبداع والنقد معًا.

وإذا كُنَّا قد اتفقنا مع المؤلف في كثير من توصيفاته لمظاهر الأزمة في مستوياتها المتعددة فإننا كنا نختلف معه في الحل المطروح، كما كنا نختلف معه في تحليله لأسباب الأزمة. هنا أيضًا نتفق مع المؤلف في مظاهر الأزمة دون تحليل الأسباب ودون الحل المقترَح. الديمقراطية لا شك مطلب جماهيري مهم، ولكن تَصوُّر أنها المفتاح السحري لكل أزمة هو نوع من التبسيط والإغراق في السذاجة والسطحية. والإيمان بذلك إنما يرتد إلى ما أشرنا إليه في البداية من خَلَل في منهج الكاتب واعتماده على الوثب والربط الميكانيكي المتسرِّع بين المستويات المختلفة.

وبعدُ، فالجانب الأعظم من الكتاب — كما أشَرْنا في مطلع المقالة — مُخصَّص لدراسات تطبيقية في تحليل أعمال أدبية، يستحيل في هذا العرض والنقد أن نتعرض لها. وعلى ذلك اكتفينا بمناقشة الكتاب في خطوطه المنهجية العامة، ونترك للقارئ أن يكتشف — إن شاء — مدى اتساق هذه الخطوط المنهجية التي ناقشناها مع الدراسات التطبيقية في الرواية والقصة والشعر. والكتاب في النهاية يناقش أزمة الثقافة ويعكسها ويُعبِّر عنها في الوقت نفسه. من هنا كانت أهميته، ومن هنا كانت ضرورة عرضه ومناقشته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤