مقدمة

كلما ازددتُ خبرة وتجربة وثقافة توضَّحتْ أمامي أغراضي من الأدب كما أزاوله، فهي تتلخص في أنه يجب علينا أنْ نخرج من آسيا وأنْ نلتحق بأوروبا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأني منها.

فأنا أزاول حِرفة الأدب؛ لكي أدأب في وعظ أمتي بوجوب كفها عن ممارسة العادات التي اكتسبتها من آسيا، ووجوب اصطناعها عادات أوروبا، أريد حُريَّة المرأة كما يفهمها الأوروبي؛ حتى نأمل يومًا ما في رؤية قاضيات وطبيبات وطيارات ومعلمات ومديرات ووزيرات وعاملات في مصر — كما يرين الآن في أوروبا — ولا أريد أنْ أرى المرأة الشرقية في مصر تلك التي تعرف كيف تأكل الصراصير لكي تسمن، أو تلك التي تعيش خاضعة لزوجها لا رأي لها معه، ولا تستطيع أنْ تعيش بحرفة شريفة لو مات، أو تلك التي تُخفي نفسها بنقاب يوحي إليها أنَّ الرجال لم يخلقوا إلَّا لتأكلها أعينهم الخائنة وتفتض عفافها، وأريد من التعليم أنْ يكون تعليمًا أوروبيًّا لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه، وأنْ يتولى تعليم اللغة رجال متمدينون يفهمون على الأقل نظرية التطور، ولا ينسبون الشعر العربي لآدم وإبليس، ولا يعتقدون أنَّ اللغة العربية أوسع اللغات الآن، وهي تكدنا في التعبير البسيط، وأريد من الحكومة أنْ تكون ديمقراطية برلمانية كما هي في أوروبا، وأنْ يعاقب كل من يحاول أنْ يجعلها مثل حكومة هرون الرشيد أو المأمون؛ أتوقراطية دينيَّة، وأريد أنْ أرى العائلة المصرية مثل العائلة الأوروبية؛ زوج وزوجة وأولادهما بلا ضرار وبلا ضمد — كما يجري الآن في آسيا — بحيث يعاقب بالسجن كل مَن يتزوج أكثر من امرأة، ويمنع الطلاق إلَّا بحكم محكمة، وأريد من الأدب أنْ يكون أدبًا أوروبيًّا، ٩٩ في الماية منه قائم على المعنى والقصد لا على اللفظ — كما كان الحال عند العرب — وأريد أدبًا مصريًّا أبطاله فتيان مصر وفتياتها، لا رجال الدولة العباسية ولا رجال الفتوحات العربية، وأريد أنْ يكون هم الأديب أكبر من أنْ يقول «فحسب» بدلًا من «فقط»، أو يحفظ عبارات يستخرجها من الجاحظ أو الجرجاني ويدسها بين إنشائه، ثم أريد أنْ تكون ثقافتنا أوروبية؛ لكي نغرس في أنفسنا حب الحرية والتفكير الجريء، أمَّا الثقافة الشرقية فيجب أنْ نعرفها لكي نتجنبها، لما نرى من آثارها في الشرق؛ آثار العبودية والذلِّ والتوكل على الآلهة والخضوع لأولي الأمر ظالمين أو عادلين.

ولست أجهل أنَّ آسيا قد حكمت مصر نحو ألف عام، وبسطت عليها حضارتها وثقافتها، بل دسَّت دمها في دماء أبنائها، ولكننا نحمد الأقدار على أننا ما زلنا في السحنة والنزعة أوروبيين؛ إذ نحن أقرب في هيئة الوجه ونزعة الفكر إلى الإنجليزي أو الإيطالي منَّا إلى أهل الصين أو جاوه، وكذلك الحال في سوريا وشمال أفريقيا العربي، فإن سكان هذه الأقطار أوروبيون سحنةً ونزعةً، فلماذا إذن لا نصطنع جميعنا الثقافة والحضارة الأوروبيتين، ونخلع عنَّا ما تقمصناه من ثياب آسيا؟

أجل، يجب أنْ نكون أوروبيين، بل أوروبيين صالحين، نعمل لسلام العالم، نشترك في «عصبة الأمم»، ونعمل لتقدم العلوم، نخترع ونكتشف ونقدم مواهبنا لخدمة الإنسان ورقيه، ونعيش عيشة حرة بعيدة عن التعصب أو الجمود، بحيث ينتفع منَّا العالم كما ننتفع به.

هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي سرًّا وجهرة، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب، وفي كل ما أكتب أحاول أنْ أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوروبا في العصر الحديث، وأنْ أجعل قرَّائي يولُّون وجوههم نحو الغرب ويتنصَّلون من الشرق؛ لأني أعتقد أن لا رجاء لنا بالنجاح في العالم، بل لا رجاء لنا بأن نعيش عيشة، إذا لم تكن سعيدة فلا أقلَّ من أنْ تكون غير شقيَّة، إلَّا إذا تملَّصنا مما اكتسبناه من العادات الشرقية في نظام العائلة ونظام الحكومة، والنظر للمرأة والنظر للأدب، حتى في النظر للصناعات والمعايش.

وهذه المقالات التالية هي وفق هذه النزعة، كتبت اثنتان منها بين سنة ١٩١٠ وسنة ١٩١٤،١ أمَّا سائر المقالات فقد كتبت في سنتي ١٩٢٥ و١٩٢٦، ولم أنقِّح شيئًا فيها إلَّا المقالة الأولى: «مقدمة السبرمان»، فإني كنت قد كتبتها سنة ١٩١٠ وسِنِّي إذ ذاك لا يتجاوز العشرين، فلما أردت إثباتها هنا رأيت في تعابيرها ما لا أعذر عليه الآن، واحتجت لذلك إلى إعادة كتابتها كلها، ولم أبدِّل شيئًا في الآراء وإنما بدَّلت في الأسلوب والتعبير.
س. م.
١  لم تنشر مقالتا «مقدمة السبرمان» و«نشوء فكرة الله» بين فصول هذه الطبعة، وقد نشرتا ضمن «الأعمال الكاملة لسلامة موسى».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤